دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

لظهورها فيه ، فلا أقل من كونها موجبة لتعينه من بين محتملات ما هو بصدده ، فإن شدة مناسبة الإخبار بالوقوع مع الوجوب موجبة لتعين إرادته (١) ؛ إذا كان بصدد البيان مع عدم نصب قرينة خاصة على غيره (٢) ، فافهم (٣).

______________________________________________________

الخبرية في الوجوب ، أو موجبة لتعين الوجوب ، إذ يدور الأمر بين الوجوب والندب والأول هو المتعين.

(١) أي : إرادة الوجوب.

(٢) أي : على غير الوجوب أي : مع عدم القرينة على غير الوجوب تكون النكتة المزبورة قرينة على الوجوب.

(٣) لعله إشارة إلى دقة المطلب ، والتدبر في كيفية دلالة الجمل الخبرية على الوجوب ، وأن استفادته منها بالكناية على التقريب المذكور أولى مما نسب إلى المشهور من استعمالها في الإنشاء ، وأن النكتة المزبورة تصلح لتعيين إرادة الوجوب ، فما في البدائع «من منع دلالة الجمل الخبرية على المقصود بها الإنشاء على خصوص الوجوب ؛ لأن المستحبات أكثر من الواجبات ، وأكثرها مستفادة من الجمل الخبرية ، فليس استعمالها في الوجوب أكثر من الندب حتى تحمل عليه مع التجرد عن القرينة» ؛ لا يخلو من غموض ، لأن النكتة المزبورة صالحة لحمل الجمل الخبرية على الوجوب ، ولا يعدل عنها إلّا بدليل كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٥٣».

وفي العناية : لعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة من شأنها أن تقتضي الشيوع والسريان كما في «أعتق رقبة» ؛ أو تقتضي العموم والشمول كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) على ما يأتي التصريح به في بحث المطلق والمقيد ، ولا تكاد تقتضي تعين أحد المحتملات ؛ إلّا إذا كان سائر المحتملات مما فيه تقييد وتضييق كما في اقتضائها كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا ؛ لأجل كون كل واحد مما يقابله من الغيري والتخييري والكفائي ؛ مما فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته كما سيأتي تحقيقه في محله ، والمقام ليس من هذا القبيل ؛ فإن الندب وإن كان يحتاج إلى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك. إلّا إن الوجوب أيضا يحتاج إلى مئونة التقييد بالمنع من الترك. انتهى مع تصرّف ما.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ أن الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب تستعمل في إنشاء الطلب مجازا عند

٣٤١

المبحث الرابع (١):

إنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ، هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا

______________________________________________________

المشهور ، وتستعمل في معناها الحقيقي وهو الإخبار عن ثبوت النسبة والحكاية لكن بداعي إنشاء الطلب ؛ لا بداعي الإعلام عند المصنف.

٢ ـ أنها ظاهرة في الوجوب ؛ إما للتبادر أو لكون استعمالها فيه آكد وأبلغ ، أو لمقدمات الحكمة ؛ فإنها تقتضي أن يكون مراد المتكلم هو الوجوب.

٣ ـ لا يلزم الكذب من وقوع الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب في كلامه تعالى ، فإن الكذب إنما يتحقق لو كان الاستعمال بداعي الإعلام ؛ لا بداعي إنشاء الطلب والبعث.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

أنها مستعملة في معناها الحقيقي بداعي البعث والتحريك لا بداعي الإعلام ، وأنها ظاهرة في الوجوب لا في الندب.

صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب أم لا؟

(١) الكلام في دلالة صيغة الأمر على الوجوب من غير طريق الوضع له.

والأولى تقديم هذا المبحث على المبحث الثالث لأنه من تتمة المبحث الثاني. إذ قد عرفت : أن مقتضى التحقيق في المبحث الثاني هو أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ، وقد أثبت المصنف هذا المعنى هناك ، فعليه أن يتلوه بالمبحث الرابع ، ويجعله مبحثا ثالثا ؛ فيقول : ـ إتماما للفائدة واستيعابا لجميع الأطراف ـ «المبحث الثالث : أنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب ؛ هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون؟».

والغرض من عقد هذا المبحث هو : أنه إذا لم يثبت وضع صيغة الأمر للوجوب لضعف أدلته وعدم نهوضها عليه ، فهل تكون ظاهرة فيه لأجل الانصراف أو غيره أم لا؟ قولان ؛ وقد قال بعض الأصوليين بظهور الصيغة في الوجوب لوجوه على سبيل مانعة الجمع ، وهي ثلاثة أدلة :

١ ـ غلبة استعمال الصيغة في الوجوب.

٢ ـ غلبة وجود الوجوب ، فإنه غالبا استعملت الصيغة في الوجوب.

٣ ـ أكملية الوجوب : فكونها ظاهرة في الوجوب لكونه أكمل من الندب ، وكل هذه الوجوه الثلاثة مورد للمناقشة عند المصنف ، بل إنها واهية كما أشار إليه بقوله : «والكل كما ترى ...» إلخ أي : واهية كما ترى بالوجدان ، وذلك ضرورة : أن استعمال

٣٤٢

أو تكون؟ قيل : بظهورها فيه ؛ إما لغلبة الاستعمال فيه أو لغلبة وجوده أو أكمليته والكل كما ترى ؛ ضرورة : إن الاستعمال في الندب وكذا وجوده ، ليس بأقل لو لم يكن بأكثر. وأما الأكملية فغير موجبة للظهور ؛ إذ الظهور لا يكاد يكون إلّا لشدة أنس اللفظ بالمعنى ، بحيث يصير وجها له. ومجرد الأكملية لا يوجبه كما لا يخفى.

نعم (١) ؛ فيما كان الآمر بصدد البيان ، فقضية مقدمات الحكمة هو الحمل على

______________________________________________________

الصيغة في الندب ليس بأقل لو لم يكن بأكثر من استعمالها في الوجوب ، وكذلك وجود الوجوب أيضا ليس بأكثر لو لم يكن بأقل من الندب ، فهذا الجواب في الحقيقة يرجع إلى منع الصغرى أعني : كثرة استعمال صيغة الأمر في الوجوب ، أو كثرة وجوده من الندب ؛ لأن الاستعمال في الندب ، وكذا وجوده الخارجي لو لم يكن أكثر من الوجوب فليس بأقلّ منه.

وأما أكملية الوجوب : فهي غير موجبة للظهور في الوجوب ؛ لأن الظهور إنما ينشأ من شدة أنس اللفظ بالمعنى ؛ بحيث يصير وجها ومرآة له ، على حدّ إذا أحضر المتكلم اللفظ كأنّه أحضر المعنى بعينه. والأكملية وحدها لا توجب ذلك حتى يقال : إن الأكملية دليل على ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، وهذا الجواب يرجع إلى منع الكبرى ؛ بمعنى : أن الصغرى ـ وهي الأكملية ـ وإن كانت مسلمة إلّا إنها لا توجب ظهور اللفظ فيه كما عرفت ، فإن مجرد الأكملية لا يوجب شدة الأنس بين اللفظ والمعنى كما أشار إليه بقوله : «ومجرد الأكملية لا يوجبه».

(١) لمّا أبطل المصنف الوجوه الثلاثة المتقدمة سلك طريقا آخر لاستظهار الوجوب من الصيغة ؛ فقال بظهورها فيه عند الإطلاق وتمامية مقدمات الحكمة فيقال : إن مقدمات الحكمة تقتضي الوجوب ؛ لأن المتكلم في مقام البيان وإرادة الندب من مجرد الطلب المستفاد من الصيغة غير ممكنة ، لاحتياج إرادته إلى مزيد بيان ، وعدم كفاية نفس الطلب في ذلك ، حيث إن مميّز الندب ـ وهو الترخيص في الترك ـ ليس من سنخ الطلب حتى يصح الاعتماد عليه في بيانه ، هذا بخلاف الوجوب فان مميّزه ـ وهو المنع من الترك ـ من سنخ الطلب ، لأن المنع من الترك هو نفس الطلب حقيقة ، لأنه عبارة أخرى عن طلب عدم الترك الذي هو عين طلب الفعل ، فيجوز للمتكلم الاتكال في بيانه على ما يدل على طبيعة الطلب ؛ من دون لزوم محذور إخلال بالغرض ، فإطلاق الطلب كاف في إرادة الوجوب دون الندب ؛ لأن فصل الندب ـ وهو الترخيص في الترك ـ أمر زائد على الطلب ، فيحتاج إلى مزيد بيان ، فلا يمكن الاتكال في بيانه على ما يدل على نفس الطلب لتحديد الطلب فيه بأمر خارج عن حقيقته ، بخلاف الوجوب فإنه لا تحديد فيه

٣٤٣

الوجوب ، فإن الندب كأنه يحتاج إلى مئونة بيان التحديد ، والتقييد بعدم المنع من الترك ؛ بخلاف الوجوب ؛ فإنه لا تحديد فيه للطلب ولا تقييد ، فإطلاق اللفظ وعدم تقييده مع كون المطلق في مقام البيان كاف في بيانه فافهم (١).

______________________________________________________

بما هو خارج عن حقيقته ، فلا مانع من الركون في بيانه إلى ما يدل على جامع الطلب وهو الصيغة.

(١) لعله إشارة إلى : أن مقتضى مقدمات الحكمة هو الندب لا الوجوب ؛ نظرا إلى أن الوجوب يحتاج إلى مئونة التحديد والتقييد بالمنع من الترك ؛ وذلك أن الطلب المستفاد من صيغة الأمر لمّا كان مشتركا بين الوجوب والندب ، وكان الوجوب يحتاج إلى أمر زائد وهو شدة الطلب ، كان مقتضى مقدمات الحكمة هو الحمل على الندب ، فيبنى على عدم الطلب للوجوب بل للندب.

ويحتمل : أن يكون إشارة إلى ضعف ما ذكر ؛ من كفاية إطلاق الطلب في إرادة الندب.

وجه الضعف : أن منشأ اعتبار الوجوب والندب هو النسبة الطلبية المجردة عن الترخيص في الترك والمقرونة به ، والشدة والضعف ليسا دخيلين في النسبة ، فإن كانت النسبة الطلبية مجردة عن الترخيص في الترك ينتزع العقل منها الوجوب ، وإن كانت مقرونة بالترخيص في الترك ينتزع منها الندب. فمقتضى مقدمات الحكمة هو الوجوب لا الندب.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ قد قال المصنف في المبحث الثاني : إن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ، والغرض من عقد هذا المبحث الرابع : أنه على فرض عدم كونها حقيقة في الوجوب ؛ هل تكون ظاهرة فيه لأجل الانصراف أو غيره أم لا؟ قولان : قيل : إنها ظاهرة في الوجوب لأحد أمور :

إما لغلبة الاستعمال. وإما لغلبة وجود الوجوب ، وإما لأكملية الوجوب على الندب.

وهذه الوجوه الثلاثة مردودة عند المصنف ؛ لمنع الصغرى في الأوليين ، ومنع الكبرى في الأخير.

٢ ـ يقول المصنف : إن صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب بمقدمات الحكمة لو كان المتكلم بصدد البيان ، فإنها حينئذ تقتضي الوجوب ، لأن الندب يحتاج إلى مئونة بيان التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك ، بخلاف الوجوب حيث لا تحديد فيه لأن المنع من

٣٤٤

المبحث الخامس :

إن إطلاق الصيغة (١) هل يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي إتيانه مطلقا ، ولو

______________________________________________________

الترك هو عين الطلب وليس أمرا زائدا كي يحتاج إلى مئونة البيان ، فلا مانع من الركون في بيانه إلى ما يدل على جامع الطلب وهو الصيغة.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» : إن صيغة الأمر لا تكون ظاهرة في الوجوب على ؛ فرض عدم ثبوت وضعها له.

نعم ؛ فيما كان المتكلم بصدد البيان : كان مقتضى مقدمات الحكمة الحمل على الوجوب ؛ وذلك لأن الوجوب طلب أكيد فهو محض الطلب جنسا وفصلا ، والندب طلب ضعيف فهو طلب جنسا لا فصلا. فالصيغة الدالة على الجامع أي : الطلب تناسب الوجوب دون الندب ، فالمتكلم في مقام بيان تمام المراد كما هو ظاهر حاله ـ إذا لم ينصب قرينة الندب وليس في البين متيقن ـ كان إرادة الندب منافيا لكونه في مقام البيان ، بخلاف إرادة الوجوب فإنه كفى بيانا له ذكر الصيغة الدالة على الجامع. انتهى الكلام في الخلاصة.

في التعبدي والتوصلي

(١) قبل الدخول في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع والخلاف ، وما هو الغرض من عقد هذا المبحث فنقول :

إنه لا خلاف في أن الواجب في الشرع على قسمين :

منه : ما يكون الغرض منه أن يتقرب العبد إلى المولى ؛ كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك من العبادات. وهذا القسم من الواجب يسمى بالتعبدي أي : ما لا يحصل الغرض منه ، ولا يسقط الأمر به إلّا إن يؤتى به على وجه التقرب إلى المولى.

ومنه : ما أمر به لمجرد مصالح فيه ، وليس الغرض منه التقرب إلى المولى ، فإن أتى به متقربا به وامتثالا لأمره يحصل به القرب والثواب ، وإن لم يؤت به كذلك ، بل أتى بداع آخر يحصل به الغرض ويسقط الأمر وإن لم يحصل به القرب والثواب أصلا ؛ كما في دفن الميت وتكفينه وتوجيهه إلى القبلة وغير ذلك من الواجبات التوصلية.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم : أن محل النزاع والغرض من عقد هذا المبحث أنه : هل يكون للصيغة إطلاق رافع للشك في التعبدية والتوصلية بمعنى : هل هناك أصل لفظي أي : إطلاق يقتضي كون الوجوب توصليا فيجزي إتيان الواجب ؛ سواء كان مع القربة أم

٣٤٥

بدون قصد القربة أو لا؟ فلا بد من الرجوع فيما شك في تعبديته وتوصليته إلى الأصل.

لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات :

إحداها : الوجوب التوصلي (١) : هو ما كان الغرض منه يحصل بمجرد حصول

______________________________________________________

بدونها أم لا يقتضي توصليته كما لا يقتضي تعبديته؟ بل لا بد من الرجوع إلى الأصول العملية من البراءة والاشتغال حسب ما يقتضيه المقام. وتحقيق المقام يتوقف على بيان أمور ، وتمهيد مقدمات ثلاث.

كما أشار إليه بقوله : «لا بد في تحقيق ذلك من تمهيد مقدمات». قوله هذا متفرع على عدم الإطلاق المحقق لعدم الدليل ؛ الذي هو موضوع للرجوع إلى الأصل العملي ، والمراد به هنا ليس إلّا البراءة أو الاشتغال.

(١) أي : التوصلي هو الوصف بحال المتعلق وهو الواجب ، لا بحال نفس الموصوف وهو الوجوب ، وذلك لأن التعبدية والتوصلية ناشئتان من الملاكات الداعية إلى التشريع ، فإن كان الملاك القائم بالواجب ـ بناء على ما عليه مشهور العدلية من قيام المصالح والمفاسد بمتعلقات التكاليف ـ بمثابة يحصل بمجرد وجود الواجب ولو بداع غير قربي ، فالواجب توصلي ، وإلّا فتعبدي ، فالفرق بينهما إنما هو في الغرض القائم بالواجب ، وأما الغرض من نفس الوجوب فهو واحد في التعبدي والتوصلي ؛ وهو دعوة المكلف إلى إيجاد المادة ونقض عدمها المحمولي بوجودها كذلك.

فالوجوب التوصلي لا يغاير التعبدي أصلا. ومن هنا يعلم : أن التعبدية من قيود المادة ، فالإطلاق المبحوث عنه راجع إلى المادة لا الهيئة ، فجعل هذا البحث من أبحاث الصيغة لا يخلو من المسامحة ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٥٧».

وكيف كان ؛ فقد وقع الكلام في بيان ما هو المراد من التوصلي والتعبدي فقيل : إن الوجوب التوصلي ما يحصل الغرض منه بمجرد حصول الواجب ، ويسقط الأمر بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي ؛ فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد في سقوطه وحصول الغرض منه من الإتيان به بقصد القربة. هذا ما أشار إليه المصنف «قدس‌سره» ، وهو أحد تعريفات الوجوب التوصلي وأسدّها.

وقيل : بأن الواجب التعبدي : ما شرع الإتيان به بنحو العبادة وللتعبد به ، ويقابله التوصلي وهو : ما شرع لغرض حصوله بذاته لا بعنوان العبادة.

وقيل : بأن التعبدي : ما اعتبر فيه قصد القربة ، والتوصلي : ما لم يعتبر فيه قصد القربة.

وذكر الإمام الخوئي «قدس‌سره» للتعبدي معنى آخر وهو : ما لا يسقط به الأمر إلّا

٣٤٦

الواجب ، ويسقط بمجرد وجوده ، بخلاف التعبدي فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ، بل لا بد ـ في سقوطه وحصول غرضه ـ من الإتيان به متقربا به منه تعالى.

ثانيتها : أن التقرب المعتبر في التعبدي (١) إن كان بمعنى : قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مما أخذ في نفس العبادة شرعا ، وذلك (٢) لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر بشيء في متعلق

______________________________________________________

بالمباشرة ، وأن يكون عن إرادة واختيار وأن لا يكون بفعل محرم ، بخلاف التوصلي : فإنه ما يسقط الأمر بمجرد وجوده وتحققه خارجا ؛ ولو كان بفعل الغير أو بلا إرادة واختيار أو بفعل محرم من المحرمات كتطهير الثوب مثلا.

ثم يقع الكلام فيما هو مقتضى الأصل اللفظي أو العملي إذا اشتبه الأمر علينا ، ويتردد الواجب بين التعبدية والتوصلية ، ويأتي تفصيل ذلك بعد المقدمات الثلاثة فانتظر.

اعتبار قصد القربة عقلا

(١) أي : أن التقرب المعتبر في التعبدي ، المصحح لعبادية شيء عبارة عن إتيانه بنحو قربي ؛ وذلك يتصور على وجوه :

منها : إتيانه بداعي حسنه. ومنها : إتيانه بداعي كونه ذا مصلحة. ومنها : إتيانه لكونه محبوبا للمولى. ومنها : إتيانه لكون المولى أهلا للعبادة.

ومنها : إتيانه بداعي امتثال أمره كما أشار إليه المصنف بقوله : «بمعنى : قصد الامتثال بالواجب بداعي أمره».

إذا عرفت هذه الاحتمالات والوجوه فاعلم : أن دخل القربة شرعا بأحد هذه الوجوه في العبادة ـ غير الوجه الأخير ـ لا يستلزم محذورا أصلا ؛ لكون القربة حينئذ من قيود المتعلق ؛ بحيث يصح لحاظها في عرض المتعلق كالطهارة والاستقبال والستر مثلا بالنسبة إلى الصلاة ، فتنالها يد التقييد اللحاظي بلا إشكال.

(٢) وأما دخلها شرعا في العبادة بالمعنى الأخير فلا يمكن ، بل يمتنع اعتبارها شرعا في متعلق التكليف ، فلا بد من الالتزام باعتبار قصد القربة في الواجبات العبادية عقلا لا شرعا ، وقد أشار إلى تقريب عدم اعتباره شرعا بقوله : «وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتّى إلّا من قبل الأمر شيء ...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المتعلق كالصلاة مثلا مقدم على الحكم والأمر ، كتقدم العلة على المعلول ، فالأمر متأخر عن المتعلق ، وقصد امتثال الأمر متأخر عن نفس الأمر.

٣٤٧

ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا ، فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ، لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ التقرب بمعنى : قصد امتثال الأمر لا يمكن أن يؤخذ شرعا قيدا لمتعلق الحكم شرطا أو شطرا ؛ إذ لا يمكن أن يكون القصد المذكور مأخوذا في المتعلق ؛ الذي هو متقدم عليه برتبتين على ما عرفت ، مثلا : الأمر بالصلاة متأخر عن متعلقه وهي الصلاة ، وقصد امتثال هذا الأمر متأخر عن نفسه ، فكيف يمكن أن يكون قصد الأمر مأخوذا في الصلاة؟ إذ لازم ذلك هو : الدور المحال ؛ لأن قصد امتثال الأمر يتوقف على الأمر ، والأمر يتوقف على المتعلق المقيد بقصد الأمر ، وهذا دور واضح.

أو لازم ذلك هو : تقدم الشيء على نفسه ؛ بتقريب : أن متعلق الأمر لا بد وأن يكون في رتبة سابقة على نفس الأمر لأنه معروض الأمر ، والأمر عارض ، والعارض متأخر عن معروضه رتبة.

وعلى كلا التقديرين : لا يمكن أخذ قصد امتثال الأمر في المتعلق لأنه متأخر عنه ، ففرض كونه في متعلق الأمر يستلزم فرض تقدمه على الأمر ، فيلزم أحد المحذورين ؛ فيمتنع دخل قصد امتثال الأمر شرعا جزءا أو شرطا في المتعلق ، فلا بد من أن يكون اعتباره في العبادات عقلا ، وأن يكون قصد الأمر من أنحاء الامتثال وكيفياته عقلا لا شرعا ، لا على نحو الشرطية بأن يقول المولى لعبده : «أقم الصلاة بشرط امتثال أمرها» ، ولا على الشطرية بأن يقول : «أقم الصلاة مع قصد امثال أمرها».

ويمكن حمل عبارة المصنف على استلزام أخذ قصد القربة في متعلق الأمر لمحذور التكليف بغير المقدور ؛ كما أشار إليه بقوله : «فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها».

توضيح هذه العبارة : أن الأمر إذا لم يتعلق بذات الصلاة ؛ بل بها مقيدة بداعي الأمر امتنع الإتيان بها لأمرها ؛ وذلك للزوم التكليف بغير المقدور ، فإن المقدور هو الإتيان بنفس متعلق الأمر وهو الصلاة مثلا ، وأما الإتيان به مقيدا بقصد أمره فهو غير مقدور للمكلف ؛ إذ المفروض : وحدة الأمر المتعلق بذات الصلاة مثلا ، والإتيان بالمتعلق بقصد امتثال الأمر موقوف على أمر آخر متعلق بما تعلق الأمر الأول ليكون مفاد الأمر الثاني وجوب إتيان متعلق الأمر الأول بداعي أمره ، بحيث يكون الأمر الأول موضوعا للأمر الثاني ، فلا بد في وجوب إتيان متعلق الأمر الأول بداعي أمره من الأمر الثاني المفروض فقدانه ، فيصير إتيان متعلق الأمر بداعي أمره غير مقدور ،

٣٤٨

وتوهم (١) : إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر ، وإمكان الإتيان بها بهذا الداعي ؛ ضرورة : إمكان تصور الأمر بها مقيدة ، والتمكن من إتيانها كذلك بعد تعلق الأمر بها ، والمعتبر من القدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر إنما هو في حال الامتثال لا حال الأمر واضح الفساد (٢). ضرورة : إنه وإن كان تصورها كذلك بمكان من

______________________________________________________

ومن الضروري اعتبار القدرة عقلا في متعلق التكليف.

(١) قد حاول المتوهم الجواب عن كلا الإشكالين ؛ أي : الدور ولزوم التكليف بغير المقدور. أما الجواب عن إشكال الدور : فلأن الدور يتوقف على وجود المتعلق خارجا لا تصورا ، وقد عرفت : لزوم الدور ، فيقال في تقريبه ثانيا : إن الأمر بالصلاة المقيدة بقصد القربة يتوقف على وجود متعلقه الذي منه قصد القربة ، ومن المعلوم : توقف قصدها على الأمر ، فالأمر متوقف على المتعلق المقيد بقصد امتثال الأمر ، وهو متوقف عليه هذا إذا كان اللازم وجود المتعلق خارجا.

وأما إذا كان وجود المتعلق تصورا كافيا في تعلق الأمر فلا يلزم الدور ؛ إذ يمكن أن يتصور الآمر موضوع الحكم ـ أعني : الصلاة المقيدة بداعي طبيعة الأمر لا شخصه ومصداقه ـ ثم يأمر فلا محذور حينئذ في دخل قصد القربة في المتعلق ؛ لأن تصور الآمر الطبيعة الكلية مقيدة بامتثالها بداعي أمرها لا يتوقف على وجود الأمر في الخارج حتى يلزم الدور.

وأما الجواب عن الإشكال الثاني وإثبات القدرة على الامتثال : فلأن القدرة المصححة للأمر إنما هي القدرة على المتعلق في ظرف الامتثال ؛ لا في ظرف الأمر ، ومن المعلوم : أن المكلف قادر على الإتيان بداعي امتثال الأمر ، فقوله : «ضرورة إمكان تصور الآمر لها» تعليل لدفع توهم الدور ، كما أن قوله : «والتمكن من إتيانها كذلك» تعليل لدفع توهم عدم قدرة العبد على الامتثال.

فملخص الكلام : أن الشرط في حسن الخطاب هو القدرة والتمكن حين الامتثال لا حين الأمر أو قبله ، والمفروض : وجود القدرة حين الامتثال لأنه بعد الأمر بالصلاة المقيدة تكون الصلاة مأمورا بها ، فيمكن للمكلف الإتيان بها لأمرها ؛ لأن العقل لم يكن قاضيا بأزيد من اعتبار القدرة حال الامتثال ؛ لاندفاع قبح التكليف بذلك.

(٢) خبر لقوله : «وتوهم ...» إلخ ، وجواب عنه.

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن التوهم المذكور : أن ما ذكره في دفع إشكال الدور ؛ من أن الآمر يتصور الصلاة مقيدة بداعي الأمر ـ وإن كان بمكان من

٣٤٩

الإمكان ، إلّا إنه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ، لعدم الأمر بها ؛ فإن الأمر ـ حسب الفرض ـ تعلق بها مقيّدة بداعي الأمر ، ولا يكاد يدعو الأمر إلّا إلى ما تعلق به ، لا إلى غيره.

______________________________________________________

الإمكان ـ ولكن إشكال عدم قدرة المكلف على الامتثال باق على حاله ، وظاهر المصنف هو : تسليم اندفاع إشكال الدور ، ولهذا فقد أجاب عن الإشكال الثاني ؛ أعني : توهم قدرة المكلف على الامتثال.

وتوضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي : أن الأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلق به ، والمفروض في المقام : أن الأمر لم يتعلق بذات الصلاة وإنما تعلق بها مقيدة بداعي الأمر ، فمتعلق الأمر مركب من ذات الصلاة وداعي الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المكلف لا يتمكن من إتيان الصلاة المقيدة بداعي الأمر بداعي أمرها. والإتيان بذات الصلاة بداعي أمرها وإن كان ممكنا إلّا إن الإتيان بذات الصلاة غير واجب ؛ لأن المفروض : عدم تعلق الأمر بذات الصلاة ليكون الأمر داعيا إليها ، وقد عرفت : أن الأمر لا يدعو إلّا إلى متعلقه ؛ مثلا : الأمر بالصلاة لا يدعو إلى الصوم والحج ، بل إلى الصلاة فقط ، فالأمر في المقام لا يدعو إلّا إلى الصلاة المقيدة لا المطلقة أعني : ذات الصلاة ، ثم ما أتى به المكلف هو الصلاة المطلقة أي : ذات الصلاة دون داعي الأمر ؛ لأن داعي الأمر من الأمور القصدية لا يمكن الإتيان به في الخارج ، والصلاة دون داعي الأمر غير واجبة حسب الفرض ، فما هو واجب غير مقدور ، وما هو المقدور غير واجب.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «إلّا إنه لا يكاد يمكن الإتيان بها بداعي أمرها لعدم الأمر بها». فقوله : «لعدم الأمر بها» تعليل لعدم إمكان الإتيان بالصلاة بداعي أمرها ، وقد تقدم تقريبه.

قال العلامة المشكيني في هذا المقام : «بيانه : أن العبد إما أن يأتي بالصلاة ـ مثلا ـ بجميع قيودها وأجزائها بداعي الأمر ، وإما أن يأتي بها بهذا الداعي من دون جزئها أو قيدها. والأول غير ممكن ؛ لأن المفروض : أن أحد أجزاء المأمور به أو قيوده نفس الأمر ، والداعي إلى الشيء داع إلى أجزائه وقيوده ، فيلزم كون الشيء داعيا إلى نفسه وهو مستحيل وجدانا ؛ لأن الداعي ـ المعبر عنه بالعلة الغائية ـ أول الفكر وآخر العمل ، بمعنى : أن وجوده الذهني متقدم ، ووجوده الخارجي متأخر ؛ فلو كان الشيء داعيا إلى نفسه لزم تقدم الشيء على نفسه ذهنا وخارجا. انتهى مع تصرف ما.

٣٥٠

إن قلت : نعم (١) ، ولكن نفس الصلاة أيضا (٢) صارت مأمورا بها بالأمر بها مقيدة.

قلت : كلا (٣) ، لأن ذات المقيد لا تكون مأمورا بها ، فإن الجزء التحليلي العقلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، فإنه ليس إلّا وجود واحد واجب بالوجوب النفسي ، كما ربما يأتي في باب المقدمة.

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا الإشكال : دفع إشكال عدم القدرة على الامتثال إلى الأبد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الأمر إذا تعلق بالمقيد ينحل إلى أمرين ضمنيين ، يتعلق أحدهما بالذات التي كانت معروضة للتقييد. وثانيهما بالتقييد وهو داعي الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المكلف يتمكن من إتيان ذات الصلاة بداعي أمرها الضمني ، فاندفع به إشكال تعذر الامتثال إلى الأبد.

فقوله : «نعم» إشارة إلى تسليم قوله : «لعدم الأمر بها». ومعنى العبارة حينئذ : أن الأمر وإن لم يتعلق بنفس الصلاة استقلالا ؛ ولكنه تعلق بها ضمنا ؛ لانحلال الأمر بالمقيد إلى الأمر بالذات والتقييد كما عرفت.

(٢) أي : كالمجموع صارت مأمورا بها ، غاية الأمر : أن الأمر بالمجموع استقلالي ، وبالصلاة ضمني.

(٣) ومجمل الجواب قبل التفصيل : أن المقيد والقيد موجودان بوجود واحد في الخارج وهو الصلاة الخاصة ، فالصلاة التي هي ذات المقيد لا تكون مأمورا بها حتى يمكن إتيانها بداعي أمرها ، والحال : إن الأمر لا يدعو إلّا إلى المأمور به نفسه ، فإذا لم تكن الصلاة بنفسها مأمورا بها لا يمكن أن يؤتى بها بداعي الأمر المتعلق بها ، وبغيرها بداعي أمرها أي : الصلاة ، إذ المفروض : لا أمر للصلاة دون تقييدها بداعي الأمر.

وأما الجواب عن انحلال الأمر بالمقيد إلى أمرين ضمنيين فتوضيحه : يتوقف على مقدمة وهي : أن الأجزاء على قسمين : خارجية وتحليلية ، والفرق بينهما : أن الأجزاء الخارجية تتصف بالوجوب المتعلق بالكل ، لأنه نفس الأجزاء بالأمر ، فالأمر المتعلق بالكل ينحل على حسب تعدد أجزاء المتعلق إلى أوامر نفسية ضمنية ، والفرق بين أمر المركب وبين أوامر أجزائه هو : أن أمر المركب نفسي استقلالي ، وأوامر الأجزاء نفسية ضمنية.

هذا بخلاف الأجزاء التحليلية ؛ حيث لا تتصف بالوجوب ، لعدم وجود لها في الخارج ، فلا ينحل الأمر بالمقيد إلى أمر متعلق بنفس الذات ، وأمر متعلق بالتقييد ، فليس للذات مجردة عن التقيد أمر باعث إليها حتى يصح إتيانها بداعي أمرها.

٣٥١

إن قلت (١) : نعم ؛ لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا ، وأما إذا أخذ شطرا ، فلا محالة نفس الفعل الذي تعلق الوجوب به مع هذا القصد يكون متعلقا للوجوب ؛ إذ (٢) المركب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ويكون تعلقه بكلّ بعين تعلقه بالكل ، ويصح أن يؤتى به (٣) بداعي ذلك الوجوب ؛ ضرورة : صحة الإتيان بأجزاء الواجب بداعي وجوبه (٤).

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : إنه لا يتعلق الأمر الضمني بالمقيد ولا بالقيد في باب المقيد والقيد ؛ بل هما يلاحظان وجودا واحدا له وجوب واحد ، والمقام من هذا القبيل ؛ فالقول بالانحلال في المقام باطل.

(١) أي : إن قلت : سلمنا عدم الانحلال إلى أمرين أي : أمر يتعلق بالذات ، وأمر متعلق بالتقييد ؛ ولكن إنما يتم ذلك فيما إذا أخذ قصد القربة شرطا ؛ لأن انحلال المقيد إلى ذات وقيد يكون عقليا ، فالذات كالقيد حينئذ جزء تحليلي عقلي لا تتصف بالوجوب الضمني.

وأما إذا أخذ قصد الامتثال جزءا فلا محالة ينحل الأمر إلى أوامر عديدة بتعدد الأجزاء ؛ إذ ليس المركب إلّا الأجزاء ، فأمره ينحل بعدد أجزاء المركب إلى أوامر عديدة ، والمفروض : أن ذات المقيد كالقيد جزء للمأمور به ، فتكون متعلقة للأمر الضمني.

وملخص الكلام في توضيح الإشكال : أنّا نفرض الصلاة مع داعي الأمر من قبيل جزءين خارجيين للمركب ؛ لا من قبيل جزءين تحليليين ، فينحل الأمر بالمركب إلى أمرين ضمنيين ، فللصلاة حينئذ أمر ضمني ويتمكن المكلف من الإتيان بها بداعي هذا الأمر الضمني.

(٢) أي : قوله : «إذ المركب» ؛ تعليل لتعلق الوجوب بالفعل الذي تعلق به الوجوب مقيدا بقصد الامتثال كالصلاة ، «ويكون تعلقه بكل» أي : تعلق الوجوب بكل جزء «بعين تعلقه» أي : الوجوب «بالكل».

(٣) أي : بنفس الفعل بداعي الوجوب المتعلق بالكل ، وهو الفعل المقيد بامتثال أمره.

(٤) أي : وجوب الواجب بأن يأتي المكلف بكل جزء بداعي وجوب الواجب ، ويمكن الاستدلال عليه بالقياس الاقتراني بأن يقال : ذات الفعل جزء من الواجب ، وكل جزء من أجزاء الواجب يجوز إتيانه بداعي وجوب نفسه ، فينتج : أن ذات الفعل يجوز إتيانها بداعي وجوب نفسها.

إلّا إن الاستدلال المذكور يتوقف على أمرين : الأول : أن يكون ذات الفعل جزءا لا قيدا. والثاني : كلية الكبرى ؛ بأن يثبت أن كل جزء ـ سواء كان مستقلا أو في ضمن الواجب ـ يجوز إتيانه بقصد وجوب نفسه ، ويأتي من المصنف بطلان كلية الكبرى.

٣٥٢

قلت : ـ مع امتناع اعتباره (١) كذلك ، فإنه (٢) يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري ؛ فإن الفعل وإن كان بالإرادة اختياريا إلّا إن إرادته حيث لا تكون بإرادة أخرى ـ وإلّا لتسلسلت ـ ليست باختيارية كما لا يخفى ، إنما (٣) يصح الإتيان بجزء

______________________________________________________

(١) أي : قصد الامتثال أي : الإرادة «كذلك» أي : جزءا متعلقا للوجوب.

(٢) أي : فإن اعتبار قصد الامتثال وقصد القربة جزءا للواجب يوجب تعلق الوجوب بأمر غير اختياري. فقوله : «فإنه يوجب ...» إلخ ؛ بيان لامتناع اعتبار قصد الامتثال جزءا للواجب.

توضيح ذلك على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٦٧» أن قصد امتثال الأمر ليس إلّا إرادة الفعل عن أمره ، بحيث يكون الداعي إلى الإرادة ذلك الأمر ، والإرادة ليست اختيارية حتى يصح أن تقع في حيّز الأمر ، إذ لو كانت اختيارية لتوقفت على إرادة أخرى ؛ إذ كل أمر اختياري لا بد وأن تتعلق به الإرادة ليكون اختياريا ، فيلزم تسلسل الإرادات ، فلا بد في دفع هذا المحذور من جعل الإرادة غير اختيارية ، وحينئذ يمتنع تعلق التكليف بها عقلا.

وعليه : فلا يمكن أن يكون قصد القربة دخيلا على نحو الجزئية للمأمور به ، إذ دخله كذلك يوجب التكليف بغير المقدور ، فلا يكون دخيلا جزءا في المتعلق كدخل سائر الأجزاء فيه حتى ينحل الأمر بالمركب إلى الأمر بذات الفعل كالصلاة ، والأمر بجزئه الآخر وهو قصد الامتثال ، ومع عدم الانحلال لا يتعلق أمر ضمني بنفس الفعل حتى يؤتى به بقصد أمره كما مرّ.

(٣) أي : هذا مقول قوله : «قلت :» ؛ وهو الجواب الأصلي عن الإشكال ، إلّا إن مفهوم هذا هو : إمكان أخذ القربة شرطا ، مع إن القدرة شرط للتكليف مطلقا ؛ إذ لا فرق في حكم العقل بقبح تكليف العاجز بين الجزء والشرط.

وكيف كان ؛ إن داعوية الأمر المتعلق بالكل للأجزاء إنما تصح فيما إذا لم يكن من أجزائه نفس الداعوية ؛ مثل : ذات الركوع والسجود وغيرهما من الأجزاء ، فحينئذ تكون داعوية الأمر بالكل عين داعوية الأوامر الضمنية المتعلقة بالأجزاء. وأما إذا كان المتعلق مركبا من أجزاء ، وكان من جملتها الإتيان بداعي الأمر ـ كما هو المفروض في المقام ـ فيلزم أن يكون الأمر داعيا إلى داعوية نفسه وعلة لعليّته ، لأن المفروض : وحدة الأمر ، فإذا كانت دعوة هذا الأمر من أجزاء المركب ، والأمر المتعلق بالكل يدعو إلى كل واحد من أجزائه التي منها هذه الدعوة ؛ لزم أن يكون أمر المركب داعيا إلى داعوية نفسه ، فيلزم توقف الشيء على نفسه وهو مستحيل بالضرورة. هذا كما في «منتهى الدراية» مع تصرف منّا.

٣٥٣

الواجب بداعي وجوبه في ضمن إتيانه بهذا الداعي ، ولا يكاد يمكن الإتيان بالمركب عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره.

إن قلت : نعم (١) ؛ لكن هذا كله إذا كان اعتباره في المأمور به بأمر واحد. وأما إذا كان بأمرين تعلق أحدهما بذات الفعل ، وثانيهما بإتيانه بداعي أمره فلا محذور أصلا ، كما لا يخفى ، فللآمر أن يتوسل بذلك في الوصلة إلى تمام غرضه ومقصده ، بلا منعة (٢).

قلت (٣) : مضافا إلى القطع بأنه ليس في العبادات إلّا أمر واحد كغيرها من الواجبات والمستحبات ، غاية الأمر : يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها المثوبات

______________________________________________________

(١) أي : ما تقدم من لزوم المحذور على كلا التقديرين ، أي : من دون فرق بين أخذ داعي الأمر على نحو الشرطية أو الشطرية صحيح وفي محله ؛ ولكن إذا كان اعتبار قصد الامتثال في المأمور به بأمر واحد وأمّا إذا كان اعتباره بأمرين فلا محذور أصلا.

فالغرض من هذا السؤال هو : دفع إشكال عدم القدرة على إتيان المأمور به بقصد امتثال أمره بوجه آخر ؛ وهو : فرض تعدد الأمر حيث إنه مع تعدده لا يلزم المحذور أصلا أي : لا يلزم الدور ولا عدم القدرة على الامتثال.

أما عدم لزوم الدور : فلأن الأمر الأول ـ المتعلق بذات الصلاة مثلا ـ يصير موضوعا للأمر الثاني ؛ المتعلق بما تعلق به الأمر الأول بداعي أمره ، فالأمر الثاني وإن كان متوقفا على الأمر الأول توقف الحكم على الموضوع ؛ إلّا إن الأمر الأول لا يتوقف على الأمر الثاني حتى يلزم الدور.

وأما عدم لزوم المحذور الثاني : ـ أعني : عدم القدرة على الامتثال ـ فلقدرة المكلف على إتيان الصلاة مثلا بداعي أمرها الأول بعد الأمر الثاني ، هذا ما أشار إليه بقوله : «فلا محذور أصلا» أي : لا من ناحية الدور ، ولا من ناحية القدرة على الامتثال لما عرفت.

(٢) أي : بلا مانع ، لأن المنعة مصدر مبني للفاعل وفي بعض النسخ «بلا تبعة» أي : بلا محذور ، والمعنى على التقديرين واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان ، فعلى التقدير الأول : فللآمر أن يتوسل بتعدد الأمر في الوصول إلى تمام غرضه ومقصده بلا مانع. وعلى التقدير الثاني : فله أن يتوسل به في الوصول إلى الغرض بلا محذور.

(٣) قد أجاب المصنف عنه بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى القطع ...» إلخ. وهذا يرجع إلى منع الصغرى أعني : تعدد الأمر.

٣٥٤

والعقوبات ، بخلاف ما عداها (١) ، فيدور فيه خصوص المثوبات ، وأما العقوبة : فمترتبة على ترك الطاعة ومطلق الموافقة أن الأمر (٢) الأول : إن كان يسقط بمجرد موافقته ، ولو لم يقصد به الامتثال ، كما هو قضية الأمر الثاني فلا يبقى مجال لموافقة الثاني مع

______________________________________________________

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «أن الأمر الأول ...» إلخ ، وهو راجع إلى منع الكبرى أعني : عدم الحاجة إلى الأمر الثاني.

وحاصل الكلام في الوجه الأول : أننا نقطع بعدم تعدد الأمر ؛ إذ لا فرق بين الواجبات التعبدية والتوصلية في كونها ذات أمر واحد كما أشار إليه بقوله : «بأنه ليس في العبادات إلّا أمر واحد كغيرها» أي : كغير العبادات أي : ليس للشارع إلّا طريقة واحدة ؛ وهي : صدور أمر واحد في العبادات وغيرها ، وليست طريقته صدور أمرين في التعبديات ، وصدور أمر واحد في التوصليات ، والفرق بينهما ؛ أولا : في دوران الثواب والعقاب في العبادات مدار الامتثال أمرها وعدمه ، ودوران الثواب فقط في التوصليات مدار الامتثال أي : الإتيان بقصد القربة.

وأما العقاب : فلا يترتب على ترك الامتثال ، بل فيها على ترك الواجب ؛ لإمكان سقوطه بإتيانه بغير داع قربي ، فإن الواجب يسقط حينئذ مع عدم الامتثال ولا يترتب عليه العقاب أيضا ، لتحقق الواجب المانع عن استحقاق العقاب كالتطهير بالماء المغصوب ، فإن الثوب أو البدن يطهر ولا يترتب العقاب إلّا على الغصب.

وقد أشار إلى ما ذكرناه من الفرق بقوله : «غاية الأمر : يدور مدار الامتثال وجودا وعدما فيها» أي : في العبادات «المثوبات والعقوبات» أي : المثوبات والعقوبات فاعل «يدور».

(١) أي : بخلاف ما عدا العبادات ، «فيدور فيه خصوص المثوبات» ، وهناك فرق آخر وهو : أن الأمر في التعبديات لا يسقط عن ذمة المكلف بدون قصد القربة ؛ بخلاف التوصليات فأمرها يسقط بدونه ولكن الثواب فيها يدور مدار قصد القربة وجودا وعدما ، كما أن العقاب في التعبديات يدور مدار عدم قصد القربة بفعلها أو يدور مدار تركها رأسا فتدبر.

وكيف كان ؛ فتعدد الأمر يكون على خلاف الواقع. هذا خلاصة منع الصغرى.

(٢) هذا هو الوجه الثاني ، وهو المقصود بالأصالة في الجواب عن الإشكال. توضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن الأمر لا يخلو من أحد احتمالين :

أحدهما : حصول الغرض الداعي إليه بمجرد إتيان متعلقه بدون قصد الامتثال بأن يكون متعلقه واجبا توصليا.

٣٥٥

موافقة الأول بدون قصد امتثاله ، فلا يتوسل الآمر إلى غرضه بهذه الحيلة والوسيلة (١) ، وإن لم يكد يسقط بذلك فلا يكاد يكون له وجه ، إلّا عدم حصول غرضه بذلك من أمره ؛ لاستحالة سقوطه (٢) مع عدم حصوله ، وإلا (٣) لما كان موجبا لحدوثه ، وعليه : فلا حاجة في الوصول إلى غرضه إلى وسيلة تعدد الأمر ، لاستقلال

______________________________________________________

وثانيهما : بقاء الغرض على حاله ، وعدم حصوله بإتيان الفعل مجردا عن قصد الامتثال ؛ بأن يكون الواجب تعبديا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه على الاحتمال الأول يسقط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل ولو لا بداعي أمره ، فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني ؛ وذلك لسقوط الأمر الأول بمجرد الإتيان بالفعل ، وليس هناك غرض موجب له ، فيكون الأمر الثاني لغوا غير صادر من الشارع الحكيم.

وأما على الاحتمال الثاني : ـ أي : بقاء الغرض وعدم سقوط الأمر الأول بأن يكون تعبديا ـ فلا حاجة إلى الأمر الثاني المولوي شرعا ، لكفاية حكم العقل بذلك بأنه يستقل بإتيان المأمور به ؛ على وجه يحصل القطع بحصول الغرض من الأمر ـ وهو إتيانه بداعي الأمر ـ فلا حاجة إلى الأمر الثاني شرعا على كلا الاحتمالين.

(١) المراد بالحيلة والوسيلة هو : تعدد الأمر ، كما فرضه المتوهم.

(٢) أي : لاستحالة سقوط الأمر الأول مع عدم حصول الغرض من مجرد الموافقة.

لا يقال : إنه يسقط الأمر مع عدم حصول الغرض فإنه يقال : إذن معناه : لا يوجب الغرض حدوث الأمر ، وهو باطل بالضرورة والوجدان.

وكيف كان ؛ فلا حاجة للآمر في الوصول إلى غرضه ـ وهو إيجاد الطبيعة بداعي الأمر ـ إلى وسيلة تعدد الأمر ؛ وذلك لما عرفت من : أن العقل يستقل ويحكم بوجوب الموافقة على نحو يحصل به غرض الآمر. وعدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر الأول ـ لو لم يأت بداعي الأمر ـ يكون أمرا ظاهرا فيما لو كان الواجب تعبديا. ويسقط أمر المولى بإتيان المأمور بالأمر الأول بداعي أمره على ما يستقل به العقل ، فلا موضوع للأمر الثاني.

(٣) أي : ولو لم يكن سقوط الأمر بدون حصول الغرض مستحيلا ؛ لما كان الغرض موجبا لحدوث الأمر وهو بديهي البطلان ؛ لأن عليّته للحدوث تقتضي عليته للبقاء أيضا.

وبالجملة : أن سقوط أمر المولى يتوقف على حصول غرضه من أمره ، كما أن عدم سقوط الأمر يدل على عدم حصول غرض المولى. ولازم ذلك استحالة سقوط الأمر بدون حصول الغرض.

٣٥٦

العقل ، مع عدم حصول غرض الآمر بمجرد موافقة الأمر بوجوب الموافقة على ؛ نحو يحصل به غرضه ، فيسقط أمره.

هذا (١) كله إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى : قصد الامتثال. وأما إذا كان بمعنى : الإتيان بالفعل بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو له تعالى ؛ فاعتباره في متعلق الأمر وإن كان بمكان من الإمكان ؛ إلّا إنه غير معتبر فيه قطعا لكفاية (٢) الاقتصار على قصد الامتثال ؛ الذي عرفت عدم إمكان أخذه فيه بديهة.

______________________________________________________

(١) أي : هذا الذي بسطنا القول فيه وحققناه في المقدمة الثانية ؛ من استحالة أخذ القربة في متعلق الأمر شرعا «كله» فيما إذا كان التقرب المعتبر في العبادة بمعنى : قصد الامتثال. وأما إذا كان التقرب المعتبر بمعنى آخر ؛ مثل : الإتيان بالفعل بداعي حسنه ، أو بداعي كونه ذا مصلحة ، أو محبوبا للمولى ، أو خوفا من النار ، أو طمعا في الجنة ، أو لكونه تعالى أهلا للعبادة أو غير ذلك ؛ مما يوجب القرب إليه «جل وعلا» ، فإن الدواعي القربية كثيرة أمكن أخذها في المأمور به من دون لزوم الدور المذكور في قصد القربة ، بمعنى : قصد امتثال الأمر ، لعدم توقف ما عدا قصد الامتثال من الدواعي القربية على الأمر ، فمحذور الدور مختص بالقربة ؛ بمعنى : امتثال الأمر فاعتبار غيره ؛ وإن كان بمكان من الإمكان ولكن ليس ذلك معتبرا فيه قطعا ، لأن جواز الاقتصار على الإتيان بداعي الأمر يكشف عن تعلق الأمر بنفس الفعل وعدم دخل تلك الدواعي في الغرض ؛ فضلا عن دخلها في المأمور به ، وإلّا لم يمكن الإتيان بداعي الأمر المتعلق بذات الشيء.

(٢) هذا تعليل لعدم اعتبار التقرب بأحد المعاني المذكورة في متعلق الأمر.

وتوضيح عدم اعتبار التقرب بأحد المعاني المذكورة يتوقف على مقدمة وهي : أن الملاك في سقوط الأمر وحصول الامتثال هو الإتيان بالمأمور به بداعي تلك المعاني ؛ على فرض اعتبار التقرب بمعنى من تلك المعاني ؛ وإن لم يقصد امتثال الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لو كان قصد القربة بأحد هذه المعاني مأخوذا في المأمور به لما حصل امتثال الأمر ؛ إذا أتى المكلف بالمأمور به بداعي أمره لا بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أو غيرهما من المعاني المذكورة. والتالي باطل قطعا ؛ لحصول الامتثال ، بل الغرض بحكم العقل إذا أتى المكلف بالمأمور به بداعي أمره ، فالمقدم ـ وهو اعتبار التقرب بأحد تلك المعاني ـ أيضا باطل ، فالنتيجة هي : اعتبار التقرب بمعنى : قصد الامتثال ؛ الذي لا يمكن أخذه في متعلق الأمر شرعا لاستلزامه الدور.

٣٥٧

تأمل فيما ذكرناه في المقام ، تعرف حقيقة المرام ، كيلا تقع فيما وقع فيه من الاشتباه بعض الأعلام (١).

ثالثتها (٢) : أنه إذا عرفت ـ بما لا مزيد عليه ـ عدم إمكان أخذ قصد الامتثال في المأمور به أصلا ، فلا مجال للاستدلال بإطلاقه ـ ولو كان مسوقا في مقام البيان ـ

______________________________________________________

(١) وهو الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ـ على ما في بعض الحواشي ـ حيث ذهب إلى إمكان أخذ امتثال الأمر في متعلق الأمر ؛ مع تعدد الأمر كما سبق ، وعرفت جواب المصنف عنه. وذهب بعض آخر إلى إمكان أخذ قصد الامتثال في المتعلق ؛ من دون حاجة إلى تعدد الأمر بدعوى : عدم لزوم الدور بالبيان الذي عرفته عند قوله : «وتوهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر ...» إلخ.

وثالث : ذهب إلى جعل القربة بمعنى : آخر مثل القربة بمعنى : حسن الفعل أو كونه ذا مصلحة ، أو غيرهما مما يمكن دخله في متعلق الأمر. وقد عرفت الجواب عنه.

وكيف كان ؛ فهذا كله في بيان إمكان أخذ التقرب في متعلق التكليف شرعا وعدمه ، وحيث ثبت عدم إمكانه في مقام الثبوت ، فلا مجال للبحث عنه في مقام الإثبات ؛ إذ مقام الإثبات فرع الثبوت كما هو بديهي. هذا تمام الكلام في المقدمة الثانية.

(٢) ثالث المقدمات في عدم جواز التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات التوصلية.

الغرض من تمهيد هذه المقدمة : بيان امتناع التمسك بإطلاق الصيغة ؛ لإثبات التوصلية ، وعدم اعتبار نية القربة ؛ بمعنى : قصد امتثال الأمر في المتعلق.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للتقابل أربعة أقسام ، وذلك أن المتقابلين إما أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا ، أو يكونا وجوديين ولا تقابل بين أمرين عدميين ؛ إذ لا ميز في الأعدام.

ثم الأول أي : ما إذا كان أحدهما عدميا على قسمين : إما يعتبر في جانب العدم شأنية الوجود وقابليته كالعمى والبصر أو لا يعتبر ، والأول : يسمى بتقابل العدم والملكة. والثاني : يسمى بتقابل الإيجاب والسلب ، والثاني أيضا على قسمين : الأول : أن يكون تصور مفهوم أحدهما مستلزما لتصور مفهوم الآخر ؛ كالأبوّة والبنوّة ، فيسمى التقابل بتقابل التضايف ، والثاني : أن لا يكون كذلك كالسواد والبياض فيسمى بتقابل التضاد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التقابل بين الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة. فيعتبر في التمسك بالإطلاق أن يكون الإطلاق قابلا للتقييد ، وقد عرفت امتناع التقييد ؛ لاستلزامه الدور ، وامتناع التقييد يوجب امتناع الإطلاق ، فلا إطلاق حتى يتمسك به لإثبات التوصلية ، وعدم اعتبار قصد القربة ، ولا يصح التمسك بإطلاق الصيغة إلّا في

٣٥٨

على عدم اعتباره كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا يكاد يصح التمسك به إلّا فيما يمكن اعتباره فيه.

فانقدح بذلك (١) : أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها ، ولا لاستظهار عدم اعتبار مثل الوجه مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة في العبادة لو شك في اعتباره فيها (٢).

______________________________________________________

القيود التي يمكن شرعا اعتبارها في المأمور به ، بشرط كون الإطلاق في مقام البيان. وقد عرفت : أن قصد القربة بمعنى : امتثال الأمر ليس مما يمكن اعتباره في المأمور به.

والحاصل : أن الإطلاق والتقييد من باب العدم والملكة ، وهما يحتاجان إلى الموضوع القابل ومتعلق التكليف ؛ حيث لم يكن قابلا للإطلاق ، فلا يصح التمسك بإطلاق دليل المأمور به إلّا في القيود التي يمكن اعتبارها في المأمور به.

(١) أي : انقدح بالذي ذكرناه من عدم جواز التمسك بالإطلاق : «أنه لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق الصيغة بمادتها» ، وإنما قال «بمادتها» لأن المادة هي متعلق التكليف.

قال في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٤٥٣» ما هذا لفظه : «بيانه : أن التكليف قد يستفاد من الجملة الخبرية نحو : يجب عليك الصلاة ونحوها ، وقد عرفت أن المكلف به هي الصلاة التي قد يطلق عليها الموضوع وقد يطلق عليها متعلق التكليف.

وقد يفرق بينهما : بأن الموضوع هو الذي أخذ مفروض الوجود في متعلق الحكم ؛ كالعاقل البالغ. والمتعلق هو : ما يطالب العبد به من الفعل أو الترك كالصلاة والزنا ، وقد يستفاد التكليف من صيغة الأمر ونحوها كقوله : صل ، فالوجوب أو الحرمة المستفادان من الهيئة حكم ، والمادة التي تعلق بها الهيئة وطولبت من العبد كالصلاة في المثال موضوع ومتعلق للتكليف.

ثم إن الإطلاق والتقييد قد يكونان بالنسبة إلى الهيئة ؛ فإن «صلّ» مطلق ، و «حج إن استطعت» مقيد ؛ إذ الوجوب في الأول : لم يقيد بالاستطاعة ، وفي الثاني : قيد بها ، وقد يكونان بالنسبة إلى المادة ؛ فنحو : «صل الظهر مع الطهارة» مقيد ، و «صل على الميت» مطلق ؛ إذ المادة ـ أعني الصلاة في الأول ـ مقيدة بالطهارة ، فالصلاة مع الطهارة واجبة ، وفي الثاني مطلق من حيث الطهارة ، وكما لا وجه لاستظهار التوصلية من إطلاق المادة كذا لا وجه لاستظهار عدم اعتبار مثل قصد الوجه أعني : قصد الوجوب والندب وغيره ؛ مما هو ناشئ من قبل الأمر من إطلاق المادة في العبادة». انتهى.

(٢) أي : في العبادات.

٣٥٩

نعم (١) ؛ إذا كان الآمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه ،

______________________________________________________

وحاصل الكلام في المقام : أنه كلما كان مترتبا على الأمر ومنتزعا منه لا يعقل أن يؤخذ إثباتا أو نفيا في الموضوع ؛ للزوم الدور المتقدم. مثلا : قصد الوجوب لو اعتبر في موضوع الحكم لزم الدور ؛ لأن هذا القصد متوقف على الحكم ؛ لأنه ناشئ منه والحكم متوقف عليه ، لأنه مأخوذ في موضوعه.

(١) هذا إشارة إلى الإطلاق المقامي. الفرق بين الإطلاق اللفظي والمقامي : أن الأول : يجري في قيد قابل للأخذ ؛ كالإيمان في الرقبة ، ويتوقف على عدم بيان القيد مع كونه في مقام البيان ، ولا يحتاج ذلك أي : كونه في مقام البيان إلى الإحراز ، بل يكفي عدم إحراز كونه في مقام الإهمال والإجمال ؛ لبناء العقلاء على الحمل على مقام البيان عند الشك. هذا بخلاف الثاني أي : الإطلاق المقامي فإنه يجري حتى في القيد الغير القابل للأخذ ؛ كقصد الأمر ونحوه ، ويحصل كونه في مقام البيان عند انتفاء القيد ، ويحتاج ذلك أي : كونه في مقام البيان إلى إحراز أنه في مقام بيان جميع ما له دخل في غرضه ؛ لعدم جريان بناء العقلاء هنا.

وحاصل الكلام في المقام : أنه إذا كان الآمر بصدد بيان ما له دخل في حصول غرضه الداعي إلى الأمر وإن لم يكن دخيلا في متعلق الأمر لامتناع دخله فيه ، كقصد القربة ونحوه مما يترتب على الأمر ، ويمتنع دخله في المتعلق ، وبيّن أمورا وسكت عن غيرها ؛ كان ذلك السكوت بيانا لعدم دخل كل ما يحتمل دخله في الغرض ؛ سواء أمكن اعتباره في المتعلق أم لا ؛ إذ لو لم يكن كذلك لزم نقض الغرض ، وهو ممتنع على الحكيم.

فهذا الإطلاق المقامي الذي قد يعبر عنه بالإطلاق الحالي في مقابل الإطلاق اللفظي ؛ المعبر عنه بالإطلاق المقالي أيضا مركب من مقدمتين :

الأولى : كون المتكلم في مقام بيان تمام ما له دخل في غرضه ؛ وإن لم يكن دخيلا في متعلق الأمر ، بخلاف الإطلاق اللفظي ، فإن المعتبر فيه هو كون المتكلم بصدد بيان تمام ما له دخل شطرا أو شرطا في المتعلق ، وبهذا يمتاز الإطلاق المقامي عن المقالي.

الثانية : عدم البيان ، ويمكن إحراز هاتين المقدمتين بالأصل العقلائي ، ثم الإطلاق المقامي كاللفظي في الدليلية والكشف عن الواقع ، كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٨٧».

وحاصل الكلام : أنه إذا كان الإطلاق المقامي موجودا في البين صح التمسك بأصالة الإطلاق ؛ حتى تندفع بها جزئية المشكوك للمأمور به أو شرطيته له ، فإذا لم ينصب

٣٦٠