دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

كان المراد بالسنة منها (١) هو نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، كما هو المصطلح فيها ، لوضوح : عدم البحث في كثير من مباحثها المهمة كعمدة مباحث التعادل والترجيح (٢) ، بل ومسألة حجية خبر الواحد لا عنها (٣) ولا عن سائر الأدلة.

______________________________________________________

«الفصول» عنه فجعل موضوع علم الأصول الأدلة الأربعة بما هي هي ؛ حيث زعم أنّ البحث عن الدليلية والحجية حينئذ بحث عن عوارضها الذاتية فيندرج في عوارض الأدلة لا في المبادئ. وهذا القول وإن كان سالما عن الإشكال السابق ، ولكن يرد عليهما معا ما ذكره المصنف «قدس‌سره» بقوله : «ضرورة : أن البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها». فهذا يمنع من أن تكون الأدلة الأربعة موضوعا لعلم الأصول ، لا بما هي أدلة ولا بما هي هي.

(١) أي : من الأدلة. وخلاصة الكلام : أنّه بعد القول بأنّ موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله ، وأنّه ليس خصوص الأدلة الأربعة ، أخذ في بيان دليل ذلك ، وقد أشار بقوله : «ضرورة أنّ البحث ...» إلخ إلى دليل بطلان ما هو المشهور ، وما هو صريح «الفصول» ، فقوله : «ضرورة أنّ البحث ...» إلخ تعليل لبطلان القولين ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي أنّ المراد بالسنة التي هي من الأدلة الأربعة : إمّا ما هو المصطلح فيها أعني : نفس قول المعصوم ، أو فعله ، أو تقريره. أو ما هو أعم منها ومن الطريق الحاكي عنها كالخبر وغيره.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّه يرد الإشكال على كلا التقديرين ، أمّا على التقدير الأوّل : فلأنّ مسألة حجيّة خبر الواحد ونحوها وجملة من مسائل باب التعارض ليس البحث فيها عن عوارض الأدلة الأربعة لا بما هي أدلة ، ولا بما هي هي ، بل البحث فيها إنّما هو عن عوارض الخبر الحاكي عن السنة ، وهو ليس من الأدلة الأربعة ، كما هو واضح. وأمّا على التقدير الثاني أعني : كون السنة أعم من الحاكي والمحكي فسيأتي ما فيه فانتظر.

(٢) لعل وجه التعبير بعمدة مباحث التعادل والترجيح لأجل أنّ عمدة مسائلها يكون البحث فيها عن تعارض الخبرين وهما ليسا من السنة ، ولكن قد يكون البحث في الباب المذكور عن تعارض نفس السنتين لا عن تعارض حاكيهما. ومن البديهي : أنّ البحث عن تعارض السنتين كالبحث عن تعارض الآيتين بحث في الحقيقة عن عوارض الكتاب والسنة ، ولذا قال : «كعمدة مباحث التعادل والترجيح».

(٣) أي : لا عن السنة. ومعنى العبارة : أنّه يخرج كثير من مباحث السنة كعمدة مباحث التعادل والترجيح ، بل تخرج أيضا مسألة حجية خبر الواحد عن الأصول لأنّ

٢١

ورجوع البحث فيهما (١) ـ في الحقيقة ـ إلى البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد في مسألة حجية الخبر ـ كما أفيد ـ وبأيّ الخبرين في باب التعارض ، فإنّه أيضا بحث في الحقيقة عن حجية الخبر في هذا الحال (٢) غير مفيد (٣) ، فإن البحث عن ثبوت

______________________________________________________

البحث في هذه المباحث ليس من السنة ، ولا عن سائر الأدلّة. وأمّا عدم كونه عنها فواضح إذ قد عرفت : أنّ البحث في باب التعارض ومسألة حجية خبر الواحد إنّما هو عن حاكي السنة لا عنها.

وليس البحث عن سائر الأدلة ، بل لو كان عن أحوال الأدلة الأربعة لكان عن أحوال السنة لا عن سائر الأدلة.

(١) أي : رجوع البحث في باب التعادل والترجيح ومسألة حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة وعوارضها الذاتية غير مفيد.

وخلاصة الكلام : أن مرادهم من السنة هو نفس قول المعصوم وفعله وتقريره فلا يكون البحث عن حجية خبر الواحد بحثا عن عوارض السنة ، كما عرفت.

ولكن الشيخ الأنصاري حاول أن يرجع البحث عن حجية خبر الواحد إلى البحث عن أحوال السنة. ومحصل ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» : أنّه يرجع البحث عن حجية خبر الواحد وحجية أحد الخبرين المتعارضين إلى البحث عن عوارض السنة ، لأنّه في الحقيقة بحث عن ثبوت السنة الواقعية بهما كثبوتها بالخبر المتواتر.

(٢) أي : في حال التعارض أي : على كل حال : أنّ ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» أيضا في الحقيقة بحث عن حجية الخبر ، وليس له دخل في السنة أصلا.

(٣) خبر لقوله : «ورجوع البحث» أي : رجوع البحث إلى البحث عن ثبوت السنة غير مفيد في دفع الإشكال ، ووجه عدم الفائدة يتوقف على مقدمة وهي : أن البحث عن ثبوت الموضوع أعني : السنة تارة هو بما هو مفاد كان التامة مثل كان زيد أي : وجد ، وهو موجود ، وكانت السنة أي : السنة موجودة. وأخرى : يكون البحث عن ثبوت الموضوع بما هو مفاد كان الناقصة مثل : كان زيد قائما ، وكانت السنة معتبرة ، أو السنة معتبرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ البحث عن ثبوت الموضوع مطلقا ليس بحثا عن عوارض السنة ، بل إمّا بحث عن وجود الموضوع وهو ما إذا كان المراد مفاد كان التامة ، لأنّ العوارض مفاد كان الناقصة مثل كانت السنة حجة.

أو بحث عن عوارض الخبر لا السنة وهو : ما إذا كان المراد بالثبوت مفاد كان الناقصة.

٢٢

الموضوع ، وما هو مفاد كان التامة ، ليس بحثا عن عوارضه (١) فإنّها (٢) مفاد كان الناقصة.

لا يقال : هذا (٣) في الثبوت الواقعي ، وأمّا الثبوت التعبدي ـ كما هو المهم في هذه المباحث ـ فهو (٤) في الحقيقة يكون مفاد كان الناقصة.

فإنّه يقال (٥) : نعم ؛ ، لكنه مما لا يعرض السنة ، بل الخبر الحاكي لها ، فإنّ الثبوت

______________________________________________________

فمعنى العبارة على الأول : أنّ السنة تثبت بخبر الواحد ، كما تثبت بالخبر المتواتر ، وعلى الثاني : أنّ خبر الواحد يثبت به ما بحكم السنة في وجوب العمل ، وكيف كان ؛ فلا يكون البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد بحثا عن عوارض السنة كما عرفت.

(١) أي : عوارض الموضوع وهو السنة.

(٢) أي : العوارض مفاد كان الناقصة وثبوت السنة بخبر الواحد مفاد كان التامة ، فلا يكون البحث عن الثبوت بحثا عن العوارض ، بل يكون من المبادئ.

نعم ؛ لو كان المراد بالسنة أعم من الحاكي والمحكي كان البحث عن أحوال الخبر بحثا عن عوارض السنة ، إلّا إنّ هناك مسائل ليس البحث عنها بحثا عن أحوال الأدلة الأربعة ، كمباحث الألفاظ فإنّها لا تختص بألفاظ الكتاب والسنة ، وكمبحث الشهرة فإنّه ليس بحثا عن الأدلة الأربعة.

(٣) أي : رجوع البحث عن ثبوت السنة بخبر الواحد إلى البحث عن وجود الموضوع ، فيكون من المبادئ لا من العوارض إنّما هو في الثبوت الواقعي لا في الثبوت التعبدي.

وملخّص الكلام : أنّ غرض المصنف من قوله : «لا يقال هذا» هو تصحيح لكلام الشيخ الأنصاري بأن يقال : إن الإشكال المذكور أي : رجوع البحث إلى البحث عن المبادئ إنّما يرد عليه فيما إذا كان المراد بالثبوت الثبوت الواقعي التكويني وهو مفاد كان التامة ، فيكون البحث من المبادئ. وأمّا إذا كان المراد بالثبوت الثبوت التعبدي الذي مرجعه إلى حكم الشارع بالحجية والعمل بالخبر تعبدا ؛ فيندرج هذا البحث في العوارض ، لكونه مفاد كان الناقصة ، ويخرج عن المبادئ.

(٤) أي : الثبوت التعبدي في الحقيقة داخل في البحث عن عوارض الموضوع.

وبعبارة أخرى : أنّ البحث عن ثبوت السنة تعبدا بالخبر داخل في العوارض ، فيخرج بحث حجية الخبر عن المبادئ ، ويندرج في المسائل.

(٥) أي : يقال في الجواب عن تصحيح كلام الشيخ «قدس‌سره» : إنّ الثبوت

٢٣

التعبدي (١) يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر كالسنة المحكية به ، وهذا من عوارضه لا عن عوارضها ، كما لا يخفى.

وبالجملة (٢) : الثبوت الواقعي ليس من العوارض ، والتعبديّ وإن كان منها ؛ إلّا إنّه ليس للسنة ، بل للخبر ، فتأمل جيدا.

وأمّا إذا كان المراد (٣) من السنة ما يعم حكايتها ، فلأنّ البحث في تلك (٤)

______________________________________________________

التعبدي وإن كان مفاد كان الناقصة فيكون من العوارض ، إلّا إنّه من عوارض الخبر الحاكي للسنة لا من عوارضها. والمفيد في دفع الإشكال : أن يكون الثبوت التعبدي من عوارض السنة لا من عوارض حاكيها ، فلا يندفع الإشكال بارادة الثبوت التعبدي.

(١) أي : فإنّ الثبوت التعبدي الجعلي من قبل الشارع معناه : جعل الحجية والطريقية للخبر «يرجع إلى وجوب العمل على طبق الخبر». ومن المعلوم : أن هذا أي : وجوب العمل على طبق الخبر إنّما هو من عوارض الخبر ، ولا ربط له بالسنة ، فلا يكون من عوارض السنة ، كما أشار إليه بقوله : «لا عن عوارضها» فالبحث عن هذا الوجوب لا يكون من مسائل الأصول ، لأنّ الخبر الحاكي للسنة ليس من الأدلة الأربعة كي يكون البحث عن عوارضه من المسائل الأصولية.

(٢) أي : خلاصة الكلام : إنّ الثبوت إن كان واقعيا فليس من العوارض للسنة ، بل من المبادئ. وان كان تعبديا فهو وإن كان من العوارض ، إلّا إنّه من عوارض الخبر لا السنة التي هي من الأدلة الأربعة. وقيل في الفرق بين لفظة بالجملة وفي الجملة : إنّ الأولى يراد منها خلاصة ما تقدم ، والثانية يراد منها إتيان مطلب جديد وقيل : إن مفاد الأولى : موجبة كلية ، ومفاد الثانية : موجبة جزئية.

(٣) أي : هذا هو الاحتمال الثاني فيما هو المراد من السنة.

وخلاصة الكلام : أنّه إذا كان المراد من السنة ما يعم حكاية السنة ـ يعني : أعم من القول والفعل والتقرير والخبر الحاكي ، فهذا وإن كان موجبا لدخول مسألة حجية خبر الواحد وأحد الخبرين المتعارضين في مسائل علم الأصول ؛ ولكنه أيضا غير مقبول ، وذلك لأنّ البحث في التعادل والترجيح وخبر الواحد ، وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلّا إنّ البحث في غير واحد من مسائل الأصول ـ كمباحث الألفاظ ـ مثل العام والخاص ، والملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها والشهرة والأصول العملية ـ لا يخص الأدلة الأربعة ؛ بل يعم غير الأدلة الأربعة فإنّ مباحث الألفاظ لا تختص بألفاظ الكتاب والسنة.

(٤) أي : في مباحث حجية خبر الواحد وباب التعارض «وإن كان عن أحوال السنة

٢٤

المباحث ، وإن كان عن أحوال السنة بهذا المعنى ، إلّا إنّ البحث في غير واحد من مسائلها (١) ، كمباحث الألفاظ ، وجملة من غيرها ، لا يخص الأدلة ، بل يعم غيرها (٢) ، وإن كان المهم معرفة أحوال خصوصها (٣) ، كما لا يخفى. ويؤيد ذلك (٤): تعريف الأصول ، بأنّه «العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية».

وإن كان الأولى (٥) تعريفه بأنه : «صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في

______________________________________________________

بهذا المعنى» أي : السنة بمعنى : الأعمّ من الحاكي والمحكي ، فيرتفع إشكال خروج المسألتين عن مسائل علم الأصول.

(١) أي : مسائل السنة.

(٢) أي : غير الأدلة الأربعة ، لأن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب مثلا لا يخص بالأمر الوارد في الكتاب أو السنة فيخرج عن مسائل علم الأصول ؛ لأنه ليس بحثا عن خصوص الأدلة الأربعة.

(٣) أي : خصوص الأدلة الأربعة كي يكون البحث عن أحوالها بحثا عن عوارضها الذاتية ، وكيف كان ؛ فقد ثبت مما ذكر : أن الحق هو ما ذهب إليه المصنف من أن موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة ، فلا يرد عليه شيء مما تقدم وروده على القول بحصر الموضوع في الأربعة.

(٤) أي : يؤيد كون موضوع علم الأصول هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة لا خصوص الأدلة الأربعة أي : يؤيد ذلك تعريف ـ القوم المشهور على ألسنتهم ـ الأصول بأنه «العلم بالقواعد ...» إلخ.

وجه التأييد : أنّ مقتضى صيغة الجمع المعرف باللام ـ أعني : القواعد ـ هو العموم ، إذن : فكل مسألة تقع في طريق الاستنباط هي من مسائل الأصول ؛ سواء كانت من الأدلة الأربعة أم لم تكن.

فلو كان موضوع الأصول هي الأدلة الأربعة ؛ لكان الأنسب في تعريف الأصول أن يقال : «بأنّه علم بالمسائل التي يبحث فيها عن أحوال الكتاب والسنة والإجماع والعقل» فإن قيل : لما ذا جعل مؤيدا ولم يجعل دليلا؟

فإنّه يقال : إنّ هذا التعريف هو من القائلين بكون الموضوع هي الأدلة الأربعة فيمكن أن يكون اللام في القواعد للعهد ، فيكون إشارة إلى الأدلة الأربعة. ولعله نظرا إلى هذا الاحتمال قال : «ويؤيد ذلك» ، ولم يقل ويدل على ذلك.

(٥) أي : كان الأولى للأصوليين أن يعرفوا علم الأصول بأنه «صناعة» أي : فن كفنّ الصياغة والنجارة وغيرهما من الفنون.

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

وخلاصة الكلام : أن تعريف المصنف أولى من تعريف المشهور لوجهين :

الأول : تبديل لفظة العلم بالصناعة.

الثاني : أنه مشتمل على قوله : «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل».

وأمّا وجه أولوية تبديل لفظة العلم بالصناعة فلأمرين :

الأول : أن علم الأصول كما سبق عبارة عن نفس المسائل والقواعد لا العلم بها.

الثاني : أنّ العلم هو إدراك فقط ، والإدراك وحده من دون التطبيق العملي لا يكفي لاستنباط الحكم الشرعي.

هذا بخلاف الصناعة فهي إدراك مع العمل على طبق ذلك الإدراك.

وأمّا وجه أولوية تعريف المصنف لاشتماله على الزيادة. فلانّ تعريف المشهور لا يشمل الأصول العملية ، ولا الظن الانسدادي على الحكومة. وتوضيح خروج الأصول العملية عن تعريف المشهور يتوقف على مقدمة وهي : أنّ الأصول العملية تنقسم إلى العقلية والشرعية. والعقلية على أقسام وهي : ١ ـ البراءة. ٢ ـ الاحتياط. ٣ ـ التخيير.

ثم العقلية بأقسامها ليست ممّا يستنبط بها الأحكام الشرعية ، بل هي إمّا مجرد تنجيز في مقام العمل كالاحتياط أي : حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل ، أو تعذير في مقام العمل كحكمه بقبح العقاب بلا بيان في البراءة العقلية وحكمه بالتخيير في الدوران بين المحذورين. وأمّا الأصول الشرعية فهي وظائف ظاهرية للمكلف الشاك في مقام العمل وليست مما يستنبط بها الأحكام الشرعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك خروج الأصول العملية عن تعريف المشهور ، ودخولها في قول المصنف أعني : «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» ، فيكون تعريف المصنف جامعا.

وأمّا خروج الظن المطلق على الحكومة : فلأنّه لو تمت مقدمات الانسداد يحكم العقل بمتابعة مطلق الظن كان شأنه كالعلم مجرد التنجيز والتعذير لا الاستنباط ، هذا بخلاف القول بكشف مقدمات الانسداد عن حكم الشارع بحجيّة مطلق الظن ؛ إذ حينئذ يستنبط به الحكم الشرعي. فلا يلزم خروجه عن تعريف المشهور.

فإن قلت : لما ذا قال المصنف : إنّ الأولى هو تعريفه ، مع إنّ تعريف المشهور غير صحيح أصلا.

قلت : إنّ الأولوية يمكن أن تكون تعينية كالأولوية في قوله تعالى : (أُولُوا الْأَرْحامِ

٢٦

طريق استنباط الأحكام ، أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» ؛ بناء (١) على أنّ مسألة حجية الظن على الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية (٢) من الأصول كما هو كذلك (٣) ، ضرورة : إنّه لا وجه لالتزام الاستطراد في هذه المهمّات.

______________________________________________________

بَعْضُهُمْ أَوْلى) الأنفال : ٥٧ ، والأحزاب : ٦٠ ، فيجب حينئذ عدول المصنف عن تعريف المشهور إلى ما هو مذكور فلا مجال للسؤال والإشكال.

ويمكن أن تكون الأولوية ترجيحية فيكون تعريف المشهور صحيحا ؛ لكن الأرجح ما ذكره المصنف.

وقد تقدم وجه الاحتمال الأول أي : وجه بطلان تعريف المشهور. وأمّا وجه الاحتمال الثاني : فلأنّ التعاريف عنده تعاريف لفظية لا حقيقية ، فلا يجب أن يكون جامعا ومانعا.

(١) أي : بناء على القول ـ بأنّ مسألة حجية الظن على الحكومة ، ومسائل الأصول العملية في الشبهات الحكمية من الأصول ـ كما هو الحق ؛ يلزم خروج المسألتين من الأصول على تعريف المشهور كما عرفت. وأما بناء على القول بأنّهما ليستا من المسائل الأصولية فلا إشكال في خروجهما عن التعريف.

(٢) وجه التقييد بالحكمية : لأجل أنّ الأصل الجاري في الشبهة الموضوعية مثل أصالة الحل في المائع المحتمل كونه خمرا مسألة فقهية. هذا بخلاف الأصل الجاري في الشبهة الحكمية ، كأصالة البراءة في الشك في حرمة شرب التبغ فإنّها مسألة أصولية.

(٣) أي : الحق أنّ مسألة حجية الظن ، ومسائل الأصول العملية من المسائل الأصولية ؛ إذ لو لم تكن منها لكان ذكرها في الأصول من باب الاستطراد ، وليس هناك دليل على ذلك.

رأي المصنف يتلخص فيما يلي :

١ ـ العرض الذاتي ما ليس بواسطة في العروض.

٢ ـ موضوع كل علم هو : نفس موضوعات مسائل ذلك العلم.

٣ ـ والمسائل هي : قضايا متشتتة لا المحمولات المنتسبة إلى موضوعاتها.

٤ ـ تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات.

٥ ـ موضوع علم الأصول هو : الكلي المتحد مع موضوعات المسائل من دون أن يكون له عنوان خاص واسم مخصوص ؛ لا خصوص الأدلة الأربعة.

٢٧

الأمر الثاني

الوضع هو نحو اختصاص (١) للفظ بالمعنى ، وارتباط خاص بينهما ناش من تخصيصه به تارة ، ومن كثرة استعماله فيه أخرى ، وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني ، كما لا يخفى. ثم إنّ الملحوظ حال الوضع (٢) : إمّا يكون معنى عاما ، فيوضع اللفظ له تارة ، ولأفراده ومصاديقه أخرى.

______________________________________________________

مبحث الوضع

(١) هذا التعريف للوضع تعريف بما هو لازم معناه ، وليس تعريفا لحقيقة الوضع ، لأنّه بمعناه المصدري عبارة عن تخصيص اللفظ بالمعنى إمّا بالإنشاء مثل أن يقول : وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى ، أو بالتعهد بأن يقول : متى أردت تفهيم هذا المعنى استعمل هذا اللفظ فيكون الوضع عندئذ من صفات الواضع. وما ذكره المصنف هو الوضع بمعناه الاسم المصدري ، فيكون من صفات اللفظ ، وهو لازم الوضع بمعناه المصدري ؛ فإن اختصاص اللفظ بالمعنى يشمل ما إذا حصل الاختصاص المذكور بالإنشاء ، أو التعهد أو كثرة الاستعمال.

ولعل الوجه في تعريف الوضع بلازم معناه المصدري هو ما أشار إليه بقوله : «وبهذا المعنى صح تقسيمه إلى التعييني والتعيّني» ، فإنّ الوضع بمعنى : اختصاص اللفظ بالمعنى قابل للتقسيم إليهما. أو كان الوجه فيه خوف الطعن ، لأنّ تعريف الوضع بالمعنى المذكور يتناسب مع جميع الاحتمالات ، والأقوال في دلالة اللفظ على المعنى بأنّها ذاتية أو وضعية ، وعلى الثاني : هل الواضع هو الله أو الإنسان؟

وكيف كان ؛ فقد وقع الخلاف في حقيقة الوضع المتحقق بين اللفظ والمعنى بأنّه تخصيص أو تعهد من الواضع أو غيرهما. ولكن تركنا تفصيل الكلام في المقام خوفا من لزوم التطويل.

(٢) أي : الوضع باعتبار تصور الموضوع له على أربعة أقسام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنّ الوضع هو : الربط بين اللفظ الموضوع والمعنى الموضوع له فلا بد للواضع أن يلاحظ اللفظ والمعنى ، ثم المعنى المتصور حال الوضع إمّا كلي وعام ، أو جزئي وخاص ، وعلى كلا التقديرين : اللفظ إما يوضع للعام أو الخاص ، فهذه أقسام أربعة. ثم هذه الأقسام تختلف ؛ منها : ما لا خلاف في إمكانه ووقوعه ومنها : ما لا خلاف في إمكانه ، وإنّما الخلاف في وقوعه ، ثم في مصداقه. ومنها : ما وقع الخلاف في إمكانه ، والمشهور عدم إمكانه وهو رأي المصنف.

٢٨

وإمّا يكون معنى خاصا ، لا يكاد يصح إلّا وضع اللفظ له دون العام (١) ، فتكون

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ المعنى المتصور حال الوضع إذا كان عاما وكليا فاللفظ إمّا يوضع له أو لمصاديقه ، وعلى الأول : يسمى الوضع عاما ، والموضوع له عاما ، وعلى الثاني : يسمى الوضع عاما ، والموضوع له خاصا. وأمّا لو كان المعنى المتصور خاصا فاللفظ إمّا يوضع لذلك المعنى الخاص أو للعام ، فعلى الأول : يكون الوضع خاصا والموضوع له خاصا.

وعلى الثاني : الوضع خاص والموضوع له عام. ولكن هذا الأخير غير ممكن ، لأنّ الخاص بما هو خاص لا يكون وجها للعام ولا آلة للحاظه ، فإنّ الخاص مع تشخصه يباين العام مع كليته ، والمباين لا يكون وجها للمباين ، فلهذا يقال في علم المنطق : إنّ الجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا ، فالخاص لا يكون وجها للعام ولا لسائر الأفراد. هذا بخلاف الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإنّ العام يصلح أن يكون آلة للحاظ أفراده مثل : «حيوان ناطق» ؛ فإنّه مرآة لزيد وعمرو وأحمد وهو من وجوه أفراده ، ومعرفة وجه الشيء معرفة الشيء ولو بوجه هذا في مقام الثبوت. وأمّا في مقام الإثبات فسيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف. ومن يريد أن يعرف أمثلة الأقسام مع حكمها من حيث الصحة والبطلان ، ووجه الصحة أو البطلان ؛ فعليه بالجدول التالي :

الوضع

الأمثلة

الحكم

وجه الصحة والبطلان

الأول : الوضع عام والموضوع له كذلك

كوضع أسماء الأجناس

صحيح عند الجميع

لإمكان جعل العام آلة لتصور المعنى العام

الثاني : الوضع خاص والموضوع له كذلك

كوضع الأعلام

صحيح عند الجميع

لإمكان جعل الخاص آلة لتصور الخاص

الثالث : الوضع عام والموضوع له خاص

كوضع الحروف وأسماء الاشارة على مذهب غير المصنف

صحيح عند غير المصنف

لأنّ العام وجه من وجوه الخاص

الرابع : الوضع خاص والموضوع له عام

لا مثال له لعدم إمكانه عند المشهور وعدم وقوعه عند الجميع

باطل عند الجميع

لعدم إمكانه

(١) أي : الوضع الخاص والموضوع له العام ؛ بمعنى : أنّ الواضع يلاحظ معنى خاصا ، ويجعل ويضع اللفظ للمعنى العام المنطبق عليه. وقد وقع الخلاف في إمكان هذا القسم.

٢٩

الأقسام ثلاثة (١) ، وذلك (٢) لأن العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه.

______________________________________________________

والمصنف يقول بعدم إمكانه ، لأنّ الجزئي لا يكون مرآة للكلي ولا لجزئي آخر.

(١) أي : ١ ـ الوضع العام والموضوع له عام. ٢ ـ الوضع العام والموضوع له خاص.

٣ ـ الوضع الخاص والموضوع له خاص.

فالأول : أن يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لذلك المعنى العام.

الثاني : أن يلحظ معنى عاما ويوضع اللفظ لمصاديقه وأفراده الجزئية.

الثالث : أن يلحظ معنى خاصا ويوضع اللفظ لذلك المعنى الخاص.

(٢) أي : الفرق بين ما تقدم من الوضع الخاص والموضوع له العام ، وبين الوضع العام والموضوع له الخاص قال المصنف «قدس‌سره» في الفرق بينهما : «لأنّ العام يصلح لأن يكون آلة للحاظ أفراده ومصاديقه بما هو كذلك أي : «بما هو عام» ، فإنّه من وجوهها ، ومعرفة وجه الشيء معرفته بوجه ، بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص لا يكون وجها للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا يكون معرفته وتصوّره معرفة له ، ولا لها ـ أصلا ـ ولو بوجه».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي أنّ الوضع ـ سواء كان بمعنى تخصيص اللفظ بالمعنى أو بمعنى : اعتبار كون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى ، أو بمعنى : التعهد ـ يكون فعلا اختياريا فيتوقف تحققه على تصور اللفظ والمعنى ، فلا بد من تصور ما يوضع له اللفظ قبل الوضع ولو إجمالا ، وإلّا لا يعقل الوضع.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في توضيح ما ذكره المصنف «قدس‌سره» من الفرق : إنّه يمكن تصور المعنى الخاص بتصور المعنى العام بأن يلاحظ الواضع المعنى العام ، ويجعله آلة للحاظ أفراده ثم يضع اللفظ للأفراد. هذا في الوضع العام والموضوع له الخاص. بخلاف الخاص في الوضع الخاص ، والموضوع له العام ؛ فإن الخاص بما هو خاص لا يكون وجها وعنوانا للعام ليكون تصوره تصورا له بوجه ، لأنّ الخاص بما هو خاص متخصص بخصوصية مقومة للخاص ، وهذه الخصوصية تنافي العموم ؛ لأنّه لا يتحصل إلّا بإلغاء الخصوصية ، فكيف يعقل تصور العام بتصور الخاص؟! وبدون التصور لا يتحقق الوضع.

فخلاصة الفرق : أنّه يمكن تصور المعنى الخاص بتصور المعنى العام في الوضع العام والموضوع له الخاص ، ولا يمكن تصور العام بتصور المعنى الخاص في الوضع الخاص والموضوع له العام ، فهو غير ممكن.

٣٠

بخلاف الخاص ، فإنّه بما هو خاص ، لا يكون وجها للعام ، ولا لسائر الأفراد ، فلا يكون معرفته وتصوره معرفة له (١) ، ولا لها ـ أصلا ـ ولو بوجه. نعم ؛ (٢) ربما يوجب تصوره تصور العام بنفسه ، فيوضع له اللفظ فيكون الوضع عاما ، كما كان الموضوع له عاما.

وهذا (٣) بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص ، فإن الموضوع له ـ وهي الأفراد ـ لا يكون متصورا إلّا بوجهه وعنوانه ، وهو العام.

______________________________________________________

ومن هنا يظهر عدم الإشكال في القسمين الأخيرين من الأقسام الأربعة هما : الوضع العام والموضوع له العام ، والوضع الخاص والموضوع له الخاص.

حيث يلاحظ الواضع فيهما المعنى العام أو الخاص ، ثم يضع اللفظ بإزاء ذلك المعنى الملحوظ العام أو الخاص ، فيعتبر الارتباط بينهما.

(١) أي : للعام والضمير في قوله : «لها» يرجع إلى الأفراد. ومعنى العبارة : لا يكون معرفة الخاص وتصوره معرفة للعام ولا لسائر الأفراد.

(٢) هذا الكلام من المصنف لدفع ما يتوهم من إمكان الوضع الخاص والموضوع له العام ، والمتوهم هو صاحب البدائع ، فلا بد أولا : من توضيح ما يتوهم ، وثانيا : من توضيح الرد عليه.

وأمّا توضيح التوهم فحاصله : أنّه ربما يكون تصور الخاص موجبا لتصور العام ، لأن الخاص كالإنسان مثلا يتضمن العام كالحيوان ، فللواضع أن يتصور العام في ضمن الخاص ، ثم يضع اللفظ له. فهذا القسم بمكان من الإمكان.

وأمّا توضيح الجواب : فلأن هذا حينئذ يدخل في الوضع العام والموضوع له العام وهو القسم الأوّل ، فلا يكون قسما رابعا.

وبعبارة أخرى : فحاصل كلام المصنف : أنّه إذا تصور الواضع العام بتصور الخاص لأصبح الوضع عاما كالموضوع له ، لأنّ تسمية الوضع بالعام والخاص تابعة لتصور المعنى ، فإذا كان المتصور معنى عاما ، يسمى الوضع عاما ، وإذا كان خاصا ، يسمى خاصا ، والمفروض في المقام أن المتصوّر هو المعنى العام. غاية الأمر : يكون تصوره بتصور الخاص ، فيكون الوضع عاما لا محالة ، كما يكون الموضوع له عاما فلا يكون قسما آخر ، بل يرجع إلى القسم الأول.

(٣) قوله : «وهذا ..» إلخ دفع لتوهم عدم الفرق بين هذا وبين الوضع العام والموضوع له الخاص.

٣١

وفرق واضح بين تصور الشيء بوجهه (١) وتصوره بنفسه (٢) ، ولو كان بسبب تصور أمر آخر (٣). ولعل خفاء ذلك (٤) على بعض الأعلام وعدم تميزه بينهما كان موجبا لتوهم إمكان ثبوت قسم رابع ، وهو : أن يكون الوضع خاصا ، مع كون الموضوع له عاما ، مع أنّه واضح لمن كان له أدنى تأمل.

ثم إنّه لا ريب (٥) في ثبوت الوضع الخاص والموضوع له الخاص كوضع الأعلام ،

______________________________________________________

وملخص الكلام في توضيح التوهم : أنّه إذا رجع القسم الرابع ـ أعني : الوضع الخاص والموضوع له العام ـ إلى القسم الأول ـ أي : الوضع العام والموضوع له العام ـ ليرجع القسم الثاني ـ وهو : الوضع العام والموضوع له الخاص ـ إلى القسم الثالث وهو الوضع الخاص والموضوع له الخاص ، لأنّ التسمية كما ذكر تابعة للتصور ، ففي القسم الثالث لا بد للواضع أن يتصور المعنى الخاص أي : الأفراد ولو بسبب تصور العام فيكون الوضع خاصا لتصور الخاص ، كما أن الموضوع له خاص على الفرض.

فأقسام الوضع ترجع إلى قسمين : ١ ـ الوضع العام والموضوع له العام. ٢ ـ الوضع الخاص والموضوع له الخاص هذا خلاصة التوهم.

وقد دفعه المصنف بقوله : «وهذا بخلاف ما في الوضع العام والموضوع له الخاص فإن الموضوع له ـ وهي الأفراد ـ لا يكون متصورا إلّا بوجهه وعنوانه وهو العام».

وحاصل ما ذكره المصنف من الفرق بين القسمين : أنّ تصور العام في القسم الرابع في ضمن تصور الخاص يوجب خروج الخاص عن كونه خاصا ، لأنّ العام بما هو العام لا يمكن تصوره بالخاص بما هو الخاص ، فلا بد من تصوره بعنوان كلي ، فيصبح من قبيل الوضع العام هذا بخلاف القسم الثاني ، لأنّ تصور الأفراد والمصاديق في ضمن تصور العام لا يوجب خروج العام عن كونه عاما ، لأنّ العام عنوان ووجه لجميع الأفراد ، فعلى هذا يمكن تصور العام بما هو العام ، فيكون الوضع عاما لتصور معنى عام والموضوع له خاصا.

(١) أي : كما في الوضع العام والموضوع له الخاص.

(٢) أي : كما في الوضع العام ، والموضوع له العام.

(٣) أي : الخاص فإن المعنى العام يمكن تصوره بسبب تصور المعنى الخاص.

(٤) أي : الفرق بين القسم الثاني والقسم الرابع أي : لخفاء الفرق بينهما على بعض الأعلام كصاحب البدائع الذي التزم بثبوت قسم رابع ، مع إن الفرق واضح.

فالمتحصل من جميع ما ذكر : أن الوضع باعتبار الموضوع له على أربعة أقسام تصورا ، وثلاثة أقسام إمكانا. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

(٥) أي : لا ريب في وقوع القسمين من أقسام أربعة ؛ وهما : الوضع الخاص

٣٢

وكذا الوضع العام والموضوع له العام كوضع أسماء الأجناس ، وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص : فقد توهم أنّه وضع الحروف وما ألحق بها من الأسماء (١).

كما توهم (٢) أيضا : أنّ المستعمل فيه فيها خاص ، مع كون الموضوع له كالوضع عاما.

والتحقيق (٣) ـ حسبما يؤدي إليه النظر الدقيق ـ : أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له فيها حالهما في الأسماء.

______________________________________________________

والموضوع له الخاص ، كما في وضع الأعلام ، والوضع العام والموضوع له العام ، كما في وضع أسماء الأجناس ، وكذا لا ريب في عدم وقوع الوضع الخاص والموضوع له العام.

وأمّا الوضع العام والموضوع له الخاص فقد وقع الخلاف في وقوعه بعد الفراغ عن إمكانه ، والمصنف ممن يقول بعدم وقوعه ولذا يقول : «فقد توهم أنه وضع الحروف ...» إلخ.

(١) أي : مثل الضمائر وأسماء الإشارة والموصولات فقد توهم جماعة أن الوضع في الحروف وما ألحق بها من الأسماء المذكورة عام والموضوع له خاص ، مثلا : في الضمائر يلاحظ الواضع المعنى الكلي للمفرد المذكر ، ثم يضع ذا بإزاء الجزئيات المندرجة تحت ذلك الكلي ، فيكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، ومثل ذلك الضمائر والموصولات.

(٢) أي : كما توهم أيضا جماعة آخرون ـ منهم التفتازاني ـ : أنّ المستعمل فيه في الحروف والمبهمات خاص ، وذلك لخصوصيّة تنشأ من الاستعمال مع كون الموضوع له كالوضع عاما ، مثل : أن يلاحظ الواضع كلي الابتداء ، فيضع له لفظة «من». فمن موضوع للابتداء ويطلق على كل ابتداء فحينئذ يكون الموضوع له عاما كنفس الوضع. ولكن المصنف «قدس‌سره» يردّ كلا التوهمين.

وحاصل التوهمين في وضع الحروف وما ألحق بها : أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاص ، هذا هو التوهم الأول. أو الوضع والموضوع له فيها عام والمستعمل فيه خاص ، كما في التوهم الثاني. وللمصنف «قدس‌سره» ردّ على كلا التوهمين حيث يقول في وضع الحروف وأمثالها : إنّ حال المستعمل فيه والموضوع له كحال الوضع كلّها عام كأسماء الأجناس ، وسيأتي تحقيق المصنف «قدس‌سره» في وضع الحروف.

التحقيق في وضع الحروف

(٣) تحقيق ما اختاره المصنف «قدس‌سره» في وضع الحروف يتوقف على مقدمة وهي : التحقيق في المعاني الحرفية ببيان الأقوال فيها :

٣٣

.................................................................................................

______________________________________________________

القول الأول : أنّ الحروف لها معان في قبال المعاني الاسميّة ؛ بمعنى : أنّ معانيها معان غير مستقلة بخلاف المعاني الاسمية فإنّها معان مستقلة.

القول الثاني : أنّ الحروف لم توضع لمعنى أصلا ، بل حالها حال علامات الإعراب فوضعت لأن تكون قرينة على كيفيّة إرادة مدخولها ؛ مثلا : وضعت لفظة «في» في قولنا زيد في الدار لأن تكون قرينة على ملاحظة الدار ؛ لا بما هو موجود عيني خارجي ، بل بما هي موجود أيني وظرف مكان لزيد مثلا ، لأنّ الدار تارة تلاحظ بما أنّ لها وجود عيني خارجي فيقال : دار زيد كذا. وأخرى : بما أنّ لها وجود أيني أي : ظرف مكان لشيء آخر فيقال : زيد في الدار ، فكلمة «في» في قولنا زيد في الدار وضعت لتدل على أنّ الدار لوحظت بنحو الأينيّة لا العينية. وهذا القول منسوب إلى نجم الأئمة المحقق الرضي فقال : إنّ الحروف لا معاني لها ، بل هي علامات لخصوصية المعاني الموجودة في مدخولاتها.

القول الثالث : أنّ الحروف وضعت للمعاني الكلية ، كأسماء الأجناس ، فلا فرق بين معاني الحروف والأسماء في عالم المفهومية ، كما لا فرق بينهما من حيث الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ، وأنّ الكل فيها عامّ ؛ وإنّما الفرق بينهما يكون فيما هو خارج عن حريم المعنى وهو : الاستقلالية في الأسماء ، والآلية في الحروف ، وهما من قيود الوضع ومميزاته ـ على ما سيأتي توضيحه ـ من دون أن تكونا دخيلتين في الموضوع له ، فالمعنى في حدّ ذاته لا يتصف بالاستقلال ولا بعدمه ، وإنّما نشأ كل منهما من اشتراط الواضع وهما من توابع الاستعمال وشئونه. هذا ما اختاره المصنف «قدس‌سره» ، وقد صرّح به بقوله : «والتحقيق ...» إلخ.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ في وضع الحروف والأسماء المرادفة كلفظي «من وابتداء» مثلا أقوال :

القول الأول : ما اشتهر بين المتأخرين من أنّهما مختلفان في جزئية الموضوع له وكليته ؛ بمعنى : أنّ الموضوع له في الحروف خاص وجزئي ، وفي الأسماء عام وكلي حيث لاحظ وتصور الواضع مفهوم الابتداء ، ووضع لفظه للمفهوم العام الكلي ، ووضع لفظة «من» لمصاديق ذلك المفهوم الكلي ، فالوضع فيهما عام والموضوع له والمستعمل فيه في الاسم عام ، وفي الحرف خاص. هذا ما تقدم في كلام المصنف حيث أشار إليه بقوله : «فقد توهم أنّه وضع الحروف».

٣٤

وذلك (١) : لأنّ الخصوصية المتوهمة إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا ، فمن الواضح : أنّ كثيرا ما لا يكون المستعمل فيه فيها كذلك ، بل كليا.

______________________________________________________

القول الثاني : الذي أشار إليه بقوله : «كما توهّم أيضا» وهو ما عن بعض المتأخرين من : أنّ الاختلاف بين الحروف والأسماء إنّما هو في جزئية المستعمل فيه وكليّته ؛ بعد الالتزام بعمومية الوضع والموضوع له فيهما. بمعنى : أنّ الوضع والموضوع له فيهما عام. والمستعمل فيه في الاسم عام ، وفي الحرف خاص.

القول الثالث : ما اختاره المصنف «قدس‌سره» من : أنّ الموضوع له والمستعمل فيه كالوضع فيهما عام والاختلاف بينهما جاء من جهة اشتراط الواضع ، بمعنى : أنّ معنى (من وابتداء) متحد ذاتا وهو مفهوم الابتداء ، ومختلف لحاظا ، فشرط الواضع أن يستعمل لفظ ابتداء إذا لوحظ المعنى استقلاليا ، ويستعمل لفظة من إذا لوحظ آليا وحالة للغير.

(١) ينفي المصنف اشتمال معاني الحروف على خصوصية توجب جزئية الموضوع له ، فيكون الموضوع له في الحروف عاما. وقوله : «لأنّ الخصوصية» تعليل لكون الموضوع له في الحروف عاما «إذ ليس هناك ما يوجب جزئية الموضوع له من الخصوصية ؛ سواء كانت تلك الخصوصية هي الوجود الخارجي أو الوجود الذهني المعبّر عنه باللحاظ».

أمّا الأول : فلوضوح : أنّه كثيرا ما يستعمل الحرف في معنى كلي ؛ كما إذا وقع في حيّز الإنشاء والحكم نظير «سر من البصرة إلى الكوفة» فإنّه من الواضح تحقق الامتثال في الابتداء بأيّ نقطة من نقاط البصرة ، والانتهاء إلى أيّ نقطة من نقاط الكوفة كوضوح تحققه في السير بأيّ نحو كان مع عدم القرينة على التعيين ، وهذا ظاهر في عموم الموضوع له للحرف كالاسم ؛ وإلّا لكان تحقق الامتثال متوقفا على ابتداء خاص وهو ما قصده الآمر ، ولم يقل به أحد.

وأمّا الثاني ـ أي : الوجود الذهني المعبر عنه باللحاظ ـ : فقد نفى المصنف أخذه في الموضوع له بوجوه :

منها : أنّ الاستعمال يستدعي تصور المستعمل فيه ، فلو كان اللحاظ الآلي مقوّما للمعنى لزم تعلق اللحاظ بالملحوظ ، وهو باطل ؛ ضرورة : أنّ الموجود لا يقبل الوجود ثانيا. هذا ما أشار إليه بقوله : «وهو كما ترى».

ومنها : أنّ اللحاظ لو كان مقوّما للمعنى لزم عدم صدقه على الخارجيات إلّا بالتجريد ؛ لأنّ المقيد بالوجود الذهني لا وجود له إلّا في الذهن وبدون التجريد يمتنع

٣٥

ولذا (١) التجأ بعض الفحول إلى جعله جزئيا إضافيا.

______________________________________________________

الامتثال الخارجي ، فلا بد من إلغاء الخصوصية ، وهذا يستدعي أن يكون استعمال الحروف بلحاظ الخارج استعمالا مجازيا وهو خلاف الضرورة.

هذا ما أشار إليه بقوله : «فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة إلّا بالتجريد ...» إلخ.

ومنها : أن اللحاظ الآلي في الحروف كاللحاظ الاستقلالي في الأسماء ؛ فكما أنّ لحاظ الاستقلالي لا يوجب جزئية الأسماء فكذلك لحاظ الآلي في الحروف.

فإن قال أحد بعدم أخذ الاستقلالي في معنى الاسم ؛ فنقول في الحرف كذلك.

فتلخص مما ذكرناه : أنّ حال المستعمل فيه والموضوع له في الحروف حالها في الأسماء في العمومية.

ومن هنا يظهر بطلان كلا التوهمين أي : توهم خصوصية الموضوع له أو خصوصية المستعمل فيه مع عمومية الموضوع له كالوضع ، إذ قد عرفت : أنّ الحق عند المصنف : أنّ معاني الحروف معان كلية وضعت ألفاظها لها ، وتستعمل فيها كأسماء الأجناس والاختلاف بينهما إنّما هو في كيفية الاستعمال : بأنّ الواضع ـ بعد ما وضع لفظ الابتداء ولفظ «من» لمعنى واحد وهو حقيقة الابتداء ـ جعل على المستعملين أن لا يستعملوا لفظ الابتداء ، إلّا على نحو إرادة المعنى مستقلا ، ولفظ «من» إلّا على نحو إرادة المعنى تبعا وحالة للغير.

فليس كون المعنى استقلاليا قيدا لمعنى الاسم ، كما إنّه ليس كون المعنى آليا قيدا لمعنى الحرف ، فالقول بأنّ للحروف معان في قبال المعاني الاسمية وهو القول الأول باطل.

وكذلك ليس الحرف علامة على خصوصية معنى مدخوله بأن لا يكون له معنى أصلا وهو القول الثاني ؛ إذ كون الحرف علامة على خصوصية مدخوله كالإعراب على خلاف ما هو المعروف بين النحاة من انقسام الكلمة إلى اسم وفعل وحرف ، فإن لازم عزل الحرف عن المعنى هو انحصار الكلمة في الاسم والفعل ولم يقل به أحد.

فالمتحصل من عبارة المصنف : أن الأقوال في كيفية وضع الحروف ثلاثة : ١ ـ الوضع العام والموضوع له الخاص. ٢ ـ عموميّة كل من الوضع والموضوع له ، مع خصوصية المستعمل فيه. ٣ ـ عمومية الكل وهو مختار المصنف «قدس‌سره» ، وقد تركنا ما في المقام من النقض والابرام رعاية للاختصار.

(١) أي : لما ذكرناه سابقا من عموم الوضع والموضوع له والمستعمل فيه في الحروف «التجأ بعض الفحول» ـ أي : صاحب الفصول (*) ، أو صاحب حاشية المعالم ـ : إلى جعل

__________________

(*) الفصول الغروية ، ص ٢٠ ، س ٧.

٣٦

وهو (١) كما ترى.

وإن كانت (٢) هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا ، حيث (٣) إنّه لا يكاد يكون المعنى حرفيا ؛ إلّا إذا لوحظ حالة لمعنى آخر ، ومن خصوصياته القائمة به ، ويكون حاله كحال العرض (٤) ، فكما لا يكون في الخارج إلّا في الموضوع ، كذلك هو (٥) لا يكون

______________________________________________________

المعنى الحرفي وملحقاته جزئيا إضافيا على حد ما في علم الميزان ، من : أنّ الجزئي الإضافي ما كان فوقه كليا ، وكان له أفراد مثل «الإنسان» فهو بالنسبة إلى أفراده ومصاديقه كلي ، وبالنسبة إلى الحيوان جزئي إضافي.

(١) أي : هذا القول كما تراه لا يجديهم نفعا ؛ لأنّ الجزئي الإضافي كلي ، فلا يكون الموضوع له خاصا ؛ فإنّ المراد بالخاص هو الجزئي الحقيقي فيرجع الجزئي الإضافي إلى عمومية الموضوع له وهو المطلوب ، لأنّ الجزئي الإضافي ـ بمعنى : ما هو أخص من شيء ـ قد يكون كليا كما عرفت.

(٢) أي : قوله : «وإن كانت هي الموجبة ...» إلخ عطف على قوله : «إن كانت هي الموجبة لكون المعنى المتخصص بها جزئيا خارجيا».

وحاصل الكلام : أنّ الخصوصية المتوهمة من الجماعة المأخوذة في الموضوع له إمّا هي الموجبة لكون المعنى جزئيا خارجيا ، أو هي الموجبة لكونه جزئيا ذهنيا. وكلاهما باطل ففرض الخصوصية الموجبة لجزئية المعنى الموضوع له باطل ، وقد تقدم وجه بطلان كلا الاحتمالين.

(٣) تعليل للجزئية الذهنية للمعنى الحرفي وحاصله : أنّ الخصوصية موجبة لكون المعنى الحرفي جزئيا ذهنيا ، فإنّ المعنى الحرفي يفتقر إلى الغير ؛ حيث إن المتكلم حين استعمال لفظ «من» لا بدّ له أن يلاحظ الابتداء في ذهنه حالة للغير ، فيكون جزئيا ذهنيا ، لأنّ الوجود في الذهن كالوجود في الخارج يستلزم التشخص وإن كان المعنى كليا في نفسه.

(٤) أي : يكون حال المعنى الحرفي كحال العرض في القيام بالغير ، والفرق بينهما : أنّ المعنى الحرفي يفتقر إلى الغير ذهنا وخارجا ، والعرض يفتقر إلى الموضوع خارجا لا ذهنا ولذا قيل في تعريفه : العرض ماهية إذا وجدت في الخارج وجدت في الموضوع.

وكيف كان ؛ فالمعنى الحرفي وإن صار جزئيا ذهنيا بلحاظ كونه حالة للغير إلّا إنّه لا يصح أخذ اللحاظ الذهني جزءا للمعنى الحرفي ؛ لاستلزامه المحاذير التي عرفتها. وستأتي الإشارة إليها في كلام المصنف «قدس‌سره».

(٥) أي : المعنى الحرفي أي : وجه الشبه هو الافتقار إلى الغير ، غاية الأمر : العرض

٣٧

في الذهن إلّا في مفهوم آخر ، ولذا (١) قيل في تعريفه : بأنّه ما دل على معنى في غيره.

فالمعنى (٢) ، وإن كان لا محالة يصير جزئيا بهذا اللحاظ بحيث يباينه إذا لوحظ ثانيا كما لوحظ أولا ، ولو كان اللاحظ واحدا (٣) إلّا إنّ هذا اللحاظ (٤) لا يكاد يكون مأخوذا في المستعمل فيه ، وإلّا (٥) فلا بد من لحاظ آخر متعلق بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ ، بداهة (٦) : أنّ تصور المستعمل فيه ممّا لا بد منه في استعمال الألفاظ ، وهو كما ترى.

مع أنّه (٧) يلزم أن لا يصدق على الخارجيات ، لامتناع صدق الكلي العقلي

______________________________________________________

يفتقر في وجوده الخارجي إلى الموضوع. والمعنى الحرفي يفتقر إلى الغير مطلقا.

(١) أي : لتوقف تحقق المعنى الحرفي على مفهوم آخر «قيل في تعريفه : بأنّه ما دل على معنى في غيره» ، وظاهر هذا التعريف : أنّ المعنى الحرفي كائن في غيره ، كما أنّ العرض قائم بغيره وهو الموضوع.

(٢) هذا جواب الشرط في قوله : «وإن كانت الموجبة».

(٣) وحاصل الكلام : أنّ المعنى المقيد باللحاظ يصير جزئيا بهذا اللحاظ ؛ بحيث يباين المعنى المقيد باللحاظ نفسه إذا لوحظ ثانيا ، كما لوحظ أولا ، وذلك لكون الملحوظات الذهنية متباينة ، كالجزئيات الخارجية ولو كان اللاحظ واحدا ، لأنّ وحدة اللاحظ لا توجب انثلام تعدد المعنى لحاظا. فكلمة لو في قوله : ـ «ولو كان اللاحظ واحدا» ـ وصلية.

(٤) هذا هو المحذور الأول من المحاذير الثلاثة اللازمة ؛ على فرض أخذ اللحاظ في المستعمل فيه.

(٥) أي : لو أخذنا اللحاظ في المستعمل فيه فلا بد من لحاظ آخر عند الاستعمال ، ولا بد أن يكون اللحاظ الثاني متعلقا بما هو ملحوظ بهذا اللحاظ الأول الذي هو جزء المعنى فيتعدد اللحاظ وهو خلاف الوجدان ، كما أشار إليه بقوله : «وهو كما ترى».

(٦) أي : تعليل للزوم اللحاظ الثاني المتعلق بما هو الملحوظ باللحاظ الأول. فيلزم تعدد اللحاظ الذي هو خلاف الوجدان وخلاف الذوق السليم.

(٧) هذا هو المحذور الثاني أي : لو كان المستعمل فيه لألفاظ الحروف مقيّدا باللحاظ ؛ للزم عدم صدق المعنى الحرفي على الخارجيات ، لأنّ اللحاظ أمر ذهني ، والذهني لا يوجد في الخارج ؛ لامتناع صدق الكلي العقلي على الخارجيات حيث لا موطن له إلّا

٣٨

عليها (١) ، حيث لا موطن له إلّا الذهن ، فامتنع امتثال مثل «سر من البصرة» ، إلّا بالتجريد وإلغاء الخصوصية ، هذا مع إنّه (٢) ليس لحاظ المعنى حالة لغيره في الحروف إلّا كلحاظه في نفسه في الأسماء ، وكما لا يكون هذا اللحاظ معتبرا في المستعمل فيه فيها ؛ كذلك ذاك اللحاظ في الحروف ، كما لا يخفى. وبالجملة : (٣) ليس المعنى في كلمة «من» ولفظ الابتداء ـ مثلا ـ إلّا الابتداء ؛ فكما لا يعتبر في معناه (٤) لحاظه

______________________________________________________

الذهن ، ولازم ذلك : امتناع امتثال الأمر في مثل : «سر من البصرة» ؛ لأن المأمور به عندئذ مقيد بالقيد الذهني المستحيل إيجاده في الخارج.

(١) أي : على الخارجيات «حيث لا موطن له إلّا الذهن». نعم ؛ يمكن الإيجاد الخارجي بطريقة التجريد ، وإلغاء الخصوصية الذهنية التي أخذت في المعنى ؛ إلّا إن الاستعمال حينئذ يكون استعمالا مجازيا من باب استعمال الكل في الجزء وهو خلاف الضرورة.

(٢) هذا هو المحذور الثالث اللازم على القول بأنّ معنى الحرف مقيد بلحاظ الآلية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي : أنّ لحاظ الآلية في معنى الحرف ليس إلّا كلحاظ الاستقلالية في معنى الاسم ، فكما يجب على المستعمل أن يلاحظ الآلية في الحروف عند الاستعمال ، فكذلك يجب أن يلاحظ الاستقلالية في الأسماء ؛ إذ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّه كما لا يكون لحاظ الاستقلالية معتبرا في الأسماء عند القوم ، فكذلك لا يعتبر في الحروف فكلاهما عام وهو المطلوب. وأمّا لو كان لحاظ الآلية معتبرا في الحروف وسببا لجزئيّة معانيها فليكن لحاظ الاستقلالية في الأسماء كذلك ، فالتفكيك بينهما تحكم وهو غير مقبول.

(٣) أي : خلاصة البحث في الحروف بعد مرور جميع ما تقدم : إنّه ليس المعنى في كلمة «من» الابتدائية ، وفي لفظ الابتداء ـ مثلا ـ إلّا مفهوما واحدا وهو مفهوم الابتداء ، فكما لا يعتبر في لفظ الابتداء ، لحاظ الابتداء في نفسه ومستقلا ، كذلك لا يعتبر في معنى كلمة «من» لحاظ المعنى في غيره وآليا.

والحاصل : أنّه كما لا تعتبر الاستقلالية جزءا من معنى الاسم ، كذلك لا تعتبر الآلية جزءا من معنى الحرف ، وكما لا يكون لحاظ الاستقلال في الاسم موجبا لجزئية المعنى فليكن لحاظ الآلية في الحرف كذلك أي : غير موجب لجزئية المعنى. فالوضع والموضوع له في كليهما عام.

(٤) الضمير يرجع إلى لفظ الابتداء ، كما أنّ الضمير في «لحاظه ونفسه» عائد إلى معنى لفظ الابتداء.

٣٩

في نفسه ومستقلا كذلك لا يعتبر في معناها (١) لحاظه في غيرها آلة ، وكما لا يكون لحاظه (٢) فيه موجبا لجزئيته (٣) فليكن كذلك فيها.

إن قلت : على هذا (٤) لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى ، ولزم كون مثل كلمة «من» ولفظ الابتداء مترادفين ، صح استعمال كل منهما في موضع الآخر ، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها (٥) وهو باطل بالضرورة ، كما هو واضح.

قلت : الفرق بينهما (٦) إنما هو في اختصاص كل منهما بوضع ، حيث إنّه وضع

______________________________________________________

(١) أي : معنى كلمة «من» والضمير في «لحاظه» راجع إلى المعنى. وفي «غيرها» يرجع إلى كلمة «من».

(٢) أي : لحاظ الاستقلال في معنى لفظ الابتداء.

(٣) أي : لجزئية معنى لفظ الابتداء ، والضمير في «فيها» يرجع إلى كلمة «من» ، أي : فليكن لحاظ الآلية في معنى كلمة «من» غير موجب لجزئيته.

(٤) أي : على ما ذكرتم في التحقيق من : إنّ اللحاظ الذهني لا دخل له في المعنى الحرفي ، كما لا دخل له في المعنى الاسمي «لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى». ولازم ذلك هو الترادف المستلزم لصحة استعمال كلمة «من» مكان لفظ الابتداء وبالعكس ، وهو باطل بالضرورة ؛ إذ لا يصح أن يقال «سرت ابتداء البصرة» مكان «سرت من البصرة».

ويمكن تقريب الإشكال بالقياس الاستثنائي بأن يقال : لو كان معنى الحرف متحدا مع معنى الاسم ـ كما بيّنتم ـ لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى والتالي باطل فالمقدم مثله. والملازمة بين المقدم والتالي ثابتة بالفرض ؛ لأن المفروض اتحاد الموضوع له في الاسم والحرف ؛ بمعنى : أن معنى كلمة «من» ولفظ الابتداء هو مفهوم الابتداء.

وأمّا بطلان التالي فإنّ لازم عدم الفرق هو الترادف المستلزم لصحة استعمال كل منهما مكان الآخر وهو باطل كما عرفت.

(٥) أي : الحروف مثل لفظ الاستعلاء ، بمعنى : على ، ولفظ الانتهاء بمعنى : إلى.

(٦) أي : الفرق بين الحرف والاسم إنما هو في الوضع بمعنى : أنّ لكل منهما وضع خاص به ، فلذا لا يجوز استعمال أحدهما مكان الآخر.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الواضع وإن كان قد وضع الاسم والحرف لمعنى واحد وهو المفهوم الكلي ؛ إلّا إنّ لهذا المفهوم حالتين : حالة تبعية وفي غيره ، وحالة

٤٠