دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا ، فإنه عليه يكون ـ على وجهه ـ قيدا توضيحيا ، وهو بعيد ؛ مع إنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع ، بناء على المختار (١) ، كما تقدم ، من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا ، لا من قيود المأمور به شرعا ، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب ، فإنه ـ مع عدم اعتباره عند المعظم ، وعدم اعتباره عند من اعتبره ؛ إلا في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ

______________________________________________________

وأما عدم إرادة المعنى الثاني ـ خصوص الكيفية المعتبرة شرعا ـ فلوجهين :

الأول : أنه يلزم أن يكون قوله : «على وجهه» قيدا توضيحيا ؛ لأن الكيفية المعتبرة شرعا يدل عليها عنوان المأمور به ، فلا يكون «على وجهه» قيدا احترازيا ، بل توضيحيا لعنوان المأمور به ، وهو بعيد ؛ لأن الأصل في القيد أن يكون احترازيا.

الثاني : أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع بناء على ما هو مختار المصنف ؛ من عدم إمكان أخذ قصد القرية قيدا للمأمور به شرعا ، بل هو من كيفيات الإطاعة عقلا فيختص النزاع بالتوصليات.

وأما عدم إرادة المعنى الثالث ـ قصد الوجه كما أشار إليه بقوله : «ولا الوجه ...» إلخ ـ فلوجوه :

الأول : عدم اعتباره عند المعظم.

الثاني : عدم اعتباره عند من اعتبره إلا في خصوص العبادات ، لا مطلق الواجبات ، فيلزم خروج الواجبات التوصلية عن حريم النزاع لعدم اعتبار قصد الوجه ـ عند من يعتبره ـ في غير العبادات.

الثالث : أنه لا وجه لاختصاصه بالذكر ـ على تقدير الاعتبار ـ دون سائر القيود المعتبرة ؛ إذ لا ميزة له على غيره.

(١) قوله : «على المختار» قيد لخروج العبادات عن حريم النزاع ؛ يعني : أن خروجها عن حريمه مبني على مختار المصنف من كون قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلا ؛ لا من قيود المأمور به شرعا.

وأما خروج العبادات عن حريم النزاع على المختار ـ لو كان المراد من الوجه خصوص الكيفية المعتبرة شرعا ـ فلأنه لا يسقط أمرها بإتيانها بدون الوجه المعتبر فيها عقلا كقصد القربة على مذهب المصنف ، وإن أتى بها بجميع ما يعتبر فيها شرعا ، فلا بد من خروج ما يقيد بهذا القيد العقلي ؛ وهي العبادات عن مورد النزاع ، إذ الإتيان بالمأمور به على وجهه أي : بجميع ما يعتبر فيه شرعا لا يجزي ، بل الإتيان به كعدمه بدون قصد القربة المعتبر عقلا.

٤٠١

لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار ، فلا بد (١) من إرادة ما يندرج فيه من المعنى ، وهو ما ذكرناه (٢) ، كما لا يخفى.

ثانيها (٣):

الظاهر : أن المراد من الاقتضاء ـ هاهنا ـ الاقتضاء بنحو العلية والتأثير ، لا بنحو الكشف والدلالة ، ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة.

______________________________________________________

مع إنه لا إشكال في دخول العبادات في محل النزاع ؛ إذ لم يستشكل أحد في أنّ إتيان العبادات على وجهها يجزي ويسقط أمرها.

(١) هذا تفريع على الوجوه الثلاثة التي أوردها على إرادة الوجه بالمعنى الثالث المعتبر عند بعض الأصحاب.

وخلاصة ذلك : أنه قد عرفت عدم إرادة خصوص الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب ؛ لورود الوجوه المذكورة عليه ، فلا بد من إرادة معنى عام من الوجه المذكور في عنوان البحث حتى يشمل الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب ، فالمراد ب ما الموصولة في قوله : «وإرادة ما يندرج فيه» هو : المعنى العام ، وفاعل يندرج ضمير يرجع إلى الوجه ، وضمير «فيه» يرجع إلى الموصول المراد به المعنى العام ، فمعنى العبارة حينئذ : فلا بد من إرادة معنى عام يندرج فيه الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب.

(٢) أي : ما ذكرناه من القيود الشرعية والعقلية أي : المعنى العام هو ما ذكره المصنف ، من أن المراد من «وجهه» ـ في العنوان ـ : هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا لا شرعا فقط.

(٣) أي : ثاني الأمور في تفسير كلمة الاقتضاء ، وما هو المراد منها.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة ؛ وهي : أن الاقتضاء تارة : يكون بمعنى الكشف والدلالة كاقتضاء صيغة الأمر للفور أو التراخي ، أو للمرة أو التكرار ، أو للنفسية والعينية ، وغيرها من الأبحاث المتعلقة بالصيغة ، فإن الاقتضاء هناك بمعنى الكشف والدلالة ؛ لإسناده إلى اللفظ الذي شأنه الدلالة والحكاية.

وأخرى : يكون الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير كالاقتضاء في بحث الإجزاء ، فإنه لإسناده إلى الإتيان ـ وهو إيجاد متعلق الأمر ـ يكون بمعنى التأثير وعليته لسقوط الأمر.

إذا عرفت هذه المقدمة ؛ فالظاهر : أن المراد من الاقتضاء هاهنا هو الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير ، لا بمعنى الكشف والدلالة.

٤٠٢

إن قلت : هذا (١) إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره ، وأما بالنسبة إلى أمر آخر

______________________________________________________

وجه الظهور هو : إسناد الاقتضاء إلى الإتيان الذي هو فعل المكلف ، لا إلى الصيغة. وقد عرفت في المقدمة : أن المناسب للإتيان هو العلية والتأثير في سقوط الأمر ، لا الكشف والدلالة اللذان هما من شئون اللفظ؟ فالإتيان بالمأمور به علة للسقوط لا كاشف وحاك عن سقوطه.

وعلى كلّ فالمراد منه هاهنا هو : العلية والتأثير لا الكشف والدلالة ، وأيد ما ذكره بأنه قد نسب في موضوع النزاع إلى الإتيان لا إلى الصيغة.

ومن هنا يظهر : أن المسألة المبحوث عنها في المقام عقلية لا لفظية حتى يبحث فيها عن مدلول اللفظ وضعا أو غيره ؛ فتعم المسألة الطلب الثابت بالدليل غير اللفظي كالإجماع مثلا.

(١) أي : هذا الذي ذكرتم من كون الاقتضاء بمعنى العلية «إنما يكون كذلك بالنسبة إلى أمره» ، بمعنى : أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي مقتض وعلة لسقوط الأمر الواقعي ، والإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري علة لسقوط الأمر الاضطراري وهكذا ، وأمّا الاقتضاء بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي ـ بأن يقال : الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري أو الاضطراري يقتضي الإجزاء ـ فالنزاع هنا ليس في الاقتضاء بمعنى العلية ؛ بل محل الكلام في الحقيقة في دلالة دليلهما ، بمعنى : أنه هل يكشف الأمر الاضطراري أو الظاهري ، ويدل دليلهما على اعتباره أي : اعتبار دليلهما «بنحو يفيد الإجزاء» عن الأمر الواقعي ، «أو بنحو آخر لا يفيد» أي : لا يفيد الإجزاء؟

وبعبارة أخرى : أن الكلام لا ينحصر في اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء ؛ بل يقع النزاع في بعض الصّور في دلالة الدليل على الإجزاء ، فلا معنى لفرض النزاع مطلقا في اقتضاء بمعنى العلية ؛ بل إنما يصح فرض النزاع في الاقتضاء بمعنى العلية في إجزاء الإتيان بالمأمور به بكل أمر عن ذلك الأمر ؛ كإجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي مثلا.

وأما لو فرضنا إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي ، فكان النزاع في الحقيقة في دلالة الدليل على إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري ، أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

فحاصل الإشكال : أن الاقتضاء في العنوان ليس بمعنى العلية مطلقا ، بل يكون أعم من العلية والكشف.

٤٠٣

كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري ؛ بالنسبة إلى الأمر الواقعي ، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره ؛ بنحو يفيد الإجزاء ، أو بنحو آخر لا يفيده.

قلت : نعم (١) ؛ لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما ، كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم. غايته : أن العمدة في سبب الخلاف فيهما (٢) إنما هو الخلاف في دلالة

______________________________________________________

(١) أي : نعم ؛ إن النزاع قد يكون في دلالة الدليل.

وقد أجاب المصنف عن الإشكال : بأن وقوع النزاع في دلالة الدليل مسلم لا ينكر ، لكنه لا يتنافى مع كون النزاع الأساسي في أن نفس الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يؤثر في الإجزاء بلحاظ وفائه بالملاك ، وينضم إليه النزاع الآخر أعني : ما هو مقتضى الدليل.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن النزاع في المقام تارة : يكون كبرويا ؛ بمعنى : أن الإتيان بالمأمور به في كل أمر يجزي عن ذلك الأمر أم لا؟ مثل الإتيان بالمأمور به الواقعي ؛ هل يجزي عن أمر نفسه أم لا؟ فهو يجزي بالإجماع إلا عن أبي هاشم الجبائي وعبد الجبار من العامة ؛ القائلين بعدم الإجزاء ، ولذا قال المصنف : لو كان هناك نزاع.

وهذا النزاع الكبروي يجري في الأمر الاضطراري والظاهري أيضا.

وأخرى : يكون النزاع صغرويا ؛ بمعنى : أن المأمور به بكل واحد من الأمر الاضطراري والظاهري هل هو مأمور به مطلقا أم لا؟

هذا هو النزاع الصغروي ، ثم يقال في النزاع الكبروي فيهما على تقدير كون المأمور به فيهما مأمورا بهما مطلقا ؛ هل يجزي الإتيان بهما عن الأمر الواقعي حتى لا يجب الإتيان به ثانيا لا إعادة ولا قضاء أم لا؟ بمعنى : هل نزّلهما الشارع في مقام تشريعهما منزلة المأمور به الواقعي الأوّلي أم لا؟ فإن دل دليلهما على تنزيلهما كذلك ؛ كان الإتيان بالمأمور بهما مجزيا عن الواقعي وعلة لسقوط الأمر الواقعي الأوّلي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ النزاع في الأمر الاضطراري والظاهري صغروي وكبروي ، فيكون الاقتضاء فيهما بمعنى : الدلالة والكشف نظرا إلى النزاع الصغروي. وبمعنى : العلية والتأثير نظرا إلى النزاع الكبروي ، هذا ما أشار إليه بقوله : «نعم لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم» أي : العلية والتأثير.

(٢) أي : في الأمر الظاهري والاضطراري ، بيان ذلك : أن سبب الاختلاف في

٤٠٤

دليلهما (١) ، هل إنه على نحو يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه ، وعدم دلالته (٢)؟ ، ويكون النزاع فيه صغرويا أيضا بخلافه (٣) في الإجزاء بالإضافة إلى أمره ، فإنه لا يكون إلّا كبرويا لو كان هناك نزاع ، كما نقل عن بعض فافهم.

______________________________________________________

اقتضائهما للإجزاء وعدمه «إنما هو الخلاف في دلالة» دليل تشريعهما ، وأنه هل يدل على تنزيلهما منزلة المأمور به الواقعي أم لا؟

فعلى الأول يجزي ، وعلى الثاني لا يجزي ، فيبتني النزاع في الكبرى ؛ أعني : الإجزاء على النزاع في الصغرى ؛ أعني : دلالة دليلهما.

(١) أي : دليل المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري ؛ «هل إنه» أي : دليلها «على نحو يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء» بحيث لا حاجة إلى الإعادة ولا إلى القضاء ، «ويؤثر فيه» ، أي : في الإجزاء.

(٢) أي : عدم دلالة دليلهما للإجزاء.

وحاصل الكلام في المقام : أن إجزاء الأمر الاضطراري والظاهري ـ وهو النزاع الكبروي ـ موقوف على إحراز الاشتمال على تمام مصلحة الواقع ، أو مقدار كاف منها بدلالة دليل الأمرين ـ وهو النزاع الصغروي ـ «ويكون النزاع فيه» أي : في إجزاء الأمر غير الواقعي عن الأمر الواقعي «صغرويا» أي : في دلالة الدليل. «أيضا» أي : كما أنه كبروي أي : علة لسقوط التكليف بالواقع أي : مجز عن الواقع.

(٣) أي : بخلاف النزاع في إجزاء غير الواقعي «بالإضافة إلى أمره» ؛ بأن يكون الآتي بالأمر الاضطراري أو الظاهري كافيا عن الإتيان بنفسه ثانيا ، «فإنه لا يكون» النزاع فيه «إلا» في العلية للسقوط فيكون «كبرويا» فقط «لو كان هناك» في الكبرى «نزاع ؛ كما نقل عن بعض» من العامة القائلين بعدم الإجزاء.

قوله : «فافهم» لعلّه إشارة إلى أن النزاع الذي يتفرع عليه وجوب الإعادة والقضاء وعدم وجوبهما ؛ لا يليق بالبحث في علم الأصول ، بل يليق بالبحث في علم الفقه ، لأن اللائق في علم الأصول هو البحث الكبروي. فلا يكون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى الدلالة والكشف ، بل بمعنى العلية والتأثير كي يكون النزاع كبرويا ؛ لأنه يتناسب مع علم الأصول ، فلا يرد إيراد المستشكل : بأن النزاع يمكن أن يكون في الاقتضاء بمعنى دلالة الدليل ، لأن النزاع حينئذ صغروي ، والنزاع الصغروي لا يليق بعلم الأصول.

٤٠٥

ثالثها (١):

الظاهر : أن الإجزاء ـ هاهنا ـ بمعناه لغة وهو الكفاية. وإن كان يختلف ما يكفي

______________________________________________________

(١) أي : ثالث الأمور التي ينبغي تقديمها على البحث هو في تفسير كلمة الإجزاء. يقول المصنف «قدس‌سره» : «الظاهر : أن الإجزاء هاهنا بمعناه لغة وهو الكفاية ؛ وإن كان يختلف ما يكفي عنه».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للإجزاء معنيين :

الأول : اللغوي العرفي. الثاني : الاصطلاحي.

والفرق بينهما : أن الأول : «هو الكفاية وإن كان يختلف ما يكفي عنه» ؛ بمعنى : أن الإتيان بالمأمور به الواقعي يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا ، والإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفي فيسقط به التدارك ثانيا إعادة وقضاء.

والثاني : هو سقوط التعبد ثانيا في الأمر الواقعي. وسقوط الإعادة والقضاء في الأمر الاضطراري أو الظاهري.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد توهم المتوهم بأن الإجزاء في المقام هو بمعنى الاصطلاحي ، فيختلف معناه بحسب الموارد ، فإن الإجزاء في مورد الأمر الواقعي مغاير للإجزاء في مورد الأمر الظاهري أو الاضطراري على ما سبق في المقدمة.

ثم غرض المصنف من عقد هذا الأمر الثالث ؛ هو دفع هذا التوهم وحاصله : أنه لم يثبت للإجزاء معنى اصطلاحي خاص في مقابل معناه اللغوي ؛ ليكون هذا المعنى الاصطلاحي هو المراد منه.

وبعبارة أخرى : ليس للأصوليين فيه اصطلاح جديد ؛ بمعنى : إسقاط التعبد أو القضاء ، فإن ذلك أمر بعيد جدا ، بل المراد منه هو معناه اللغوي وهو الكفاية.

نعم ؛ يختلف ما يكفي عنه ، فإن الإتيان بالمأمور به الواقعي يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا ، والإتيان بالمأمور به الاضطراري أو الظاهري يكفي فيسقط به التدارك ثانيا إعادة أو قضاء. فلازم الإجزاء بمعنى الكفاية في الأمر الواقعي هو : سقوط التعبد به ثانيا ، وفي الأمر الاضطراري أو الظاهري هو : سقوط القضاء أو الإعادة. فإجزاء المأتي به ـ في مورد الأمر الاضطراري أو الظاهري ـ عن المأمور به بالأمر الواقعي هو كفايته عما أمر به إعادة وقضاء ، أو قضاء فقط فيما إذا دل الدليل على وجوب الإعادة دونه ، وذلك فيما إذا تذكر في الوقت وجبت الإعادة عليه ، وإذا تذكر في خارج الوقت لم يجب القضاء.

فإجزاء المأتي به عن المأمور به حينئذ هو : كفايته عما أمر به قضاء لا إعادة.

٤٠٦

عنه ، فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يكفي ، فيسقط به التعبد به ثانيا ، وبالأمر الاضطراري أو الظاهري الجعلي ، فيسقط به القضاء.

لا أنه (١) يكون هاهنا اصطلاحا بمعنى : إسقاط التعبد أو القضاء فإنه بعيد جدا.

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فالإجزاء في جميع الموارد يكون بمعنى واحد وهو الكفاية ، وليس هناك معنى اصطلاحي. هذا مضافا إلى أصالة عدم النقل عن المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي ، مع إن المعنى الاصطلاحي لو ثبت لكان لازم المعنى اللغوي ، فلا وجه لإرادته ، إذ تكفي إرادة الملزوم عن اللازم.

نعم ؛ بقي هنا شيء وهو : تعبير المصنف في مورد الأمر الواقعي بقوله : «يكفي فيسقط به التعبد به ثانيا».

وفي الأمر الاضطراري والظاهري بقوله : «فيسقط به القضاء». وفي «الوصول إلى كفاية الأصول» ما هذا لفظه : (وإنما عبر المصنف في الأول : بقوله : «فيسقط به التعبد به». وفي الثاني : بقوله : «فيسقط به القضاء» مع إن سقوط التعبد والقضاء مشترك بينهما ؛ لأن الكلام في الأول كان في كفاية الإتيان بالأمر عن نفسه ، ومن المعلوم : أنه لو أتى بالمأمور به سقط الغرض الباعث على الأمر ، ولسقوط الغرض يسقط الأمر ، وإذا سقط الأمر لم يكن مجال لإعادة الفعل إلا بالتعبد ثانيا. والمفروض : أن الغرض حاصل فلا تعبد ثانيا ، وحيث لم يكن التعبد الثانوي لم يكن مجال للقضاء أصلا ، إذ القضاء فرع التعبد الذي هو فرع لبقاء الغرض. والحاصل : أنه مع ذكر سقوط التعبد لا يحتاج إلى ذكر سقوط القضاء. هذا وجه الأول.

وأما وجه الثاني : فلأن الكلام في كفاية الأمر غير الواقعي عن الأمر الواقعي ، ومعلوم : إن الكفاية ليست لأجل حصول الغرض بالتمام ، وإلا لكان واجبا تخييرا من أول الأمر بين الواقعي وغيره ، وحين لم يمكن استيفاء الغرض في حال الضرورة وحالة التكليف بالظاهر ، فلو كان هناك شيء لكان عبارة عن القضاء الأعم من القضاء والإعادة ، وأما التعبد ثانيا فلغو محض لأنه مع التمكن في الوقت ، وعدم حصول الغرض كانت الإعادة بالأمر الأول ، ومعهما في خارج الوقت كان قضاء لعدم حصول الغرض ، ومع حصول الغرض لم تكن إعادة ولا قضاء ، وعلى كل تقدير لم يكن تعبد ثان.

والحاصل : أنه لا مجال للتعبد الثانوي في مقام الأمر الاضطراري والظاهري فتأمل). انتهى.

(١) أي : اختلاف في نفس الكفاية ، فلا «يكون» الإجزاء «هاهنا» أي : في عنوان البحث «اصطلاحا» جديدا «بمعنى إسقاط التعبد ، أو» بمعنى إسقاط «القضاء» الأعم من الإعادة ، «فإنه بعيد جدا».

٤٠٧

رابعها (١):

الفرق بين هذه المسألة ومسألة المرة والتكرار لا يكاد يخفى ، فإن البحث هاهنا (٢) في أن الإتيان بما هو المأمور به يجزي عقلا بخلافه في تلك المسألة.

فإنه (٣) في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصيغة بنفسها ، أو بدلالة أخرى.

______________________________________________________

وجه البعد : أن إرادة معنى جديد تحتاج إلى نقل وهو خلاف الأصل.

(١) أي : رابع الأمور التي ينبغي تقديمها قبل البحث في بيان الفرق بين مسألة الإجزاء ومسألة المرة والتكرار ؛ دفعا لتوهم عدم الفرق بينهما ، بتقريب : أن الإجزاء هو القول بالمرة ، وعدم الإجزاء هو القول بالتكرار ، إذ على القول بعدم الإجزاء لا بد من تكرار العمل ، وعلى القول بالإجزاء يكفي المرة ، كما أنه بناء على دلالته على التكرار لا بد من تكرار الفعل ، وعلى القول بالمرة يكفي إتيان الفعل مرة.

فالغرض من عقد هذا الأمر هو : دفع هذا التوهم أي : توهم أن هذا النزاع هو عين النزاع في مسألة المرة والتكرار ، فلا وجه لإفراد كل منهما بالبحث.

(٢) أي : فإن البحث في مبحث الإجزاء. هذا الكلام دفع للتوهم المزبور ببيان الفرق بين المسألتين.

وخلاصة الفرق بينهما من وجهين :

الأول : أن مسألة المرة والتكرار لفظية ، ومسألة الإجزاء عقلية ، بمعنى : أن البحث في تلك المسألة كأنه في تعيين المأمور به بحسب دلالة الصيغة عليه هل هو الوجودات المتعددة ، أو الوجود الواحد؟ فالبحث هناك لفظي. بخلاف مسألة الإجزاء ؛ فإن البحث فيها عن أن الإتيان بما هو المأمور به هل يجزي أو لا؟ فالبحث هنا عقلي ؛ حيث إن الحاكم بالإجزاء هو العقل. وإن شئت فقل : إن النزاع في مسألة المرة والتكرار صغروي لرجوعه إلى تعيين المأمور به ، وفي مسألة الإجزاء كبروي ؛ لرجوعه إلى أن الإتيان به مجز أم لا؟ فيكون الفرق بين المسألتين من وجهين : أحدهما : كون النزاع في تلك المسألة لفظيا ، وهنا عقليّ كما عرفت. والآخر : كون البحث هناك صغرويا وهنا كبرويّ كما عرفت أيضا.

(٣) أي : فإن البحث في مسألة المرة والتكرار إنما هو في تعيين ما هو المأمور به شرعا «بحسب دلالة الصيغة» على المرة أو التكرار «بنفسها ، أو بدلالة أخرى» وقرينة خارجية

٤٠٨

نعم (١) ؛ كان التكرار عملا موافقا لعدم الإجزاء ؛ لكنه لا بملاكه.

وهكذا الفرق بينها (٢) وبين مسألة تبعية القضاء للأداء ، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصيغة على التبعية وعدمها ، بخلاف هذه المسألة فإنه ـ كما عرفت ـ

______________________________________________________

عامة كما تقدم ذلك في بحث المرة والتكرار ، هذا بخلاف مسألة الإجزاء حيث تجري ولو لم يكن هناك لفظ أصلا ؛ بأن استفيد الطلب من الإجماع مثلا.

(١) قوله : «نعم ...» إلخ استدراك على الفرق المذكور بين المسألتين.

وحاصل الكلام في توضيح ذلك : أن بين المسألتين وإن كان فرق كما مرّ ؛ إلّا إنّ بينهما جهة مشتركة وهي : كون عدم الإجزاء موافقا للتكرار عملا وإن لم يكن موافقا له ملاكا ، فإن ملاك التكرار هو كون كل واحد من وجودات الطبيعة الواقعة في حيّز الأمر مأمورا به ، بخلاف عدم الإجزاء ، فإن ملاكه عدم سقوط الغرض الداعي إلى الأمر ، فلا وجه لدعوى : أن القول بالمرة مساوق للإجزاء ، والقول بالتكرار مساوق لعدمه.

(٢) أي : مسألة الإجزاء ، فقوله : «وهكذا الفرق ...» إلخ دفع لتوهم آخر وهو : عدم الفرق بين مسألة الإجزاء ، وبين مسألة تبعية القضاء للأداء بمعنى : أن النزاع في هذه المسألة هو عين النزاع في تبعية القضاء للأداء بتقريب : أن دلالة الأمر على وجوب القضاء في خارج الوقت مساوقة لعدم الإجزاء ؛ إذ مع فرض الإجزاء وسقوط الأمر لا وجه لوجوب قضائه. وكذلك دلالته على عدم وجوب القضاء مساوقة للإجزاء. وقد دفع المصنف هذا التوهم ببيان الفرق بين مسألة الإجزاء وبين مسألة تبعية القضاء للأداء.

وخلاصة الفرق بينهما هو : أن الكلام في مسألة التبعية إنما هو في دلالة الصيغة على التبعية ، وعدم دلالتها عليها. وأما الكلام في مسألة الإجزاء ؛ فإنما هو في الإتيان بالمأمور به ، فيقال : هل الإتيان بالمأمور به يجزي أم لا؟

فمسألة التبعية لفظية ، ومسألة الإجزاء عقلية. هذا مضافا إلى الاختلاف الموضوعي بينهما ؛ حيث إن موضوع وجوب القضاء هو الفوت في الوقت ، وموضوع الإجزاء هو الإتيان بالمأمور به في وقته.

وبالجملة : أن توهم عدم الفرق بين هذه المسألة وبين المسألتين إنما هو بلحاظ إسقاط التعبد ثانيا ، وعدمه بالنسبة إلى المرة والتكرار ؛ وبلحاظ إسقاط القضاء وعدمه بالنسبة إلى تبعية القضاء للأداء.

وقد عرفت : أن الفرق بين هذه المسألة وبين المسألتين في غاية الوضوح. فلا علقة بين مسألة الإجزاء وبين مسألتي المرة والتكرار وتبعية القضاء للأداء.

٤٠٩

في أن الإتيان بالمأمور به يجزي عقلا عن إتيانه (١) ثانيا أداء أو قضاء ، أو لا يجزي (٢) ، فلا علقة بين المسألة والمسألتين أصلا.

إذا عرفت هذه الأمور (٣) ، فتحقيق المقام يستدعي البحث والكلام في موضعين :

الأول :

أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ـ بل بالأمر الاضطراري أو الظاهري أيضا ـ يجزي عن التعبد به ثانيا ؛ لاستقلال العقل (٥) بأنه لا مجال مع موافقة الأمر بإتيان

______________________________________________________

(١) أي : عن إتيان المأمور به ثانيا «أداء» في الوقت ، «أو قضاء» في خارج الوقت.

(٢) أي : فيجب الإتيان بالمأمور به ثانيا أداء أو قضاء.

وكيف كان ؛ فقد تختلف مسألة الإجزاء عن مسألة تبعية القضاء للأداء موضوعا وجهة ـ على ما في «المحاضرات» ـ

أما الأول : فلأن الموضوع في هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به ، وأنه يجزي عن الواقع أم لا ، والموضوع في تلك المسألة هو : عدم الإتيان بالمأمور به في الوقت. ومن الطبيعي إنه لا جامع بين الوجود والعدم ، وعليه : فلا ربط بين المسألتين في الموضوع أصلا.

وأما الثاني : فلأن الجهة المبحوث عنها في هذه المسألة إنما هي وجود الملازمة بين الإتيان بالمأمور به وإجزائه عن الواقع عقلا ، وعدم وجودها ، والجهة المبحوث عنها في تلك المسألة إنما هي دلالة الأمر من جهة الإطلاق على تعدد المطلوب ، وعدم دلالته عليه ، فإذن : لا ارتباط بينهما لا في الموضوع ولا في الجهة المبحوث عنها.

(٣) أي : الأمور الأربعة التي ينبغي تقديمها على البحث.

(٤) حاصل ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في الموضع الأول هو : أن الإتيان بالمأمور به مجز عن أمره سواء كان أمره واقعيا أم ظاهريا ، وأما كونه مجزيا عن أمر آخر ؛ كأن يكون الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري مجزيا عن الأمر الواقعي ومسقطا له فسيأتي البحث فيه في الموضع الثاني فانتظر.

فالمبحوث عنه في الموضع الأول هو : كون الإتيان بالمأمور به مجزيا عن أمر نفسه ؛ لا أمر آخر.

(٥) قوله : «لاستقلال العقل» دليل على إجزاء كل واحد من المأمور به الواقعي والاضطراري والظاهري عن أمر نفسه.

٤١٠

المأمور به على وجهه ، لاقتضائه (١) التعبد به ثانيا.

نعم ؛ لا يبعد أن يقال : بأنه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن

______________________________________________________

وحاصل ذلك : أنه بعد صدق الامتثال المتحقق بإتيان المأمور به على وجهه في كل أمر لا يبقى مجال لاقتضاء أمره للتعبد به ثانيا ، ضرورة : أن المأتي به لمّا كان واجدا لجميع ما يعتبر في المأمور به ، فلا محالة يسقط به الغرض الداعي إلى الأمر ، وبسقوطه يسقط الأمر أيضا لترتّبه على الغرض وجودا وعدما.

(١) أي : لاقتضاء الأمر «التعبد به» أي : بالمأمور به. واللام في «لاقتضائه» متعلق بقوله : «لا مجال» أي : لا مجال لاقتضاء الأمر التعبد بالمأمور به ثانيا.

وكيف كان ؛ فلا كلام في تحقق امتثال الأمر بإتيان المأمور بذلك الأمر. وإنما الكلام في جواز تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر للمأمور به يكون هو امتثالا للأمر وعدم جوازه.

هذا ما استدركه المصنف بقوله : «نعم لا يبعد ...» إلخ فهذا استدراك من عدم المجال للتعبد به ثانيا.

وحاصل الكلام فيه : أنه لا يبعد عند المصنف جواز تبديل الامتثال بامتثال آخر في بعض الموارد ، وتوضيح ما أفاده المصنف من جوازه في بعض الموارد يتوقف على مقدمة وهي : أن الإتيان بالمأمور به تارة : يكون علة تامة لحصول الغرض ؛ كما لو أمر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لأجل رفع العطش ، فأهرق العبد الماء فيه ، فإن المأمور به حينئذ علة تامة لحصول الغرض وهو رفع العطش.

وأخرى : لا يكون علة تامة لحصول الغرض ؛ كما لو كان الغرض متوقفا على فعل اختياري للمولى نفسه ، كما في المثال المعروف ؛ وهو ما إذا أمر المولى عبده بإحضار الماء ليتوضأ به أو ليشربه ، فأتاه العبد بالماء الصالح لهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يجوز للعبد تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر من أفراد المأمور به في الصورة الثانية ؛ وذلك فإن مجرد إحضار الماء لا يحصّل الغرض ، بل يتوقف حصوله على فعل المولى من الشرب والتوضّؤ به ، ففي هذا الفرض يجوز عقلا تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أفضل منه «لا منضما إليه» حتى يكون هناك امتثالان.

كما أشار إلى جواز تبديل الامتثال «في المسألة السابقة» المذكورة في المبحث الثامن ، والضمير في «إليه» في قوله : «لا منضما إليه» يرجع إلى التعبد به أولا ؛ أي : ليس للعبد تبديل الامتثال والتعبد به ثانيا بدلا عن التعبد به أوّلا ـ ولا منضما إلى التعبد به أولا ـ بحيث يكون التعبد بالمأمور به ثانيا بدلا عن التعبد به أولا في مسقطيته للأمر ، ولا

٤١١

التعبد به أولا لا منضما إليه ، كما أشرنا إليه في المسألة السابقة. وذلك (١) فيما علم أن مجرد امتثاله لا يكون علة تامة (٢) لحصول الغرض وإن كان (٣) وافيا به لو اكتفى به ، كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه ، فلم يشربه بعد ، فإن (٤) الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعد ، ولذا لو أهريق الماء واطلع عليه العبد ، وجب عليه إتيانه ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا ، ضرورة (٥) : بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه (٦) ، وإلا (٧) لما أوجب حدوثه ، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر ، كما كان له قبل إتيانه الأول بدلا عنه.

______________________________________________________

منضما إلى التعبد به أولا حتى يلزم تعدد التعبد ، لأن المفروض : مطلوبية صرف الوجود وعدم تعلق الأمر بمجموع الفردين.

(١) أي : عدم بعد تبديل الامتثال بامتثال آخر.

وحاصل الكلام : أن مورد هذا الجواز إنما هو صورة العلم بعدم كون الامتثال علة تامة لحصول الغرض مع وفائه بالغرض لو اكتفى بالامتثال الأول.

(٢) أي : لا يجوز تبديل الامتثال فيما لو كان مجرد امتثاله الأول علة تامة لحصول الغرض ؛ إذ لو كان كذلك للزم اجتماع علتين على معلول واحد ، وهو محال لكونه مستلزما لتحصيل الحاصل.

(٣) أي : وإن كان الامتثال الأول مع الاكتفاء به وافيا بالغرض ، إذ المفروض : أن الماء في المثال المذكور قابل لأن يستوفي المولى غرضه كرفع العطش مثلا.

(٤) قوله : «فإن الأمر ...» إلخ تعليل لقوله : «نعم لا يبعد أن يقال» وتوضيح ذلك : أن وجه جواز تبديل الامتثال هو بقاء الأمر بحقيقته ؛ وهي : الطلب الموجود في نفس المولى ، وبقاء ملاكه وهو : رفع العطش مثلا ؛ الذي هو داع للأمر بإحضار الماء ، ولا يسقطان بمجرد إحضار الماء ، بل يسقط الأمر والغرض بشربه أو غيره من الأغراض الداعية إلى الطلب ، فما لم يتحقق الشرب الرافع للعطش أو غيره لم يسقط الأمر بحقيقته وملاكه ، ولأجل عدم سقوط الأمر حقيقة وملاكا يجب على العبد الإتيان بالماء ؛ لو اطلع على خروج الماء الأول عن قابليته للوفاء بغرض المولى وهو رفع العطش.

(٥) قوله : «ضرورة» تعليل لوجوب الإتيان ثانيا.

(٦) أي : إلى الطلب.

(٧) أي : وإن لم يجب إتيانه ثانيا مع بقاء الغرض لما أوجب الغرض حدوث الأمر ، ثم بقاء الغرض مع فرض سقوط الطلب يكشف عن عدم عليته لحدوث الأمر ، وهذا

٤١٢

نعم (١) ؛ فيما كان الإتيان علة تامة لحصول الغرض فلا يبقى موقع للتبديل ، كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه ، بل لو لم يعلم أنه من أيّ القبيل ، فله التبديل باحتمال أن لا يكون علة ، فله إليه سبيل.

ويؤيّد ذلك (٢) ـ بل يدلّ عليه (٣) ـ ما ورد من الروايات (٤) في باب إعادة من

______________________________________________________

خلف كما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٩» مع تصرف ما.

(١) قوله : «نعم فيما كان ...» إلخ استدراك على ما تقدم من جواز تبديل الامتثال ، وهذا الاستدراك تكرار لما سبق عن المصنف. فيكون مخلا بما هو مقصود المصنف من الإيجاز.

قوله : «بل لو لم يعلم أنه من أي القبيل» إشارة إلى إلحاق صورة الشك ـ في علية مجرد الامتثال لسقوط الغرض ـ بصورة العلم بعدم عليته له في جواز تبديل الامتثال ، فيجوز التبديل في كلتا الصورتين ، غاية الأمر : أن جوازه مع العلم قطعي ، ومع الشك رجائي. فللعبد إلى التبديل سبيل.

(٢) أي : يؤيّد جواز تبديل الامتثال إذا لم يكن الفرد الأول علة تامة لسقوط الأمر ، ولعل التعبير بالتأييد لاحتمال كون مورد الروايات المشار إليها من صغرويات تعدد المطلوب ، فيكون الغرض القائم بالجماعة مطلوبا آخر غير مطلوبية نفس طبيعة الصلاة ، فباب الصلاة المعادة حينئذ أجنبي عن المقام ، وهو تبديل الامتثال الذي مورده وحدة المطلوب والأمر.

(٣) أي : بل يدل على جواز تبديل الامتثال ؛ ما ورد من الروايات لظهور قول الصادق «عليه‌السلام» : «ويجعلها الفريضة» في صحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» أنه قال : «في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة ، قال : يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء». الوسائل ، ج ٨ ، باب ٥٤ ، ص ٤٠١ ، ص ٤٠٣.

(٤) أي : وهي عدّة الروايات مذكورة في الوسائل ج ٨ ، الباب ٥٤ ، من أبواب صلاة الجماعة. ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر «عليه‌السلام» في حديث قال : «لا ينبغي للرجل أن يدخل معهم في صلاتهم وهو لا ينويها صلاة ، بل ينبغي له أن ينويها ، وإن كان قد صلى فإن له صلاة أخرى» إلى غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب ، فهذه الروايات تدل على جواز الامتثال ثانيا بعد حصول الامتثال الأول ، وهو الإتيان بالصلاة فرادى. وفي الاستدلال بهذه الروايات على جواز تبديل الامتثال مناقشة وكلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

٤١٣

صلى فرادى جماعة ، وأن الله يختار أحبهما إليه.

الموضع الثاني (١) ـ وفيه مقامان :

المقام الأول : في أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري ، هل يجزي عن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي ثانيا بعد رفع الاضطرار في الوقت إعادة ، وفي خارجه قضاء أو لا يجزي؟

______________________________________________________

(١) أي : الموضع الثاني : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي ، «وفيه مقامان» المقام الأول : في الأمر الاضطراري ، والمقام الثاني : في الأمر الظاهري.

المقام الأول : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي كما لو كان مأمورا بالصلاة مع التيمم ، ثم ارتفع العذر في الوقت أو خارجه ؛ فهل يجب الإتيان بالصلاة مع الوضوء في الوقت إعادة ، أو في خارجه قضاء ، أو لا يجب ، بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزيا عنه؟

الأمر الاضطراري

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو موضوع الكلام فنقول : إن موضوع الكلام هو : ما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري متحققا في الواقع بحيث يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي في حين الإتيان بالعمل ، وأما إذا لم يكن الأمر الاضطراري ثابتا واقعا لعدم تحقق موضوعه واقعا ؛ فلا يكون هذا الفرض موضوع الكلام لعدم الأمر الاضطراري ، كي يقع الكلام في إجزائه.

إذا عرفت ما هو موضوع الكلام فاعلم : أن الكلام تارة : يقع في مقام الثبوت وأخرى : في مقام الإثبات ، والأول : ما أشار إليه بقوله : «تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء ...» إلخ.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «وأخرى» أي : في مقام الإثبات يعني : في «تعيين ما وقع عليه» الأمر الاضطراري من الأنحاء في الشريعة المقدسة.

وملخص ما أفاده المصنف «قدس‌سره» بحسب مقام الثبوت أربع صور.

الأولى : أن يكون التكليف الاضطراري وافيا بتمام المصلحة وتمام ملاك الأمر الواقعي ، وهذه الصورة ما أشار إليه بقوله : «فاعلم أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري» ، إلى قوله : «وافيا بتمام المصلحة ...» إلخ.

٤١٤

تحقيق الكلام فيه يستدعي التكلم فيه تارة : في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأنحاء ، وبيان ما هو قضية كل منها من الإجزاء وعدمه ، وأخرى : في تعيين ما وقع عليه.

فاعلم : أنه يمكن أن يكون التكليف الاضطراري في حال الاضطرار كالتكليف الاختياري في حال الاختيار وافيا بتمام المصلحة ، وكافيا فيما هو المهم والغرض ، ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك ، بل يبقى منه شيء أمكن استيفاؤه أو لا يمكن. وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه ، أو يكون بمقدار يستحب ، ولا يخفى : أنه إن كان وافيا به يجزي ، فلا يبقى مجال أصلا للتدارك ، لا قضاء ولا إعادة ، وكذا لو لم يكن وافيا ، ولكن لا يمكن تداركه ، ولا يكاد يسوغ له البدار في هذه الصورة إلا

______________________________________________________

الثانية : أن لا يكون وافيا بتمام الملاك ، بل يكون وافيا ببعض الملاك ، وكان المقدار الباقي مما لا يمكن تداركه كما أشار إليه بقوله : «ويمكن أن لا يكون وافيا به كذلك ، إلى قوله : «أو لا يمكن».

الثالثة : أن يكون وافيا ببعض الملاك والمصلحة ، وأمكن تدارك الباقي واستيفاؤه ، وكان مما يجب تداركه ، كما أشار إليه بقوله : «وما أمكن كان بمقدار يجب تداركه».

الرابعة : هذه الصورة ، ولكن لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه على حد يلزم استيفاؤه ، بل على حد الاستحباب.

إذا عرفت هذه الصور في مقام الثبوت ؛ فاعلم :

أن الصورة الأولى : تقتضي الإجزاء بلا كلام لحصول تمام ملاك الأمر الواقعي بالمأمور به الاضطراري ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعي.

حينئذ. أما جواز البدار ـ أي : المبادرة إلى الإتيان بالمأمور به الاضطراري في أول وقت الاضطرار ـ فهو يتوقف على إحراز وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الأمر الواقعي بمجرد الاضطرار ، إذ لا إشكال في جوازه حينئذ لعدم فوات مصلحة الواقع به.

وأما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيدا باليأس عن ارتفاع الاضطرار ، أو بالانتظار إلى آخر الوقت ؛ فلا يجوز البدار بدون اليأس ؛ لعدم وفاء المأتي به بملاك الأمر الواقعي ، ولا يتحقق الإجزاء.

وأما الصورة الثانية : فهي تقتضي الإجزاء أيضا ؛ لامتناع تدارك الفائت ، ولا يجوز البدار فيها ؛ لاستلزام تجويزه للإذن في تفويت مقدار من المصلحة ، وذلك قبيح على العاقل فضلا عن الحكيم.

٤١٥

لمصلحة كانت فيه (١) لما فيه من نقض الغرض ، وتفويت (٢) مقدار من المصلحة ، لو لا مراعاة ما هو فيه (٣) من الأهم فافهم (٤).

لا يقال : عليه (٥) ، فلا مجال لتشريعه ولو بشرط الانتظار ، لإمكان استيفاء الغرض بالقضاء.

______________________________________________________

(١) أي : في البدار ، أي : لا يجوز البدار المفوّت لمقدار من المصلحة إلا مع تداركه بمصلحة أخرى ؛ كمصلحة أول الوقت مثلا ، إذ بدون التدارك يلزم نقض الغرض وهو تفويت مصلحة المأمور به الواقعي بلا موجب.

(٢) أي : قوله : «وتفويت مقدار من المصلحة» تفسير «لنقض الغرض».

(٣) أي : ما هو في البدار من الأهمية ، أي : يلزم نقض الغرض لو لا مراعاة الغرض الأهم الذي يكون في البدار. فقوله : «من الأهم» بيان لما الموصولة في قوله : «ما هو».

(٤) لعله إشارة إلى أنه أي : كون المصلحة في البدار أهم من المصلحة الفائتة مجرد فرض في مقام الثبوت ؛ إذ لم نظفر في مقام الإثبات بما يدل على اشتمال البدار في شيء من الأبدال الاضطرارية على مصلحة تكون أهم من المقدار الفائت من مصلحة المأمور به الواقعي.

وأما الصورة الثالثة : فلا يجزي المأمور به الاضطراري عن المأمور به الواقعي ، لأن المفروض : إمكان تداركه مع لزومه ، ويجوز البدار كما يجوز في الصورة الرابعة.

وأما الصورة الرابعة : فيجزي الأمر الاضطراري عن الواقعي ، لأن المفروض : عدم وجوب تدارك الباقي حتى يجب الإتيان بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء لتداركه.

نعم ؛ يجوز البدار فيها كما أشار إليه بقوله : «ولا مانع من البدار في الصورتين» أي : هما وجوب تدارك الباقي وعدم وجوبه.

وجه عدم المانع هو : عدم لزوم تفويت شيء من البدار فيهما ، وسيأتي تفصيل ذلك في كلام المصنف «قدس‌سره».

(٥) بناء على عدم اشتمال الأمر الاضطراري على تمام مصلحة الأمر الواقعي الاختياري ، والحال : أن الباقي من مصلحة الأمر الواقعي لا يمكن تداركه ـ كما هو المفروض في الصورة الثانية ـ فلا مجال حينئذ لتشريع الأمر الاضطراري ولو بشرط الانتظار في آخر الوقت ؛ لكونه مفوتا لمقدار من المصلحة ، فلا محيص عن الأمر بالمبدل الاختياري بعد خروج الوقت ، وارتفاع الاضطرار لتستوفى المصلحة بتمامها «لإمكان استيفاء الغرض». هذا تعليل لقول : «فلا مجال ...» إلخ.

٤١٦

فإنه يقال (١) : هذا كذلك لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت.

وأما تسويغ البدار ، أو إيجاب الانتظار في الصورة الأولى (٢) فيدور مدار كون العمل ـ بمجرد الاضطرار مطلقا ، أو بشرط الانتظار ، أو مع اليأس عن طروّ الاختيار ـ ذا مصلحة ووافيا بالغرض.

وإن لم يكن وافيا (٣) ، وقد أمكن تدارك الباقي في الوقت (٤) ، أو مطلقا ولو

______________________________________________________

(١) أي : يقال في الجواب : «هذا» أي : الذي ذكرتم من عدم جواز التشريع في الصورة الثانية «كذلك» ، أي : كما ذكرتم صحيح ، «لو لا المزاحمة بمصلحة الوقت» ، ومع المزاحمة يؤخذ بأكمل المصلحتين ، وأن ما يستوفى من الأمر الاضطراري من مصلحة الوقت ومقدار من مصلحة الواقع أكمل وأتم من استيفاء المصلحة بالقضاء.

وبعبارة أخرى ، أن المكلف يدرك بالأمر الاضطراري مصلحتين :

إحداهما : مقدار من مصلحة الأمر الواقعي الاختياري ، والأخرى : مصلحة الوقت ، وهو بالقضاء يدرك مصلحة الأمر الواقعي فقط لا مصلحة الوقت ، ولا ريب أن المصلحة الأولى أكمل من الثانية ، فهذا هو علة لتشريع الأمر الاضطراري.

(٢) أي : وهي وفاء المأمور به الاضطراري بمصلحة المأمور به الواقعي الأوّلي ، وقد عرفت مجمل الكلام فيه ، وأما تفصيل ذلك : فحاصله : أن جواز البدار وعدمه في هذه الصور يدوران مدار كيفية دخل الاضطرار في المصلحة ، فإن دل دليله على أن مجرد طرو الاضطرار ـ ولو في جزء من الوقت المضروب للمأمور به الواقعي ـ يوجب صيرورة الفعل ذا مصلحة تامة جاز البدار ، ولا يجب الانتظار إلى آخر الوقت ، أو اليأس من ارتفاع الاضطرار في الوقت. وإن دل على أن الاضطرار المستوعب للوقت يوجب صيرورة الفعل الاضطراري ذا مصلحة تامة ؛ فلا وجه لجواز البدار ، بل يجب الانتظار إلا إذا علم ببقاء العذر إلى آخر الوقت ، فإن العلم طريق عقلي لإحراز الموضوع وهو الاضطرار المستوعب ، كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٢» مع تصرف ما.

(٣) أي : وإن لم يكن الفعل بمجرد الاضطرار وافيا بالغرض فهناك تفصيل.

وتوضيح ذلك : أن ما يبقى من المصلحة إن كان تداركه واجبا فلا يجزي الفعل الاضطراري عن المأمور به الواقعي ، بل يجب الإتيان بالمبدل إعادة مع بقاء الوقت وقضاء بعد خروجه. وإلى هذا أشار بقوله : «فإن كان الباقي مما يجب تداركه» ، وإن لم يكن تداركه واجبا فلا يجب شيء من الإعادة والقضاء ؛ إذ المفروض : عدم وجوب تدارك ما فات من المصلحة.

(٤) أي : إذا فرض زوال العذر قبل خروج الوقت ، كما أن تدارك الباقي قضاء يكون بعد خروج الوقت.

٤١٧

بالقضاء خارج الوقت ؛ فإن كان الباقي مما يجب تداركه فلا يجزي (١) ، بل لا بدّ من إيجاب الإعادة أو القضاء ، وإلا فيجزي ، ولا مانع عن البدار في الصورتين (٢).

غاية الأمر : يتخير في الصورة الأولى بين البدار والإتيان بعملين : العمل الاضطراري في هذا الحال (٣) ، والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ، أو الانتظار (٤) والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.

وفي الصورة الثانية : (٥) يتعين عليه البدار ، ويستحب إعادته بعد طروّ الاختيار. «وفي نسخة : يجزي البدار ويستحب الإعادة بعد طروّ الاختيار».

______________________________________________________

(١) وجه عدم الإجزاء هو : أن المفروض : إمكان تداركه ، مع لزومه.

قوله : «وإلا فيجزي» أي : وإن لم يكن الباقي مما يجب تداركه فيجزي ؛ لعدم وجوب الباقي حتى يلزم الإتيان بالفعل ثانيا إعادة أو قضاء لتداركه.

(٢) أي : وهما وجوب تدارك الباقي وعدمه ، وجه عدم المانع هو : عدم لزوم التفويت من البدار فيهما. غاية الأمر : أنه يتخير في الصورة الأولى ـ أعني : وجوب تدارك الباقي ـ بين الإتيان بعملين : اضطراري واختياري ، فيجوز له البدار بالعمل الاضطراري ، ثم يأتي بالاختياري بعد ارتفاع العذر ، وبين الإتيان بعمل واحد اختياري بعد ارتفاع الاضطرار ، إذ المصلحة التامة تستوفى على كلا التقديرين ، غايته : أنه في صورة الإتيان بعملين تستوفى تدريجا ، وفي صورة الإتيان بعمل واحد تستوفى دفعة.

(٣) أي : حال الاضطرار.

(٤) أي : الانتظار إلى رفع الاضطرار ، ثم الإتيان بما هو تكليف المختار.

فالحاصل : أن المكلف يتخير بين البدار ـ والإتيان بعملين حتى يعلم بإحراز تمام المصلحة بعضها بالعمل الاضطراري في أول الوقت ، وبعضها الآخر بالعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار ـ وبين الانتظار والاقتصار بما هو تكليف المختار.

وجه التخيير : أنه يتمكن من تحصيل الغرض في الصورتين.

(٥) أي : وهي استحباب تدارك الباقي ، فيتعين البدار بالفعل الاضطراري بحيث يقع في الوقت حفظا لمصلحة الوقت ، «ويستحب إعادته بعد طروّ الاختيار» أي : في خارج الوقت لاستيفاء بقية المصلحة غير الملزمة. هذا تمام الكلام في مقام الثبوت.

وأما بيان حال الأمر الاضطراري في مقام الإثبات وأنه من أيّ نحو من الأنحاء الأربعة ؛ هل هو من النحو المقتضي للإجزاء أم لا؟ فقد أشار إليه بقوله : «وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله» هو الإجزاء.

٤١٨

هذا كله فيما يمكن أن يقع عليه الاضطرار من الأنحاء ، وأما ما وقع عليه فظاهر إطلاق دليله مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، وقوله : «عليه‌السلام» : «التراب أحد الطهورين» (*) و «يكفيك عشر سنين» (**) هو الإجزاء ، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء ، ولا بد في إيجاب الإتيان به ثانيا من دلالة دليل بالخصوص (١).

وبالجملة : فالمتّبع هو الإطلاق لو كان ، وإلّا فالأصل وهو يقتضي البراءة من

______________________________________________________

وحاصل الكلام في المقام : أن ظاهر قوله تعالى في سورة النساء : ٤٣ ـ المائدة : ٦ ، وظاهر قول المعصوم : «التراب أحد الطهورين ...» إلخ ـ في الوسائل ، كتاب الطهارة الباب الثالث عشر من أبواب التيمم ـ هو الإجزاء ، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء.

والمراد من الإطلاق هنا : هو الإطلاق المقامي لا اللفظي ؛ بمعنى : أن المولى إذا كان في مقام بيان وظيفة المضطر ـ أعني : فاقد الماء ـ وحكم بالتيمم بدل الوضوء ، ولم يحكم بالإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار في الوقت أو في خارجه ؛ علم من ذلك إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي وكفايته عنه ، وعدم وجوب الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار ، إذ لو كان واجبا على المكلف أحدهما لبيّن المولى وحكم به قطعا ؛ بعد فرض كونه في مقام البيان لتمام ما له دخل في حصول الغرض الذي يترتب على العمل الاختياري.

هذا إذا كان هناك إطلاق مقامي للدليل الاضطراري ، وأما إذا كان المولى في مقام الإجمال والإهمال أي : في مقام تشريع أصل الاضطراري في الجملة ، ولم يكن في مقام تمام وظيفة المضطر ، فالمرجع حينئذ هو الأصل العملي وهو : أصالة البراءة ، لأن الشك حينئذ في أصل التكليف بعد رفع الاضطرار في الوقت أو خارجه ، فيكون الشك في الأول في أصل وجوب الإعادة ، وفي الثاني : في أصل وجوب القضاء وهو مجرى البراءة ، فيقوم البدل وهو التيمم مقام المبدل منه وهو «الوضوء» ؛ بلحاظ جميع الآثار والخواص ، فلا بدّ من أن يفي البدل بما يفي به المبدل منه من المصلحة.

(١) أي : غير دليل المأمور به الواقعي الأولي الذي هو المبدل.

__________________

(*) في الكافي ، ج ٣ ، ص ٦٣ ، ح ٤ / التهذيب ، ج ١ ، ص ٥٢ ، ح ٥٤ / الفقيه ، ج ١ ، ص ١٠٥ ، ح ٢١٤ / الوسائل ، ج ٣ ، باب ٢١ ، ح ٣٨١ : «التيمم أحد الطهورين».

(**) في التهذيب ، ج ١ ، ص ٩٤ ، ح ٣٥ / الوسائل ، ج ٣ ، باب ١٤ ، ص ٣٦٩ / عوالي اللآلي ، ج ٣ ، ص ٤٧ ، ح ٣٤ : «يا أبا ذر : يكفيك الصعيد عشر سنين».

٤١٩

إيجاب الإعادة ؛ لكونه شكا في أصل التكليف ، وكذا عن إيجاب القضاء بطريق أولى (١) ، نعم (٢) لو دل دليله على أن سببه فوت الواقع ، ولو لم يكن هو فريضة كان القضاء واجبا عليه ، لتحقق سببه ، وإن أتى بالفرض لكنه مجرد الفرض.

المقام الثاني : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري وعدمه (٣).

______________________________________________________

(١) وجه الأولوية : أن القضاء تابع للأداء ، فإذا لم تجب الإعادة في الوقت لم يجب القضاء في خارج الوقت بطريق أولى ؛ لأن الصلاة في الوقت ذات مصلحتين مصلحة الصلاة ومصلحة الوقت ، والصلاة في خارج الوقت ذات مصلحة واحدة وهي مصلحة الصلاة فقط ، فإذا جاز تفويت الأول جاز تفويت الثاني بطريق أولى ، وبعبارة أخرى : إذا لم تجب الإعادة لم يجب القضاء بطريق أولى.

(٢) قوله : «نعم لو دل دليله ..» إلخ استدراك على قوله : «فالأصل وهو يقتضي البراءة» ، وحاصله : أن ما تقدم من أن مقتضى أصل البراءة هو عدم وجوب القضاء إنما يصح فيما إذا كان موضوع وجوب القضاء فوت الفريضة ، وأما فيما إذا دل دليل القضاء على أن سبب القضاء وموضوعه هو فوت الواقع ـ وإن لم يكن فريضة حال الاضطرار ، كما إن وجوب المأمور به الواقعي لا يكون فريضة حال الاضطرار ـ فلا يجري أصل البراءة ، بل كان القضاء واجبا على المكلف «لتحقق سببه» أي : لتحقق موضوع القضاء وهو عدم فعل الواقع.

وإن أتى المكلف بالغرض القائم بالمأمور به الواقعي الحاصل بالمأمور به الاضطراري ، «لكنه مجرد الفرض» أي : كون دليل القضاء كذلك مجرد الفرض ، لأن دليل القضاء وهو قولهم «عليه‌السلام» : «ما فاتتك من فريضة فاقضها كما فاتتك» و «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (١) ؛ ظاهر في فوت الفريضة الفعلية ؛ لا فوت الواقع بما هو هو. ومن المعلوم : أن المأمور به الواقعي حال الاضطرار ليس الفريضة الفعلية.

هذا تمام الكلام في الأمر الاضطراري ، وفي المقام الأول الكلام فعلا في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري عن الواقعي.

(٣) أي : عدم الإجزاء كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة

__________________

(١) في فقه الرضا «عليه‌السلام» ص ١٦٢ / البحار ، ج ٨٩ ، ص ٤٥ ، ح ١٥ / المستدرك ، ج ٢ ، ص ٤٣٥ ، عن فقه الرضا : «... فإن فاتتك الصلاة في السفر وذكرتها في الحضر ، فاقض صلاة ركعتين كما فاتتك ، وإن فاتتك في الحضر فذكرتها في السفر ؛ فاقضها أربع ركعات صلاة الحضر كما فاتتك».

٤٢٠