دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أخذ الربا ، وعلى الثاني : حرّم عقد الربا ؛ لأنّ الربا في اللغة : بمعنى : الزائد وفي الشرع بمعنى : العقد الربوي فيدور الأمر بين الإضمار والنقل. أمّا وجه أرجحية الإضمار : أن النقل يحتاج إلى اتفاق أهل اللسان كما تقدم بخلاف الإضمار فإنه لا يحتاج إلى ذلك ، مضافا إلى أنه أوجز وهو من محسنات الكلام.

الصورة السابعة : هي تعارض المجاز والتخصيص. ومثال تعارض المجاز والتخصيص قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ)(١) وقد استثنى منه الذمي ، فيدور الأمر بين المجاز بأن المشركين استعمل مجازا في الخاص ، وبين التخصيص بأن المشركين عام وقد خرج منهم الذميّ بالتخصيص.

وقيل : بأن التخصيص أرجح من المجاز ، لأنّ المجاز مفوّت للغرض دون التخصيص ، وذلك إذا أخذ بالعام مع عدم الاطلاع على قرينة التخصيص فيحصل المراد وهو الخاص مع زيادة ، وأمّا المجاز : فإذا أخذ بالمعنى الحقيقي عند عدم العلم بالقرينة لكان مفوتا للغرض ، لأن المعنى الحقيقي غير مراد أصلا.

الصورة الثامنة : هي تعارض المجاز والإضمار ، ومثاله كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) حيث يدور الأمر بين الإضمار أي : تقدير الأهل ، وبين المجاز أي : جعل القرية مجازا بمعنى : أهلها. وقيل : بأنهما متساويان إذ لم يثبت ترجيح أحدهما على الأخر.

هذا تمام الكلام في تعارض المجاز مع الثلاثة الباقية. فيقع الكلام في تعارض النقل مع الاثنين الباقيين وهما التخصيص والإضمار.

الصورة التاسعة : هي تعارض النقل والتخصيص. ومثاله نحو قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(٢) حيث يدور الأمر بين النقل والتخصيص ؛ وذلك لا شك في أن الواجب هو الإمساك الخاص بعد ما كان الصوم حقيقة في مطلق الإمساك ، فلا بد إمّا من النقل بأن يقال : إن لفظ الصوم نقل من العام إلى الخاص وإمّا من التخصيص ـ على فرض عدم النقل ـ بأن يكون الصوم بمعناه العام ، لكن وقع التخصيص.

ثم إن التخصيص أرجح من النقل ، لأنّ التخصيص أرجح من المجاز كما سبق ، والمجاز أرجح من النقل كما تقدم أيضا ، فالتخصيص أرجح من النقل بقياس المساواة.

الصورة العاشرة : هي تعارض التخصيص والإضمار ، ومثاله كقول النبي «صلى الله

__________________

(١) التوبة : ٥.

(٢) البقرة : ١٨٣.

٨١

التاسع

أنه اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه (١) على أقوال :

______________________________________________________

عليه وآله» : «لا صيام لمن لم يبيّت صيامه من الليل» (١) حيث إن ظاهره : بطلان الصوم إذا لم تكن نيته من الليل ، فيدور الأمر بين التخصيص لجواز تأخر نية الصوم المندوب إلى الزوال ، وبين الإضمار أي : تقدير الكمال أي : لا كمال للصوم إذا لم ينوه من الليل.

وقيل : إن التخصيص أرجح من الإضمار لكونه أرجح من المجاز المساوي للإضمار ، فالتخصيص أرجح على الإضمار بقياس المساواة. هذا تمام الكلام في المقام ، ولكن أطلنا الكلام في المقام ، لأنّه لا يخلو من الفائدة الجديدة.

نظرية المصنف في المقام :

إن المرجحات المذكورة لا اعتبار بها ؛ لأنها أمور استحسانية فلا تكون حجة ، فلا يجوز الاعتماد عليها.

الحقيقة الشرعية

(١) أي : عدم ثبوت الحقيقة الشرعية. وقبل الخوض في البحث لا بد من بيان محل الكلام وموضوع البحث : أنه لا إشكال في وجود معان شرعية مستحدثة ، ولا خلاف في أن الشارع قد استعمل فيها ألفاظا كانت موضوعة لغة لمعان معينة. وإنّما الخلاف في نقل الشارع تلك الألفاظ من معانيها اللغوية إلى معانيها الشرعية. هل نقل الشارع إليها ووضعها للمعاني الشرعية ، كي تثبت الحقيقة الشرعية أو لم ينقلها؟ بل كان يستعمل الألفاظ في المعاني الشرعية على نحو المجاز وبالقرينة فلا تثبت الحقيقة الشرعية. وذلك كلفظ «الصلاة» فإنه موضوع لغة للدعاء ، وقد استعملت في لسان الشارع في الواجب الخاص كالأركان ؛ فهل وضع الشارع ـ ناقلا ـ لفظ الصلاة إلى هذا الواجب المعين ، أو

__________________

(١) غوالي اللآلي ، ج ٣ ، ص ١٣٢ ، ح ٥ / المستدرك ، ج ٧ ، باب ٢ ، ص ٣١٦ ، ح ٨٢٧٨ عنه بلفظ : «لا صيام لمن لا يبيت صيامه من الليل» وبالليل.

وفي سنن النسائي (المجتبى) ج ٤ ، ص ١٩٧ ، ح ٢٣٣٤ / السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ١١٧ ، ح ٢٦٤٣ / مستدرك الوسائل ، ج ٧ ، باب ٢ ، ص ٣١٦ ، ح ٨٢٧٨ : عن حفصة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال : «من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له». وفي سنن الترمذي ، ج ٣ ، ص ١٠٨ ، ح ٧٣٠ / سنن الدارقطني ، ج ٢ ، ص ١٧٣ ، ح ٤ / السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ١١٧ ، ح ٢٦٤٥ / سنن النسائي (المجتبى) ج ٤ ، ص ١٩٧ ، ح ٢٣٣٥ بألفاظ مختلفة ، واللفظ من الترمذي : «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له».

٨٢

وقبل الخوض في تحقيق الحال لا بأس بتمهيد مقال ، وهو أن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه ، كذلك يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له (١) ، كما إذا وضع له ، بأن يقصد الحكاية عنه ، والدلالة عليه بنفسه لا

______________________________________________________

أنه لم يضع اللفظ للفعل الخاص ، بل استعمله فيه مجازا وبالقرينة؟

ومن هنا يظهر : أن المعاملات خارجة عن محل النزاع ، لأنّها لم تكن من مخترعات الشرع ، بل أمور عرفية قديمة زاد الشارع فيها شرائط.

إذا عرفت محل النزاع فنقول : إن الكلام في الحقيقة الشرعية من جهات :

الأولى : بيان الأقوال فيها.

الثانية : بيان أقسام الوضع ، وعلى تقدير ثبوتها بأيّ : قسم من الوضع ثبتت.

الثالثة : بيان الثمرة بين القولين أي : المثبت والنافي.

وملخص البحث في الجهة الأولى : هو أن الأقوال في المقام خمسة :

١ ـ الثبوت مطلقا. ٢ ـ عدم الثبوت مطلقا. ٣ ـ التفصيل بين العبادات والمعاملات ـ الثبوت في الأولى والعدم في الثانية. ٤ ـ التفصيل بين الألفاظ الكثيرة الدوران كالصوم والصلاة ونحوهما وبين غيرها ـ الثبوت في الأولى وإن كانت من المعاملات ، والنفي في الثانية وإن كانت من العبادات.

٥ ـ التفصيل بين عصر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين عصر الصادقين «عليهم‌السلام» النفي في الأول ، والثبوت في الثاني ، ولكن تسميته على هذا بالحقيقة المتشرعية أولى من تسميته بالحقيقة الشرعية.

هذا ولكن قد عرفت : أن محل الكلام هي العبادات ، لأنها معان مستحدثة شرعا ومن مخترعات الشارع. وأما المعاملات فكانت ثابتة قبل الشرع ، لأنها أمور عرفية قديمة.

ثم إن المصنف يقول بثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني الذي يحصل بالاستعمال وبالإنشاء العملي ، كما أشار إليه بقوله : «إن الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بانشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ».

(١) توضيح ما ذكره المصنف من إنشاء الوضع التعييني بالاستعمال يتوقف على مقدمة وهي : أن الوضع على قسمين : ١ ـ التعييني. ٢ ـ التعيّني.

الأول : يحصل بتعيين الواضع وتصريحه بأن يقول : وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى.

والثاني : يحصل بكثرة الاستعمال. ثم الأول كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك يحصل باستعمال اللفظ. أي : ينشأ بالاستعمال بأن يستعمل اللفظ في المعنى ويقصد بهذا الفعل أعني : الاستعمال تحقق الوضع وإنشاءه.

٨٣

بالقرينة ، وإن كان لا بد ـ حينئذ (١) من نصب قرينة ، إلّا إنه (٢) للدلالة على ذلك ، لا على إرادة المعنى ، كما في المجاز (٣) فافهم (٤).

وكون استعمال اللفظ فيه كذلك (٥) في غير ما وضع له ، بلا مراعاة ما اعتبر في

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الوضع التعييني بالمعنى الأوّل بأن كان الشارع المقدس قد تصدى للوضع صريحا لم يثبت في المقام ، بل هو مقطوع العدم ؛ ضرورة : أنه لو ثبت كذلك لنقل إلينا بالتواتر ـ لعدم المانع وتوفر الدواعي على نقله ـ كيف ولم ينقل حتى بخبر الواحد؟

ولكن الوضع التعييني بالمعنى الثاني بمكان من الإمكان ؛ بأن يستعمل في غير ما وضع له ، ولكن لا لإفادة المعنى كالمجازات ، بل لإفادة قصد وضعه له ، ونفس هذا الاستعمال وإن لم يكن حقيقة ولا مجازا إلّا إن الطبع يقبله كما مر في استعمال اللفظ في اللفظ.

وتقريب ذلك : ـ بما في «منتقى الأصول» ـ أن استعمال اللفظ في المعنى وقصد دلالته عليه بنفسه لما كان من لوازم الوضع ، إذ بدونه لا يكون اللفظ دالا على المعنى بنفسه كان الاستعمال دالا بالدلالة الالتزامية على الوضع ، وموجبا لخطوره في ذهن المخاطب بالالتزام ، وعليه : فيقصد إيجاد الوضع وتحققه خارجا بهذه الدلالة الالتزامية ، وينشأ الوضع بهذه الواسطة ، إذ لا يعتبر في المنشأ أن يكون مدلولا عليه مطابقة كالنحو الأول من نحوي الوضع التعييني.

(١) أي : حين قصد إنشاء الوضع بهذا الاستعمال.

(٢) أي : نصب القرينة إنّما هو للدلالة على قصد الوضع بهذا الاستعمال.

وخلاصة الكلام : أنه لا بد من نصب قرينة في هذا الاستعمال إلّا إنها على تحقق الوضع بهذا الاستعمال لا على دلالة اللفظ على المعنى واستعماله فيه ، وبذلك اختلفت هذه القرينة عن قرينة المجاز.

(٣) أي : حيث تكون القرينة فيه صارفة عن المعنى الحقيقي بخلاف القرينة في قصد إنشاء الوضع من الاستعمال ، حيث تكون القرينة فيه مفهمة لقصد الوضع.

(٤) لعله إشارة إلى امتناع الوضع التعييني بنفس الاستعمال ؛ لاستلزامه الجمع بين اللحاظ الآلي والاستقلالي وهو غير معقول ؛ وذلك لأن الاستعمال الذي حقيقته إفناء اللفظ في المعنى ، وإلقاء المعنى في الخارج يقتضي تصور اللفظ مرآة والوضع يستدعي أن يكون النظر إلى الألفاظ استقلاليا ، فيلزم الجمع بين الضدين وهو غير معقول.

(٥) أي : كون استعمال اللفظ في المعنى الموضوع له بنفس الاستعمال بدون قرينة ؛ كاستعمال للفظ في غير ما وضع له بلا مراعاة الشيء المعتبر في المجاز ـ كنصب قرينة

٨٤

المجاز ، فلا يكون بحقيقة ولا مجاز ؛ غير ضائر بعد ما كان مما يقبله الطبع ولا يستنكره ، وقد عرفت سابقا : أنه في الاستعمالات الشائعة في المحاورات ما ليس بحقيقة ولا مجاز (١).

إذا عرفت هذا (٢) ، فدعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا (٣) قريبة جدا ، ومدعي القطع به غير مجازف قطعا.

______________________________________________________

صارفة ـ فلا يكون هذا الاستعمال بحقيقة ولا بمجاز.

وأما عدم كونه على نحو الحقيقة : فلأن الاستعمال الحقيقي مسبوق بالوضع ، وليس هنا وضع قبل الاستعمال.

وأما عدم كونه على نحو المجاز : فلعدم لحاظ العلاقة بين المعنى الحقيقي والمجازي ، ولازم ذلك : أن لا يكون الاستعمال على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز وهو باطل ، لأن الاستعمال لا يخلو عن أحد الأمرين.

وملخص الكلام : أن قوله : «وكون استعمال اللفظ ...» إلخ دفع للإشكال الذي ذكرناه ، وقد أشار إلى دفعه بقوله : «غير ضائر» ، وهو خبر قوله : «وكون استعمال اللفظ ...» الخ.

وحاصل الدفع : أن هذا الإشكال غير وجيه بعد ما عرفت من إمكان أن لا يكون الاستعمال حقيقيا ولا مجازيا ؛ كاستعمال اللفظ في مثله مثلا ، إذ العبرة في صحة الاستعمال هو استحسان الطبع له ، ومع استحسانه له لا مانع منه ، ولو لم يكن شيء من العلائق المعتبرة في المجاز موجودا فلا وجه لحصر الاستعمال في الحقيقي والمجازي ، وإلّا لم يصح استعمال اللفظ في النوع أو الصنف لعدم كونه حقيقيا كما هو واضح ، ولا مجازيا لعدم العلاقة.

(١) أي : كاستعمال اللفظ في نوعه أو صنفه حيث إنه ليس بحقيقة ولا بمجاز.

(٢) أي : ما ذكرناه من التمهيد.

(٣) أي : دعوى الوضع التعييني بنفس الاستعمال ، مع القرينة على كونه في مقام إنشاء الوضع قريبة جدا ؛ لاقتضاء العادة ذلك ، وذلك فإنه بعد فرض كون معاني الألفاظ المتداولة على لسان الشارع معان مستحدثة ومن مخترعات الشارع ، وأنّه في مقام تفهيمها للمخاطبين ، وأنه كان يستعمل تلك الألفاظ للمعاني المستحدثة. هذا مع بعد إنشاء الوضع لعدم نقله إلينا يثبت الوضع بالإنشاء الفعلي.

فدعوى : الوضع التعييني بهذا النحو غير مجازفة. وقد أضربنا عما أورده البعض على

٨٥

ويدل عليه (١) : تبادر المعاني الشرعية منها في محاوراته ، ويؤيد ذلك (٢) : أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية ، فأيّ علاقة بين الصلاة شرعا والصلاة بمعنى الدعاء ، ومجرد (٣) اشتمال الصلاة على الدعاء لا يوجب ثبوت ما يعتبر من علاقة الجزء والكل بينهما ، كما لا يخفى.

هذا (٤) كله بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا.

______________________________________________________

ما أفاده المصنف من الإشكال ، لأن الغرض من هذا الشرح هو توضيح كلامه فقط.

(١) أي : يدل على الوضع التعييني الحاصل بالإنشاء الفعلي : تبادر المعاني الشرعية من تلك الألفاظ المتداولة في لسان الشارع. وقد عرفت : أن تبادر المعنى من حاق اللفظ من علامات الحقيقة.

(٢) أي : يؤيد الوضع التعييني الحاصل بنفس الاستعمال «أنه ربما لا يكون علاقة معتبرة بين المعاني الشرعية واللغوية» أي : عدم وجود العلاقة مع الاستعمال في المعاني الشرعية دليل على الوضع والحقيقة ؛ إذ لو كان الاستعمال على نحو المجاز لزم أن يكون ذلك مع العلاقة بينها وبين المعاني اللغوية ، وهي مفقودة.

(٣) قوله : «ومجرد اشتمال ...» إلخ دفع لتوهم وجود العلاقة بين المعنى الشرعي والمعنى اللغوي في الصلاة ، فاستعمال الصلاة في المعنى الشرعي إنما هو على نحو المجاز ، لأنّ علاقة الكل والجزء موجودة ، فإن الصلاة بمعناها الشرعي تشتمل على الدعاء الذي هو معناها اللغوي.

وحاصل الدفع : أن علاقة الكل والجزء وإن كانت موجودة إلّا إن هذه العلاقة بإطلاقها لا تكفي في الاستعمال المجازي ، بل هي مشروطة بشرطين :

«الأول» : كون المركب حقيقيا.

«الثاني» : كون الجزء من الأجزاء الرئيسية بأن يكون مما ينتفي بانتفائه الكل كالرقبة. وكلاهما مفقود في المقام.

أما الأول فواضح ، لأن الصلاة مركبة من الأجزاء المتباينة بالتركيب الاعتباري.

وأما الثاني : فلعدم كون الدعاء جزءا رئيسيا للصلاة ، فعلاقة الكل والجزء المصححة للاستعمال مجازا مفقودة في المقام ، ثم إن المصنف جعل هذا مؤيدا لا دليلا ، لاحتمال كفاية استحسان الطبع في صحة الاستعمال المجازي ، وعدم الحاجة إلى العلائق المذكورة في كتب القوم.

(٤) أي : أن النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه وأن الشارع هل وضع تلك الألفاظ بإزاء تلك المعاني أو استعملها فيها مجازا؟ متفرع ومبتني على كون المعاني الشرعية مستحدثة في الشريعة الإسلامية.

٨٦

وأمّا بناء (١) على كونها ثابتة في الشرائع السابقة كما هو قضية غير واحد من الآيات : مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ،) وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ،) وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) إلى غير ذلك ، فألفاظها (٢) حقائق لغوية لا شرعية.

واختلاف (٣) الشرائع فيها جزءا أو شرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهية ، إذ لعله (٤) كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ؛ كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) أي : وأمّا بناء على كون هذه المعاني ثابتة من قبل في الشرائع السابقة ؛ كما هو مقتضى غير واحد من الآيات الكريمة فلا مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية ، لأنّ تلك الألفاظ حينئذ لم تستعمل في شرعنا إلّا في المعاني التي كانت ألفاظ العبادات مستعملة فيها في الشرائع الماضية ؛ كما هو مستفاد من جملة الآيات مثل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) البقرة : ١٨٣ ، وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) الحج : ٢٧ ، وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) مريم : ٣١. إلى غير ذلك.

إن الظاهر من هذه الآيات : أن معاني الألفاظ كانت ثابتة من قبل ولم تكن مستحدثة ، لأنّ الصيام قد كتب على من قبلنا والأذان بالحج يسبب إتيان الرجال من كل فجّ عميق ، فلو لم يكن المعنى شائعا قبل الشريعة الإسلامية لما قال الله تعالى (أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ) وهكذا في (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) في قضية عيسى بن مريم «عليه‌السلام» ، وعلى هذا تكون ألفاظها حقايق لغوية لأنها كانت من قبل وليست شرعية.

(٢) أي : فألفاظ العبادات حقائق لغوية لا شرعية لعدم اختراع الشارع لتلك المعاني ، بل استعملها في المعاني التي كانت في الشرائع السابقة.

وقوله : «فألفاظها» جواب عن أمّا الشرطية في قوله : «وأمّا بناء على ...» إلخ.

(٣) قوله : «واختلاف الشرائع ...» إلخ دفع لما يتوهم من أن اختلاف الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء والشرائط موجب لعدم وحدة معانيها ، بل هي متعددة مختلفة فلا تكون حقائق لغوية ، بل تكون حقائق شرعية في هذه المعاني الشرعية المعهودة لاختراع الشارع إياها ، فيبقى للنزاع في ثبوت الحقيقة الشرعية مجال.

(٤) هذا دفع للتوهم المذكور وحاصله : أن اختلاف الشرائع في العبادات من حيث الأجزاء والشرائط لا يوجب اختلاف العبادات في الحقيقة والماهية ، إذ يمكن أن يكون

٨٧

ثم لا يذهب عليك أنه مع هذا الاحتمال (١) ، لا مجال لدعوى الوثوق ـ فضلا عن القطع ـ بكونها (٢) حقائق شرعية ، ولا لتوهم دلالة الوجوه التي ذكروها على ثبوتها (٣) ؛ لو سلّم دلالتها (٤) على الثبوت لولاه.

______________________________________________________

هذا الاختلاف بحسب المصداق لا الماهية مثلا : ورد في الشرع : «إن الصلاة قربان كل تقي». ونفرض أنها لغة ما يوجب القرب إلى الله سبحانه ، فإن اختلاف مصاديقه بحسب الشرائع لا يوجب اختلافا في هذا المعنى الذي يكون واحدا في جميع الشرائع ولا يضر بوحدته.

وبعبارة واضحة : فكما إن الاختلاف فيها بحسب حالات المكلف من التمام والقصر ، ومن القيام والجلوس لا يقدح في وحدة ماهية الصلاة وفي آثارها فكذلك الاختلاف في الشرائع لا يضر بوحدتها.

فحينئذ لا يبقى مجال للقول بثبوت الحقيقة الشرعية.

فالمتحصل : أن النزاع في الحقيقة الشرعية ، ثم القول بثبوتها بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال مبنيّ على كون المعاني الشرعية أمورا اخترعها الشارع. وأمّا بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة فألفاظ العبادات حقائق لغوية لا شرعية ، فلا يبقى مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية.

(١) أي : احتمال وجود هذه المعاني في الشرائع السابقة لا أنها مستحدثة أو مع احتمال ما ذكره الباقلاني من إنكاره المعاني الشرعية لألفاظ العبادات حيث قال : إن الشارع استعملها في معانيها اللغوية ، ولكن قد أضاف عدة أجزاء وشرائط إلى المعاني اللغوية ، فإن لاحظنا قول الباقلاني في ألفاظ العبادات فلا يحصل لنا اطمئنان بكونها حقائق شرعية في المعاني الشرعية ، فلا تدل الأدلة التي استدل بها على ثبوت الحقيقة الشرعية. هذا ما أشار إليه بقوله : «ولا لتوهم دلالة ...» إلخ.

(٢) أي : بكون ألفاظ العبادات حقائق شرعية.

(٣) أي : على ثبوت الحقيقة الشرعية.

(٤) أي : على فرض تسليم دلالة الوجوه المذكورة على ثبوت الحقيقة الشرعية «لولاه» أي : لو لا الاحتمال. والتعبير بقوله : «لو سلم» إشارة إلى كون دلالة تلك الوجوه في أنفسها مع قطع النظر عن الاحتمال المذكور مخدوشة.

فمعنى العبارة : أن تلك الوجوه لو فرض دلالتها على ثبوت الحقيقة الشرعية فلا يمكن الاستدلال بها لأجل هذا الاحتمال ، لأن النزاع في كونها حقائق أو مجازات متفرع على كونها من مخترعات الشارع. هذا هو الأصل فلو انتفى الأصل ينتفي ما يتفرع عليه ، فمع

٨٨

ومنه (١) انقدح : حال دعوى الوضع التعيّني معه ، ومع الغض عنه فالإنصاف أن منع حصوله في زمان الشارع في لسانه ولسان تابعيه مكابرة.

نعم ؛ حصوله في خصوص لسانه ممنوع فتأمل (٢).

______________________________________________________

تطرق الاحتمال المذكور بطل الاستدلال بتلك الوجوه ، إذ قد اشتهر : إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

(١) أي : مما ذكرناه من احتمال معاني كون ألفاظ العبادات معان لغوية «انقدح حال دعوى التعيّني معه» أي : مع الاحتمال المذكور.

وحاصل الكلام في المقام : أنه فكما لا مجال مع هذا الاحتمال لدعوى كون ألفاظ العبادات حقائق شرعية بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال ، فكذلك لا مجال معه لدعوى الوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال إذ لم تكن المعاني الشرعية مغايرة للمعاني التي كانت في الشرائع السابقة ؛ حتى يقال بأنها صارت حقائق شرعية من جهة كثرة الاستعمال.

نعم ؛ مع الغض عن احتمال كونها حقائق لغوية في الشرائع السابقة «فالإنصاف أن منع حصوله» أي : منع حصول الوضع التعيّني مكابرة.

والمتحصل : من كلام المصنف «قدس‌سره» هو : أن الوضع التعييني الحاصل بالاستعمال وإن كان ممكنا في مقام الثبوت إلّا إنه ممّا ليس عليه دليل ، لأن الوجوه التي استدل بها على ثبوت الحقيقة الشرعية ـ لو سلم دلالتها ـ إنما يتم لو لا احتمال كون ألفاظ العبادات حقائق لغوية في الشرائع السابقة ، ومع هذا الاحتمال لا يبقى مجال للنزاع في الحقيقة الشرعية. ثم عدل عن هذا وقال بحصول الوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال بناء على كون معاني ألفاظ العبادات من مخترعات الشارع ؛ لأن كثرة الاستعمال في المعاني الشرعية توجب حصول الوضع التعيّني في زمان الشارع ، ومنعه وإنكاره مكابرة ، فنفي الوضع على نحو السلب الكلي غير سديد ، بل الوضع بنحو الإيجاب الجزئي ثابت.

(٢) لعله إشارة إلى أن منع الوضع التعيّني في خصوص لسان الشارع مع طول مدة الاستعمال يكون في غاية البعد. هذا مضافا إلى منافاة المنع لما سبق من قرب الوضع التعيّني في عصر الشارع.

ثم المراد من التابعين في قوله : «ولسان تابعيه» من كان يتبعه في استعمال ألفاظ العبادات في المعاني الشرعية ممّن كان في عصره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فليس المراد من تابعيه من كان مقابلا للصحابة.

٨٩

وأمّا الثمرة (١) بين القولين : فتظهر في لزوم حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على معانيها اللغوية مع عدم الثبوت. وعلى معانيها الشرعية مع الثبوت ، فيما إذا علم تأخر الاستعمال.

______________________________________________________

وقوله : «نعم ؛ حصوله في خصوص لسانه ممنوع» استدراك على ثبوت الوضع التعيّني في زمان الشارع مطلقا أي : حتى في لسانه بالخصوص وحاصله : أن الوضع التعيّني في خصوص لسانه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يثبت ، وإن ثبت في لسان غيره من تابعيه ، ويكفي على ذلك عدم الدليل.

الثمرة

(١) أي : بقي الكلام في الجهة الثالثة وهي الثمرة بين القول بثبوت الحقيقة الشرعية وبين القول بعدم الثبوت.

توضيح الثمرة يتوقف على مقدمة وهي : أن استعمال هذه الألفاظ الواقعة في كلام الشارع يمكن أن يكون على نحو المجاز ، ويمكن أن يكون على نحو الحقيقة ، هذا مع العلم بأن الاستعمال على نحو المجاز أو الحقيقة لا إشكال فيه.

وأمّا إذا لم يعلم كون الاستعمال على نحو المجاز أو على نحو الحقيقة فهناك صور واحتمالات :

١ ـ أن يكون تاريخ كل من الوضع والاستعمال ـ على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ـ معلوما وهذا على قسمين : ١ ـ أن يكون تاريخ الاستعمال متأخرا عن الوضع. ٢ ـ بأن يكون الأمر بالعكس.

٢ ـ أن يكون تاريخهما مجهولا.

٣ ـ أن يكون تاريخ أحدهما معلوما وهو على قسمين : ١ ـ أن يكون تاريخ الاستعمال معلوما وتاريخ الوضع مجهولا. ٢ ـ عكس ذلك. فالصور والاحتمالات هي خمسة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الثمرة على القول بثبوت الحقيقة الشرعية إنّما تظهر في صورة واحدة وهي : صورة العلم بتاريخ كل من الوضع والاستعمال ، وكون تاريخ الاستعمال متأخرا عن تاريخ الوضع ، فالثمرة حينئذ هي : حمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع على معانيها الشرعية على القول بالثبوت ، وعلى معانيها اللغوية على القول بعدم الثبوت.

٩٠

وفيما إذا جهل (١) التاريخ ، ففيه إشكال ، وأصالة (٢) تأخر الاستعمال مع معارضتها بأصالة تأخّر الوضع لا دليل على اعتبارها تعبّدا ، إلّا على القول بالأصل المثبت.

ولم يثبت بناء من العقلاء على التأخر مع الشك (٣) ، وأصالة عدم النقل (٤) إنّما

______________________________________________________

(١) بأن علم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استعمل لفظ الصلاة في معناها الشرعي ولكن لم يعلم أن هذا الاستعمال كان قبل حصول النقل ليكون مجازا ، أو بعده كي يكون حقيقة «ففيه إشكال» أي : ففي حمل اللفظ الواقع في كلام الشارع على المعنى الشرعي على القول بالثبوت ، وعلى المعنى اللغوي على القول بعدم الثبوت إشكال.

(٢) قوله : «وأصالة تأخر الاستعمال» دفع لما يدّعى من أنه يمكن إثبات كون الاستعمال بعد الوضع ، ليحمل اللفظ على المعنى الشرعي بأصالة تأخر الاستعمال ، لأن الاستعمال أمر حادث فتجري فيه أصالة تأخر الحادث لإثبات تأخره عن الوضع.

وحاصل الدفع : أن هذا الأصل مردود لوجهين :

الأول : أنه معارض بأصالة تأخر الوضع عن الاستعمال فإنه أمر حادث أيضا. وقد أشار إلى هذا الوجه بقوله : «مع معارضتها بأصالة تأخر الوضع».

الثاني : أنه من الأصول المثبتة ، لأن مرجع هذا الأصل إلى استصحاب عدم الاستعمال إلى حين الوضع ولازمه العقلي هو تأخر الاستعمال عن الوضع وثبوته بعده ، فيكون هذا الأصل مثبتا ، ولا دليل على اعتباره تعبدا إلّا على القول بالأصل المثبت حيث لا دليل على اعتباره إلّا بناء العقلاء في موارد مخصوصة ليس المقام منها. وقد أشار إلى هذا الوجه بقوله : «لا دليل على اعتبارها تعبّدا إلّا على القول بالأصل المثبت».

(٣) أي : لم يثبت بناء العقلاء على أصالة التأخر مع الشك فيه ، فعلى هذا لا يكاد يصح حمل تلك الألفاظ الواقعة في كلام الشارع على المعاني الشرعية ، مع الشك في تقدم استعمالها على نقلها عن المعاني اللغوية إلى المعاني الشرعية وتأخره عنه.

(٤) قوله : «وأصالة عدم النقل» يمكن أن يكون دفعا لما يقال من أن أصالة عدم النقل تكفي دليلا على حمل تلك الألفاظ على معانيها اللغوية ، وذلك بمعنى : أنه يستصحب عدم النقل إلى ما قبل الاستعمال فإنه أصل عقلائي ، وهو المسمى بالاستصحاب القهقري ، ويثبت به تأخر النقل واستعمالها في معانيها اللغوية.

وحاصل الدفع : أنّ أصالة عدم النقل لم يثبت اعتبارها إلّا في أصل النقل أي : مع الشّك في أصل النقل ، وأمّا مع العلم به والشك في تقدمه وتأخره فلم يثبت اعتبارها

٩١

كانت معتبرة فيما إذا شك في أصل النقل لا في تأخّره فتأمل (١).

العاشر

أنه وقع الخلاف في أن ألفاظ العبادات (٢) أسام لخصوص الصحيحة أو للأعم منها؟

______________________________________________________

ببناء العقلاء ، والمفروض في المقام هو : العلم بأصل النقل ، فلا دليل على حجية عدم النقل فيما نحن فيه.

(١) لعلّه إشارة إلى أنه لا فرق في اعتبار أصالة عدم النقل بين الجهل بأصل النقل ، وبين الجهل بتاريخ النقل مع العلم بأصل النقل كما في المقام ، فتكون حجة فيما نحن فيه ، فيكون الترجيح لمذهب النافين للحقيقة الشرعية لأصالة عدم النقل.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ أن محل النزاع فيما إذا كانت المعاني الشرعية من مخترعات الشارع فيختص بالعبادات فالمعاملات خارجة عن محل الكلام ، لأنّها ليست من مخترعات الشارع.

٢ ـ أن الثمرة بين القولين تظهر فيما إذا علم تاريخ الوضع والاستعمال ، وكان تاريخ الوضع قبل تاريخ الاستعمال ، فتحمل الألفاظ الواقعة في كلام الشارع بلا قرينة على المعاني الشرعية على القول بالثبوت ، وعلى المعاني اللغوية على القول بعدم الثبوت.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» هو : ثبوت الحقيقة الشرعية إما بالوضع التعييني الحاصل بالاستعمال ، وإما بالوضع التعيّني الحاصل بكثرة الاستعمال ، ثم يترجح الاحتمال الثاني على الأوّل ، ولكن كلا الاحتمالين مبني على كون المعاني الشرعية من مخترعات الشارع.

وأما بناء على كون المعاني الشرعية ثابتة من قبل في الشرائع السابقة فلا يبقى مجال للنزاع ؛ إذ على هذا تكون حقائق لغوية لا شرعية.

بحث الصحيح والأعم

(٢) على المصنف أن يذكر المعاملات عطفا على العبادات ، لأن النزاع لا يختص بالعبادات ؛ بل يجري في المعاملات ، كما يجري في العبادات إلّا إن يقال : إنه ذكرها في آخر البحث إجمالا فلا حاجة إلى ذكرها تفصيلا ، وقد ذكر المصنف «قدس‌سره» أمورا قبل الخوض في أصل المطلب ، فإنه رأى ضرورة الاطلاع عليها قبل تحقيق المقصود لدخله في تحقيقه.

٩٢

وقبل الخوض في ذكر أدلة القولين «يذكر أمور» :

منها : أنه لا شبهة في تأتّي الخلاف ، على القول بثبوت الحقيقة الشرعية ، وفي جريانه (١) على القول بالعدم إشكال.

وغاية ما يمكن أن يقال في تصويره (٢) : إن النزاع وقع ـ على هذا ـ في أن الأصل

______________________________________________________

الأمر الأوّل : في تصوير النزاع. وملخص كلامه فيه : أن تصويره على القول بثبوت الحقيقة الشرعية مما لا شبهة فيه ، إذ يقال : إن الشارع هل وضع اللفظ لخصوص الصحيح أو للأعم منه ومن الفاسد؟

(١) أي : في جريان الخلاف على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية إشكال ، إذ لا وضع كي يقال بأن الموضوع له هو الصحيح أو الأعم.

هذا مضافا إلى أن الأعمّي يقول : بجواز الاستعمال مجازا في الصحيح أيضا ، والصحيحي يقول : بجوازه مجازا في الفاسد أيضا ، فلا خلاف في البين.

(٢) أي : تصوير الخلاف على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية. توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه لا إشكال في استعمال ألفاظ العبادات في الصحيح منها شرعا ، كما لا إشكال في استعمالها في الأعم ، ثم على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية يكون استعمالها فيهما على نحو المجاز ، فلا بد من ملاحظة العلاقة المصححة للاستعمال المجازي بين المعنى الحقيقي اللغوي وبين المعنى المجازي الشرعي ، ثم ملاحظة العلاقة على فرض تعدد المعنى المجازي ـ كما فيما نحن فيه ـ تارة : تكون عرضية بمعنى : أن كل معنى مجازي تلاحظ العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي. وأخرى : تكون طولية بمعنى : أن العلاقة تلاحظ بين المعنى المجازي والحقيقي ، ثم تلاحظ العلاقة ثانيا بين المعنى المجازي الثاني وبين المعنى المجازي الأول ، وهكذا بين المعنى المجازي الثاني والثالث فتكون المعاني المجازية طولية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المجازات في المقام طولية ، فيقال حينئذ في تصوير الخلاف بين الصحيحي والأعمي : إن الصحيحي يقول : إن الشارع لاحظ العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي وبين المعنى المجازي الصحيح ؛ مثل : الدعاء والصلاة الصحيحة مثلا ، ثم استعمل لفظ الصلاة في الصلاة الصحيحة مجازا ، ومتى أراد استعماله في الأعم لاحظ العلاقة بين الصحيح والأعم بطريق سبك المجاز من المجاز ، ويأتي بقرينة أخرى لإرادة الأعم مجازا.

والأعمي يقول : إن الشارع لاحظ العلاقة ابتداء بين المعنى الحقيقي وبين الأعم أي :

٩٣

في هذه الألفاظ المستعملة مجازا في كلام الشارع ، هو استعمالها في خصوص الصحيحة أو الأعم ، بمعنى : أن أيّهما قد اعتبرت العلاقة بينه وبين المعاني اللغوية ابتداء ، وقد استعمل في الآخر بتبعه ومناسبته ، كي ينزّل كلامه عليه مع القرينة الصارفة عن المعاني اللغوية وعدم قرينة أخرى معينة للآخر.

وأنت خبير بأنه (١) لا يكاد يصح هذا إلّا إذا علم أن العلاقة إنما اعتبرت كذلك ، وأن بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة أخرى على إرادته ، بحيث كان هذا (٢) قرينة عليه من غير حاجة إلى قرينة معيّنة أخرى ، وأنّى لهم بإثبات ذلك.

وقد انقدح (٣) بما ذكرنا : تصوير النزاع ـ على ما نسب إلى الباقلاني ، وذلك بأن

______________________________________________________

بين الدعاء ومطلق الصلاة ، فيحمل كلام الشارع على المعنى المجازي الأول ـ وهو الصحيح عند الصحيحي والأعم عند الأعمي ـ عند عدم قرينة أخرى معينة للآخر.

وبعبارة أخرى : تحمل ألفاظ العبادات مع وجود القرينة الصارفة وعدم قرينة معينة لأحد المعنيين ـ على الصحيح على قول الصحيحي ، لأنه أول المجازين ، وعلى الأعم على قول الأعمي ، فالنزاع يجري على كلا القولين ، إلّا إن هذا التصوير إنّما هو في مقام الثبوت والمهم هو مقام الإثبات.

(١) هذا التصوير إشارة منه إلى ردّ التصوير المذكور إثباتا وإن كان ممكنا بحسب مقام الثبوت ؛ إلّا إنّ مجرد إمكانه ما لم يعلم بوقوعه لا يجدي كما أشار إليه بقوله : «بأنه لا يكاد يصح هذا إلّا إذا علم أن العلاقة إنّما اعتبرت كذلك» أي : بين خصوص الصحيح أو خصوص الأعم وبين المعنى اللغوي ، «وأن بناء الشارع في محاوراته استقر عند عدم نصب قرينة أخرى» يعني : غير القرينة الصارفة أي : استقر بناء الشارع على نصب قرينة صارفة فقط على إرادة أحد المعنيين بالخصوص الذي اعتبرت العلاقة ابتداء بينه وبين المعنى اللغوي.

(٢) أي : بحيث كان هذا البناء الذي استقر قرينة على أن المراد هو المجاز الأول من غير حاجة إلى قرينة أخرى معينة ، إلّا إن إثبات هذا البناء من الشارع دون خرط القتاد ؛ إذ لا دليل لهم على إثبات هذا البناء من الشارع ، كي يكون مستندا لهذا التصوير في مقام الإثبات.

(٣) أي : ظهر بما ذكرناه ـ من تصوير النزاع على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ـ : «تصوير النزاع ـ على ما نسب إلى الباقلاني» ـ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه نسب إلى الباقلاني ما ملخصه : من أن مثل الصلاة والحج والصوم وما شابهها من العبادات ليست مستحدثة وإنّما هي معاني

٩٤

يكون النزاع في أنّ قضية القرينة المضبوطة التي لا يتعدى عنها (١) ، إلّا بالأخرى ـ الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه ـ هو تمام الأجزاء والشرائط ، أو هما في الجملة ، فلا تغفل.

ومنها (٢) : أن الظاهر : أن الصحة عند الكل بمعنى واحد ، وهو التمامية وتفسيرها بإسقاط القضاء ـ كما عن الفقهاء ـ أو بموافقة الشريعة ـ كما عن المتكلمين ـ أو غير

______________________________________________________

لغوية موضوعة من قبل ، وهي الدعاء والقصد ومطلق الإمساك ، وأن الشارع المقدس قد أضاف إليها أجزاء وشرائط ، وعلى هذا فألفاظ العبادات مستعملة دائما في معانيها اللغوية ؛ والأجزاء والشرائط زائدة ومستفادة من القرائن المضبوطة عامة كانت أو خاصة ، والمراد من العامة : ما يدل على الأجزاء والشرائط في الجملة ، ومن الخاصة : ما يدل على جميع الأجزاء والشرائط.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يمكن أن يقال في تصوير النزاع على مذهب الباقلاني : إن القرينة المضبوطة التي تدل على الخصوصيات الزائدة على المعاني اللغوية هل هي تدل على الخصوصيات الصحيحة أو الأعم منها ؛ بمعنى : أن الشارع هل نصب القرينة المضبوطة العامة على إرادة الصحيح وتحتاج إرادة الأعم إلى القرينة الخاصة ، أو أنّ الشارع نصب القرينة على إرادة الأعم وتحتاج إرادة الصحيح منها إلى القرينة الخاصة؟ فالصحيحي يقول بالأول والأعمي بالثاني.

فمحل النزاع هي تلك القرينة لا نفس ألفاظ العبادات ؛ بمعنى : أن مقتضى القرينة الدالة على الأجزاء والشرائط هو تمام الأجزاء والشرائط أو الأعم من التام والناقص.

(١) أي : لا يتجاوز عن مقتضى القرينة الأولى إلّا بالأخرى أي : بالقرينة الدالة على أجزاء المأمور به وشرائطه على خلاف الأولى فيقال : هل مقتضى القرينة الأولى هو تمام الأجزاء والشرائط ، كما يقول به الصحيحي. «أو هما في الجملة» كما يقول به الأعمي.

فإذا كان مقتضى القرينة الأولى اعتبار جميع الأجزاء والشرائط كما هو قول الصحيحي ، لا يعدل عنها إلى إرادة الأعم إلّا بالقرينة الأخرى الدالة على الأعم.

(٢) أي : من الأمور التي ينبغي ذكرها قبل أدلة القولين ـ هو : «أن الظاهر : أن الصحة عند الكل بمعنى واحد وهو التمامية».

وتوضيح كون الصحة عند الكل بمعنى واحد يتوقف على مقدمة وهي : أن الصحة عند الفقهاء بمعنى : إسقاط القضاء والإعادة مخالف مفهوما للصحة عند المتكلمين بمعنى : موافقة الشريعة ، وللصحة عند العرف بمعنى : ما يترتب عليه الأثر من اجتماع الصفات من الأجزاء والشرائط.

٩٥

ذلك ، إنّما هو بالمهم من لوازمها لوضوح اختلافه بحسب اختلاف الأنظار ، وهذا لا يوجب تعدد المعنى ، كما لا يوجبه اختلافها (١) بحسب الحالات من السفر والحضر ، والاختيار والاضطرار ، إلى غير ذلك ، كما لا يخفى.

ومنه (٢) ينقدح : أن الصحة والفساد أمران إضافيان ، فيختلف شيء واحد (٣) صحة وفسادا بحسب الحالات ، فيكون تاما بحسب حالة ، وفاسدا بحسب أخرى ، فتدبر (٤) جيدا.

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : «أن الصحة عند الكل» أي : الجماعات الثلاث بمعنى واحد وهو التمامية ، والاختلاف في تفسيرها لا يكون لأجل الاختلاف في مفهومها ، بل يكون لأجل الاختلاف في المهم من لوازمها حيث إن المهم في نظر الفقيه هو إسقاط القضاء ففسرها به ، وفي نظر المتكلم موافقة الأمر والشريعة الموجبة للقربة إلى الله تعالى ففسرها بها ، وعند العرف في باب المعاملات هو ترتب الأثر ففسرت به ، ومن البديهي : أن اختلاف المهم لا يوجب تعدد المعنى فإنه كاختلاف الحالات والأنظار ، فالصحة والفساد وصفان يختلفان حسب الحالات والأنظار.

(١) أي : لا يوجب تعدد المعنى اختلاف الصحة بحسب الحالات الطارئة على المكلف من السفر والحضر ، والاختيار والاضطرار ، والثنائية والثلاثية والرباعية ، والجهر والإخفات ، إلى غير ذلك. فالصحيح في كل حالة وإن كان مخالفا للصحيح في حالة أخرى إلّا إن الصحة في جميعها واحدة وهو التمامية في هذا الحال.

ومن هنا يظهر : أن الصحة والفساد وإن كان بينهما تقابل العدم والملكة ومع ذلك يكونان متضايفين بالنسبة إلى حالات المكلف ؛ حيث إن عملا واحدا فاسد بالنسبة إلى حال كالقصر للحاضر وهو صحيح بالنسبة إلى حال آخر ، كالقصر بالنسبة إلى حال السفر ، وهو معنى الإضافي. كما أشار إليه بقوله «ومنه انقدح ...» إلخ.

(٢) أي : مما ذكرناه ـ من اختلاف الصحة حسب اختلاف الحالات ـ ظهر أن الصحة والفساد أمران إضافيان لا أمران حقيقيان ، لأن الأمر الحقيقي لا يتطرق إليه الاختلاف.

(٣) كالصلاة عن جلوس وهي شيء واحد لكنها صحيحة للعاجز وفاسدة للقادر.

(٤) لعله إشارة إلى دفع ما يتوهم من أن الصحة والفساد بينهما تقابل العدم والملكة ، فكيف يكونان متضايفين؟

وحاصل الدفع : أن المراد بكونهما إضافيين ليس أنهما من مقولة الإضافة ، لأن

٩٦

ومنها : (١) أنّه لا بد ـ على كلا القولين ـ من قدر جامع في البين ، كان هو المسمى بلفظ كذا ، ولا إشكال في وجوده بين الأفراد الصحيحة.

______________________________________________________

الإضافة متقومة بالنسبة المتكررة ، ولا تكرر في المقام ، وكذلك ليس المراد من كونهما إضافيين أن بينهما تقابل التضايف ، بل بينهما تقابل العدم والملكة ، لأن الفساد معناه عدم الصحة عما من شأنه أن يكون صحيحا.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه : أن الصحة بمعنى : التمامية كما هو في اللغة ، واختلاف التعابير لا يكشف إلّا عن الاختلاف في اللازم.

(١) الثالث من الأمور التي لا بد أن يذكر قبل أدلة القولين : «أنه لا بد على كلا القولين من قدر جامع في البين».

توضيح لا بدّية الجامع على كلا القولين يتوقف على مقدمة وهي :

١ ـ فرض عدم الوضع بتاتا باطل لكونه على خلاف الفرض إذ المفروض ثبوت الحقيقة الشرعية.

٢ ـ أنه لا شك في استعمال الصلاة في جميع ما لها من الأصناف والأفراد ، وليس هذا لأجل الاشتراك اللفظي لكونه خلاف ظاهر القولين أي : القائل بالصحيح والقائل بالأعم هذا أولا.

وثانيا : لاستلزامه أن يكون للصلاة مثلا أوضاع لا حصر لها ، فإن الوضع يستدعي تصوّر جميع ما لها من الأصناف والأفراد ولا يمكن ذلك لعدم الحصر.

٣ ـ أن المسلم عند جميع الأصوليين هو : الاشتراك المعنوي في ألفاظ العبادات ، فتكون كليا لها مصاديق حسب تعدد المصلي وحالاته.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا بد من قدر جامع على كلا القولين سواء كان الموضوع له فيها عاما كالوضع كما هو ظاهر كلام المصنف ، أو كان الموضوع له خاصا.

وأمّا بناء على أن يكون الموضوع له عاما كالوضع : فالأمر واضح ؛ فإن لفظ الصلاة ونحوه من أسماء الأجناس ، وقد تقدم أن الموضوع له فيها عام وهو الجامع.

وأمّا بناء على أن يكون الموضوع له فيها خاصا فالأمر كذلك أيضا ضرورة : أن تصور جميع الأفراد إنما هو بتصور الجامع لها.

وكيف كان ؛ فلا بد من قدر جامع على كلا القولين كما أفاده المصنف «قدس‌سره» ، فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة على مذهب الصحيحي.

٩٧

وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره ، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثر الكل فيه بذاك الجامع ، فيصح تصوير المسمى (١) بلفظ الصلاة مثلا بالناهية عن الفحشاء ، وما هو معراج المؤمن ، ونحوهما.

______________________________________________________

المقام الثاني : في تصويره بين الأعم من الصحيح والفاسد على مذهب الأعمي.

أمّا المقام الأوّل : فقد أشار إليه المصنف بقوله : «ولا إشكال في وجوده» أي : الجامع «بين الأفراد الصحيحة ، وإمكان الإشارة إليه» أي : الجامع بخواصه وآثاره أي : الجامع بحيث تكون الخواص والآثار المذكورة في الشريعة الإسلامية ـ كالنهي عن الفحشاء والمنكر ، وما هو معراج المؤمن ، وقربان كل تقي ، وعمود الدين ـ عناوين مشيرة إلى معنون واحد هذا ما أشار إليه بقوله : فإن الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد. «ويؤثر الكل» أي : جميع الأفراد الصحيحة «فيه» أي : في ذلك الأثر الواحد بذلك الجامع.

(١) أي : المسمى بالصلاة الصحيحة.

وملخص الكلام في تصوير الجامع على الصحيحي هو : أنّنا لاحظنا الأثر الذي يشترك فيه جميع أفراد الصحيحة ، ومصاديقها التي تختلف من حيث الكمية والكيفية ، ويشار إليه بالنهي عن الفحشاء والمنكر ، فيقال : إن طبيعة الصلاة الصحيحة إذا صدرت من أيّ مكلف وفي أيّ مكان وفي أيّ زمان يكون لها هذا الأثر المذكور ، وغيره من الآثار التي ذكرناها من المعراجية والمقربية وغيرهما.

فهذه العناوين تشير إلى معنون واحد يكون القدر الجامع بين الأفراد وإن لم نعرفه بعينه ؛ لأن معرفته بعينه لا تكون دخيلة في مؤثريته في هذه الآثار ، والاشتراك فيها كاشف عن اشتراكها في جامع واحد يؤثر في الأثر الواحد ؛ إذ الأثر الذي يترتب على الصلاة بما لها من الأفراد التي تختلف بحسب اختلاف حالات المكلف واحد كالنهي عن الفحشاء والمنكر ، فلا بد أن يكون المؤثر أيضا واحدا بناء على قاعدة عدم صدور الواحد إلّا عن الواحد ، وامتناع صدور معلول واحد عن علل متعددة ، إذ لا بد من السنخية بين العلة ومعلولها ، والواحد بما هو واحد لا تعقل سنخيّته مع الكثير بما هو كثير ، وحيث إن الأثر المترتب على الصلاة بما لها من الأفراد المتعددة واحد ؛ فلا بد أن يكون المؤثر فيه واحدا ، إذ لو كان الأثر الواحد مستندا إلى خصوصية كل فرد لزم تأثير العلل المتعددة في معلول واحد وهو ممتنع ، فلا بد من كون المؤثر واحدا ، وهو الجامع المنطبق على جميع الأفراد الصحيحة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة على مذهب الصحيحي.

٩٨

والإشكال فيه (١) ـ بأن الجامع لا يكاد يكون أمرا مركبا إذ كل ما فرض جامعا ـ يمكن أن يكون صحيحا وفاسدا ، لما عرفت (٢).

ولا أمرا بسيطا (٣) ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون عنوان المطلوب ، أو ملزوما مساويا

______________________________________________________

(١) أي : الإشكال فيما ذكرناه من تصوير الجامع بين الأفراد الصحيحة.

وحاصل الإشكال : أن الجامع الذي فرض إما مركب أو بسيط ولا يجوز الالتزام بشيء منهما.

وأمّا عدم جواز الالتزام بكونه مركبا ، فلأنه لو كان مركبا لا ينطبق على جميع الأفراد الصحيحة المختلفة زيادة ونقصا بحسب حالات المكلّف كما عرفت.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الجامع لو كان مركبا لكان مركبا من الأجزاء والشرائط ؛ إذ ليس هناك شيء آخر حتى يكون الجامع مركبا منه.

ثم المركب من الأجزاء والشرائط كما يختلف زيادة ونقصا بحسب حالات المكلف ؛ كذلك يختلف صحة وفسادا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يصح أن يكون الجامع مركبا لا من جميع الأجزاء والشرائط ، ولا من البعض ، وذلك إذا فرض الجامع بين الأفراد الصحيحة في الصلاة مثلا مركبا من أربع ركعات ؛ فهي صحيحة للمكلف الحاضر ، وفاسدة للمسافر ، وإذا فرض مركبا من ركعتين فهي صحيحة للمسافر دون الحاضر ، وهكذا الحال في صلاة العاجز عن القيام القادر عليه ، إذ الصلاة عن جلوس صحيحة للعاجز ، وفاسدة على القادر. فلا يعقل أن يكون الجامع مركبا ؛ لأنه لا يجري في تمام حالات المكلف.

(٢) أي : لما عرفت من أنّ الصحة والفساد يختلفان بحسب اختلاف حالات المكلف.

(٣) أي : لا يصح أن يكون الجامع أمرا بسيطا. وأمّا عدم جواز الالتزام بكونه أمرا بسيطا : فلأنّه لا يخلو إمّا أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له ولا يجوز الالتزام بشيء منهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : إن ذلك الأمر البسيط لا يكاد يصح أن يكون أمرا ذاتيا ، بل هو غير معقول ، ولذا لم يتعرض له المصنف ، وذلك لأن الصلاة مثلا ليست من الحقائق الخارجية ، بل عنوان اعتباري ينتزع عن أمور متباينة كل واحد منها من نوع خاص ، وداخل تحت مقولة خاصة ، وليس صدق الصلاة على هذه الأمور المتباينة صدقا ذاتيا ، وعلى هذا لا يعقل تصوير جامع ذاتي بين أجزائها فضلا عن الجامع الذاتي بين أفرادها ومصاديقها.

٩٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فينحصر الأمر في وجود جامع عرضي ، أو بتعبير آخر : وجود جامع عنواني كما أشار إليه المصنف بقوله : «إمّا أن يكون عنوان المطلوب أو ملزوما مساويا له» ، كعنوان المحبوب أو ذي المصلحة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يصح الالتزام بشيء منهما.

أمّا الأوّل ـ وهو أن يكون الجامع عنوان المطلوب ـ فمردود لوجوه : الأول : أنه غير معقول لأنه مستلزم للدور. بيان ذلك : أن تحقق عنوان المطلوب يتوقف على الطلب ، لأنه ما دام لم يتحقق الطلب لم يتحقق عنوان المطلوب ، ثم الطلب يتوقف على عنوان المطلوب ، لأن عنوان المطلوب قد أخذ في موضوع الطلب ومتعلقه ، وتوقف الحكم ـ وهو الطلب ـ على متعلقه ـ وهو عنوان المطلوب ـ من الأمور البديهية ، فالطلب موقوف على عنوان المطلوب ، وهو موقوف عليه فيلزم ما ذكرناه من الدور وهو باطل لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، فلا يصح أن يكون الجامع عنوان المطلوب. وهذا ما أشار إليه بقوله : «لبداهة استحالة أخذ ما لا يتأتّى إلّا من قبل الطلب ...» إلخ.

الثاني : يلزم على هذا أن يكون لفظ الصلاة ولفظ المطلوب مترادفين كالإنسان والبشر مثلا ، ولازم ذلك : جواز استعمال كل واحد منهما موضع الآخر ، فيصح أن يقال : «أقيموا المطلوب» كما يصح أن يقال : «أقيموا الصلاة» مع أنه لا يصح «أقيموا المطلوب» فهو يكشف عن عدم الترادف ، وعدم الترادف كاشف عن عدم كون عنوان المطلوب جامعا. وهذا ما أشار إليه بقوله : «مع لزوم الترادف ...» إلخ.

الثالث : أنه يلزم حينئذ عدم جريان البراءة مع الشك في أجزاء العبادات وشرائطها.

وملخص الوجه الثالث : أنه لا يجوز الالتزام بأن الجامع هو عنوان المطلوب ؛ لاستلزامه عدم جريان البراءة عند الشك في جزئية شيء أو شرطيته ، وجريان الاشتغال ؛ وذلك لرجوع الشك حينئذ إلى الشك في المحصل لا في المأمور به ؛ لأن المأمور به أمر بسيط لا إجمال فيه ، فلا يكون الشك في جزئية شيء شكا في المأمور به ، إذ ذلك خلاف كونه بسيطا فيرجع الشك إلى المحصل والمحقق للامتثال ، ومقتضاه : جريان قاعدة الاشتغال ولزوم الاحتياط ؛ وذلك يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة ممن يلتزم بالوضع للصحيح كما أشار إليه بقوله : «مع إن المشهور القائلين بالصحيح قائلون بها في الشك فيها» أي : قائلون بالبراءة في الشك في العبادات. ولازم ذلك : عدم كون عنوان المطلوب جامعا. وهذا الأخير يرد على الالتزام بالثاني أعني : كون الجامع ملزوما مساويا لعنوان

١٠٠