دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الإنشائي منه ، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ؛ حيث إن المنصرف منه هو الطلب الإنشائي ؛ لكثرة استعماله فيه ، كما انعكس الأمر في لفظ الإرادة ؛ فإن المنصرف عنها عند إطلاقها الإرادة الحقيقية.

٢ ـ الخلاف بين الأشاعرة والعدلية : فقد قال الأول بتغاير الطلب والإرادة ، والثاني : باتحادهما ، وما محط كلام الأشاعرة أن للمتكلم بالكلام اللفظي الكلام النفسي ؛ بمعنى : أن هناك صفة قائمة بنفسه سوى العلم والإرادة وتسمى بالكلام النفسي ، ويسمى الكلام النفسي طلبا حقيقيا في خصوص الأوامر ، فيكون الطلب الحقيقي مغايرا للإرادة.

وقال العدلية : إنه ليس هناك صفة قائمة بالنفس في قبال العلم والإرادة ؛ حتى تسمى بالطلب الحقيقي في مورد الأوامر ، فالإرادة الحقيقية هي الطلب الحقيقي لا غيره ، فالحق : أن الطلب الحقيقي هي عين الإرادة الحقيقية ، ومفهومه متحد مع مفهومها ، والطلب الإنشائي : هو عين الإرادة الإنشائية. والدليل على ذلك هو : الوجدان ؛ فإن الإنسان لا يجد صفة أخرى قائمة بالنفس غير الإرادة.

وأما استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأوامر الامتحانية والاعتذارية ؛ بتقريب : أن هذه الأوامر كالأوامر الجدية في الحاجة إلى وجود منشأ في نفس المتكلم وهو الإرادة في الأوامر الجدية ، وحيث لا إرادة في نفسه لتلك الأوامر لتكون هي المنشأ لأمره فلا بد من وجود صفة أخرى في نفسه وهي المنشأ للأمر ؛ وتسمى هذه الصفة بالطلب النفسي الحقيقي وهو سوى الإرادة ، فيكون الطلب مغايرا للإرادة لوجوده دونها ؛ فلا يخلو عن خلل وإشكال.

وحاصل الإشكال على هذا الاستدلال هو : فقدان الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية معا في الأوامر الامتحانية والاعتذارية ؛ لا أن الطلب موجود دون الإرادة حتى يقال بتغايرهما.

٣ ـ «دفع وهم» : تقريب الوهم : أن لازم حصر الأصحاب الكلام في اللفظي ، ونفي صفة أخرى قائمة بالنفس غير الصفات المشهورة حتى تسمى بالكلام النفسي هو : كون الصفات المشهورة مدلولات للكلام اللفظي ، وهو خلاف التحقيق ، أو كونه بلا معنى وهو باطل قطعا ، فلا بد من الالتزام بالكلام النفسي حتى يكون مدلولا للكلام اللفظي كما يقول به الأشاعرة.

وحاصل الدفع : أنه لا يلزم من إنكار الكلام النفسي كون هذه الصفات المشهورة

٣٢١

.................................................................................................

______________________________________________________

مدلولات للكلام اللفظي ، أو كونه بلا معنى ؛ فإن الكلام اللفظي حاك عن ثبوت النسبة أو نفيها في الجمل الخبرية ، وعن المعاني الإنشائية في الجمل الإنشائية.

٤ ـ «إشكال ودفع» : وهذا الإشكال هو من أدلة الاشاعرة على المغايرة ؛ بتقريب : أنه بناء على اتحاد الطلب والإرادة يلزم أحد المحذورين في باب تكليف الكفار والعصاة بالإيمان والعمل بالأركان.

المحذور الأول : أن يكون التكليف صوريا إذا لم تكن هناك إرادة وهو باطل ؛ بدليل صحة عقاب الكفار والعصاة.

المحذور الثاني : هو لزوم تخلّف المراد عن الإرادة على فرض وجود الإرادة ، وكون التكليف حقيقيا وجديّا ؛ وهو أيضا باطل لاستحالة تخلف الإرادة عن المراد.

وحاصل الدفع : إن لله إرادة تكوينية وتشريعية ، والمحال هو تخلّف الأولى عن المراد دون الثانية ، ثم المراد بالإرادة في باب التكليف هي الإرادة التشريعية التي تتخلف عن المراد ؛ لأنها عبارة عن إرادته تعالى صدور الفعل عن العبد بإرادته واختياره ، ولا ضير في تخلفها عن المراد. ثم الطلب والإرادة الحقيقيان موجودان في تكاليف الكفار والعصاة ولا يلزم شيء من المحذورين.

٥ ـ شبهة الجبر : بتقريب : أن التكاليف الشرعية مشروطة بشرائط منها : القدرة والاختيار لقبح التكليف بغير المقدور ، فحينئذ إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية بإيمان شخص وإطاعته ، أو بكفره وعصيانه امتنع تعلق التكليف بهذه الأمور ؛ لصيرورتها غير مقدورة للعبد بعد تعلق إرادته تعالى بها ؛ الموجبة لضرورية وجودها ، فلا يبقى حينئذ اختيار للعبد يوجب صحة التكليف بها. وعلى هذا : فيكون العبد مضطرا إلى اختيار الكفر والعصيان ، والإطاعة والإيمان.

وحاصل الجواب : أن إرادته تعالى تتعلق بفعل العبد لكن لا مطلقا ، بل بما له من المبادئ الاختيارية ؛ الموجبة لكون فعله اختياريا وصادرا عنه عن إرادة واختيار.

٦ ـ «إن قلت : إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما ...» إلخ. الغرض من هذا السؤال هو : عدم اندفاع شبهة الجبر بما تقدم من الجواب ؛ بتقريب : أن الكفر من الكافر ، والعصيان من العاصي ـ وإن كانا بإرادتهما ـ إلّا إن إرادتهما منتهية إلى إرادة الله التكوينية ؛ لأن إرادة العبد باعتبار كونها من الممكنات مستندة إلى إرادة الواجب تعالى ؛ لئلا يلزم التسلسل ، فيقبح حينئذ التكليف

٣٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالإيمان وغيره ؛ لكونه تكليفا بما هو خارج عن الاختيار ، كما يقبح العقاب على الكفر والعصيان ؛ لكونه بما لا يكون بالاختيار فلم يندفع الجبر.

وحاصل الجواب : أن العبد باعتبار كونه مركبا من الماهية والوجود ، والمجعول من الله هو الوجود دون الماهية ، فما يترتب على ماهيته من الآثار ليس من الله ، ولا يصح أن ينسب إليه تعالى.

فحينئذ اختيار الكفر من الكافر والعصيان من العاصي مستند إلى شقاوتهما الذاتية ، والذاتي لا يعلل ، فلا يقال : لم جعل الله السعيد سعيدا ، والشقي شقيا ، فإن الله تعالى لم يجعل السعيد سعيدا والشقي شقيا ؛ بل أوجدهما ، ثم العقاب من لوازم ما هو الذاتي المترتب على الكفر والعصيان ؛ الناشئين من الخبث الذاتي ترتب المعلول على العلة. وليس العقاب عن استحقاق حتى يقال : لا استحقاق مع عدم الاختيار. فعلى هذا لا يلزم الجبر المشهور المنسوب إلى الأشاعرة ؛ وهو إن أفعال العباد كلها من الله ، والعباد بمنزلة آلات لها ؛ بل الأفعال من العباد وبإرادتهم واختيارهم ، فالمصنف أجاب عن شبهة الجبر بما يؤدي إلى الجبر.

٧ ـ «وهم ودفع» : تقريب الوهم : أنه إذا كانت الإرادة بمعنى : العلم بالصلاح ، وقلنا باتحادها مع الطلب ؛ كان لازم ذلك أن يكون العلم قابلا للإنشاء كالطلب ، مع إنه لا يقبل الإنشاء ؛ بل يحصل بأسبابه الخاصة ، فلا يكون العلم بالصلاح عين الطلب ؛ لئلا يلزم الإشكال المذكور.

وحاصل الدفع : أن العلم والإرادة متحدان خارجا ، ومختلفان مفهوما ، والإرادة بمفهومها قابلة للإنشاء ، والعلم بمفهومه لا يقبل الإنشاء ، فلا يلزم الإشكال المذكور على القول باتحاد الطلب والإرادة.

٨ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ رأيه في معنى لفظ الأمر : أن معناه هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي.

٢ ـ رأيه في الخلاف بين الأشاعرة والعدلية : أنه موافق للعدلية فيقول : باتحاد الطلب والإرادة بمعنى : أن الطلب الحقيقي هو عين الإرادة الحقيقية ، والطلب الإنشائي هو عين الإرادة الإنشائية ، ومفهوم الطلب متحد مع مفهوم الإرادة.

٣ ـ رأيه في الجبر : أن الظاهر من كلامه هو الجبر الأخلاقي ، بمعنى : أن السعيد سعيد بالذات ، والشقي شقي كذلك ؛ إلّا أن يقال : إن قوله : «قلم اينجا رسيد سر بشكست»

٣٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

إشارة إلى العقيدة بعدم الجبر أصلا ؛ بل الإنسان مختار ومخير ، وليس مضطرا ومسيّرا ؛ للفرق الواضح بين صدور الأفعال من الإنسان ، وبين حركة يد المرتعش. والله أعلم بضمائر عباده. انتهى الكلام في خلاصة البحث.

٣٢٤

الفصل الثاني

فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث :

الأول (١):

أنه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ، وقد عدّ منها : الترجي ، والتمني ، والتهديد ، والإنذار ، والإهانة ، والاحتقار ، والتعجيز ، والتسخير إلى غير ذلك.

______________________________________________________

صيغة الأمر

(١) المبحث الأول في صيغة الأمر ، وفيها تسعة مباحث ، وخاتمة ، ويذكر المصنف ـ في المبحث الأول ـ ما لها من المعاني.

وفي المبحث الثاني : يقع الكلام في بيان ما هو الموضوع له لصيغة الأمر ، فالمبحث الثاني حينئذ ليس تكرارا للمبحث الأول ؛ لأن المبحث الأول : ناظر إلى ما استعملت فيه صيغة الأمر من المعاني. والمبحث الثاني : ناظر إلى بيان ما هو الموضوع له لها من هذه المعاني. فنقول : إنه قد ذكرت لها معان عديدة ، وقد أنهاها بعض إلى نيف وعشرين. ولكن نكتفي بذكر ما ذكره الملّا صالح في حاشية المعالم حيث قال : صيغة افعل تستعمل في خمسة عشر معنى :

١ ـ الوجوب : نحو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ.) البقرة ١١٠.

٢ ـ الندب : نحو : (فَكاتِبُوهُمْ) النور : ٣٣ ، فإن الكتابة مندوبة إذ ليس في تركها عقاب مع ترتب الثواب عليها.

٣ ـ الإباحة : نحو : (كُلُوا وَاشْرَبُوا.) البقرة : ٦٠.

٤ ـ التهديد : نحو : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.) فصلت : ٤٠. ويقرب منه الإنذار نحو : (قُلْ تَمَتَّعُوا) إبراهيم : ٣٠ ، وبعضهم جعله قسما على حدة.

٥ ـ الإرشاد : نحو : (وَاسْتَشْهِدُوا.) البقرة : ٢٨٢ ، فإن الله تعالى أرشد العباد عند المداينة إلى الاستشهاد رعاية لمصلحتهم ، قيل : الفرق بينه وبين الندب : أن الندب لثواب الآخرة ، والاستشهاد لمنافع الدنيا ؛ إذ لا ينقص الثواب بترك الإشهاد في المداينة ، ولا يزيد بفعله.

٣٢٥

وهذا (١) كما ترى ، ضرورة : أن الصيغة ما استعملت في واحد منها ، بل لم

______________________________________________________

٦ ـ الامتنان : نحو : (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ.) المائدة : ٨٨ ، بالأمر يدل على الامتنان عليهم.

٧ ـ الإكرام للمأمور : نحو : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ.) الحجر : ٤٦ ، فإن ضم السلامة والأمن عند الأمر بدخول الجنة قرينة على الإكرام.

٨ ـ التسخير : نحو : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.) البقرة : ٦٥ ، لأن مخاطبتهم بذلك في معرض تذليلهم.

٩ ـ التعجيز : نحو : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.) البقرة : ٢٣ عجّزهم بطلب المعارضة عن الإتيان بمثله.

١٠ ـ الإهانة : نحو : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.) الدخان : ٤٩.

١١ ـ التسوية : نحو : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا.) الطور : ١٦ ، فإنه أريد التسوية في عدم النفع بين الصبر وعدمه ؛ إذ لا يختلف حالهم بالنسبة إلى الصبر وعدمه.

١٢ ـ الدعاء : نحو اللهم اغفر لي.

١٣ ـ التمني أو الترجي : نحو :

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل

بصبح وما الا صباح منك بأمثل

فإن الساهر لمّا عدّ الليل الطويل مستحيل الانجلاء ؛ يتمنى انجلاءه ، أو عدّه ممكن الانجلاء يترجى انجلاءه ، فإن التمني يستعمل في الممتنع ، والترجي في الممكن.

١٤ ـ الاحتقار : نحو : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.) يونس : ٨٠ ، بقرينة مقابلة سحرهم بالمعجزة.

١٥ ـ التكوين : وهو الإيجاد نحو : (كُنْ فَيَكُونُ.) الأنعام : ٧٣. انتهى مع تصرف منا.

(١) أي : هذا الذي ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها «كما ترى» غير مستقيم ، بل واضح البطلان ؛ «ضرورة : أن الصيغة ما استعملت في واحد منها» لا على نحو الحقيقة ولا على نحو المجاز ؛ بأن يكون معنى الصيغة في (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) مثلا التهديد.

وحاصل الكلام في المقام : أن الصيغة ـ على ما هو مختار المصنف ـ لم تستعمل في شيء من تلك المعاني ؛ بل استعملت في إنشاء الطلب. ثم يقول المصنف في توجيه ما ذكره بعض علماء الأصول : من أن للصيغة معان عديدة قد استعملت فيها وأن هذه

٣٢٦

تستعمل إلّا في إنشاء الطلب ، إلّا إن الداعي إلى ذلك كما يكون تارة : هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، يكون أخرى : أحد هذه الأمور ، كما لا يخفى.

قصارى (١) ما يمكن أن يدعى : أن تكون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب ؛ فيما إذا

______________________________________________________

المعاني من قبيل الدواعي ؛ بمعنى : أن الصيغة قد استعملت في إنشاء الطلب في جميع الموارد المذكورة ، ولكن الداعي للإنشاء هي تلك المعاني ؛ بمعنى : أن الداعي إلى الانشاء «تارة» : يكون هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي وهو الذي ينصرف إليه إطلاق الصيغة على ما عرفت.

«وأخرى» : يكون الداعي أحد الأمور المتقدمة ، وعليه : فالصيغة لم تستعمل إلّا في معنى واحد وهو إنشاء الطلب ، وتلك المعاني دواع للإنشاء وأجنبية عن مدلول الصيغة ، فلا تستعمل الصيغة في التهديد والتعجيز وغيرهما أصلا. نعم ؛ ينشأ الطلب بداعي التهديد أو التعجيز أو الترجي أو التمني أو الإهانة أو غيرها من المعاني المتقدمة ، فادعاء أن للصيغة معان قد استعملت فيها واضح البطلان.

فصيغة الأمر وضعت للطلب الإنشائي ، وتستعمل فيه دائما بدواع مختلفة متعددة ، ومن الواضح : أن اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في مدلول صيغة الأمر ، ولا مجازا فيها.

(١) أي : قد عرفت : أن معنى الصيغة هو إنشاء الطلب فقط ، وأما سائر المعاني فهي دواعي له ولا يختلف باختلاف الدواعي ، نعم ؛ غاية ما يمكن أن يقال في هذا المقام : إن الصيغة قد وضعت لإنشاء الطلب لكن لا مطلقا حتى يكون استعمالها في جميع المعاني المذكورة على نحو الحقيقة ؛ بل فيما إذا كان استعمالها بداعي البعث والتحريك نحو المطلوب ؛ لا ما إذا استعملت بداع آخر من الدواعي المذكورة ، ولازم ذلك : أن يكون إنشاء الطلب بالصيغة لأجل البعث والتحريك للمكلف نحو المطلوب على نحو الحقيقة ، وأن يكون إنشاؤه بها لأجل التهديد والإنذار وغيرهما على نحو المجاز ، وهذا غير استعمالها في التهديد والإنذار وغيرهما كاستعمال اللفظ في المعنى.

وكيف كان ؛ فإن قيل بوضعها لإنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك على نحو يكون الداعي المذكور قيدا للموضوع له ؛ بحيث لو استعملت في إنشاء الطلب لا بداعي البعث والتحريك بل بداعي التهديد والتحقير وغيرهما تكون مجازا ، لأنها استعملت حينئذ في غير الموضوع له من باب الوضع للمقيد الخاص والاستعمال في غيره.

إلّا أن يقال : إنه قد مرّ في باب الوضع : امتناع دخل ما هو من شئون الاستعمال في الموضوع له ؛ بحيث يكون المعنى في مقام الوضع مقيدا به ، ومن البديهي : أن الغرض

٣٢٧

كان بداعي البعث والتحريك ، لا بداع آخر منها ، فيكون إنشاء الطلب بها بعثا حقيقة ، وإنشاؤه بها تهديدا مجازا ، وهذا غير كونها مستعملة في التهديد وغيره ، فلا تغفل.

______________________________________________________

الداعي إلى استعماله الصيغة في إنشاء الطلب يكون من شئون الاستعمال ، فيمتنع دخله في المعنى الموضوع له ، بل المعنى واحد مطلقا سواء كان الداعي هو البعث أم التهديد أم غيرهما ، وعليه : فيكون استعمال الصيغة في إنشاء الطلب بأيّ داع كان على نحو الحقيقة.

نعم ؛ لا بأس بدعوى ظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث والتحريك ؛ بحيث يحمل اللفظ عليه عند التجرد عن القرينة الدالة على أن الإنشاء بداع آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه : أن الحق عند المصنف هو : كون الصيغة موضوعة لإنشاء الطلب واستعمالها فيه حقيقة وإن لم يكن بداعي البعث والتحريك. وأما على ما ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر تلك المعاني قد استعملت فيها فهناك احتمالات ، بل أقوال :

١ ـ أن يكون استعمال الصيغة على نحو الحقيقة في الكل.

٢ ـ أن يكون استعمالها على نحو المجاز كذلك.

٣ ـ أن يكون على نحو الاشتراك المعنوي في الكل.

٤ ـ أن يكون على نحو الاشتراك اللفظي كذلك.

٥ ـ أن يكون استعمالها على نحو الاشتراك المعنوي واللفظي في البعض الآخر.

٦ ـ أن يكون استعمالها على نحو الحقيقة في البعض والمجاز في البعض الآخر.

ولكن الظاهر من الذين ذكروا هذه المعاني لصيغة الأمر : أنها ليست موضوعة لهذه المعاني لغة ؛ وذلك لنزاعهم الآتي في المبحث الثاني حيث قالوا : هل صيغة الأمر «حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما ، أو في المشترك بينهما وجوه : بل أقوال» ، فإن الظاهر من هذا النزاع هو : المفروغية من عدم كونها حقيقة في التمني والترجي والتهديد وأخواتها المتقدمة ، وإنما هي مستعملة فيها مجازا ، فهي حقيقة في واحد من المعاني ، ومجازا في البواقي.

إلّا إن المصنف كما عرفت أنكر استعمالها فيها رأسا فلم تستعمل فيها ولو مجازا حيث قال : «هذا كما ترى» ؛ أي : استعمال الصيغة في هذه المعاني كما ترى غير مستقيم. هذا تمام الكلام في صيغة الأمر.

وأما حال سائر الصيغ الإنشائية سواء كانت طلبية أم كانت غيرها كحالها ، لأن

٣٢٨

إيقاظ :

لا يخفى : أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ الإنشائية.

فكما يكون الداعي إلى إنشاء التمني أو الترجي أو الاستفهام بصيغها تارة : هو ثبوت هذه الصفات حقيقة (١) ؛ يكون الداعي غيرها (٢) أخرى ، فلا وجه (٣) للالتزام

______________________________________________________

معانيها الحقيقية واحدة ، ولكن الدواعي متعددة ، لأنها لا تستعمل إلّا في إنشاء مفاهيمها ومداليلها ، مثلا : لفظ «ليت» و «لعل» وغيرهما تستعمل في إنشاء التمني والترجي ؛ ولكن بدواع متعددة بمعنى : أنه قد يكون الداعي إلى إنشائها نفس مفاهيمها ، وقد يكون الداعي شيئا آخر ، هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «لا يخفى : أن ما ذكرناه في صيغة الأمر جار في سائر الصيغ» أي : أن ما ذكرناه في صيغة الأمر ـ من كونها مستعملة في إنشاء الطلب بدواع مختلفة على نحو الحقيقة ـ يجري في سائر الصيغ الإنشائية ، من التمني والترجي وغيرهما حيث إنها أيضا تستعمل في إنشاء هذه المفاهيم بدواع مختلفة ، ولا يختلف المعنى باختلاف الدواعي ؛ مثلا : أدوات الاستفهام تستعمل في إنشاء مفهوم الاستفهام تارة : بداعي التعلم وإزالة الجهل ، وأخرى : بداعي التوبيخ ، وثالثة : بداع آخر ، وكذا ساير الصيغ الإنشائية.

فالمتحصل : أن جميع الصيغ الإنشائية لا تستعمل إلّا في معنى واحد وهو الإنشاء ، والاختلاف إنما يكون في دواعي الإنشاء ، وذلك لا يوجب اختلافا في المدلول.

(١) أي : مثل إنشاء الطلب بصيغة الأمر بداعي الطلب الحقيقي.

(٢) أي : غير تلك الصفات كإنشاء الاستفهام بداعي التوبيخ أو التقرير أو غيرهما.

(٣) أي : فلا وجه للالتزام بانسلاخ صيغ المعاني المذكورة عن معانيها الموضوعة لها.

وحاصل الكلام في المقام : أنه بعد ما تقدم ـ من أن الصيغ الإنشائية تستعمل دائما في إنشاء مفاهيمها بدواع مختلفة ؛ مع كون الاستعمال على وجه الحقيقة ـ يظهر عدم الوجه ؛ لما قيل : من انسلاخ صيغ الترجي والاستفهام ونحوهما مما يقع في كلامه تعالى عن معانيها من التمني وغيره ؛ مما لازمه العجز كما في التمني والترجي ، أو الجهل كما في الاستفهام ؛ وذلك : لأن المستحيل في حقه تعالى هو الترجي والاستفهام الحقيقيان ، لا إنشائهما بداع آخر غير داعي ثبوتهما ، وما ذكروه من الانسلاخ مبني على استعمال الصيغ في نفس الصفات المزبورة ؛ من التمني وأخواته.

وأمّا بناء على استعمالها في الإنشاء ـ كما ذكرنا ـ فلا وجه للالتزام بالانسلاخ أصلا ؛ لأن إنشاء هذه المفاهيم إذا كان بدواع أخر غير التمني والترجي الواقعيين لا يضر ولا

٣٢٩

بانسلاخ صيغها عنها ، واستعمالها في غيرها إذا وقعت في كلامه تعالى ؛ لاستحالة (١) مثل هذه المعاني في حقه «تبارك وتعالى» مما لازمه العجز أو الجهل ، وأنه لا وجه له ، فإن (٢) المستحيل إنما هو الحقيقي منها لا الإنشائي الإيقاعي ؛ الذي يكون بمجرد قصد حصوله بالصيغة كما عرفت.

ففي كلامه (٣) تعالى قد استعملت في معانيها الايقاعية الإنشائية أيضا ؛ لا لإظهار

______________________________________________________

يقدح في حق الباري تعالى ؛ فإن المحال في حقه تعالى هو التمني الواقعي الموجب لعجزه تعالى. وكذا الاستفهام الحقيقي المستلزم للجهل لا الإنشائي إذا كان بداع آخر كالمحبوبية والتوبيخ مثل : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(١) ، ونحو : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا)(٢).

فتحصل مما اختاره المصنف : إن ذكر المعاني الكثيرة لأدوات الاستفهام في غير محله ، كما ذكر في المغني أن لهمزة الاستفهام ثمانية معان ؛ بل الحق أن لها معنى واحد وهو إنشاء الاستفهام فقط ، ولكن الدواعي عليه متعددة.

(١) هذا تعليل للالتزام بالانسلاخ. وبيان ذلك : أن التمني هو طلب محال أو ممكن لا طمع في وقوعه ، والترجي هو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله ، والاستفهام هو طلب العلم وحضور الشيء في الذهن.

ومن البديهي : أن التمني مستلزم للعجز ، والترجي والاستفهام مستلزمان للجهل ، فجميع اللوازم محال في حقه تعالى.

(٢) أي : هذا ردّ للتعليل المذكور.

وحاصل الردّ : إنه ليس هناك سبب للالتزام بالانسلاخ ، لأن علة الانسلاخ ـ وهي الاستحالة ـ مفقودة ؛ وذلك لأن المستحيل في حقه تعالى هو الاستفهام والتمني والترجي الحقيقية ؛ حيث إنها مستلزمة للعجز أو الجهل المستحيلين في حقه تعالى دون إنشائها.

والمفروض : أن صيغها ـ كما تقدم ـ لا تستعمل في نفس تلك الصفات حتى تلزم الاستحالة المزبورة ؛ بل تستعمل في إنشائها ، وهو لا يستلزم محذورا ؛ لأن إنشاءها ليس إلّا إيجاد النسب الخاصة ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٣٨».

(٣) هذه نتيجة الردّ على القول بالانسلاخ وملخصه : أن صيغ التمني وأخواته قد استعملت في كلامه تعالى في إنشاء مفاهيمها كاستعمالها فيه في كلامنا ، والفرق : أن

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الأنبياء : ٦٢.

٣٣٠

ثبوتها حقيقة ، بل لأمر آخر حسبما يقتضيه الحال من إظهار المحبة (١) ، أو الإنكار (٢) ، أو التقرير (٣) إلى غير ذلك (٤).

ومنه (٥) ظهر : إن ما ذكر من المعاني الكثيرة لصيغة الاستفهام ليس كما ينبغي أيضا.

______________________________________________________

الداعي في غيره تعالى يمكن أن يكون إظهار ثبوت هذه الصفات حقيقة ، ولكن في كلامه تعالى لا يستعمل لإظهار ثبوتها حقيقة ؛ بل يكون الاستعمال لأمر آخر.

(١) كقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) عقيب الأمر بالإيمان ؛ فإن المقام يناسب محبوبية ما يقع عقيب «لعل».

(٢) كقوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ.) الإسراء : ٤٠. وقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ.) الصافات : ٩٥ ، فإن المقام يناسب كون إنشاء مفهوم الاستفهام بداعي الإنكار والتوبيخ.

(٣) أي : كقوله تعالى : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ)(١) فإن المقصود من التقرير هو : جعل المخاطب مقرّا لكي يأخذه بإقراره ، فينزل المتكلم العالم نفسه منزلة المتردد الشاك لكي يتوصل إلى ذلك المقصود.

(٤) أي : مثل التهكم كقوله تعالى : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا.) هود : ٨٧. والتعجب كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ.) الفرقان : ٤٥.

(٥) أي : ومما ذكرناه في الإيقاظ من أن للصيغ الإنشائية كصيغة الأمر معنى واحد ؛ وهو إنشاء مفاهيمها ، والاختلاف والتعدد إنما هو في الدواعي ، وهو لا يوجب تعددا في المعاني ، أن للاستفهام معنى واحدا وهو إنشاء مفهومه ـ ظهر ـ أن ما ذكره علماء الأدب من أن للاستفهام عدة معان ليس في محله ؛ إذ المفروض : أن المستعمل فيه في صيغة الاستفهام واحد وهو الإنشاء ، والاختلاف إنما يكون في الدواعي من الاستفهام الحقيقي والإنكاري وغيرهما ، وهذا الاختلاف لا يوجب استعمال الاستفهام في المعاني المتعددة ، فلا ينبغي جعلها من معاني الاستفهام كما هو ظاهر كلمات علماء العربية كما عرفت من المغني.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ أنه قد ذكرت لصيغة الأمر معان عديدة ، وادعي استعمالها فيها ، وقد عدّ منها الترجي والتمني والتهديد وغيرها.

__________________

(١) الانشراح : ١.

٣٣١

المبحث الثاني :

في أن الصيغة (١) حقيقة في الوجوب أو في الندب ، أو فيهما ، أو في المشترك

______________________________________________________

٢ ـ رد المصنف على ما ذكره بعض علماء الأصول من أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها ، وحاصل الرّد : أن هذا القول ـ كما ترى ـ غير مستقيم ؛ لأن الصيغة ما استعملت في واحد من تلك المعاني ، بل استعملت في إنشاء الطلب فقط. وما ذكر لها من المعاني ليست معان لها ، بل هي الدواعي لإنشاء الطلب ، وعليه : فالصيغة لم تستعمل إلّا في معنى واحد وهو إنشاء الطلب ، فادعاء : أن لصيغة الأمر معان عديدة قد استعملت فيها واضح البطلان.

٣ ـ أن لسائر الصيغ الإنشائية كصيغة الأمر معنى واحدا ؛ وهو إنشاء مفاهيمها. نعم ؛ تختلف الدواعي ، واختلافها لا يوجب تعددا في معانيها ، فحينئذ : لا وجه للالتزام بانسلاخ صيغها عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى ؛ بتقريب : استحالة الاستفهام والتمني والترجي في حقه تعالى ، لاستلزامها الجهل أو العجز فيه تعالى ، فلا بد من انسلاخ هذه الصيغ عن معانيها لئلا يلزم المحذور المزبور ، لكن لا وجه لهذا الالتزام ؛ لأن الاستفهام بداع آخر كالتوبيخ والإنكار والتقرير لا يستلزم المحذور المذكور حتى نحتاج إلى الانسلاخ ، وكذلك التمني والترجي بداع آخر كالمحبوبية مثلا لا محذور فيه أصلا ؛ فلا وجه للالتزام بانسلاخ هذه الصيغ عن معانيها إذا وقعت في كلامه تعالى.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

أن لصيغة الأمر معنى واحدا وهو إنشاء الطلب فقط ، وما ذكر لها من المعاني فهو من قبيل اشتباه الدواعي بالمعاني ، وكذلك سائر الصيغ الإنشائية لها معنى واحد وهو إنشاء مفاهيمها بها. وأما ما ذكر لها من المعاني فهو من قبيل الدواعي ؛ وقد عرفت غير مرة : إن اختلاف الدواعي لا يوجب تعددا في المعاني. انتهى الكلام في خلاصة البحث.

ما هو الموضوع له لصيغة الأمر؟

(١) لما فرغ المصنف عما استعملت الصيغة فيه من المعاني في المبحث الأول ، بدأ في بيان ما هو الموضوع له لصيغة الأمر ، فالفرق بين المبحثين : أن الأول ناظر إلى ما استعملت فيه الصيغة ، وهذا المبحث ناظر إلى ما هو الموضوع له لها. إلّا إن لازم كلام

٣٣٢

بينهما ، وجوه ، بل أقوال لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها (١) بلا قرينة.

______________________________________________________

المصنف هنا هو : استعمال الصيغة في المعاني المذكورة في كلامه ، إذ كونها حقيقة في الوجوب أو الندب إنما يصح بعد استعمالها فيهما.

وهذا ينافي ما تقدم منه في المبحث الأول حيث قال : إن الصيغة لم تستعمل في واحد منها ، ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين : الأول : أن المصنف في هذا المبحث الثاني سلك مسلك المشهور ؛ الذين يقولون باستعمالها في هذه المعاني.

الثاني : أن غرض المصنف ليس استعمالها في الوجوب ، أو الندب ، أو المشترك بينهما ، بل غرضه : أنها تستعمل في الوجوب أو الندب أي : بداعي الوجوب أو الندب ، ولكنها موضوعة لإنشاء الطلب الالزامي الذي استعملت فيه بداعي الوجوب والالزام.

ثم المراد بالوجوب هي النسبة الطلبية المصححة لاعتبار الوجوب بمعنى : أن الآمر لما كان مبرزا للإرادة مع عدم الترخيص في الترك يصح اعتبار الوجوب ، وإذا اقترن مع الترخيص في الترك لا يصح اعتبار الوجوب ، بل يصح اعتبار الندب.

وكيف كان ؛ فهنا أقوال ، وعمدتها هي الأربعة المذكورة في المتن ، وقد ذكر صاحب المعالم «رحمه‌الله» أقوالا أخر ؛ مثل : كونها مشتركة لفظا بين الوجوب والندب والإباحة ، أو مشتركة معنى بين هذه الثلاثة والجامع هو الإذن في الفعل ، أو مشتركة لفظا بين أربعة وهي الثلاثة السابقة مع التهديد ، أو الوقف ، فمجموع الأقوال هي ثمانية.

(١) أي : عند استعمال الصيغة بلا قرينة على الوجوب أو الندب ، وظاهر المصنف هو : القول الأول ؛ وهو وضعها للوجوب حيث قال : «لا يبعد تبادر الوجوب» ، ومن البديهي : أن التبادر هنا مثبت للحقيقة ؛ لعدم كونه مستندا إلى القرينة ، بل يكون مستندا إلى حاق اللفظ الكاشف ذلك عن الوضع والحقيقة.

نعم ؛ ظاهره هو عدم الجزم على ذلك حيث عبر بقوله : «لا يبعد تبادر الوجوب». ومن المحتمل أن يكون وجه عدم جزم المصنف بذلك ما ذكره بعض من : أن الأمر إنما يظهر إرادة المريد للفعل ، وإرادته الفعل أعم من الترخيص في الترك المساوق للاستحباب ، وعدمه المساوق للوجوب ؛ إلّا إن حمل كلام المصنف على هذا الاحتمال لا يخلو عن الإشكال ؛ فإن صيغة الأمر عند الإطلاق تحمل على الوجوب ؛ لأن الإرادة المتوجهة إلى الفعل تقتضي وجوده حتما ، والندب محتاج إلى قيد زائد وهو الإذن في الترك ، ومع عدم القيد فهي ظاهرة في الوجوب. وقيل : أن تعبيره بقوله : «لا يبعد» إنما هو لضعف القول بأن الصيغة موضوعة للوجوب.

٣٣٣

ويؤيده (١) : عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ، مع الاعتراف بعدم دلالته عليه بحال أو مقال (٢).

وكثرة الاستعمال فيه (٣) في الكتاب والسنة وغيرهما لا توجب نقله إليه ، أو

______________________________________________________

(١) أي : يؤيد تبادر الوجوب «عدم صحة الاعتذار عن المخالفة ...» إلخ ، وإنما جعله مؤيدا لا دليلا برأسه لصحة الاعتذار أيضا مع ظهور الصيغة في الوجوب ولو لأجل انصرافها إليه لا لوضعها له ، فعدم صحة الاعتذار حينئذ لا تدل على الوضع للوجوب ؛ بخلاف التبادر لكونه من علائم الوضع.

(٢) وحاصل الكلام في المقام : أن العبد مع اعترافه بعدم وجود القرينة على الندب ؛ لا يصح منه الاعتذار لتركه أمر المولى باحتماله الندب ، فعدم صحة الاعتذار منه ، واحتجاج المولى عليه ومؤاخذته له ، وعدم قبوله لعذره كاشف عن وضع الصيغة للوجوب ؛ إذ لو كان مشتركا صح منه الاعتذار.

(٣) أي : كثرة الاستعمال في الندب. وهذا الكلام اعتراض على صاحب المعالم ، وجواب عما أفاده في المعالم ، فلا بد من ذكر ما في المعالم كي يتضح ما أورده المصنف عليه.

قال صاحب المعالم بعد ما اختار أن الأمر حقيقة في الوجوب ما لفظه : (فائدة : يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة «عليهم‌السلام» : أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شائعا في عرفهم ؛ بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ ؛ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي ، فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر منهم «عليهم‌السلام») (١). انتهى.

وحاصل اعتراض المصنف عليه وجوابه عنه هو : أن كثرة استعمال الأمر في الندب في الكتاب والسنة وغيرهما ؛ لا توجب نقل الأمر إلى الندب أو حمله عليه ، وهذا الجواب من المصنف عن كلام المعالم يرجع إلى وجوه ثلاثة : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٤٢» ـ.

الوجه الأول : أن مجرد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يوجب النقل إليه ؛ بحيث يصير المنقول إليه معنى حقيقيا. ولا يوجب الحمل عليه ترجيحا له على المعنى الحقيقي ؛ لأن النقل منوط بمهجورية المعنى الحقيقي المنقول عنه ، والحمل على المعنى المجازي المشهوري موقوف على قلة الاستعمال في المعنى الحقيقي ، ومن المعلوم : عدم

__________________

(١) معالم الدين ، ص ٧٤.

٣٣٤

حمله عليه لكثرة استعماله في الوجوب أيضا ، مع إن الاستعمال وإن كثر فيه (١) إلّا إنه كان مع القرينة المصحوبة ، وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا فيه ؛ ليرجح أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور (٢) ،

______________________________________________________

ثبوت شيء من المهجورية وقلة الاستعمال ، وذلك لكثرة الاستعمال في المعنى الحقيقي المانعة عن النقل إلى الندب ، وعن الحمل عليه ؛ من باب ترجيح المجاز المشهور على المعنى الحقيقي.

الوجه الثاني : ما أشار إليه بقوله : «مع إن الاستعمال وإن كثر فيه ...» إلخ. وحاصله : أن كثرة الاستعمال لا توجب النقل إلى معنى ولا الحمل عليه من باب تقديم المجاز المشهور على الحقيقة ؛ إلّا إذا كان الاستعمال فيه بدون القرينة وليس المقام كذلك ؛ لأن الاستعمال في الندب كان مع القرينة ، فليس استعمال اللفظ في الندب من باب النقل ، ولا من المجاز المشهور حتى يرجح على الحقيقة فيقدم عليها ، أو يتوقف على خلاف.

الوجه الثالث : ما أشار إليه بقوله : «كيف؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص ...» إلخ ، وحاصله : هو النقض بصيغ العموم كالجمع المعرف باللام ، ولفظة كل وجميع وغيرها. توضيحه : أن صيغ العموم تخصص كثيرا بالمخصص المنفصل حتى قيل : «ما من عام إلّا وقد خص» ، ومع ذلك لم ينثلم ظهورها في العموم ، ولذا تحمل عليه مع الشك في التخصيص ، إلّا إذا نهضت قرينة على إرادة الخصوص.

وبالجملة : مجرد كثرة الاستعمال في المعنى المجازي لا يمنع عن الحمل على المعنى الحقيقي ، إذ لو كان مانعا عنه لكانت كثرة استعمال صيغة العموم في الخصوص مانعة أيضا عن حملها على العموم عند التجرد عن القرينة ، ومن المسلم : عدم المنع هناك فكذا هنا.

والحاصل : أن وزان صيغة الأمر من ناحية استعمالها في الندب وزان صيغة العموم من جهة استعمالها في الخصوص.

(١) أي : مع إن استعمال الأمر وإن كثر في الندب ؛ إلّا إن ذلك الاستعمال كان مع القرينة لا بدونها ، ومن المعلوم : أن كثرة الاستعمال مع القرينة في المعنى المجازي لا توجب صيرورته مشهورا في المعنى المجازي ؛ ليرجح المعنى المجازي المشهوري على المعنى الحقيقي ، أو يتوقف حتى تقوم القرينة على المراد.

(٢) أي : قيل : بترجيح المعنى المجازي المشهوري على المعنى الحقيقي. وقيل : يتوقف حتى تنهض قرينة على المراد.

٣٣٥

كيف (١)؟ وقد كثر استعمال العام في الخاص حتى قيل : ما من عام إلّا وقد خص ، ولم ينثلم به (٢) ظهوره في العموم ؛ بل يحمل عليه (٣) ما لم تقم قرينة بالخصوص على إرادة الخصوص.

______________________________________________________

(١) أي : هذا هو الوجه الثالث من وجوه الجواب عن كلام المعالم ، وقد سبق توضيحه فلا حاجة إلى تكراره.

(٢) أي : بالاستعمال الكثير. والضمير في قوله : «ظهوره» يرجع إلى العموم.

(٣) أي : بل يحمل العام على العموم ما لم تقم قرينة على أن المراد هو الخصوص.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

أما خلاصة البحث ففي أمور :

١ ـ الفرق بين المبحثين ؛ أن الأول : ناظر إلى ما استعملت فيه صيغة الأمر. والثاني : ناظر إلى ما هو الموضوع له لها. وقد عرفت : أن عمدة الأقوال في المسألة هي الأربعة المذكورة في المتن.

٢ ـ الجواب عن كلام المعالم ؛ أولا : إن كثرة استعمال الأمر في المعنى المجازي ـ وهو الندب ـ لا توجب النقل إلى الندب أو الحمل عليه.

وثانيا : فكما أن استعمال الأمر في الندب كثير ؛ كذلك كثير في الوجوب أيضا.

وثالثا : إن الاستعمال في الندب وإن كان كثيرا ؛ إلّا إن هذا الاستعمال كان مع القرينة ، وكثرة الاستعمال كذلك لا توجب صيرورته مجازا مشهورا ؛ حتى يرجح على المعنى الحقيقي ، أو يتوقف على خلاف.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

أن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب للتبادر ، وعدم صحة الاعتذار عند المخالفة ، فيعاقب العبد عندها ، ولا يصح اعتذاره باحتمال الندب ؛ وذلك كاشف عن وضعها للوجوب.

٣٣٦

المبحث الثالث :

هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث (١) ـ مثل : يغتسل ، ويتوضأ ويعيد ـ ظاهرة في الوجوب أو لا؟ لتعدد المجازات فيها ، وليس الوجوب بأقواها (٢) بعد تعذر حملها على معناها من الإخبار ، بثبوت النسبة والحكاية عن

______________________________________________________

في مدلول الجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب

(١) قبل البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع في هذا المبحث فنقول : إنه لا شك في ورود الجمل الخبرية في مقام الطلب والبعث في النصوص الشرعية ؛ مثل : يغتسل ويتوضأ ويعيد ، إلّا إنه قد وقع الخلاف في مقامين ، قد أخر المصنف أوّلهما عن الثاني على خلاف النظم الطبيعي :

المقام الأول : طبقا للترتيب الطبيعي هو : أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث هل هي مستعملة في معناها الحقيقي أعني : الإخبار بثبوت النسبة ، أو عدم ثبوتها ولكن لا بداعي الإخبار والإعلام ؛ بل بداعي البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي ، أو هي مستعملة في إنشاء الطلب ولو مجازا؟ «فيه وجهان» بل قولان وقد ذهب المصنف إلى الأول حيث قال : «بل تكون مستعملة فيه إلّا إنه ليس بداعي الإعلام ...» إلخ. والمشهور هو الثاني.

المقام الثاني : أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث ، سواء قلنا : باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي ، أم في إنشاء الطلب ولو مجازا ؛ هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا؟ ذهب المصنف إلى الأول. حيث قال : «الظاهر الأول ، بل تكون أظهر من الصيغة». هذا تمام الكلام في تحرير محل النزاع فنقول : إن القائلين في المقام الأول باستعمالها في إنشاء الطلب ولو مجازا اختلفوا على قولين : قول بظهورها في الوجوب لوجوه ؛ أوجهها أن الوجوب أقرب المجازات ؛ بعد كون كل من الوجوب والندب والإباحة معنى مجازيا لها. وقول : بالتوقف نظرا إلى أن الأقربية اعتبارية غير موجبة لظهور اللفظ فيه.

«وأما القائلون» في المقام الأول باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي ، لكن لا بداعي الإخبار والإعلام ، بل بداعي البعث والتحريك فهم أيضا بين من يقول بالتوقف كصاحب البدائع. وبين من يقول : بظهورها في الوجوب كالمصنف ، بل يقول : إنها أظهر في الوجوب من الصيغة ، فإنه أخبر بوقوع المطلوب في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلا بوقوعه ، فيكون ظهوره في البعث آكد من ظهور الصيغة.

(٢) أي : ليس الوجوب بأقوى المجازات. هذا إشارة إلى القول بالتوقف.

٣٣٧

وقوعها. الظاهر : الأول (١) ، بل تكون أظهر من الصيغة ، ولكنه لا يخفى (٢) : إنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ـ أي : الطلب ـ مستعملة في غير معناها ،

بل تكون مستعملة فيه (٣) ، إلّا إنه ليس بداعي الإعلام ، بل بداعي البعث بنحو آكد ؛ حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه ، إظهارا بأنه لا يرضى إلّا بوقوعه ، فيكون آكد في البعث من الصيغة ؛ كما هو الحال في الصيغ الإنشائية (٤) ، على ما عرفت ؛ من : أنها أبدا تستعمل في معانيها الايقاعية لكن بدواعي أخر ، كما مر (٥).

لا يقال (٦) : كيف؟ ويلزم الكذب كثيرا ؛ لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك في الخارج ، تعالى الله وأولياؤه عن ذلك علوا كبيرا.

______________________________________________________

(١) أي : هو ظهور الجملة في الوجوب ؛ وذلك لانسباق الوجوب من الإطلاق عند تعذّر الحقيقة.

(٢) هذا الكلام إشارة إلى المقام الأول ؛ إلّا إنه أخره عن المقام الثاني كما عرفت في بيان محل النزاع.

وكيف كان ؛ فالجمل الخبرية الواردة في مقام الطلب لم تستعمل في غير معناها عند المصنف ؛ بل استعملت في معناها. غاية الأمر : بداعي البعث لا بداعي الإخبار والإعلام.

(٣) أي : في معناها الحقيقي وهو ثبوت النسبة.

(٤) أي : المستعملة لغير داعي معناها الأصلي ؛ كالاستفهام المستعمل لغير داعي الفهم مثلا.

وحاصل الكلام في المقام : أنه كما أن الصيغ الانشائية تستعمل دائما في معانيها الإيقاعية لدواع مختلفة ؛ غير وجودها الواقعي ، كإنشاء الاستفهام لا بداعي طلب العلم ورفع الجهل ؛ بل بداعي التقرير أو غيره ، ولا يكون في البين مجاز ، كذلك الجمل الخبرية فإنها تستعمل في معانيها لا بداعي الإعلام ؛ بل بداعي البعث وتحريك المخاطب إلى المطلوب ، وإعلان عدم الرضا بتركه من دون لزوم مجاز أصلا.

(٥) كما مر تفصيل ذلك في الإيقاظ.

(٦) لا يقال : كيف يجوز الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب؟ ـ كما هو ظاهر قول المصنف «حيث إنه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه» ـ والحال أنه يلزم الكذب كثيرا ؛ وذلك «لكثرة عدم وقوع المطلوب كذلك» أي : بالطلب التشريعي في الخارج.

وخلاصة الكلام : أنه بناء على أن الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب مستعملة في معناها الخبري يلزم الكذب ؛ لعدم وقوع المخبر عنه بتلك الجمل في الخارج غالبا ؛ لعصيان الفساق غير المبالين بالأحكام الشرعية ، فلا بد حينئذ من الالتزام باستعمالها في الإنشاء دون الإخبار لئلا يلزم الكذب.

٣٣٨

فإنه يقال (١) : إنما يلزم الكذب إذا أتى بها (٢) بداعي الإخبار والإعلام ؛ لا لداعي البعث ، كيف (٣)؟ وإلّا يلزم الكذب في غالب الكنايات ؛ فمثل : «زيد كثير الرماد» ، أو «مهزول الفصيل» لا يكون كذبا إذا قيل كناية عن جوده ولو لم يكن له رماد أو فصيل أصلا ، وإنما يكون كذبا إذا لم يكن بجواد ، فيكون (٤) الطلب بالخبر في مقام

______________________________________________________

(١) حاصل الجواب عن إشكال لزوم الكذب في كلامه تعالى هو : أن مطلق الخبر لا يتصف بالصدق والكذب أي : ليس في مطلق الخبر احتمال الصدق والكذب ؛ بل في خصوص الخبر الذي قصد به الإعلام ، فإذا قصد بالجملة الخبرية البعث دون الإعلام كما هو مفروض البحث ؛ لا يتصف الخبر بشيء منهما. وعليه : فلا يلزم من الإخبار بالجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب كذب أصلا.

(٢) أي : بالجمل الخبرية.

(٣) أي : كيف يكون الإخبار بداعي البعث مستلزما للكذب؟ ولو كان كذلك لزم الكذب في غالب الكنايات المستعملة لإفادة الملزوم فقط لا اللازم والملزوم معا ؛ إذ يجوز الجمع بين اللازم والملزوم عند أهل البيان ، وهذا هو الفارق بين الكناية والمجاز ، حيث لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز ، فإن المجاز عندهم ملزوم قرينة معاندة للحقيقة بخلاف الكناية. فمثل : «زيد كثير الرماد» أو «زيد جبان الكلب» ، أو «زيد مهزول الفصيل» ونحوها لا يكون كذبا إذا قيل : بأن كثرة الرماد ، وجبان الكلب ، وهزال الفصيل كناية عن جوده كما هو كذلك.

أما المثال الأول : فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف ؛ المستلزمة لكثرة الطبخ ؛ المستلزمة لكثرة الرماد.

وأما الثاني : فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف ؛ المستلزمة لكثرة زجر الكلب ، المستلزمة لجبنه إذ من لا يمر عليه الضيف كان كلبه جريئا.

وأما الثالث : فلأن الجود مستلزم لكثرة الضيوف ؛ المستلزمة لإعطاء لبن الناقة للضيوف ؛ المستلزم لهزال فصيلها.

والحاصل : أن هذه الجمل صادقة وإن لم يكن لزيد رماد أو كلب أو فصيل أصلا ؛ وإنما يلزم الكذب إذا لم يكن جوادا. ومحل الكلام من هذا القبيل ، فحاصل تنظير الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب بباب الكنايات : إنه كما لا تكون المعاني المكنى بها مثل كثرة الرماد مثلا موردا للصدق والكذب ، مع كون الكلام خبرا في باب الكنايات فكذلك الجمل الخبرية التي قصد بها البعث لا الإعلام لا تتصف بالصدق والكذب.

(٤) الفاء في قوله : «فيكون الطلب ...» إلخ للتفريع والترتيب. أي : فيترتب ويتفرع

٣٣٩

التأكيد أبلغ ، فإنه (١) مقال بمقتضى الحال هذا مع إنه (٢) إذا أتى بها في مقام البيان ، فمقدمات الحكمة مقتضية لحملها على الوجوب ، فإن تلك النكتة (٣) إن تكن موجبة

______________________________________________________

على كون الجمل الخبرية إخبارا بداعي الطلب لا بداعي الإعلام : أن يكون الطلب بالجمل الخبرية أبلغ من الطلب بالصيغ الإنشائية ، إذ كون المتكلم في مقام الإيجاب يقتضي التأكيد ، ثم الجملة الخبرية في مقام الطلب تفيد التأكيد ، فتكون مطابقة لمقتضى الحال فتكون أبلغ.

(١) أي قوله : «فإنه مقال ...» إلخ بيان لوجه الأبلغية ، وملخصه : أنه لمّا كان المتكلم في مقام البعث ، فالمناسب له هو الإتيان بما يؤكده ، وحيث إن الإخبار بوقوع المطلوب من لوازم شدة الطلب ؛ التي لا يزاحمها شيء من موانع التأثير في وجوب المطلوب ؛ لدلالة الإخبار بالوقوع على إرادة إيجاده ؛ بحيث لا يرضى بتركه ، ولذا أخبر بوجوده ، وأتى بالجملة الخبرية.

فدلالتها على الطلب تكون من باب الكناية التي هي استعمال اللفظ في المعنى بداعي إلى لازمه أو ملزومه ؛ حيث ان الاخبار بالوقوع بداعي الطلب من لوازم البعث والإرادة. فمدلول الجملة الخبرية هو : الإخبار بالوقوع الذي هو لازم شدة الطلب ، فيكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم ، وعليه : فلم تستعمل الجملة الخبرية المقصود بها الإنشاء في نفس الإنشاء ؛ حتى يلزم مجاز في الكلمة أو الكلام كما عن بعض ؛ مثل «منتهى الدراية».

(٢) هذا استدلال على دلالة الجملة الخبرية على الوجوب بمقدمات الحكمة ؛ وهي : كون المتكلم الحكيم في مقام بيان تمام المراد ، وعدم نصب قرينة على غير الوجوب ، وعدم كونه متيقن الإرادة ، فهذه المقدمات تقتضي حملها على الوجوب ، إذ المفروض في المقام هو : كون المتكلم في مقام البيان لا في مقام الإجمال أو الإهمال ، ولم ينصب قرينة على الندب ، فلا بد من حملها على الوجوب ؛ لأن إرادة غيره نقض للغرض بخلاف إرادة الوجوب ؛ فإن النكتة المزبورة أعني : شدة مناسبة الإخبار بالوقوع موجبة لظهور الجملة فيه ، أو لتيقنه منها.

فتحصل من جميع ما ذكرناه : الاستدلال على دلالة الجملة على الوجوب بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : الظاهر الأول أي : المتبادر منها هو الوجوب الثاني : ما أشار إليه بقوله : «بل بداعي البعث بنحو آكد». وقوله : «فيكون الطلب بالخبر في مقام التأكيد أبلغ».

الثالث : مقدمات الحكمة.

(٣) أي : الإخبار بالوقوع ، أو صيانة الكلام عن الكذب أولا موجبة لظهور الجملة

٣٤٠