دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

المكشوف ، فإنه (١) لو لا الثبوت في الواقع ، لما كان للإثبات والكشف والدلالة مجال ، ولذا (٢) لا بد من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في إثبات إرادة ما هو ظاهر كلامه ودلالته (٣) على الإرادة ، وإلّا (٤) لما كانت لكلامه هذه الدلالة ، وإن كانت له (٥) الدلالة التصورية أي : كون سماعه موجبا لإخطار معناه الموضوع له ولو كان من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار.

إن قلت : على هذا (٦) يلزم أن لا يكون هناك دلالة عند الخطأ والقطع بما ليس بمراد ، أو الاعتقاد بإرادة شيء ، ولم يكن له من اللفظ مراد.

______________________________________________________

أن مقام الإثبات أي : العلم بثبوت شيء واقعا لا يعقل بدون ثبوت ذلك الشيء واقعا ، وكما أن الكشف عن شيء واقعي لا يعقل بدون وجود المنكشف واقعا ، كذلك الدلالة التصديقية ـ أي : دلالة الكلام على كون المعنى مرادا للمتكلم ـ لا يعقل بدون الإرادة واقعا. فقوله : «وتتفرع» عطف على «تتبع».

(١) هذا تقريب لتبعية مقام الإثبات للثبوت ، وقد عرفت توضيح ذلك.

(٢) أي : لأجل تبعية الدلالة التصديقية للإرادة لا بد ـ في إثبات الدلالة التصديقية ، وكون مدلول الكلام مرادا للمتكلم ـ من إحراز كونه بصدد البيان ولو بالأصل العقلائي ، لأنّه إذا أحرز من حال المتكلم أو من الخارج كونه في مقام البيان حصل لكلامه الدلالة التصديقية أي : يدل على كون معناه مرادا فيكون ظاهره حجة.

(٣) أي : لا بدّ من إحراز كون المتكلم بصدد الإفادة في دلالة كلامه على الإرادة. فيكون قوله : «ودلالته» عطفا على قوله : «إثبات».

(٤) وإن لم يحرز كون المتكلم في مقام البيان والإفادة «لما كانت لكلامه هذه الدلالة» ، أي : الدلالة التصديقية لكونها متوقفة على إحراز كون المتكلم في مقام البيان.

(٥) أي : لكلامه الدلالة التصورية مع العلم بالوضع ، فإن الدلالة التصورية بمعنى : خطور المعنى عند سماع اللفظ لا تتوقف على أزيد من العلم بالوضع ، ومعه تتحقق هذه الدلالة عند سماع اللفظ «ولو من وراء الجدار أو من لافظ بلا شعور ولا اختيار» كالنائم والساهي والمجنون.

(٦) أي : على هذا الذي ذكرت من أن الدلالة التصديقية كاشفة عن الإرادة «يلزم أن لا يكون هناك دلالة» عند فقدان الإرادة عند خطأ المتكلم بأن قال : «زيد قائم» ، بدل أن يقول : «زيد نائم» ، أو قال : رأيت أسدا وعلمنا بأنّه لم يرد رؤية الأسد أعني : الحيوان

٦١

قلت : نعم ؛ لا يكون حينئذ (٢) دلالة ، بل يكون هناك جهالة وضلالة يحسبها الجاهل دلالة ، ولعمري ما أفاده العلمان من التبعية ـ على ما بيناه ـ واضح لا محيص عنه ، ولا يكاد ينقضي تعجبي كيف رضي المتوهم أن يجعل كلامهما ناظرا إلى ما لا ينبغي (٣) صدوره عن فاضل فضلا عمن هو علم في التحقيق والتدقيق.

______________________________________________________

المفترس ، بل أراد رؤية الرجل الشجاع ، أو اعتقد السامع بإرادة شيء ولم يكن ذلك الشيء مرادا ؛ فيلزم في هذه الموارد أن لا يكون هناك دلالة بل هناك إمّا جهالة من السامع ، أو ضلالة يحسبها السامع الجاهل دلالة.

(٢) أي : نعم ؛ نلتزم بأن لا يكون ـ حين الخطأ أو القطع بما ليس مرادا للمتكلم ـ دلالة ، بل التخيل والجهالة ولا محذور في الالتزام بعدم الدلالة التصديقية في الفرضين ، وليس ما ظنّه الجاهل من الدلالة إلّا ضلالة وجهالة.

فالمتحصل من جميع ما ذكره المصنف «قدس‌سره» : أن الإرادة ليست جزءا ولا قيدا للموضوع له ، كي تكون الدلالة الوضعية تابعة لها.

(٣) أي : وهو كون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيدة بالإرادة ، ولازم ذلك : كون الدلالة التصورية تابعة للإرادة مع إن الدلالة التصورية غير تابعة للإرادة قطعا كما عرفت.

خلاصة البحث في تبعية الدلالة للإرادة طبقا لنظرية المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أن الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي ؛ لا من حيث كونها مرادة للافظها ، والدليل عليه : أن كون المعنى مرادا ككونه آليا أو استقلاليا من شئون الاستعمال المتأخر عن المستعمل فيه ، فلا يكاد أن يكون من قيوده.

٢ ـ إن محل الكلام من الدلالة التي يقال إنها تابعة للإرادة هي الدلالة التصورية ، وأمّا الدلالة التصديقية : فلا شبهة في كونها تابعة للإرادة. ثم المراد من الإرادة التي يتوهم كونها مأخوذة قيدا أو جزءا للمعنى هي : الإرادة الحقيقية لا مفهوم الإرادة.

٣ ـ إن ما حكي عن العلمين من مصيرهما إلى أن الدلالة تتبع الإرادة ؛ ليس ناظرا إلى كون الألفاظ موضوعة للمعاني المقيدة بالإرادة ، كما توهمه صاحب الفصول ، بل مرادهما أن الدلالة التصديقية تتبع الإرادة وهي خارجة عن محل الكلام ، فإن محل الكلام هي الدلالة التصورية ، وهي لا تتوقف على الإرادة ، بل يكفي فيها مجرد العلم بالوضع كما عرفت.

٦٢

السادس

لا وجه لتوهم وضع للمركبات (١) ، غير وضع المفردات ؛ ضرورة : عدم الحاجة إليه ، بعد وضعها بموادها ، في مثل : «زيد قائم» ، و «ضرب عمرو بكرا» شخصيا ، وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا.

______________________________________________________

وضع المركّبات

(١) أي : أن الكلام في أنه هل يحتاج المركب إلى وضعه ثانيا بعد وضع مفرداته ومنها الهيئة التركبية أم لا؟ فيه قولان الحق عند المصنف هو : عدم الوضع ، ولذا يردّ من يقول بوضع للمركبات بقوله : «لا وجه لتوهم وضع للمركبات ...» إلخ.

وكيف كان ؛ فقبل الشروع في البحث لا بدّ من بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول : إن محل الكلام هنا إنّما هو في وضع المركب بما هو مركب أي : وضعه بمجموع أجزائه من الهيئة والمادة مثلا في قولنا : «زيد قائم» قد وضعت كلمة زيد لمعنى خاص ، وكلمة قائم لمعنى آخر ، والهيئة القائمة بهما بمعنى ثالث ، هذا كله لا إشكال فيه ولا كلام ، وإنّما الكلام والإشكال في وضع رابع بمعنى : أنه هل لمجموع المركب من هذه المواد وضع على حدة أم لا؟ أمّا وضع هيئة الجملة فلا كلام في وضعها لقصد الحكاية والإخبار عن الواقع.

إذا عرفت محل الكلام فاعلم : أن الصحيح هو : أنه لا وضع للمركب بما هو مركب. وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «لا وجه لتوهم وضع للمركبات» بيان ذلك ـ على ما في تقرير أستاذنا الإمام الخوئي «قدس‌سره» ـ : أن كل جملة ناقصة كانت أو تامة لها أوضاع متعددة باعتبار وضع كل جزء جزء منه ، أقلها ثلاثة حسب ما يدعو إليه الحاجة مثلا : جملة «زيد إنسان» لها أوضاع ثلاثة : ١ ـ وضع «زيد». ٢ ـ وضع «إنسان». ٣ ـ وضع «الهيئة القائمة بهما».

ولجملة «الإنسان متعجب» أوضاع أربعة : ١ ـ وضع «الإنسان». ٢ ـ وضع متعجب «مادة». ٣ ـ وضعه «هيئة». ٤ ـ وضع «الهيئة القائمة بالجملة».

ولجملة «زيد ضارب عمرو» أوضاع ستة : ١ ـ وضع «زيد». ٢ ـ وضع ضارب «مادة». ٣ ـ وضعه «هيئة». ٤ ـ وضع «الهيئة القائمة بجملة زيد ضارب». ٥ ـ وضع «عمرو». ٦ ـ وضع «الهيئة القائمة بالمجموع» وهكذا.

إلى أن قال : ربما يبلغ الوضع إلى عشرة أو أزيد على اختلاف الأغراض الموجبة

٦٣

ومنها (١) : خصوص هيئات المركبات الموضوعة لخصوصيات النسب والإضافات

______________________________________________________

لاختلاف المركبات زيادة ونقيصة ؛ فإن الغرض قد يتعلق بالمركب من شيئين ، وقد يتعلق بالمركب من أشياء ثلاثة وهكذا.

ومن الواضح : أن هذه الأوضاع وافية لإفادة الأغراض والمقاصد المتعلقة بالمركبات ، فلا حاجة إلى وضع لها غير وضع المفردات كما عرفت. ومما يدلنا على عدم وضع مستقل للمركبات مضافا إلى ما ذكرناه من لغويته : أنه يستلزم إفادة المعنى الواحد مرتين ، والانتقال إليه بانتقالين وذلك لفرض تعدد الوضع الذي يقتضي تعدد الإفادة والانتقال ، وهذا مخالف للوجدان ، كما هو واضح.

نعم ؛ قال المصنف : إن وضع المركبات بموادها في مثل : «زيد قائم» ، و «ضرب عمرو بكرا» شخصي ، «وبهيئاتها المخصوصة من خصوص إعرابها نوعيا» مثل : «زيد فاعل» في ضرب زبد و «بكرا» ؛ مفعول في ضرب عمرو بكرا. و «زيد» مبتدأ في زيد قائم وهكذا.

وملخص الكلام : أن الوضع في الهيئات المخصوصة الناشئ اختصاصها من خصوص حركات إعرابها نوعي ، لأنّ الهيئة في مثل هيئات الأفعال ماضيا أو مضارعا ، وكذا الأسماء مبتدأ أو خبرا ، وفاعلا أو مفعولا ؛ موضوعة وضعا نوعيا.

ففي «زيد قائم» ستة أوضاع على قول المصنف ، وسبعة أوضاع على ما يتوهم من وضع مجموعي ، وذلك حسب ما يلي :

١ ـ وضع مادة زيد شخصيا.

٢ ـ وضع إعرابه نوعيا فإن رفعه علامة الابتداء.

٣ ـ وضع مادة قائم شخصيا.

٤ ـ وضع هيئته نوعيا لمن صدر منه المبدأ.

٥ ـ وضع رفعه نوعيا للخبرية.

٦ ـ وضع هيئة الابتداء والخبر نوعيا للنسبة بينهما.

هذا على قول المصنف «قدس‌سره». وأمّا على ما يتوهم فهناك وضع سابع وهو : وضع مجموع الأمور الستة نوعيا للمعنى المراد من الجملة الخبرية ، وردّه المصنف ، بأنه لغو لحصول المقصود بالأوضاع الستة.

(١) أي : ومن الهيئات العارضة للمواد خصوص هيئات المركبات ، كهيئة الجمل الاسمية والفعلية ، فللمواد وضع شخصي كما عرفت ، ووضع نوعي باعتبار الإعراب ، وهناك نوعي آخر باعتبار هيئة المركب كما عرفت.

٦٤

بمزاياها (١) الخاصة من تأكيد وحصر وغيرهما نوعيا بداهة (٢) : أن وضعها (٣) كذلك واف بتمام المقصود منها كما لا يخفى ؛ من غير حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها ، مع استلزامه (٤) الدلالة على المعنى تارة : بملاحظة وضع نفسها (٥) ، وأخرى : بملاحظة وضع مفرداتها ، ولعل المراد من العبارات الموهمة لذلك (٦) هو : وضع الهيئات على حدة غير وضع المواد لا وضعها بجملتها ، علاوة على وضع كل واحد منهما.

______________________________________________________

(١) أي : بمزايا النسب والإضافات الخاصة ـ ومزاياها هي التأكيد والحصر وغيرهما ، كما في علم البلاغة ـ مثل قولهم : إن زيدا القائم يفيد التأكيد ، وليس زيد إلّا شاعرا يفيد الحصر ، و (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) النساء : ٣٤ ؛ يفيد العموم ، وكذا جاءني رجال القوم .. الأوّل : لأجل كون الجمع محلى بالألف واللام ، والثاني : لأجل إضافة الجمع إلى المحلى بالألف واللام. فوضع الهيئات في الأمثلة المذكورة نوعي.

(٢) هذا بيان وتوضيح لقوله : «ضرورة عدم الحاجة ...» إلخ.

(٣) أي : وضع المركبات «كذلك» أي : بموادها شخصيا وبهيئاتها نوعيا «واف بتمام المقصود» من المركبات ، فلا حاجة إلى وضع آخر لها «بجملتها» أي : بمجموعها.

(٤) أي : مع استلزام وضع آخر ـ وهذا هو المحذور الثاني الذي تقدم ذكره ـ وملخصه : أنه يلزم من وضع آخر دلالة اللفظ على معناه مرتين وهو خلاف الوجدان.

(٥) أي : نفس المركبات باعتبار مجموعها ، وأخرى : بملاحظة وضع مفردات المركبات.

فيلزم أن يكون هناك وضع ثالث :

١ ـ وضع المركبات بملاحظة مفرداتها مادة. ٢ ـ وضعها بملاحظة مفرداتها هيئة.

٣ ـ وضعها بملاحظة نفسها أي : المجموع من حيث المجموع ، فيلزم ما ذكرناه من عدم الحاجة واللغوية ، ومن دلالة اللفظ على معناه مرتين.

فالوضع الثالث يكون عبثا ، مضافا إلى كونه مخالفا للوجدان.

(٦) أي : لوضع المركب بجملته ، غرضه هو : توجيه العبارات الموهمة لوضع آخر للمركب من حيث المجموع ، وحاصل التوجيه : أن يكون النزاع لفظيا بمعنى : أن القائل بوضع مجموع المادة والهيئة يقول بوضع الهيئة القائمة بالمسند والمسند إليه وضعا على حدة ، وهو الوضع الثاني عند القائل بعدم وضع للمجموع من حيث المجموع ، ففي الحقيقة لا نزاع في البين حيث إن المنكر أنكر الوضع الثالث ، واعترف بالوضع الثاني. ومراد المثبت لوضع المجموع بوضع على حدة هو : الوضع الثاني لا الوضع الثالث ، فيكون النزاع في الحقيقة لفظيا.

٦٥

السابع

لا يخفى : أن تبادر (١) المعنى من اللفظ وانسباقه إلى الذهن من نفسه ـ وبلا قرينة ـ علامة كونه حقيقة فيه ؛ بداهة (٢) : أنّه لو لا وضعه له ، لما تبادر ولا يقال :

______________________________________________________

خلاصة البحث في وضع المركبات :

إنه لا مجال لتوهم الوضع في المركبات غير وضع مفرداتها مادة وهيئة ، ويكون الغرض من عقد هذا الأمر السادس دفع توهم وضع آخر للمركبات ، والدليل على ذلك : أنه لا فائدة لوضع المركبات غير وضع مفرداتها مادة وهيئة ، لأن وضع مفرداتها كذلك واف بتمام المقصود منها. هذا مضافا إلى أنه مستلزم لدلالة الكلام على المقصود مرتين وهو مخالف للوجدان.

هذا ويمكن أن يكون مراد القائل بوضع آخر للمركبات : وضع هيئاتها بوضع على حدة ، فيرجع النزاع حينئذ إلى كونه لفظيا.

علامات الحقيقة والمجاز

(١) قبل الشروع في البحث لا بد من بيان ما هو المراد من التبادر الذي هو من علامات الحقيقة فنقول : إنّ التبادر بمعنى : سبق المعنى من اللفظ إلى الذهن وإن كان على أقسام ، إلّا إن جميع هذه الأقسام ليس من علامات الحقيقة. وذلك أن منها : ما يكون ناشئا عن الإطلاق بعد تمامية مقدمات الحكمة ، كما يتبادر الوجوب النفسي العيني التعييني من إطلاق صيغة الأمر المعبّر عنه بالتبادر الإطلاقي. ولكن هذا القسم من التبادر ليس علامة للحقيقة.

ومنها : ما يكون ناشئا عن القرينة كتبادر الرجل الشجاع من لفظ الأسد في قولك : رأيت أسدا في الحمام ، وهذا أيضا ليس من علامات الحقيقة.

ومنها : ما يكون من حاق اللفظ ، فهذا القسم الأخير من علامات الحقيقة ؛ فعلامة الحقيقة هو التبادر من حاق اللفظ.

وبعبارة أخرى : هو التبادر بمعنى : خطور المعنى في الذهن بمجرد سماع اللفظ من دون لحاظ أيّة قرينة وعناية في البين من حالية أو مقالية ، والوجه في ذلك : أن مثل هذا التبادر معلول للوضع لا محالة وكاشف عنه كشفا إنيّا ، ويدل على وجود علاقة وارتباط بين ذات اللفظ وبين المعنى المتبادر.

(٢) تعليل لكون التبادر علامة للحقيقة ؛ إذ لو لا وضع اللفظ للمعنى المتبادر منه لما تبادر ذلك المعنى منه ، فالتبادر حينئذ يكشف ـ إنّا ـ عن كون اللفظ موضوعا للمعنى

٦٦

كيف (١) يكون علامة؟ مع توقفه على العلم بأنّه موضوع له كما هو واضح ، فلو كان العلم به موقوفا عليه لدار.

فإنّه (٢) يقال : الموقوف عليه غير الموقوف عليه ، فإنّ العلم التفصيلي ـ بكونه موضوعا له ـ موقوف على التبادر ، وهو موقوف على العلم الإجمالي الارتكازي به ، لا التفصيلي ، فلا دور.

هذا (٣) إذا كان المراد به التبادر عند المستعلم ، وأمّا إذا كان المراد به التبادر عند

______________________________________________________

المتبادر ، فيخرج بالتبادر المستند إلى حاق اللفظ : التبادر الناشئ عن القرينة الحالية أو المقالية.

(١) أي : كيف يكون التبادر علامة الحقيقة مع توقفه على العلم بالوضع؟ فإذا توقف العلم بالوضع على التبادر لزم الدور ، فالاستفهام إنكاري أي : لا يكون التبادر علامة للزوم الدور ، لأنّ التبادر لا يحصل بدون العلم بالوضع كما هو ظاهر ، فإذا كان العلم بالوضع موقوفا على التبادر ـ كما هو مقتضى علاميّة التبادر ـ لزم الدور.

(٢) قوله : «فإنه يقال» دفع لإشكال الدور ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الملاك في استحالة الدور وبطلانه هو : لزوم توقف الشيء على نفسه ؛ المستلزم لتقدم الشيء على نفسه ، وهو باطل ومستحيل ، وهذا إنّما يتمّ فيما إذا كان كل من الموقوف والموقوف عليه أمرا واحدا ، ولم يكن بينهما تغاير أصلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن كون التبادر علامة للحقيقة والوضع وإن كان مستلزما للدور إلّا إنّه ليس باطلا ومحالا ، وذلك لأنّ «الموقوف عليه غير الموقوف عليه» بمعنى : أن العلم بالوضع الموقوف على التبادر غير العلم بالوضع الموقوف عليه التبادر فإن الأول : هو العلم التفصيلي ، والثاني : هو العلم الإجمالي الارتكازي ، مثلا : إذا علمنا إجمالا أن معنى الأمر هو الطلب ولم نعلم أنّه الطلب الإلزامي أو مطلق الطلب ، فإذا وجدنا في أنفسنا تبادر الوجوب بسماعه نعلم تفصيلا وضعه له. وهذا المقدار من التغاير بين العلمين يرفع غائلة الدور كما عرفت. ثم المراد بالعلم الإجمالي الارتكازي هو : العلم الذي لا يلتفت إليه الإنسان وقد يسمى بالبسيط كالجهل البسيط ، وفي المقابل أن المراد بالعلم التفصيلي : ما يكون مورد الالتفات ، وقد يسمى بالعلم المركب كالجهل المركب.

(٣) هذا الجواب الذي دفعنا به غائلة الدور عن التبادر إنّما يصح إذا كان المراد بالتبادر هو التبادر عند المستعلم ، وهو من يأخذ العلم من غيره ، وأما إذا كان المراد بالتبادر هو التبادر عند أهل المحاورة العالمين بالأوضاع ، بمعنى : أن التبادر لدى العالم وأهل اللغة يكون

٦٧

أهل المحاورة ، فالتغاير أوضح من أن يخفى.

ثم إنّ هذا (١) فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ ، وأمّا فيما احتمل استناده إلى قرينة ، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون الاستناد إليه ، لا إليها ـ كما قيل ـ لعدم الدليل على اعتبارها إلّا (٢) في إحراز المراد ، لا الاستناد.

______________________________________________________

علامة للحقيقة ، والوضع للجاهل باللغة ، فالتغاير بين العلمين أوضح. إذا الموقوف على التبادر علم الجاهل باللغة والموقوف عليه التبادر علم أهل اللسان ، فإن الجاهل بمعنى لفظ الأسد إذا رأى أن المتبادر منه عند أهل اللسان هو الحيوان المفترس لعلم وضعه له.

(١) أي : كون التبادر علامة للحقيقة والوضع «فيما لو علم استناد الانسباق إلى نفس اللفظ». هذا إشارة إلى ما هو شرط لكون التبادر من علامات الحقيقة. وهو كونه مستندا إلى حاق اللفظ كما عرفت :

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنّ التبادر تارة : يكون مستندا إلى حاق اللفظ ، وأخرى : إلى القرينة ، وثالثة : لا يعلم أنّه من حاق اللفظ أو من القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأول : من علامات الحقيقة بلا كلام وإشكال. والثاني : من علامات المجاز كذلك ، وأمّا الثالث : وهو ما إذا شك في أن التبادر من حاق اللفظ أو من القرينة ففيه قولان : قول : بأنه تجري أصالة عدم القرينة ويحرز بها كون التبادر من حاق اللفظ والقائل هو المحقق القمّي. وأشار إليه بقوله : «كما قيل».

ويقول المصنف : بأنه لا تجدي أصالة عدم القرينة في إحراز كون التبادر من حاق اللفظ لا من القرينة ، وذلك لعدم الدليل على اعتبار أصالة عدم القرينة كما أشار إليه بقوله : «لعدم الدليل ...» إلخ. وقوله «لعدم الدليل ...» إلخ تعليل لقوله : «فلا تجدي أصالة عدم القرينة».

(٢) أي : لا دليل على اعتبار أصالة عدم القرينة إلّا في إحراز المراد.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للشك في نصب قرينة موردين :

أحدهما : ما يشك فيه في أصل المراد كما إذا علم وضع لفظ الأسد في الحيوان المفترس ، وكونه مجازا في الرجل الشجاع لكنه لا يعلم مراد المتكلم ، لاحتمال إرادته غير معناه الحقيقي واختفاء القرينة ، فالشك حينئذ ناش من الشك في القرينة.

وثانيهما : ما يشك في نحو المراد وإنه حقيقة أو مجاز للشك في نصب قرينة ؛ كما إذا علم إرادة المفترس من الأسد ، وشك في أنه وضع له أو استعمل مجازا واختفت القرينة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن أصالة الحقيقة وعدم القرينة تجري في الأول دون

٦٨

ثم إنّ عدم صحة سلب اللفظ (١) ـ بمعناه المعلوم المرتكز في الذهن إجمالا كذلك عن معنى تكون علامة كونه حقيقة فيه ، كما أنّ صحة سلبه عنه علامة كونه مجازا في الجملة (٢).

والتفصيل : أن عدم صحة السلب عنه ، وصحة (٣) الحمل عليه بالحمل الأولي ، الذاتي الذاتي الذي كان ملاكه الاتحاد مفهوما علامة كونه نفس المعنى.

وبالحمل (٤) الشائع الصناعي الذي ملاكه الاتحاد وجودا ، بنحو من أنحاء الاتحاد ، علامة كونه من مصاديقه وأفراده الحقيقية.

______________________________________________________

الثاني الذي هو موضوع الكلام فيما نحن فيه ، فأصالة الحقيقة إنما تجري لإثبات إرادة المعنى الحقيقي ، ولا تجري لإثبات حقيقية المعنى المراد ، لأنّ بناء العقلاء ، إنّما هو على التمسك بأصالة الحقيقة في الشك في أصل المراد ، فلا يتمسكون بأصالة الحقيقة فيما إذا شك في كون المعنى حقيقيا أو مجازيا.

(١) أي : من علامات الحقيقة عدم صحة السلب أو صحة الحمل ، ومن علامات المجاز صحة السلب أو عدم صحة الحمل.

بمعنى : أنّنا نفرض معنى خاصا ، كالحيوان المفترس أو الرجل الشجاع مثلا ، ثم نفرض لفظا خاصا مع معناه المرتكز في الذهن الذي وضع هذا اللفظ له مثل لفظ الأسد بما له من المعنى المعلوم بالعلم الإجمالي ، ثم نسلب هذا اللفظ عن ذلك المعنى ونقول : المفترس ليس بأسد أو الرجل الشجاع ليس بأسد ، فإن صح السلب ـ كما في المثال الثاني ـ فإنّه علامة كونه مجازا ، وإن لم يصح ـ كما هو في المثال الأول ـ فإنه حقيقة.

(٢) أي : على نحو الإجمال سواء كان مجازا في الجملة وهو المسمّى بالمجاز اللغوي ، أو مجازا في غيرها كما هو مذهب السكاكي على ما هو في علم البلاغة.

(٣) أي : المراد من الحمل هو حمل اللفظ بما له من المعنى على المعنى المشكوك وضعه له فإن صح الحمل كان دليلا على الحقيقة ؛ وإلّا كان قرينة على عدم وضع اللفظ له.

(٤) توضيح كون صحة الحمل من علامات الحقيقة يتوقف على مقدمة وهي : أن الحمل على قسمين : ١ ـ الحمل الأولي الذاتي. ٢ ـ الحمل الشائع الصناعي.

والفرق بينهما : أن ملاك الحمل في الأوّل هو الاتحاد بين الموضوع والمحمول مفهوما ، والتغاير بينهما إنّما هو بالإجمال والتفصيل كقولنا : «الإنسان حيوان ناطق» ؛ فإن مفهوم الإنسان هو الحيوان الناطق بعينه ، والفرق بينهما بالإجمال والتفصيل ، حيث يكون الحيوان الناطق تفصيلا للإنسان.

٦٩

كما أن صحة سلبه (١) كذلك علامة إنه ليس منها (٢) ، وإن لم نقل بأن إطلاقه

______________________________________________________

وملاكه في الثاني : هو الاتحاد بينهما وجودا ، والتغاير بينهما إنّما هو بالمفهوم كقولنا : «زيد إنسان» ، فإن زيدا باعتبار كونه من أفراد الإنسان ومصاديقه يكون متحدا معه وجودا ومغايرا له مفهوما ، لأنّ مفهوم الفرد مغاير لمفهوم الكلي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إذا شككنا في وضع لفظ لمعنى كلفظ إنسان مثلا نجعل المعنى موضوعا ، واللفظ بمعناه الحقيقي محمولا فنقول : «الإنسان حيوان ناطق» ، فإن صح الحمل كان مقتضاه اتحاد معنى الإنسان الارتكازي مع الحيوان الناطق ، وأنه عينه كما هو مقتضى الحمل الأولي الذاتي ، فنستكشف بذلك : وضع الإنسان للحيوان الناطق ، فدلالة الحمل الأولي الذاتي على الوضع إنّما هو بملاك الاتحاد المفهومي ، فصحته تعني اتحاد معنى اللفظ الارتكازي مع نفس المعنى الذي شككنا في وضع اللفظ له ، وذلك دليل الوضع كما لا يخفى. هذا في الحمل الأولي الذاتي.

وأمّا الحمل الشائع الصناعي ، فدلالته على الوضع من جهة أن ملاكه الاتحاد في الوجود كما عرفت ، فإذا علم أن لهذا الفرد وجود لمعنى معين فإذا حمل عليه اللفظ بما له من المعنى على الفرد بما أنه وجود لذلك المعنى المعين فصحته تعني أن الفرد بما أنه وجود للمعنى المعين وجود للمعنى المرتكز للفظ ، وذلك معناه اتحاد المعنيين الكاشف عن وضع اللفظ للمعنى المعين ، وإلّا لما كان الفرد بما أنه وجود لأحدهما وجودا للآخر ، وذلك نظير حمل الإنسان بما له من المعنى على زيد بما أنه وجود للحيوان الناطق ، فإن صحته كاشفة عن وضع لفظ الإنسان للحيوان الناطق بالتقريب الذي ذكرناه.

وبذلك يظهر : اختصاص دلالة الحمل الشائع على الوضع بما إذا كان الحمل بين الكلي وفرده ، وأمّا إذا كان بين كليين متساويين كقولنا : «الإنسان ضاحك» أو بينهما عموم من وجه كقولنا : «الحيوان أبيض» فصحة حمل أحدهما على الآخر لا تكشف عن الوضع ، لأنّ الحمل حينئذ لا يكشف عن كون وجود المحمول بما له من المعنى وجودا للمعنى الموضوع. فتأمل فإنه يحتاج إلى التأمل ، وقد تركنا ما في المقام من النقض والإبرام خوفا من التطويل.

(١) أي : كما أن صحة سلب اللفظ بما له من المعنى المرتكز في الذهن إجمالا عن المعنى المشكوك فيه الذي استعمل فيه اللفظ ـ كصحة لفظ الأسد ـ بما له من المعنى عن الرجل الشجاع ، بأن يقال : الرجل الشجاع ليس بأسد ، فصحة السلب علامة المجاز ، كما أن صحة الحمل علامة الحقيقة. كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(٢) أي : من الأفراد الحقيقية أي : صحة سلب اللفظ عن المعنى علامة إن ذلك المعنى

٧٠

عليه من باب المجاز في الكلمة.

بل من باب الحقيقة (١) ، وأن التصرف فيه في أمر عقلي ، كما صار إليه السكاكي واستعلام حال اللفظ وأنه حقيقة أو مجاز في هذا المعنى بهما (٢) ليس على وجه دائر ؛

______________________________________________________

ليس من أفراده ومصاديقه لا بالحمل الأولي الذاتي ، ولا بالحمل الشائع الصناعي ، وعليه : فيكون إطلاق لفظ «الأسد» على الرجل الشجاع من باب المجاز وإن لم نقل بأن إطلاق لفظ الأسد على الرجل الشجاع من باب المجاز في الكلمة ، كما هو مذهب المشهور ، ولكنه ليس مجازا في الكلمة عند السكاكي بل إنه حقيقة لغوية وإن كان مجازا عقليا ، لأنّ التصرف إنّما هو في أمر عقلي.

وبعبارة واضحة : إذا استعمل لفظ «أسد» في الرجل الشجاع ، وعلمنا بصحة السلب إنّه ليس من أفراده كان استعماله فيه مجازيا إمّا بالتصرف في الكلمة كما هو المشهور بأن يقال : استعمل المشبه به في المشبه ، وإمّا بالتصرف في المعنى بأن يجعل الرجل الشجاع من مصاديق معنى لفظ الأسد ادعاء توسعا كما هو مذهب السكاكي. فقول السكاكي لا ينافي ما ذكرناه من نفي الحقيقة ، لأن نفي الحقيقة الواقعية لا ينافي إثبات الحقيقة الادعائية.

(١) أي : على مذهب السكاكي حيث أنكر المجاز في الكلمة ، وادعى : أن إطلاق اللفظ على المعنى في جميع الموارد إنما هو على نحو الحقيقة ، وأن المجاز إنّما هو في الإسناد والأمر العقلي ، وغرض المصنف من هذه العبارة : دفع ما يتوهم من أن صحة السلب إنّما تكون من علامات المجاز على مسلك المشهور من تسليم المجاز في الكلمة دون مذهب السكاكي ، حيث أنكر المجاز في الكلمة. وحاصل الدفع : إنه لا فرق في كون صحة السلب من علامات المجاز بين مسلكي المشهور والسكاكي ؛ لما ذكرناه : من أن صحة السلب علامة للمجاز ، وعدم كون المعنى المسلوب عنه معنى حقيقيا ، وهذا لا ينافي أن يكون الاستعمال على نحو الحقيقة ادّعاء.

(٢) أي : بعدم صحة السلب وصحته كما في المنتهى.

وحاصل الكلام في المقام : أن قوله : «واستعلام حال اللفظ ...» إلخ دفع لتوهم الدور بتقريب : أن العلم بالوضع يتوقف على عدم صحة السلب نظرا إلى جعله علامة للوضع ، وعدم صحة السلب يتوقف على العلم بالوضع ؛ إذ لا يصح الحكم بعدم صحة السلب إلّا بعد العلم بالوضع فيلزم الدور.

وحاصل الدفع : أن الموقوف عليه غير الموقوف عليه أي : الموقوف عليه عدم صحة السلب هو العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع والموقوف على عدم صحة السلب هو

٧١

لما عرفت في التبادر : من التغاير بين الموقوف والموقوف عليه ، بالإجمال والتفصيل أو الإضافة إلى المستعلم والعالم ، فتأمل جيدا (١).

ثم إنّه قد ذكر الاطراد (٢) وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا.

______________________________________________________

العلم التفصيلي بالوضع ، وهذا المقدار من التغاير بين العلمين يكفي في رفع غائلة الدور ، أو يقال : إن عدم صحة السلب عند أهل المحاورة علامة للوضع والحقيقة عند المستعلم الجاهل بالوضع فلا دور في البين.

(١) لعله تدقيقي فقط لا غير ، ويمكن أن يكون إشارة إلى عدم تمامية الاستدلال بعدم صحة السلب وصحة الحمل على ثبوت الوضع وذلك لأن الحمل الذاتي لا يكشف إلّا عن اتحاد الموضوع والمحمول ذاتا ، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وأنه حقيقي أو مجازي وكذلك الأمر في الحمل الشائع الصناعي ، فإن ملاك صحته اتحاد الموضوع والمحمول وجودا ومغايرتهما مفهوما ، وهذا لا يكشف عن الحقيقة ، لأنّ صحة الحمل في الحمل الشائع لا تكون أمارة إلّا على اتحاد المحمول والموضوع خارجا ، وأمّا إن استعمال اللفظ في المحمول على نحو الحقيقة فهي لا تدل عليه. مع إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

(٢) أي : قيل : إن الاطراد علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز «أيضا» أي : كما أن التبادر وعدم صحة السلب من علامات الحقيقة ، وعدمهما من علامات المجاز.

وقبل البحث لا بد من بيان ما هو المراد من الاطراد ، وذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للاطراد إطلاقات :

الأول : بمعنى : كثرة استعمال لفظ في معنى من المعاني ، فعدم الاطراد هو عدم كثرة الاستعمال.

الثاني : الاطراد ، بمعنى : عدم تغيّر المعنى باختلاف المقام والأحكام مثل : معنى لفظ الخبز مثلا ، فيصح أن يقال : اشتريت خبزا ، أو بعت خبزا أو رأيت خبزا ، أو أكلت خبزا من دون تغير معناه ، فعدم الاطراد مقابله أي : يتغير المعنى مثل «رقبة» فيصح أن يقال : أعتق رقبة ، ولا يصح أن يقال قالت : رقبة ، أو نامت أو أكلت مع إن المراد منها صنف الإنسان وهو العبد.

الثالث : الاطراد بمعنى : شيوع استعمال اللفظ في المعنى من دون اختصاص بمقام. وبعبارة أخرى : شيوع إطلاق لفظ في معنى بلحاظ خصوصية فيه. كاستعمال لفظ إنسان في أفراده بلحاظ كون كل فرد منه حيوانا ناطقا ، واستعمال هيئة الفاعل في ذات قام به المبدأ ، فالعالم من قام به العلم ، والضارب من قام به الضرب وهكذا ، فيعلم من

٧٢

ولعله (١) بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات. حيث لا يطرد صحة

______________________________________________________

الاطراد وضع هذه الهيئة لهذا المعنى ووضع لفظ إنسان للحيوان الناطق.

فعدم الاطراد هو عدم الشيوع المذكور ، كاستعمال اسم المشبه به في المشبه ، فإن لفظ أسد مثلا يستعمل في الرجل الشجاع للمشابهة في الشجاعة ؛ لا في الرجل الأبخر مع مشابهته له في كراهة رائحة الفم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو الاطراد بالمعنى الثالث ؛ لأنّه بمعنى : كثرة الاستعمال ليس علامة للحقيقة ، إذ كثرة الاستعمال ربما تكون لكثرة الحاجة ، وحينئذ قد يكون الاحتياج إلى تفهيم المعنى المجازي أكثر من المعنى الحقيقي ، فلا يكون الاطراد بهذا المعنى علامة للحقيقة وكذلك الاطراد بالمعنى الثاني ؛ إذ عدم تغير المعنى باختلاف المقام والأحكام لا يلازم الوضع والحقيقة فلا يكون من علامات الوضع ، وإنّما الكلام في الاطراد بالمعنى الثالث ؛ والمشهور : أنه علامة الحقيقة وعدمه علامة للمجاز ، ولكن مختار المصنف أن الاطراد ليس علامة للحقيقة وعدمه ليس علامة المجاز ، ولهذا قال : «ثم إنه قد ذكر الاطراد وعدمه علامة للحقيقة والمجاز أيضا».

(١) أي : لعل عدم الاطراد في المجازات بملاحظة نوع العلائق ، وأمّا بملاحظة صنفها فيطرد استعمال اللفظ في المجاز فلا يكون علامة للوضع.

وقد دفع المصنف «قدس‌سره» ـ بقوله : «ولعله ...» إلخ ـ ما يرد من الإشكال على علامية الاطراد للوضع والحقيقة ، فيقال في بيانه : إن الاطراد حاصل في المجاز أيضا ، فإن اللفظ يستعمل في المعنى المجازي بلحاظ العلاقة المصححة ويطرد في جميع موارد وجود تلك العلاقة بملاحظتها ؛ نظير استعمال أسد في الرجل الشجاع بلحاظ علاقة المشابهة كالشجاعة ، فيجوز استعماله في كل شجاع ، فالاطراد ليس لازما مساويا للوضع كي يكون علامة عليه ، بل أعم منه ، فليس دليلا عليه لعدم دلالة العام على الخاص. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الإشكال.

وأمّا توضيح ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في دفع الإشكال فيتوقف على مقدمة وهي : أن استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج إلى وجود علاقة من العلائق المذكورة في باب المجاز ، ثم العلائق المصححة للاستعمال المجازي يمكن اعتبارها بملاحظة نوعها كما يمكن اعتبارها بملاحظة صنفها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الإشكال المذكور إنّما يتم على تقدير ملاحظة العلائق باعتبار صنفها بمعنى : أن الواضع رخص الاستعمال المجازي في صنفها كاستعمال اسم

٧٣

استعمال اللفظ معها (١) ، وإلّا (٢) فبملاحظة خصوص ما يصح معه الاستعمال ، فالمجاز مطرد كالحقيقة ، وزيادة (٣) قيد «من غير تأويل» أو «على وجه الحقيقة» وإن كان موجبا لاختصاص الاطراد كذلك بالحقيقة ، إلّا إنه ـ حينئذ ـ لا يكون علامة لها إلّا

______________________________________________________

المشبه به فيما يشابهه في أظهر الأوصاف كالشجاعة في الأسد مثلا ، وأمّا على تقدير ملاحظة نوع العلائق في المجازات فلا يرد الإشكال ، لأنّ الملحوظ حينئذ في استعمال أسد في الرجل الشجاع هو مطلق المشابهة لا المشابهة بالشجاعة. ومن البديهي : أنه لا يصح استعمال أسد في كل ما شابهه بلحاظ المشابهة إذ لا يصح استعماله في الجبان الأبخر فلا يطرد الاستعمال في المجاز.

هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «ولعله بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات».

(١) أي : مع ملاحظة نوع العلائق.

وحاصل الكلام : أن الملحوظ والمصحح للاستعمال المجازي هو نوع العلائق مثل كلي المشابهة في استعمال أسد في الرجل الشجاع ، وقد عرفت عدم الاطراد فيه.

(٢) أي : لو لم يكن المجاز بملاحظة نوع العلائق بأن كان بملاحظة صنفها وهو العلاقة الخاصة ، فالمجاز مطرد كما تقدم ذلك في تقريب الإشكال.

(٣) هذا من المصنف إشارة إلى رد ما فعله صاحب الفصول من الجواب عن نقض الاطراد الحقيقي بالاطراد المجازي.

فلا بد من بيان ما أجاب به صاحب الفصول قبل بيان إشكال المصنف عليه ، وملخص ما أجاب به صاحب الفصول عن إشكال نقض الاطراد الحقيقي بالاطراد المجازي على تقدير اعتبار العلاقة الخاصة : أن النقض المذكور يلزم لو لم نقيّد الاطراد بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة ، وأمّا تقييده بكونه من غير تأويل أو على وجه الحقيقة فيوجب اختصاصه بالحقيقة فلا ينقض بالاطراد في المجاز بملاحظة صنف العلائق ، لأن الاطراد في المجاز ليس من دون تأويل على مسلك السكاكي ، ولا على وجه الحقيقة على مذهب المشهور ، بل الاطراد في المجاز مع التأويل ، أو على وجه المجاز فيخرج الاطراد في المجاز بالتقييد المذكور.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح جواب صاحب الفصول عن إشكال النقض.

وقد ردّ المصنف هذا الجواب : باستلزامه الدور ، لأنّ معرفة الحقيقة والوضع تتوقف على حصول الاطراد على وجه الحقيقة ومعرفة ذلك تتوقف على معرفة الحقيقة فيلزم الدور.

٧٤

على وجه دائر ، ولا يتأتّى (١) التفصي عن الدور بما ذكر في التبادر هنا ، ضرورة : أنّه مع العلم بكون الاستعمال على نحو الحقيقة لا يبقى مجال لاستعلام حال الاستعمال بالاطراد أو بغيره.

______________________________________________________

(١) لا يمكن التخلّص عن إشكال الدور هنا بما ذكر في التبادر من الإجمال والتفصيل ، ومن كون التبادر عند العالم بالوضع علامة للحقيقة عند الجاهل بها ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي الارتكازي بالوضع يكفي هناك في رفع غائلة الدور ، ولا يكفي هنا لمعرفة كون الاستعمال على وجه الحقيقة أو من غير تأويل ، بل لا بدّ من علم تفصيلي يلتفت إليه الإنسان ، ومعه لا يحتاج إلى الاطراد.

وبعبارة أخرى : بعد أن أخذت معرفة الحقيقة في أصل الدليل أعني الاطراد ، وكونه علامة على الوضع والحقيقة ، فلا بدّ من حصولها تفصيلا ، ومع حصول المعرفة تفصيلا بالحقيقة والوضع لا معنى لعلاميّة الاطراد للحقيقة ، لأنه تحصيل للحاصل ، ومن هنا يظهر : إنه لا يبقى مجال لاستعلام الجاهل ـ حال الاستعمال ـ من العالم ، إذ الجاهل لا بدّ أن يعلم تفصيلا تحقق علامية الاطراد عند العالم ، والمفروض : أن العلامة هي الاطراد على وجه الحقيقة ، فلا بد أن يعلم المستعلم الجاهل تفصيلا بأنّ الاطراد عند العالم كونه على نحو الحقيقة ولو بإخباره ، ومع علمه تفصيلا بالحقيقة لا معنى لعلامية الاطراد.

خلاصة البحث في علامات الحقيقة والمجاز مع رأي المصنف «قدس‌سره» :

أمّا علامات الحقيقة فهي أربعة : ١ ـ تنصيص أهل اللغة. ٢ ـ تبادر المعنى من حاق اللفظ. ٣ ـ عدم صحة السلب أو صحة الحمل. ٤ ـ الاطراد.

وأمّا علامات المجاز فهي على ثلاثة أقسام : ١ ـ عدم التبادر. ٢ ـ صحة السلب. ٣ ـ عدم الاطراد.

وأمّا المصنف فيقول : بأن كل واحد من التبادر وعدم صحة السلب من علامات الحقيقة ، وكذلك عدم التبادر وصحة السلب من علامات المجاز ، وأمّا الاطراد والتنصيص فليس وجودهما من علامات الحقيقة ، ولا عدمهما من علامات المجاز ؛ لأنّ التنصيص يرجع إلى حجية القول اللغوي ، فلذا لم يذكره المصنف «قدس‌سره».

وأمّا الاطراد فهو حاصل في المعنى المجازي أيضا ، فيكون أعم من الحقيقة ، والعام لا يدل على الخاص.

٧٥

الثامن (١)

أنه للفظ أحوال خمسة ، وهي : التجوّز ، والاشتراك ، والتخصيص ، والنقل ، والإضمار لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي ؛ إلّا

______________________________________________________

تعارض أحوال اللفظ

(١) يقع الكلام في مقامات :

١ ـ توضيح تلك الأحوال. ٢ ـ دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين أحد الأحوال.

٣ ـ دوران الأمر بين تلك الأحوال أنفسها مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. ٤ ـ بيان أمثلة تعارض الأحوال مع ترجيح بعضها على بعض.

وأمّا توضيح الأحوال الخمسة فهو :

أن «التجوز» هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له بعلاقة من العلاقات المذكورة في علم البيان.

و «الاشتراك اللفظي» : هو وضع لفظ بوضع متعدد لمعنيين أو أكثر من دون لحاظ المناسبة بين المعاني ، ومن دون أن يسبق وضعه لبعضها على وضعه للآخر مثل : لفظ «عين» الموضوعة لحاسة النظر ، وينبوع الماء والذهب وغيرها ، ومثل : لفظ «جون» الموضوع للأبيض والأسود.

و «التخصيص» : هو استعمال لفظ العام في بعض مصاديقه مثل : «أكرم كل عالم» ويراد به علماء البلد.

و «النقل» : هو أن يكون اللفظ موضوعا أولا لمعنى ، ثم نقل عنه لمعنى آخر مناسب للأول ؛ مثل : لفظ «الصلاة» الموضوع للدعاء ، ثم نقل في الشرع ـ بناء على ثبوت الحقيقة الشرعية ـ إلى الأفعال المخصوصة لمناسبتها للأول بكونها مشتملة على الدعاء.

و «الإضمار» : هو تقدير لفظ في الكلام من دون تجوّز في الإسناد ولا في الكلمة ، مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(١) أي : فاسأل أهلها.

وأما المقام الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «فيما إذا دار الأمر بينه» أي : بين أحد الأحوال «وبين المعنى الحقيقي» أي : إذا دار أمر اللفظ بين أحد هذه الأحوال ، وبين المعنى الحقيقي كدورانه بين الحقيقة والمجاز ، وأنه مستعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي ، وقد التزم المصنف «قدس‌سره» بحمل اللفظ على المعنى الحقيقي لأصالة الحقيقة حيث قال : «لا يكاد يصار إلى أحدها فيما إذا دار الأمر بينه وبين المعنى الحقيقي ، إلّا بقرينة صارفة عنه

__________________

(١) يوسف : ٨٢.

٧٦

بقرينة صارفة عنه إليه ، وأمّا إذا دار الأمر بينها ، فالأصوليون وإن ذكروا لترجيح بعضها على بعض وجوها ؛ إلّا أنّها استحسانية ، لا اعتبار بها ، إلّا إذا كانت موجبة

______________________________________________________

إليه» أي : صارفة عن المعنى الحقيقي إلى أحد الأحوال ، لأنّ مقتضى أصالة الحقيقة هو : حمل اللفظ على المعنى الحقيقي مع عدم قرينة صارفة عنه.

فلا إشكال في فرض دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز ، وإنّما الإشكال في فرض دوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين سائر الأحوال ، كدوران الأمر بين المعنى الحقيقي وبين الاشتراك أو النقل ، إذ حينئذ يدور الأمر بين المعنيين الحقيقيين ؛ لأنّ المشترك وكذا المنقول معنى حقيقي ومثله الأمر في دوران الأمر بين المعنى الحقيقي والتخصيص ؛ لأنّ التخصيص لا يوجب المجازية على بعض الآراء فلا يكون قسيما ومقابلا للمعنى الحقيقي.

إلّا إن يقال في توجيه مراد المصنف «قدس‌سره» : بأنه لا يريد من المعنى الحقيقي المعنى المقابل للمجاز ، بل يريد به المعنى الأصلي الذي جعل اللفظ بإزائه أولا ، ففي مورد تعدد الحقيقة كمورد النقل والاشتراك والتخصيص يراد دوران الأمر بين المعنى الحقيقي الأولي والمعنى الحقيقي الثانوي وهو المنقول إليه اللفظ أو الموضوع له اللفظ ثانيا أو المعنى الخاص.

وأمّا المقام الثالث : فقد أشار إليه بقوله : «وأمّا إذا دار الأمر بينها ...» إلخ أي : بين الأحوال في أنفسها ، لا بينها وبين المعنى الحقيقي. يعني : بين المجاز والاشتراك أو بين الاشتراك والنقل ، أو بين التخصيص والإضمار ، وهكذا ، فالعلماء الأعلام ذكروا وجوها لترجيح بعضها على البعض الآخر متمسكين ببعض الأمور ، مثلا : رجحوا المجاز على الاشتراك لكونه أكثر استعمالا ، ورجحوا الاشتراك على المجاز لكونه أبعد من الخطأ لوجوب التوقف عند عدم القرينة المعنية.

ورجحوا الاشتراك على النقل لكون النقل يقتضي نسخ الوضع الأوّل ، بخلاف الاشتراك لعدم اقتضائه النسخ ، ولأنّ الأصل عدم النسخ ، ورجحوا التخصيص على الإضمار لكونه أغلب حتى قيل : ما من عام إلّا وقد خص ، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المبسوطة.

ويقول المصنف ردا على هذه الأمور : إنها أمور استحسانية ذوقية لا اعتبار بها. نعم ؛ إذا كانت موجبة لظهور اللفظ في البعض فعند ذلك يؤخذ بالطرف الراجح لأجل ظهور اللفظ فيه ، وهو حجة عند العرف والعقلاء.

٧٧

لظهور اللفظ في المعنى ، لعدم (١) مساعدة دليل على اعتبارها بدون ذلك كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) تعليل لقوله : (لا اعتبار بها).

بقي الكلام في المقام الرابع. أعني : أمثلة تعارض الأحوال فهناك عشر صور بعد إسقاط المكررات. توضيح ذلك حسب ما يلي :

١ ـ تعارض الاشتراك مع الأربعة وهي : ١ ـ المجاز. ٢ ـ النقل. ٣ ـ التخصيص. ٤ ـ الإضمار.

٢ ـ تعارضه مع الثلاثة الباقية : هي : ١ ـ النقل. ٢ ـ التخصيص. ٣ ـ الإضمار.

٣ ـ تعارضه مع الاثنين الباقيين : ١ ـ التخصيص. ٢ ـ الإضمار.

٤ ـ تعارضه مع الإضمار. فالمجموع هي عشر صور.

ثم التخصيص والإضمار وإن كانا قسمين من المجاز ؛ ولكن لما كان لهما مزيد اختصاص وامتياز أفردوهما من سائر أقسام المجاز. فنبدأ في بيان المرجحات التي ذكرنا بعضها في المقام الثالث. ولكن المهم هنا ذكر الأمثلة فنقول :

الصورة الأولى : هي دوران الأمر بين الاشتراك والمجاز ، وقيل : المجاز أرجح من الاشتراك ، ومثال تعارضهما قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) توضيح ذلك :

أن لفظ النكاح يستعمل بمعنى : العقد والوطء فهو إمّا لفظ مشترك بينهما وإمّا مجاز في العقد بعد ما كان حقيقة في الوطء ، فعلى الاشتراك يتوقف في الحكم إذ لا يعلم أن المراد هو العقد ، كي يكون معنى الآية : «لا تنكحوا ما عقد آباؤكم» أو الوطء فيكون معناها «لا تنكحوا ما وطأ آباؤكم» حتى تدل على جواز نكاح معقودة الأب بناء على عدم الوطء ، وعلى المجاز تحمل الآية على المعنى الحقيقي أعني : الوطء ويحكم بجواز نكاح معقودة الأب كما عرفت.

ثم وجه أرجحية المجاز على الاشتراك هو كثرة المجاز وأوسعيته في العبارة ، لأن استعمال لفظ واحد بعنوان المجازية يصح في موارد كثيرة كاستعمال لفظ الشمس في ضوء النهار ، والوجه الحسن ونحوها ، هذا بخلاف الاشتراك ؛ لأن استعمال لفظ واحد بعنوان الاشتراك لا يصح إلّا في المورد الذي وضع له هذا أولا.

وثانيا : أن المجاز أنفع من الاشتراك ، لأنه لا توقف فيه أبدا إذ مع القرينة يحمل اللفظ على المجاز ، وبدونها يحمل على الحقيقة ؛ بخلاف المشترك إذ مع عدم القرينة المعنية لا بدّ من التوقف.

٧٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وقيل : بأن الاشتراك أرجح من المجاز لأنه أبعد عن الخطأ إذ مع عدم القرينة المعنية يتوقف احتياطا ، فلا يحصل الخطأ ، بخلاف المجاز حيث يحمل على الحقيقة مع عدم القرينة فيقع في الخطأ مع كون المراد هو المعنى المجازي دون المعنى الحقيقي. هذا أولا.

وثانيا : أن المجاز يصح ويسبك من كلا المعنيين أو المعاني على الاشتراك فتكثر الفائدة ؛ بخلاف المجاز فإنه لا يجوز سبك المجاز عن المجاز حتى تكثر الفائدة. هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

الصورة الثانية : تعارض الاشتراك والنقل ، وكون الأول أرجح من الثاني ، ومثال تعارضهما : قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الطواف بالبيت صلاة» (١) حيث يدور أمر الصلاة بين الاشتراك والنقل ، فإن كانت مشتركة بين الدعاء والأركان المخصوصة كانت مجملة حيث لا يعلم المراد هل هو أن الطواف مثل الدعاء فلا تعتبر الطهارة فيه ، أو مثل الأركان فيشترط أن يكون مع الطهارة؟ وإن كانت منقولة من الدعاء إلى الأركان فيترتب على الطواف أحكام الأركان من الطهارة وغيرها.

وأمّا وجه أرجحيته على النقل : فلأنّ النقل يقتضي الوضع في المعنيين على نحو التعاقب بأن يكون الوضع في الدعاء أوّلا ، ثم في الأركان ثانيا ، فلا بد من الالتزام بالنسخ أي : نسخ الوضع الأول ، بخلاف الاشتراك إذ لا نسخ فيه فيكون الاشتراك أولى من النقل لأنّ النقل يقتضي بطلان الوضع الأول بالنسخ ، والاشتراك لا يقتضي البطلان مع إنه أكثر وأغلب من النقل.

__________________

(١) ورد في الكافي ، ج ٤ ، ص ٤٢٠ ، ح ٢ / التهذيب ، ج ٥ ، ص ١١٦ ، ح ٥١ ، ص ١٥٤ ، ح ٣٥ / الاستبصار ، ج ٢ ، ص ٢٤١ : عن أبي جعفر «عليه‌السلام» أنه سئل : أينسك المناسك وهو على غير وضوء؟ فقال : «نعم ؛ إلا الطواف بالبيت فإن فيه صلاة».

وقد ورد هذا اللفظ في سنن النسائي ـ المجتبى ـ ج ٥ ، ص ٢٢٢ ، ص ٢٩٢٢ : «الطواف بالبيت صلاة ، فأقلّوا من الكلام». وكذلك خلاصة البدر المنير ، ج ١ ، ص ٥٦ ، ح ١٦٩ / تحفة الطالب ، ص ٣٢٤.

وفي كشف الخفاء ، والدراية في تخريج أحاديث الهداية ، ج ٢ ، ص ٤١ ، ج ٢ ، ص ٥٩ ، ح ١٦٧٠ : «الطواف بالبيت صلاة ، ولكن الله أحلّ فيه المنطق ، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير».

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الصورة الثالثة : تعارض الاشتراك والتخصيص ، وكون الثاني أرجح من الأول ، مثال تعارضهما : «أكرم العلماء إلّا فساقهم» ، فإن قلنا : بأن الجمع المحلى باللام حقيقة في العموم يكون قولنا : إلّا فساقهم قرينة صارفة تدل على مجازية العام بالتخصيص ، وإن قلنا : بأنه مشترك بين العام والخاص يكون قولنا : إلّا فساقهم قرينة معيّنة على إرادة الخاص.

أمّا وجه أرجحية التخصيص : فلأن التخصيص خير من المجاز على ما يأتي ، والمجاز خير من الاشتراك ، كما عرفت سابقا. فيكون التخصيص خيرا من الاشتراك.

الصورة الرابعة : تعارض الاشتراك والإضمار ، والثاني أرجح من الأول ، ومثال تعارضهما قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فإن السؤال عن القرية غير صحيح ، بل مستحيل عادة فلا بد إمّا من إضمار الأهل ، وإمّا من جعل القرية مشتركة بين المحل والحال أعني : الأهل ويراد هنا الأهل.

وأمّا وجه أرجحية الإضمار : فلاختصاص الإجمال الحاصل بالإضمار ببعض الصور ، بمعنى : أن الإضمار لا يوجب الإجمال إلّا في بعض الصور مثل : «لا صلاة إلّا بطهور» حيث لا يعلم أن تقديره : لا صلاة صحيحة أو لا صلاة كاملة إلّا بطهور.

هذا بخلاف المشترك حيث يوجب الإجمال في جميع الصور عند عدم القرينة المعينة هذا أولا.

وثانيا : أن الإضمار أوجز وهو من محسنات الكلام. هذا تمام الكلام في تعارض الاشتراك مع الأربعة. فيقع الكلام في تعارض المجاز مع الثلاثة الباقية.

الصورة الخامسة : هي تعارض المجاز والنقل. ومثال تعارض المجاز والنقل مثل قول الشارع : «صلّوا» حيث يدور أمرها بين المجاز والنقل بعد العلم بأن المراد منها هي الأركان ، وقيل : بأن المجاز أرجح من النقل ؛ وذلك لاحتياج النقل إلى اتفاق أهل اللسان على تغيّر الوضع بأن يتفق أهل الشرع على نقل الصلاة إلى الأركان بعد ما كانت حقيقة في الدعاء ؛ بخلاف المجاز حيث لا يحتاج إلى ذلك ، بل يكفي فيه وجود قرينة صارفة ، هذا مع إن فوائد المجاز أكثر من النقل.

ومن هنا يظهر : ترجيح الإضمار أيضا على النقل.

الصورة السادسة : هي تعارض الإضمار والنقل ، ومثال تعارضه مع النقل قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) حيث يدور أمر الربا بين الإضمار والنقل ، والمعنى على الأول : حرّم

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

٨٠