دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

فاسد (١) ؛ لعدم العلقة بينهما لو أريد بها الفرد أيضا ، فإن الطلب على القول بالطبيعة إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج.

______________________________________________________

الأفراد؟ إذ المفروض : تعلق الطلب بالطبيعة ، فلا يبقى مجال للبحث عن دلالة الصيغة على مطلوبية الفرد أو الأفراد بناء على تعلق الأمر بالطبيعة.

والمتحصل : أن صاحب الفصول استظهر من المرة والتكرار الدفعة والدفعات لوجهين :

أحدهما : التبادر كما تقدم أي : ظهور اللفظين.

ثانيهما : جريان النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار ؛ بناء على إرادة الدفعة والدفعات منهما على كلا القولين في المسألة الآتية ، وعدم جريانه بناء على إرادة الفرد والأفراد منهما كما عرفت آنفا ، كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(١) قوله : «فاسد» خبر لقوله : «وتوهم أنه ...» إلخ ، ودفع له.

وحاصل الدفع : أن كل من الدليلين فاسد ؛ أما الأول : فلأن ظهور لفظ في أمر لا يقتضي اختصاص الكلام به ؛ لما عرفت من وقوعهما بكلا المعنيين محلّ النزاع.

وأما الثاني : فلأن ما زعمه من عدم العلقة بين المسألتين ـ لو أريد الدفعة بخلاف ما لو أريد الفرد ـ غير صحيح وذلك لعدم العلقة بينهما أي : بين مسألة المرة والتكرار ، ومسألة الطبيعة والفرد لو أريد بها أي : بالمرة الفرد أيضا أي : كما لو أريد بها الدفعة. هذا مجمل الكلام في المقام. وأما تفصيل ذلك فتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن طلب المولى ـ على القول بتعلق الأوامر بالطبائع ـ إنما يتعلق بها باعتبار وجودها في الخارج في ضمن الأفراد ، لأن الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي لا مطلوبة للمولى ولا غير مطلوبة ؛ إذ هي مجردة عن جميع الخصوصيات ، ويدل على تجردها عنها : تقسيمها إلى الموجودة وإلى المعدومة ؛ فيقال : إنها إما موجودة وإما معدومة. فالمطلوب ـ في المسألة الآتية على القول بتعلق الأوامر بالطبائع ـ هو : الوجود في ضمن الأفراد ، وعلى القول بتعلق الأوامر بالأفراد أيضا هو : الوجود.

غاية الأمر : الفرق بينهما : أن خصوصيات الفرد داخلة في المطلوب ، إذا كان المراد بالأفراد هي الأفراد تقابل الطبائع ، وأما على القول بتعلق الأوامر بالطبائع : فالخصوصيات الفردية غير داخلة في المطلوب ، وغير داخلة في متعلق الأمر ؛ لأن المطلوب إيجاد الطبيعة في ضمن فرد من أفرادها.

ثم المراد بالفرد ـ بناء على إرادة الفرد من المرة في هذه المسألة ـ هو : الفرد بمعنى : الوجود الواحد من وجودات المأمور به ؛ بحيث تكون لوازم الوجود خارجة عنه.

٣٨١

ضرورة ؛ أن الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، وبهذا الاعتبار (١) كانت مرددة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين ، فيصح النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين وعدمها.

أما (٢) بالمعنى الأول : فواضح.

وأما بالمعنى الثاني (٣) : فلوضوح : أن المراد من الفرد أو الأفراد وجود واحد أو

______________________________________________________

والمراد بالتكرار هو : الوجودات للمأمور به.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن نزاع المرة والتكرار بمعنى : الفرد والأفراد يأتي على كل من القول بتعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد ؛ فجعل هذا النزاع من تتمة مسألة تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد كما صنعه في الفصول ليس في محله.

وأما جريان النزاع ـ على القول بأن المراد بالمرة الدفعة وبالتكرار الدفعات ـ فواضح ؛ فإنه يقال على القول بتعلق الأمر بالطبيعة : هل يجب الإتيان بالطبيعة في ضمن الفرد دفعة أو دفعات. وبعبارة أخرى : هل يكفي الإتيان بالطبيعة في ضمن وجود واحد ، أو في ضمن وجودات.

وأما على القول بأن المراد بالمرة : الفرد ، وبالتكرار : الأفراد فيقال : هل يكفي في تحقق الامتثال وجود واحد للمأمور به ، أو لا بد من وجودات له ؛ فحينئذ فلا معنى لما ذكره صاحب الفصول من جعل هذا المبحث من تتمة المبحث الآتي ، بناء على أن يكون المراد بالمرة الفرد.

(١) أي : بهذا الاعتبار الذي ذكرنا ـ من تعلق الطلب والأمر بالطبيعة باعتبار وجودها الخارجي ـ كانت الطبيعة مردّدة بين المرة والتكرار بكلا المعنيين أي : الفرد والأفراد ، والدفعة والدفعات «فيصح النزاع» على القول بالطبيعة «في دلالة الصيغة على المرة والتكرار بالمعنيين ، وعدمها» أي : عدم دلالة الصيغة على أحدهما ، بل الصيغة لا تدل على المرة ولا على التكرار ؛ كما اختاره المصنف في أول البحث.

(٢) أي : وأمّا تأتّي النزاع على القول بالمرة والتكرار «بالمعنى الأول» أي : الدفعة والدفعات «فواضح» ؛ إذ يقال بعد ما اخترنا في المسألة الآتية أن الأمر متعلق بالطبيعة لا الفرد : هل يجب الإتيان بالطبيعة دفعة واحدة أو دفعات. وبعبارة أخرى : يصح أن يقال : إن وجود الطبيعة هل هو مطلوب دفعة أو دفعات؟

(٣) أي : على القول بأن المرة والتكرار بمعنى الفرد والأفراد يصح أن يقال : بأن المطلوب هل هو وجود واحد أو وجودات؟

٣٨٢

وجودات ، وإنما عبر بالفرد (١) لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد. غاية الأمر (٢) : خصوصيته وتشخصه ـ على القول بتعلق الأمر بالطبائع ـ يلازم المطلوب وخارج عنه ؛ بخلاف القول بتعلقه بالأفراد فإنه مما يقومه.

______________________________________________________

(١) أي : إنما عبر عن الوجود الواحد بالفرد ، وعن الوجودات بالأفراد ، لأن وجود الطبيعة في الخارج هو الفرد.

(٢) قوله : «غاية الأمر» ؛ إنما هو في بيان الفرق بين تعلق الأمر بالطبيعة ، وبين تعلق الأمر بالفرد في المسألة الآتية.

وخلاصة الفرق : أن «خصوصيته وتشخصه» أي : خصوصية الفرد وتشخصه يلازم المطلوب ؛ على القول بتعلق الأمر بالطبائع ؛ وذلك لعدم وجود الطبيعة بدون تشخص ما ، فإن الشيء ما لم يتشخص لم يوجد ، ولكن هذا التشخص خارج عن المطلوب ؛ لعدم كونه في حيّز الطلب ، هذا بخلاف تعلق الأمر بالأفراد ؛ فإن التشخص حينئذ «مما يقوّمه» أي : المطلوب ؛ إذ أحد التشخصات على سبيل البدل واقع في حيّز الطلب.

والمتحصل : أن الخصوصيات الفردية ـ على القول بتعلق الأوامر بالطبائع ـ خارجة عن المطلوب ، والداخل تحت الطلب هو مجرد وجود الطبيعة.

وأما الخصوصيات الفردية : فهي وإن كانت مما يلازم المطلوب خارجا إلّا أنها خارجة عن المطلوب ؛ بحيث لو أمكن التفكيك في مقام الامتثال بين إيجاد الطبيعة وبين تلك الخصوصيات والمشخصات الفردية لأجزأ وكفى.

وأما على القول بتعلقها بالأفراد : فتكون الخصوصيات والمشخصات الفردية جزءا للمطلوب وقواما له ؛ بحيث لو أمكن التفكيك بين إيجاد الطبيعة وبين تلك الخصوصيات والمشخصات لم يجز ذلك ، ولم يكف ؛ كما سيأتي توضيح ذلك في محله.

وقد ظهر مما ذكرناه : أنه لا فرق بين القول بتعلق الأمر بالطبيعة ، وبين القول بتعلقه بالفرد في جريان نزاع المرة والتكرار ، بل يجري على كلا القولين ، وإنما الفرق في كون التشخص الفردي خارج عن الطلب أو في حيّز الطلب كما عرفت مفصلا ، والأول : في فرض تعلق الأمر بالطبيعة. والثاني : في تعلقه بالفرد ؛ فإن التشخص حينئذ مقوّم للمطلوب فيصح قصد القربة به ، ولا يكون تشريعا.

٣٨٣

تنبيه (١):

لا إشكال ـ بناء على القول بالمرة في الامتثال ، وأنه لا مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا ـ على أن يكون أيضا به الامتثال فإنه من الامتثال بعد الامتثال.

وأما على المختار من دلالته (٢) على طلب الطبيعة ؛ من دون دلالة على المرة ولا

______________________________________________________

(١) الغرض من هذا التنبيه الذي جعله في الفصول بعنوان التذنيب هو : بيان ثمرة مسألة المرة والتكرار.

وحاصل ذلك على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٥١٢» : أنه بناء على دلالة الصيغة على المرة يحصل الامتثال بالإيجاد الأول مطلقا سواء فسرت المرة بالفرد أم بالدفعة ، ضرورة : صدقها بكل هذين المعنيين على الإيجاد الأول ، فإذا أعتق ثلاثة عبيد مثلا بإنشاء واحد أو أطعم ثلاث ستينات من المساكين دفعة ، فلا إشكال في حصول الامتثال ؛ لوجود الطبيعة كحصوله بعتق واحد من العبيد ، وإطعام ستين مسكينا ، وبعد تحقق الامتثال لا معنى لايجاد الطبيعة ثانيا بعنوان الإطاعة التي هي موافقة الأمر ، إذ المفروض : سقوطه بالإيجاد الأول ، فيمتنع الإتيان به ثانيا بعنوان الامتثال ، وهذا معنى قولهم : «لا معنى للامتثال عقيب الامتثال».

وأما بناء على دلالة الصيغة على التكرار : فلا إشكال في وجوب إيجاد الطبيعة المأمور بها ثانيا وثالثا وهكذا ، لصدق الامتثال على الجميع ؛ حيث إن الصيغة تدل على مطلوبية جميع وجودات الطبيعة ، فلكل وجود حكم يخصه كالعام الاستغراقي فتحصل الامتثالات على حسب إيجاد المأمور به ، كما أنه تحصل العصيانات على تقدير عدم إيجاد المأمور به ولو مرة.

(٢) أي : من دلالة الأمر على طلب نفس الطبيعة فقط ؛ من دون دلالة على المرة ولا على التكرار ، فلا يخلو الحال من أحد وجهين :

أحدهما : أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ؛ بل كان في مقام الإهمال والإجمال ، والفرق بينهما : أن الأول ما لا يتعلق الغرض ببيانه ولا بإخفائه. والثاني : ما يتعلق الغرض باخفائه.

وثانيهما : أن يكون إطلاق الصيغة مسوقا للبيان ، فعلى الأول : لا بد من الرجوع إلى الأصل العملي وهو أصالة البراءة ؛ ومقتضاها : كفاية المرة لعدم وجوب الزائد.

وأما على الثاني : فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة ؛ لصدق الطبيعة عليها ، وإنما الإشكال هو في جواز الإتيان بغير المرة بقصد امتثال الأمر ؛ بأن يأتي المكلف بالطبيعة ثانيا وثالثا وهكذا.

٣٨٤

على التكرار فلا يخلو الحال : إما أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ؛ بل في مقام الإهمال أو الإجمال فالمرجع هو الأصل. وإمّا أن يكون إطلاقها في ذلك المقام فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة في الامتثال ؛ وإنما الإشكال في جواز أن لا يقتصر عليها (١) ؛ فإن لازم إطلاق الطبيعة المأمور بها هو الإتيان بها مرة أو مرارا لا لزوم الاقتصار على المرة ، كما لا يخفى.

والتحقيق : (٢) أن قضية الإطلاق : إنما هو جواز الإتيان بها مرة في ضمن فرد أو أفراد ، فيكون إيجادها (٣) في ضمنها نحوا من الامتثال كإيجادها في ضمن الواحد ؛

______________________________________________________

وجه الإشكال من سقوط الأمر بالطبيعة بالإتيان بها مرة : لاحتمال كون المرة مشروطة بشرط لا ، فإيجادها ثانيا تشريع محرم لخلوه عن الأمر.

ومن أن المفروض كون إطلاق الصيغة في مقام البيان ، فيجوز الإتيان بالطبيعة ثانيا وثالثا ، نظرا إلى الإطلاق ، فلازم ذلك : الإتيان بالطبيعة غير مرة ، ولكن قد ناقش المصنف في إطلاق الصيغة بقوله : «والتحقيق ...» إلخ.

(١) أي : على المرة بأن يأتي بالطبيعة مرة أخرى فقد يتوهم ويقال : بجواز الإتيان بالطبيعة أكثر من مرة بقصد امتثال الأمر ، فإن لازم إطلاق الطبيعة الملقاة على المخاطب المأمور بها هو الإتيان بها مرة واحدة أو مرات عديدة ، لأن جميع أفراد الطبيعة مأمور بها لأجل الأمر بالطبيعة ، فلا مانع من الإتيان بما هو زائد على المرة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه القول بجواز المرة والتكرار ، وعدم لزوم الاقتصار على المرة.

(٢) أي : التحقيق خلاف ما ذكر ؛ من جواز التكرار بمقتضى الإطلاق ، إذ مع الإتيان الأول لا يبقى مجال للإتيان الثاني بمقتضى الإطلاق ؛ لأن قضية الإطلاق أي : إطلاق الطبيعة المأمور بها وعدم تقييدها ليست جواز الإتيان بها أكثر من مرة ؛ بل جواز الإتيان بها مرة واحدة. غاية الأمر : أن المكلف مخير في الإتيان بها بين الإتيان بها في ضمن فرد ، أو في ضمن أفراد أي : الأفراد العرضية ، فيكون المراد بالمرة الدفعة.

(٣) أي : فيكون إيجاد الطبيعة المأمور بها في ضمن أفرادها العرضية نحوا من الامتثال ؛ كإيجاد الطبيعة في ضمن الفرد الواحد حيث يكون نحوا من الامتثال بلا إشكال أصلا. هذا هو مقتضى إطلاق الطبيعة المأمور بها. وليس مقتضى الإطلاق جواز الإتيان بالطبيعة المأمور بها مرة ومرات كما قيل ؛ إذ يسقط الأمر بالإتيان بها مرة واحدة فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض ، فلا معنى للإتيان ثانيا مع سقوط الأمر ؛ لأجل حصول الغرض منه.

٣٨٥

لا جواز الإتيان بها مرة ومرات فإنه (١) مع الإتيان بها مرة لا محالة يحصل الامتثال ويسقط به الأمر ؛ فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى ، بحيث يحصل بمجرده ، فلا يبقى معه مجال لإتيانه ثانيا بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا ؛ لما عرفت : من حصول الموافقة بإتيانها ، وسقوط الغرض معها ، وسقوط الأمر بسقوطه ، فلا يبقى مجال لامتثاله أصلا.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض (٢) ، كما إذا أمر بالماء ليشرب

______________________________________________________

(١) هذا تعليل لعدم كون الإطلاق صالحا لإثبات جواز الإتيان بما عدا الوجود الأول من الوجودات الطولية.

وحاصله : ـ على ما في بعض الشروح ـ أن الوجود الأول إن كان علة تامة لحصول الغرض الداعي إلى الأمر ؛ فلا محالة يكون علة تامة لسقوط الأمر أيضا ، وحينئذ يمتنع أن يكون إتيان الطبيعة ثانيا وثالثا متعلقا للأمر ، وبهذا الامتناع يمتنع أن يكون للصيغة إطلاق يشمل المرة والمرات ، بل يمكن منع الإطلاق ـ مع غض النظر عن هذا المانع العقلي ـ بأن يقال : إن مقتضى تعلق الطلب بطبيعة هو نقض عدمها بالوجود ، وذلك يتحقق بصرف الوجود المنطبق على القليل والكثير ، وهو لا ينطبق على الوجود اللاحق ؛ لكونه وجودا بعد وجود ، وإنما قيد الغرض بكونه أقصى ، لأن الغرض المقدمي لا يكون علة تامة لسقوط الأمر مثل الغرض المقدمي للمولى ؛ من أمره بإحضار الماء هو حضور الماء عنده ، وغرضه الأقصى هو رفع عطشه ، فلا يسقط الأمر بحصول الغرض المقدمي.

وكيف كان ؛ فلا يبقى مجال لإتيان المأمور به مع حصول الغرض الأقصى ثانيا ؛ سواء كان الإتيان بداعي امتثال آخر ، أو بداعي أن يكون الثاني امتثالا دون الأول ، أو بداعي أن يكون كل واحد من الإتيانين جزء الامتثال ؛ كما أشار إليه بقوله : «أو بداعي أن يكون الإتيانان امتثالا واحدا».

(٢) أي : الغرض الأقصى ، فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه.

فنتيجة البحث : أنه إذا كان امتثال الأمر علة لحصول الغرض فلا معنى لإتيان المأمور به ثانيا بقصد الامتثال ؛ وذلك لعدم بقاء الأمر بعد حصول الغرض ، وإذا لم يكن علة تامة له ـ كما في المثال المزبور ـ فلا يبعد جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بقصد الامتثال ؛ لأن بقاء الغرض كاشف عن بقاء الأمر ، فإذا لم يسقط الأمر فلا بد من الامتثال ثانيا.

هذا فيما إذا كان الأمر مطلقا من حيث اللفظ. وأما إذا كان مهملا فلا بد ـ حينئذ ـ من الاكتفاء بالمرة ، والرجوع في الزائد عليها إلى الأصول العملية من البراءة أو الاستصحاب على ما يقتضيه المقام.

٣٨٦

أو يتوضأ فأتى به ، ولم يشرب أو لم يتوضأ فعلا فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن منه (١) ، بل مطلقا ، كما كان له (٢) ذلك قبله ، على ما يأتي بيانه في الإجزاء.

______________________________________________________

(١) أي : الأفضل من الفرد الأول «بل مطلقا» أي : ولو كان مساويا ، أو أدون من الفرد الأول. هذا كله في مقام الثبوت ، وأما في مقام الإثبات : فلا يمكن قصد التبديل إلّا مع القطع ببقاء الغرض ، وعدم كون إبطال الأول مضرا.

(٢) أي : كما كان للمكلف جواز الإتيان بالفرد اللاحق قبل إتيانه بالفرد السابق.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه : أنه هل يمكن الامتثال بعد الامتثال أم لا؟ فيه وجوه. ثالثها : التفصيل بين بقاء الغرض الأقصى وعدمه ، وهذا التفصيل هو مختار المصنف «قدس‌سره» وقد عرفت وجه ذلك.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

المبحث الثامن يتلخص في أمور :

١ ـ محل الكلام : فيما لم تكن صيغة الأمر مقيدة بمرة أو تكرار. فاختلفوا على أقوال :

١ ـ أنها تفيد التكرار.

٢ ـ أنها تدل على المرة.

٣ ـ أنها مشتركة بين المرة والتكرار.

٤ ـ أنها لا تدل على شيء منهما.

فإن المنصرف منها ليس إلّا طلب إيجاد نفس الطبيعة المأمور بها ، والاكتفاء بالمرة ليس دليلا على دلالتها على المرة ؛ بل إنما هو لحصول الامتثال بها.

٢ ـ ردّ المصنف على الفصول : حيث خص صاحب الفصول محل النزاع بهيئة صيغة الأمر بدعوى : أن مادة المشتقات وهو المصدر ؛ الذي دلالته على مطلق الحدث من دون المرة والتكرار اتفاقي بين النحاة على ما حكاه السكاكي.

وحاصل ردّ المصنف عليه : هو أن الاتفاق على أن المصدر المجرد عن اللام والتنوين لا يدل إلّا على الماهية وإن كان صحيحا إلّا إنه مما لا يوجب حصر النزاع هاهنا في خصوص الهيئة ؛ وذلك لأن المصدر ليس مادة للمشتقات كي يوجب اتفاقهم على عدم دلالة المصدر ؛ إلّا على الماهية اتفاقهم على عدم دلالة صيغة الأمر أيضا إلّا على الماهية ، بل المصدر بهيئته ومادته أحد المشتقات إذ للهيئة المصدرية دخل في المعنى.

٣٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

فحينئذ يمكن تصوير النزاع في دلالة الصيغة على المرة والتكرار في ناحية المادة ، كما يجوز في ناحية الهيئة ، فلا معنى لما ذهب إليه صاحب الفصول من اختصاص النزاع بالهيئة.

٣ ـ دفع الإشكال المتفرع على إنكار كون المصدر مادة للمشتقات بتقريب : أن هذا الإنكار ينافي ما اشتهر بين أهل العربية من : أن المصدر أصل في الكلام ؛ إذ معنى كون المصدر أصلا في الكلام أنه مادة لجميع ما يتركب منه من المشتقات.

وحاصل الدفع : أولا : هو عدم تسالمهم على ذلك ؛ لذهاب الكوفيين إلى : أن الأصل في الكلام هو الفعل ، فكون المصدر أصلا في الكلام ليس أمرا اتفاقيا ؛ بل هو محل الخلاف.

وثانيا : ـ وهو العمدة في الجواب ـ أن المراد بكون المصدر أصلا ليس كونه مشتقا منه ومادة للمشتقات ، بل معناه : أن الواضع وضع المصدر أولا ، ثم وضع غيره مما يناسبه مادة ومعنى قياسا عليه ، فالأصل هنا بمعنى : جعله المقيس عليه لسائر المشتقات.

٤ ـ المراد بالمرة والتكرار : يمكن أن يكون بمعنى : الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد ، يقول المصنف : إنهما بكلا المعنيين يمكن أن يقعا محل النزاع.

وتوهم صاحب الفصول : بأن المراد بالمرة لو كان بمعنى الفرد ؛ لكان المناسب جعل هذا المبحث تتمة للمبحث الآتي : ـ وهو تعلق الأمر بالفرد أو بالطبيعة ـ بأن يقال : إنه على القول بتعلق الأمر بالفرد هل صيغة الأمر تدل على كون المطلوب فردا واحدا أم أفرادا متعددة؟ فاسد أي : توهم الفصول فاسد.

توضيح ذلك : أن الأوامر على القول بتعلقها بالطبائع إنما يتعلق بها باعتبار وجودها ، فيجري النزاع على كلا القولين ، فجعل هذا النزاع من تتمة المبحث الآتي ليس في محله.

٥ ـ تنبيه : لا إشكال في تحقق الامتثال بإتيان المأمور به مرة على القول بالمرة ، فلا مجال للإتيان به ثانيا على أن يكون امتثالا بعد الامتثال ، وكذلك لا إشكال في الإتيان ثانيا وثالثا على القول بالتكرار ؛ لصدق الامتثال على الجميع على هذا القول.

وأما على ما هو مختار المصنف من دلالة الأمر على طلب إيجاد نفس الطبيعة ؛ فلا يخلو الحال من أحد وجهين : إمّا أن لا يكون هناك إطلاق الصيغة في مقام البيان ؛ بل كان في مقام الإهمال والإجمال. وإمّا أن يكون إطلاقها مسوقا للبيان.

٣٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فأمّا على الأول : فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي وهو أصالة البراءة ، ومقتضاها : كفاية المرة لعدم وجوب الزائد.

وأما على الثاني : فلا إشكال في الاكتفاء بالمرة لصدق الطبيعة عليها ، وإنما الإشكال في الإتيان بها ثانيا وثالثا ، وهكذا وجه الإشكال من سقوط الأمر بالطبيعة بالإتيان بها مرة.

ومن أن المفروض : كون إطلاق الصيغة في مقام البيان ، فيجوز الإتيان بالطبيعة ثانيا وثالثا نظرا إلى الإطلاق.

ولكن ناقش المصنف في إطلاق الصيغة بقوله : «والتحقيق».

وملخص ما أفاده المصنف في ردّ الإطلاق هو : أن مقتضى الإطلاق هو جواز الإتيان في ضمن فرد أو أفراد مرة واحدة لا جواز الإتيان بها مرة ومرات ؛ إذ مع الإتيان بها مرة يحصل الامتثال ، ويسقط به الأمر ؛ فيما إذا كان امتثال الأمر علة تامة لحصول الغرض الأقصى ، وأما إذا لم يكن الامتثال علة تامة فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بإتيان آخر.

٦ ـ مختار المصنف ورأيه في المبحث الثامن :

١ ـ أن محل النزاع لا يختص بالمرة والتكرار بمعنى : الدفعة والدفعات ؛ بل يجري فيما إذا كان المراد من المرة والتكرار الفرد والأفراد ، فالنزاع يجري في المرة والتكرار بكلا المعنيين.

٢ ـ أن صيغة الأمر لا تدل على المرة ولا على التكرار ؛ بل تفيد طلب إيجاد نفس الطبيعة المأمور بها.

٣ ـ رأي المصنف في الامتثال بعد الامتثال هو :

التفصيل بين ما إذا كان الامتثال الأول علة تامة لحصول الغرض الأقصى ، وبين ما إذا لم يكن علة تامة له.

فعلى الأول : لا يجوز الامتثال بعد الامتثال ؛ وذلك لحصول الغرض الأقصى ؛ المستلزم لسقوط الأمر.

وأما على الثاني ـ : أي : ما إذا لم يكن الامتثال علة تامة لحصول الغرض الأقصى ـ فلا يبعد صحة تبديل الامتثال بالامتثال الآخر ؛ بأن يأتي المكلف بفرد آخر أحسن من الفرد الأول أو مطلقا أي : وإن كان الفرد الثاني مساويا للفرد الأول أو الأدون منه. هذا تمام الكلام في خلاصة المبحث الثامن.

٣٨٩

المبحث التاسع : (١)

الحق (٢) : أنه لا دلالة للصيغة ، لا على الفور ولا على التراخي ، نعم ؛ قضية إطلاقها

______________________________________________________

في الفور والتراخي

(١) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان محل النزاع وهو : أن الأمر بنفسه مع عدم القرينة الخارجية هل يقتضي الفور بمعنى : المبادرة للامتثال في الزمن الثاني من الخطاب ، أو في أول أزمنة الإمكان؟ كما عن الشيخ الطوسي «قدس‌سره» وأتباعه ، أو التراخي بمعنى : جواز التأخير ، أو أنه مشترك بينهما؟ كما عن علم الهدى «قدس‌سره» ، أو أنه لا يدل على شيء منهما وليس مشتركا بينهما؟ كما هو الحق عند المصنف «قدس‌سره».

ثم ظاهر المصنف وصريح الفصول : أن النزاع في هذا المبحث هو كالنزاع في المبحث السابق ، فعند المصنف يكون جاريا في مجموع الهيئة والمادة ، وعند الفصول يكون جاريا في خصوص الهيئة فقط.

(٢) أي : الحق عند المصنف «قدس‌سره» هو : عدم دلالة الصيغة على شيء منهما ، وليس ذلك من جهة الاشتراك والحاجة إلى القرينة المعيّنة ؛ بل من أنها لا تدل إلّا على طلب الطبيعة المأمور بها المجردة عن التقييد أصلا.

ولازم ذلك : عدم لزوم الفور ولا التراخي لا شرعا في مقام الجعل ، ولا عقلا في مقام الامتثال.

وأمّا في مقام الجعل : فلخروجهما عن مفاد المادة والهيئة ونحوهما مما يدل على المكلف به والتكليف ؛ إذ لا دلالة للمادة إلّا على الماهية الصادقة بنحو واحد على الأفراد الطولية والعرضية ، ومقتضى إطلاقها : الاجتزاء بكل منهما كما أشار إليه المصنف بقوله : «نعم ؛ قضية إطلاقها» حيث يكون هذا استدراكا من قوله : «لا دلالة للصيغة» بمعنى : أن الصيغة وإن كانت لم تدل بمادتها وهيئتها على وجوب شيء من الفور والتراخي ؛ إلّا إن إطلاقها مع كون المتكلم في مقام البيان دليل على عدم مطلوبية الطبيعة المأمور بها بشيء ؛ من الفور والتراخي ، ولازم ذلك هو : جواز التراخي ؛ هذا دلالة الصيغة من حيث المادة.

وأما من حيث الهيئة التي تدل على التكليف : فهي لا تدل إلّا على البعث نحو المكلف به ، وطلبه على ما هو عليه من السعة ، فلا تقتضي وجوب خصوص فردها السابق زمانا بنحو وحدة المطلوب أو تعدده ، فحينئذ لا مجال لاستفادة الفور من نفس الخطاب لا من جانب المادة ولا من جانب الهيئة ، يقول المصنف : «والدليل عليه» أي :

٣٩٠

جواز التراخي ، والدليل عليه : تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها بلا دلالة على تقييدها بأحدهما ، فلا بد في التقييد من دلالة أخرى ، كما ادّعي دلالة غير واحد من الآيات على الفورية (١).

______________________________________________________

على عدم دلالة الصيغة على شيء من الفور والتراخي «هو : تبادر طلب إيجاد الطبيعة منها» أي : من الصيغة «بلا دلالة على تقييدها» أي : الطبيعة المأمور بها «بأحدهما» أي : الفور والتراخي ، «فلا بد في التقييد من دلالة أخرى» أي : غير الدلالة الراجعة إلى الصيغة.

فالمتحصل : أنه إذا تمسكنا بالإطلاق ونفينا به الفورية كان لازم ذلك : جواز التراخي لأنه لا فرق في حجية الأصول اللفظية بين المثبت منها وغيره ، هذا فيما إذا كان هناك أصل لفظي كالإطلاق مثلا.

وأما إذا لم يكن ـ كما إذا كان الدليل مجملا ـ فالمرجع هو الأصل العملي ـ وهو في المقام أصالة البراءة ـ للشك في اعتبار خصوصية زائدة كالفور والتراخي ، وحيث لا دليل عليه فأصالة البراءة تقتضي عدم اعتبارها ، ولازم ذلك : جواز التراخي.

وكيف كان ؛ فالحق عند المصنف هو : عدم دلالة الصيغة على الفور والتراخي إلّا بالدلالة الخارجية ، ويتمسك بالأدلة الخارجية كآيتي المسارعة والاستباق على الفورية.

(١) قال في المعالم في عداد أدلة القائلين بالفور : الرابع : قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(١) فإن المراد بالمغفرة سببها وهو فعل المأمور به لا حقيقتها ؛ لأنها فعل الله سبحانه ، فيستحيل مسارعة العبد إليها ، وحينئذ فيجب المسارعة إلى فعل المأمور به.

وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(١) ؛ فإن فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه ، وإنما يتحقق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور وهو المطلوب عند القائلين بالفور ، فالحاصل : أن الإتيان بالمأمور به خير وسبب للمغفرة ، ثم المراد بغفران السيئات ليس هو الإحباط بمعنى : مقابلة السيئة للحسنة ، ثم حصول الكسر والانكسار في الدنيا ؛ لبطلان هذا بالإجماع ؛ فإن العقلاء يحكمون بأن الناس مجزيون بأعمالهم ، وأما بمعنى : إذهاب أحدهما الآخر مع بقائه فلا إشكال فيه ؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات ، والكفر والشرك والغيبة والحسد يحبط الحسنات.

وكيف كان ؛ فدلالة التسابق على الفور واضحة ؛ لأن فعل المأمور به من الخيرات ، فيجب الاستباق إليه بمقتضى الآية المباركة.

وأما آية المسارعة : فلأنه لمّا كانت المسارعة إلى المغفرة ـ التي هي من أفعال الله تعالى

__________________

(١) آل عمران : ١٣٣.

(١) آل عمران : ١٣٣.

٣٩١

وفيه (١) منع ، ضرورة : أن سياق آية (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ، وكذا آية (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إنما هو البعث نحو المسارعة إلى المغفرة ، والاستسباق إلى الخير ؛ من دون استتباع تركهما (٢) للغضب والشر ، ضرورة : أن تركهما (٣) لو كان مستتبعا للغضب والشر كان البعث بالتحذير عنهما (٤) أنسب كما لا يخفى فافهم (٥).

______________________________________________________

ـ غير مقدورة للمكلف فلا محالة تكون كناية عن سببها كما هو في المعالم (٢) ، فذكر المسبب وأريد به السبب ، فكأنه قيل : سارعوا إلى سبب المغفرة وهو الإتيان بالمأمور به ، ثم إنما يتحقق المسارعة بإتيانه فورا.

(١) أي : فيما ذكر من دلالة الآيات على وجوب الفور منع ظاهر ، وقد أجاب المصنف عن الاستدلال بآيتي المسارعة والاستباق بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «وفيه منع ضرورة ...» إلخ ، وحاصله : أن سياق الآيتين الشريفتين هو البعث والتحريك إلى المسارعة والاستباق على نحو الاستحباب ؛ من دون أن يستتبع تركهما الغضب والشر.

وبعبارة أخرى : منع دلالتهما على الوجوب ، إذ لو كان كذلك لكان ترك المسارعة والاستباق موجبا للغضب والشر ، والأنسب حينئذ البعث والتحريك بالتحذير عن تركهما ؛ لأن التحذير يكون أشد تأثيرا في تحرك المكلف إلى المسارعة والاستباق لا البعث والتحريك إلى فعل المسارعة والاستباق كما هو سياق الآيتين المباركتين ، كما لا يخفى.

(٢) أي : المسارعة والاستباق.

(٣) أي : المسارعة والاستباق.

(٤) أي : عن الغضب والشر على ما قيل ، وكان الأولى حينئذ أن يقال : احذروا من الغضب والشر بالمسارعة والاستباق ، ويحتمل أن يكون الضمير في «عنهما» راجعا إلى ترك المسارعة والاستباق ، فكان الأنسب إفراد الضمير كأن يقول : «كان البعث بالتحذير عنه» أي : عن تركهما. وكيف كان ؛ ففي العبارة مسامحة واضحة.

(٥) لعله إشارة إلى أن أوقعية التوعيد بالعذاب الحاصل بالتحذير على ترك الواجب في إحداث الداعي للعبد لا تختص بالمقام ، بل تجري في جميع الواجبات ، مع إنه ليس الأمر فيها كذلك للبعث على فعلها بدون التوعيد بالعقاب على تركها ، أو إشارة إلى منع

__________________

(١) البقرة : ١٤٨ ، المائدة : ٤٨.

(٢) معالم الدين ، ص ٨٠.

٣٩٢

مع لزوم (١) كثرة تخصيصه في المستحبات وكثير من الواجبات بل أكثرها (٢) ، فلا بد (٣) من حمل الصيغة فيهما على خصوص الندب أو مطلق الطلب ، ولا يبعد (٤) دعوى استقلال العقل بحسن المسارعة والاستباق.

______________________________________________________

الأوقعية المزبورة مطلقا لاختلاف الناس ، حيث أن بعضهم يتحرك وينبعث نحو الواجبات خوفا من العقاب ، وبعضهم يتحرك نحوها طمعا في الثواب.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجوه التي أجاب بها المصنف عن الاستدلال بآيتي المسارعة والاستباق.

وحاصل هذا الوجه : أنه بناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور يلزم تخصيص الأكثر ؛ وذلك لخروج المستحبات جميعا ، وكثير من الواجبات عن ذلك ، فيبقى قليل من الواجبات تحتهما ، وهذا مستهجن عند أبناء المحاورة ، فلا بد حينئذ من رفع اليد عن ظاهر الآيتين في الوجوب والالتزام فيهما بأحد أمرين :

الأول : حمل صيغتي الأمر فيهما على الندب.

الثاني : حملهما على مطلق الطلب والرجحان.

(٢) أي : أكثر الواجبات ؛ لأن أكثر الواجبات موسعة يجوز التأخير فيها إلى أن يضيق الوقت كما في الظهرين والعشاءين وغيرهما من الواجبات الموسعة ، وأما في الواجبات المضيقة : فلا يصدق الفور ؛ لأن المفروض فيها : مساواة الوقت للفعل ، فلا يصدق الاستباق والمسارعة فيما إذا أتى بالواجب في وقته المضيق ، وإنما يتحقق الاستباق والمسارعة في الواجب الموسع إذا أتى به في أول الوقت.

(٣) أي : فلا بد ـ فرارا عن محذور لزوم الاستهجان ـ «من حمل الصيغة فيهما» أي : في الآيتين على خصوص الندب أو مطلق الطلب.

وبالجملة : أن الأمر بالمسارعة والاستباق إن كان للوجوب ـ كما هو مدعى الشيخ الطوسي لزم كثرة التخصيص ، وهو مستهجن لخروج جميع المستحبات وكثير من الواجبات عن الآيتين لأجل عدم وجوب المسارعة فيها بالإجماع ، فلا بد من حمل الأمر فيهما على مطلق الرجحان الشامل للوجوب والاستحباب ، ولازم ذلك : أن المسارعة واجب في الواجب الفوري ، ومستحب في المستحبات كلا ، ومستحب في الواجب غير الفوري.

(٤) هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي أجاب بها المصنف «قدس‌سره» عن الاستدلال بآيتي المسارعة والاستباق على وجوب الفور.

وحاصل هذا الوجه : هو حمل الأمر بالمسارعة والاستباق في الآيتين على الإرشاد

٣٩٣

وكأن (١) ما ورد من الآيات والروايات في مقام البعث نحوه إرشادا إلى ذلك ؛ كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة.

فيكون الأمر فيها (٢) لما يترتب على المادة بنفسها (٣) ولو لم يكن هناك أمر بها ، كما هو الشأن في الأوامر الإرشادية فافهم (٤).

______________________________________________________

إلى حكم العقل ؛ لئلا يلزم تخصيص الأكثر بتقريب : أن العقل كما يستقل بحسن أصل الإطاعة دفعا للعقوبة ، كذلك يستقل بحسن المسارعة إلى الإطاعة فإن كان الواجب مما ثبت من الخارج فوريته ، فحكم العقل بالمسارعة إليه كحكمه بنفس الإطاعة إلزامي ، وإلّا فليس بإلزامي.

فالمتحصل ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٥٥٢» ـ أنه لا مجال للاستدلال بالآيتين الشريفتين على وجوب الفور في الواجبات.

(١) أي : كأن ما ورد من الآيات والروايات الواردة في مقام البعث ؛ الدالة على البعث نحو الاستباق والمسارعة ، «إرشادا إلى ذلك» أي : إلى الحكم العقلي ، فتكون هاتان الآيتان ـ «كالآيات والروايات الواردة في الحث على أصل الإطاعة» ؛ كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(١) ـ للإرشاد ، نظير الأوامر الباعثة على أصل الإطاعة ؛ كما في آية الإطاعة ، فلا يلزم حينئذ تخصيص الأكثر ، لأن الآيات تدل على رجحان المسارعة والاستباق في الأوامر الواقعية ، أما نفس المسارعة والاستباق فهما نظير الإطاعة والانقياد لا يترتب عليهما ثواب ، كما لا يترتب على تركهما عقاب على ما هو شأن الأوامر الإرشادية ، حيث لا يترتب عليها إلّا ما يترتب على نفس المادة كأمر الطبيب للمريض بشرب الدواء حيث يكون إرشادا إلى ما في شرب الدواء من المصلحة ، فالمصلحة مترتبة على الدواء وإن لم يأمر الطبيب ، فإن المصلحة مترتبة على وجود المادة أي : الدواء ؛ لا على عنوان كونها مأمورا بها ، هذا هو شأن جميع الأوامر الإرشادية ، فحينئذ لا يلزم في المقام تخصيص أصلا فضلا عن كثرته.

(٢) أي : في الآيات والروايات الواردة في الحث على المسارعة.

(٣) أي : بنفس المادة ، مع قطع النظر عن تعلق الأمر بها.

(٤) لعله إشارة إلى : أن الحمل على الإرشادية منوط بعدم كون الفور على تقدير اعتباره من قيود المأمور به شرعا ، إذ يكون حينئذ كالطهارة المعتبرة في الصلاة من حيث كون دخله شرعيا لا عقليا ، كي يكون الأمر به للإرشاد.

__________________

(١) النساء : ٥٩.

٣٩٤

تتمة :

بناء على القول بالفور (١) فهل قضية الأمر الإتيان فورا ففورا بحيث لو عصى لوجب عليه الإتيان به فورا أيضا ، في الزمان الثاني ، أو لا؟ وجهان : مبنيان على أن

______________________________________________________

أو إشارة إلى : أن استقلال العقل بالحسن لا يكفي في كون الأمر للإرشاد.

أو إشارة إلى : ضعف كون الملاك في إرشادية الأمر أن تكون المصلحة في نفس المادة ؛ إذ وجود المصلحة في المادة ، وترتب الخواص عليها أمر مشترك بين الإرشادية والمولوية ، ولا يختص بالأوامر الإرشادية. مثلا : لا فرق بين قول الشارع للمكلف : «صل» ، وبين قول الطبيب للمريض : اشرب الدواء ؛ لأن الصلاة لا تخلو عن المصلحة ، كما أن شرب الدواء فيه المصلحة فلا فرق بينهما من هذه الجهة ، فيحتمل أن يكون الأمر في الآيتين الشريفتين مولويا ؛ مع فرض وجود المصلحة في نفس المادة ، فلا يكون الضابط المذكور تماما.

وكيف كان ؛ فتوضيح الفرق بين إرشادية الأوامر والنواهي ومولويتهما لا يخلو عن فائدة فنقول : إن الفرق بينهما أن الأول : هو ما لا يترتب على موافقته ثواب ، ولا على مخالفته عقاب ، وهذا الفرق هو صريح الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

وقال غيره في الفرق بينهما : إن في الأوامر والنواهي المولوية إرادة للآمر وكراهة للناهي ؛ بمعنى : أن الآمر يريد الفعل المأمور به ويحبه ، والناهي يكره الفعل المنهي عنه ويبغضه ، ثم يتبعهما القرب والبعد ، والثواب والعقاب.

وأما في الأوامر والنواهي في الإرشادية : فلا تكون في نفس الآمر والناهي إرادة ولا كراهة ، ولا حب ولا بغض حتى يتبعهما القرب والبعد ، والثواب والعقاب مثل أوامر الطبيب ؛ فيأمر المريض بشرب الدواء ، وينهاه عن الترك بداعي الإرشاد إلى ما في الفعل من المنافع ، وإلى ما في الترك من المضار ، فإن شاء المريض وافقه ، وإن شاء خالفه ، وهذا الفرق شامل للفرق الأول فيكون أفضل منه.

ثم الأوامر في الآيات والروايات الواردة في المقام من هذا القبيل ؛ إذ لا يترتب الثواب والعقاب إلّا على موافقة الواقع ومخالفته ، لا على موافقة تلك الأوامر.

أما عدم ترتب الثواب على موافقتها : فلبداهة : أن فعل الصلاة طاعة ، ولكن لا يترتب عليه ثوابان ؛ ثواب أصل الصلاة ، وثواب إطاعة الصلاة.

هذا ملخص الكلام في الفرق بين الأوامر المولوية والإرشادية.

(١) ما ذكره المصنف في هذه التتمة متفرع على القول بدلالة صيغة الأمر على الفور.

٣٩٥

مفاد الصيغة ـ على هذا القول ـ هو : وحدة المطلوب أو تعدده ، ولا يخفى : أنه لو قيل بدلالتها على الفورية ، لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

وحاصل ما أفاده المصنف فيها : أنه لو قلنا : بدلالة الصيغة على الفور فهل تقتضي وجوب الإتيان بالمأمور به فورا ففورا أم لا؟ ـ بمعنى : أنه لو اقتضت وجوب الفور بالمأمور به في أول أوقات الإمكان ، فلو أخلّ بالفورية ولم يأت به في الآن الأول وجب الإتيان به في الآن الثاني وهكذا ، ولازمه : حصول العصيان بالإخلال بالفورية مع بقاء الأمر بنفس المأمور به على حاله ـ فيه وجهان ؛ مبنيان على ما هو مفاد الصيغة على القول بدلالتها على الفور هل هو وحدة المطلوب أو تعدده؟

وتوضيح ذلك : أن فورية المأمور به تتصور على ثلاثة وجوه :

الأول : وحدة المطلوب : بأن تكون الفورية مقوّمة لأصل المصلحة في الفعل ؛ بحيث تفوت بفوات الفورية أي : بالتأخير فلا مصلحة معه.

الثاني : تعدد المطلوب : بأن تكون هناك مصلحتان ؛ إحداهما : قائمة بمطلق الفعل من دون تقييده بالفور. والأخرى : قائمة بالفعل فورا فتفوت مع فوات الفورية ، فبالتأخير يحصل عصيان الثاني. دون الأول ، فيبقى طلب الأول.

الثالث : تعدد المطلوب أيضا : بأن تقوم مرتبة من المصلحة بفورية الفعل أولا ، ومرتبة أخرى بفورية الفعل ثانيا ـ وهكذا ـ بعد عصيان الأول.

إذا عرفت هذه الوجوه فنقول : إنه إن استفيد الفور من الآيات فلا يبعد الالتزام بدلالتها على تعدد المطلوب ، وإن استفيد من نفس الصيغة فلا تدل على كيفية الفور من وحدة المطلوب أو تعدده كما أشار إليه بقوله : «ولا يخفى : أنه لو قيل بدلالتها» أي : الصيغة «على الفورية لما كان لها» أي : للصيغة «دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدده».

وحاصل كلام المصنف في المقام : أنه ـ بعد تسليم دلالة الصيغة على وجوب الفور ـ أنها لا تدل على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا ، ولا تدل على كيفية مطلوبيتها من وجوب الفور في كل زمان ؛ حتى لا يسقط الأمر بالفورية بالإخلال بها في الزمان الأول وما بعده ، أو وجوب الفور في خصوص الزمان الأول حتى يسقط الأمر به بالإخلال بالفورية.

وكيف كان ؛ فتكون الصيغة قاصرة عن الدلالة على كيفية مطلوبية الطبيعة ، وأنها تكون على نحو تعدد المطلوب أو وحدته ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل ،

٣٩٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فمقتضى الأصل اللفظي أي : إطلاق الأمر إن تمت مقدمات الحكمة هو : عدم الوجوب في الزمن الثاني ، وإلّا فالأصل العملي هو البراءة لا استصحاب الوجوب ؛ إذ من المحتمل وحدة المطلوب أي : قيدية الفور لأصل المأمور به فيفوت بالتأخير فلا يحرز بقاء الموضوع ، وبدونه لا يجري استصحاب الحكم ؛ لأن إحراز بقاء الموضوع من شرائط الاستصحاب.

قوله : «فتدبر جيدا» تدقيقي ؛ أولا : أنه ظاهر في التدقيق لا في التمريض. وثانيا : أنه مقيد بقوله : «جيدا» وهو ظاهر في التدقيق والدقة ؛ بمعنى : أن المطالب المذكورة تحتاج إلى الدقة.

خلاصة البحث في المبحث التاسع مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ يبحث في هذا المبحث عن دلالة الأمر ؛ هل إنه يدل على الفور ، أو يدل على التراخي ، أو يدل على الاشتراك بين الفور والتراخي. وقد سلك الأصوليون إلى هذه المذاهب ، واستدلوا بدلائل لا تخلو من الإشكال ، ولكن الحق عند المصنف «قدس‌سره» : أنه لا دلالة للصيغة لا على الفور ولا على التراخي ولا على الاشتراك بينهما ؛ بل الصيغة إنما تدل على طلب الطبيعة المجردة.

نعم ؛ إطلاق الصيغة وخلوها عن جميع القيود يشعر بجواز التراخي ؛ إذ لو أراد الآمر الفور لزمه تقييد الأمر بالفورية.

والحاصل : أنه يجوز حينئذ التراخي ، والدليل على جوازه هو : تبادر طلب إيجاد الطبيعة المحضة من الصيغة بلا دلالة على تقييد الصيغة بأحد القيدين أي : الفور والتراخي ، فلا بد في تقييد الصيغة على الفور من دلالة أخرى.

كما ادعى البعض دلالة غير واحد من الآيات على الفور ، واستدل على هذا صاحب المعالم بآيتي المسارعة والاستباق بتقريب : أن المراد بالمغفرة في آية المسارعة هو سببها وهو فعل المأمور به فيجب المسارعة إليه. وكذلك فعل المأمور به من الخيرات فيجب الاستباق إليه بمقتضى آية الاستباق ، ومن المعلوم : أنه لا يتحقق المسارعة والاستباق إلّا بإتيان المأمور به فورا وهو المطلوب.

٢ ـ (إشكالات ثلاثة) على الاستدلال بآيتي المسارعة والاستباق على وجوب الفور.

الأول : في هذا المدعى منع ظاهر ؛ لأن سياق الآيتين الشريفتين هو البعث والتحريك

٣٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى المسارعة والاستباق على نحو الاستحباب ، فمفادهما : هو استحباب الفور وهو خارج عن محل الكلام ؛ لأن محل الكلام هو الوجوب.

الثاني : أنه بناء على دلالة الآيتين على وجوب الفور : يلزم تخصيص الأكثر ، لخروج المستحبات وكثير من الواجبات عنهما ، وهو مستهجن عند أبناء المحاورة ، فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الآيتين في الوجوب ، والالتزام فيهما على الندب ، أو حمل الصيغة فيهما على مطلق الطلب والرجحان.

الثالث : هو حمل الأمر بالمسارعة والاستباق في الآيتين على الإرشاد إلى حكم العقل ؛ لئلا يلزم تخصيص الأكثر ؛ بتقريب : أن العقل كما يستقل بحسن أصل الإطاعة دفعا للعقوبة ، كذلك يستقل بحسن المسارعة إلى الإطاعة فهما ـ كآية الإطاعة في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ـ للإرشاد إلى حكم العقل ، فلا مجال للاستدلال بهما على وجوب الفور في الواجبات.

٣ ـ أنه بناء على القول بالفور ؛ هل قضية الأمر هو الإتيان بالمأمور به فورا ففورا أو لا؟ وجهان مبنيان على ما هو مفاد الصيغة على هذا القول هل هو وحدة المطلوب أو تعدده.

ومعنى وحدة المطلوب هو : أن الفورية مقوّمة لأصل المصلحة في الفعل المأمور به ؛ بحيث تفوت بفوات الفورية أي : فلا مصلحة فيه مع التأخير.

ومعنى تعدد المطلوب هو : أن تكون هناك مصلحتان إحداهما قائمة بالفعل من دون تقييده بالفور. والأخرى : قائمة بالفعل المقيد بكونه فورا ، فتفوت المصلحة مع فوات الفورية ، فبالتأخير يحصل عصيان الثاني دون الأول ، فيبقى طلب الأول.

إلّا أن الحق عند المصنف «قدس‌سره» عدم دلالة صيغة الأمر على ـ القول بالفور ـ على كيفية الفور من وحدة المطلوب أو تعدده.

وملخص الكلام في المقام : أنه بعد تسليم دلالة الصيغة على الفور أنها لا تدل على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا ، وأما أنها على نحو وحدة المطلوب أو تعدده : فصيغة الأمر قاصرة عن الدلالة عليه.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو أن صيغة الأمر تدل على طلب إيجاد الطبيعة المأمور بها ، فلا تدل على الفور ولا على التراخي. ثم على القول بالفور : لا تدل صيغة الأمر على أزيد من مطلوبية الطبيعة المأمور بها فورا ، وأمّا المطلوب بها واحد أو متعدد فهو أجنبي عن مفاد الصيغة.

٣٩٨

الفصل الثالث

الإتيان بالمأمور به (١) على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة.

وقبل الخوض في تفصيل المقام ، وبيان النقض والإبرام ، ينبغي تقديم أمور :

______________________________________________________

الكلام في الإجزاء

(١) وقد عنونوا المسألة بوجوه ثلاثة :

الأول : ما في كلام بعضهم ، وهو : أن الأمر يقتضي الإجزاء أم لا؟

الثاني : ما ذكره بعض آخر ، وهو : أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء أم لا؟

الثالث : ما في كلام المصنف «قدس‌سره» وهو : «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة» ، ثم ما في كلام المصنف من العنوان أي : «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء» أولى ممّا في كلام البعض من «أنّ الأمر يقتضي الإجزاء أم لا؟».

وجه الأولوية ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ٣» :

أوّلا : إنّ النزاع ليس في مقام الدلالة والإثبات ؛ بل في مرحلة الواقع والثبوت ، ولذا يجري هذا النزاع في جميع الواجبات وإن لم يكن الدليل عليها لفظيا ، بل لبيّا فلا وجه لجعل الإجزاء مدلولا للأمر.

وثانيا : أنّ المقتضي للسقوط هو الامتثال المتحقق بإتيان متعلق الأمر بجميع ما يعتبر فيه ـ لا نفس الأمر ـ لأنه لا يدل إلا على مطلوبية المتعلّق ، ولا يدلّ على الإجزاء إلا بالتوجيه ، وهو أن الأمر لكشفه عن مصلحة في متعلقه يدل التزاما على سقوطه إذا أتى بمتعلقه الذي تقوم به المصلحة ؛ لتبعية الأمر لها حدوثا وبقاء ، ولكن لمّا كانت الدلالة على السقوط لأجل الإتيان بمتعلقه ، فنسبة الإجزاء إليه بلا واسطة أولى من نسبته إلى الأمر معها كما لا يخفى.

وقد ظهر مما ذكرنا : أنّ هذا البحث ليس من الأبحاث اللغوية التي يطلب فيها تشخيص مدلول اللفظ وضعا أو غيره ؛ بل من المباحث العقلية كما يظهر من أدلة الطرفين.

٣٩٩

أحدها :

الظاهر : أن المراد من «وجهه» (١) ـ في العنوان ـ هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذلك النهج شرعا وعقلا ، مثل : أن يؤتى به بقصد التقرب في العبادة ، لا

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فعمدة البحث فيه هو الكلام عن إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي ـ الاضطراري ـ عن الأمر الواقعي الأولي ، وإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، ولا إشكال في إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الاضطراري ، وإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الظاهري ، هذا ما أشار إليه بقوله : «في الجملة» أي : في بعض الموارد على نحو الموجبة الجزئية ؛ كالإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي ، وهكذا هذا هو عمدة البحث.

ولكن قد تعرّض المصنف «قدس‌سره» لبعض الجهات التي لا دخل لها في أساس البحث ، ولعل تعرّضه إلى بيان المراد من كلمة «وجهه» ، والمراد من كلمة «يقتضي» ، وكلمة «الإجزاء» ؛ إنما هو تبعا للقدماء ، فلا بد من توضيح ما جاء في كلامه «قدس‌سره» من الأمور الثلاثة المذكورة.

فنقول : إن غرض المصنف «قدس‌سره» من ذكرها قبل الخوض في تفصيل المقام هو بيان ما هو التحقيق من المراد بالعناوين المأخوذة في مسألة الإجزاء.

(١) توضيح ذلك باختصار : أن المقصود من قيد «على وجهه» هو : إتيان المأمور به بجميع ما اعتبر فيه شرعا وعقلا.

والأول : مثل الأمور المعتبرة شرعا في المأمور به من الطهارة والاستقبال والستر وغيرها ؛ مما له دخل في الصلاة شرعا.

والثاني : مثل الأمور المرتبة على الأمر ؛ من قصد القربة والتمييز ونحوهما ، بناء على عدم إمكان أخذها في المأمور به شرعا على ما هو مختار المصنف ، فإنها حينئذ معتبرة في كيفية الإطاعة عقلا بحيث لا يسقط الأمر بدونها.

وكيف كان ؛ فللوجه في قوله : «على وجهه» ثلاثة معان : الأول : هذا المعنى المذكور ـ ما يعتبر في المأمور به شرعا وعقلا ـ. الثاني : ما يعتبر فيه شرعا فقط. الثالث : الوجه المعتبر عند بعض الأصوليين.

ثم المراد من الوجه عند المصنف هو المعنى الأول ؛ دون المعنيين الأخيرين.

٤٠٠