دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

واختلاف (١) أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات ، بحسب الفعلية والشأنية والصناعة والملكة ـ حسب ما نشير إليه ـ لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع هاهنا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

النزاع قهرا في اسم الفاعل وما بمعناه ، إلّا إن هذا الزعم في غير محله كما أشار إليه بقوله : «وهو كما ترى» ؛ إذ لا يختص النزاع باسم الفاعل وما بمعناه ، بل غير اسم الفاعل أيضا محل الخلاف ، وما ذكره من الأمثلة مردود لوجهين :

أحدهما : ان النزاع في المقام في مفاد الهيئة لا في مفاد المبدأ فنقول : إنه لم تؤخذ المبادئ فعلية في تلك الأمثلة ، بل في المثال الأول أخذ القتل بمعنى : عدم الروح لا بمعنى : إزهاقها ، كما هو مفاد المصدر ، وفي المثال الثاني : أخذ الصنع بمعنى : أثر الصنع لا التأثير الفعلي ، وفي المثال الثالث : أخذت الكتابة بمعنى : الصناعة والحرفة لا الكتابة الفعلية. فنظرا إلى هذه المعاني التلبس متحقق حال الجري ولهذا لا نزاع فيها. وثانيهما : أنه من الممكن أن يكون الإطلاق في الجميع بلحاظ حال التلبس لا بلحاظ حال الانقضاء ، ومحل الكلام هو الثاني دون الأول. هذا وإن كان مراد صاحب الفصول من الاتفاق على معنى هذه الصفات وضوح معانيها عند ابناء المحاورة فيقال : إنّ وضوح المعنى عند أبناء المحاورة لا يوجب عدم نزاع العلماء فيه.

(١) وقد اختلف أصحاب الحواشي والشروح فيما هو مراد المصنف بهذا الكلام على أقوال واحتمالات :

الأول : أن يكون هذا الكلام من المصنف جوابا عما ذكره صاحب الفصول في الأمر الثالث من الفصل الثاني ، من بحث المشتق ؛ صفحة ٦٠ حيث قال فيه : ما هذا لفظه : «إذا عرفت هذا» ـ أي : خروج مفهوم الزمان عن مدلول المشتق وضعا ـ «فالحق أن المشتق إن كان مأخوذا من المبادئ المتعدية إلى الغير كان حقيقة في الحال والماضي أعني : في القدر المشترك بينهما ؛ وإلّا كان حقيقة في الحال فقط» ـ إلى أن قال ـ «واعلم : أنه قد يطلق المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته كما يقال : هذا الدواء نافع لكذا ، أو مضر ، وشجرة كذا مثمرة ، والنار محرقة إلى غير ذلك. وقد يطلق ويراد به المتصف بملكة المبدأ ، أو باتخاذه حرفة وصناعة ؛ كالكاتب والصانع والتاجر والشاعر ونحو ذلك ، ويعتبر في المقامين حصول الشأنية والملكة والاتخاذ حرفة في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره». انتهى مورد الحاجة من كلام صاحب الفصول.

ومحصله : التفصيل في وضع المشتق بين المبادئ ؛ فإن كان المبدأ من المبادئ المتعدية كان المشتق حقيقة في الأعم من التلبس والانقضاء ، وإن كان من المبادئ اللازمة أو

١٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

الملكات والصنائع كان حقيقة في خصوص حال التلبس.

وقد أجاب المصنف عنه بقوله : «واختلاف أنحاء التلبسات ...» إلخ. وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب : إن اختلاف أنحاء التلبسات بحسب تفاوت مبادئ المشتقات من حيث التعدي واللزوم ، أو من حيث الفعلية والشأنية ، والصناعة والملكة لا يوجب تفاوتا في وضع هيئة المشتق ، فلا فرق في وضعها لخصوص حال التلبس ، أو الأعم بين المبادئ لأن اختلافها في التعدي واللزوم ، أو الفعلية والشأنية وغيرها ؛ وإن كان يوجب اختلافا في كيفية التلبس ؛ إلّا إنّه لا يوجب اختلافا في المهم وهو وضع هيئة المشتق.

الثاني : أن يكون مراد المصنف من قوله : «واختلاف أنحاء التلبسات ...» إلخ ردّا لتوهم اختصاص النزاع ببعض المشتقات دون بعض ؛ وإن لم يتوهمه صاحب الفصول.

توضيحه : أنه قال في الفصول في جملة ما أفاده في المقام ما هذا لفظه : «واعلم : أنه قد يطلق المشتق ويراد به المتصف بشأنية المبدأ وقوته ، كما يقال : هذا الدواء نافع أو مضر ، وشجرة كذا مثمرة ، والنار محرقة إلى غير ذلك ، وقد يطلق ويراد به المتصف بملكة المبدأ ، أو باتخاذه حرفة وصناعة ؛ كالكاتب والصانع والتاجر والشاعر ونحو ذلك ، ويعتبر في المقامين حصول الشأنية والملكة والاتخاذ حرفة ؛ في الزمان الذي أطلق المشتق على الذات باعتباره» انتهى مورد الحاجة من كلامه.

فيقول المصنف : إن اختلاف أنحاء التلبسات حسب تفاوت مبادئ المشتقات بحسب الفعلية ؛ كما في القائم والضارب ونحوهما ، أو الشأنية والصناعة والملكة حسب ما يشير إليه الفصول مما لا يوجب تفاوتا في المهم المبحوث عنه ؛ بحيث يتوهم عدم جريان النزاع في مثل ما كان الاتصاف بالشأنية أو الصناعة أو الملكة بزعم صدق المشتق فيه بدون التلبس بالمبدإ في الحال ؛ غفلة عن أن التلبس فيه مما يعتبر بشأنية المبدأ ، أو بصناعته ، أو بملكته ؛ لا بنفس المبدأ بذاته. كما في «عناية الأصول».

الثالث : أنه جواب عما في الفصول من خروج أحد قسمي اسم المفعول وهو : ما أخذ المبدأ فيه خصوص الفعلية مع إطلاقه على الذات بعد انقضاء المبدأ عنها ، وكذا أسماء الزمان والمكان والآلة ، وصيغ المبالغة. فلا بد من كون المشتق في هذه الموارد موضوعا للأعم ، فاختلاف مبادئ المشتقات الموجب لاختلاف أنحاء التلبسات يوجب خروج ما عدا اسم الفاعل والصفات المشبهة وما يلحق بها عن حريم النزاع.

ومحصل الجواب : أن جهة البحث هنا هي : وضع هيئة المشتق لخصوص حال

١٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

التلبس أو الأعم ؛ من دون تفاوت في ذلك بين المبادئ ، والاختلاف إنما يكون في كيفية التلبس بها ، فإن قلنا بوضع هيئة المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ فحينئذ نقول : إن المبدأ إن كان فعليا يزول بسرعة ـ كالشرب مثلا ـ فالتلبس به هو الاشتغال بالشرب ، وبانتهائه ينقضي المبدأ وإن كان ملكة ـ كالاجتهاد ـ فالتلبس به هو بقاء ملكته وإن لم يكن له استنباط فعلي ، وإن كان الشأنية : فالتلبس به هو شأنيته ـ كالمفتاح ـ فإن التلبس به بقاؤه على هيئة المفتاحية.

فاختلاف هذه المبادئ من حيث الفعلية والشأنية وغيرهما لا يوجب اختلافا فيما هو المبحوث عنه في المقام ؛ أعني : وضع هيئة المشتق ، وإطلاقه على الذات بعد انقضاء المبدأ الفعلي عنها يكون على نحو الحقيقة إن كان الجري بلحاظ حال النسبة ، ومجازا إن لم يكن بلحاظها ، وإن قلنا : بوضع هيئة المشتق للأعم فنقول : إن الانقضاء فيما إذا كان المبدأ فعليا هو انتهاؤه كالشرب والأكل وغيرهما من الأفعال ، وفيما إذا كان ملكة ونحوها فانقضاء المبدأ فيه هو ارتفاع الملكة والشأنية ، فملكة الاجتهاد تزول بزوال القدرة على الاستنباط ، وشأنية المفتاح تزول بزوال هيئته ، والصنائع تزول بأعراض أربابها عنها. هذا كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٢٠٢».

الرابع : أن يكون قوله : «واختلاف أنحاء التلبسات ...» إلخ وجها لقوله : «كما ترى» فيكون من تتمة الردّ على صاحب الفصول ، وبيانه يتوقف على تمهيد مقدمة ، وهي : إن النزاع في المشتق ليس في تعيين معنى المادة ولا في كيفية الاشتقاق ، إذ الأوّل راجع إلى اللغة ، والثاني راجع إلى العرف ، بل النزاع في مفاد الهيئة ، ثم إن مفاد الهيئة ربما يختلف باختلاف المواد مثلا : «تارة» : تطلق الكتابة ويراد بها ملكتها ، ثم يشتق منها الكاتب ، ومن البيّن أن معناه حينئذ المتلبس بالملكة ، فيصدق الكاتب ما دامت الملكة باقية وإن لم يكن كاتبا بالفعل.

«وأخرى» : يراد من الكتابة شأنيتها وقوتها ثم يشتق منها الكاتب ، ومن البيّن : أن معناه حينئذ : المتلبس بشأنية الكتابة ، فيصدق الكاتب ما دامت الشأنية باقية وان كان الشخص أميا ، «وثالثة» : يراد من الكتابة الحرفة ثم يشتق منها الكاتب ، ومن الواضح أن معناه حينئذ : المتلبس بحرفة الكتابة فيصدق الكاتب ما دامت الحرفة باقية ، ويذهب إن ذهبت الحرفة وإن كانت الملكة موجودة.

إذا عرفت ذلك قلنا : «إن صاحب الفصول ذكر لكل واحد من اسم المفعول ، وصيغة

١٦٣

ثم إنه لا يبعد (١) أن يراد بالمشتق في محل النزاع مطلق ما كان مفهومه ومعناه

______________________________________________________

المبالغة ، واسم الزمان واسم المكان واسم الآلة معنى ، وأخرجها عن محل الكلام والنزاع بزعم أن تلك المعاني اتفاقية ، وقال في اسم المفعول : إنه قد يطلق ويتبادر منه ما يعم الحال والماضي كقولك : «هذا مقتول زيد أو مصنوعه أو مكتوبه» وقد يختص بالحال نحو : «هذا مملوك زيد ...» إلخ.

والجواب : أن النزاع ـ كما تقدم ـ في مفاد الهيئة لا المادة ولا اتفاق في هذه الخمسة ، وأما اسم المفعول : فالمقتول بمعنى : من أزهق روحه بسبب القتل ، والمصنوع بمعنى : ما حدث فيه أثر الصنع ، والمكتوب بمعنى : ما وجدت فيه الكتابة ، فالمشتق إنما يصدق في هذه الأمثلة لأجل أعمية المبدأ مع الفعلي والشأني ، والحرفة والملكة والصناعة وغيرها ، فإن اختلاف أنحاء التلبس حسب تفاوت مبادئ المشتقات لا يوجب تفاوتا في المهم من محل النزاع كما في «الوصول إلى كفاية الأصول» ، وأقرب هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول فتدبر.

(١) غرضه من هذا الكلام : وإن كان بيان تعميم محل النزاع في المشتق الأصولي ؛ حيث يعم بعض الجوامد عند النحاة ، إلّا إن المستفاد منه أمور : منها : الفرق بين المشتق باصطلاح الأصوليين ، وبينه باصطلاح النحاة ؛ فإن النحاة يرون أن الزوجية والحرية والرقية من الجوامد ، والأصوليون يرونها من المشتقات ؛ فإن المشتق باصطلاح الأصوليين هو مطلق ما كان مفهومه جاريا على الذات ومحمولا عليها ، وبملاحظة اتصافها بعرض كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض المتأصلة التي لها حظّ من الوجود ولو في ضمن المعروض.

«أو بعرضي» أي : كالفوقية والتحتية والزوجية ونحو ذلك من الأمور الانتزاعية المحضة ؛ التي ليس لها حظّ من الوجود إلّا لمنشا انتزاعها ، بل هي أمور اعتبارية يعتبرها العقلاء أو الشارع.

ومنها : أن النسبة بين مشتقات النحويين والأصوليين هي عموم من وجه. وقد مر الكلام فيها فلا نعيد.

ومنها : الفرق بين العرض والعرضي في كلام المصنف.

وملخص الفرق : أن المراد بالأول : هو نفس المبدأ ؛ كالسواد والبياض ونحوهما من الأمور المتأصلة التي لها نصيب من الوجود.

والمراد بالثاني : هو الأمر الانتزاعي على خلاف اصطلاح المنطقيين ؛ فإن العرضي في اصطلاحهم هو : المشتق كالأسود والأبيض.

١٦٤

جاريا على الذات ومنتزعا عنها ، بملاحظة اتصافها بعرض أو عرضي ولو كان جامدا ، كالزوج والزوجة والرق والحر.

وإن أبيت (١) إلّا عن اختصاص النزاع المعروف بالمشتق كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه ، فهذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع كما يشهد به (٢) ما عن الإيضاح في باب الرضاع ، في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة ، ما هذا لفظه :

______________________________________________________

فالحاصل : أن مراد المصنف من العرض : الأمور المتأصلة التي لها وجود في الخارج ، ومراده من العرضي الأمور غير المتأصلة التي لا يحاذيها في الخارج شيء.

وكيف كان ؛ فليس المراد بالمشتق هنا المشتق باصطلاح النحاة وهو ما يؤخذ من لفظ آخر مع اشتماله على حروفه وترتيبه ؛ بل المشتق باصطلاح الأصوليين هو : ما دل على مفهوم جار على الذات بلحاظ اتصافها بأمر خارج عنها ، فيكون المشتق بهذا المعنى جامعا للأفراد لشموله الجوامد مثل الزوج والرق والحر ، ومانعا للأغيار لعدم شموله ما لا يجري على الذات كالأفعال والمصادر المزيدة.

(١) أي : إن أبيت ومنعت عن تسمية مثل الزوج والزوجة والرق والحر بالمشتق ؛ وقلت : باختصاص النزاع بالمشتق باصطلاح النحاة كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق فنقول : إن هذا القسم من الجوامد أيضا محل النزاع ، وإن لم يشملها لفظ المشتق. والأولى أن يقال : «وإن أبيت إلّا عن إرادة المشتق المصطلح عند النحاة كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه ، لكن هذا القسم من الجوامد أيضا داخل في محل النزاع» ، فإن عبارة المصنف لا تخلو عن القصور في تأدية ما هو المقصود.

(٢) أي : كما يشهد بدخول هذا القسم من الجوامد ـ أيضا محل النزاع ـ «ما عن الايضاح ... وما عن المسالك».

لنا على دخول بعض الجوامد كالزوج والزوجة في محل النزاع شاهدان أحدهما : ما عن الإيضاح. وثانيهما : ما عن المسالك ، ج ٧ ، ص ٢٦٩ : وأما ما في الإيضاح فقال في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان ، أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه : «تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين».

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن من موجبات الحرمة الأبدية عنوان أمّ الزوجة من دون فرق بين كون الأم سببية أو رضاعية بدليل قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ

١٦٥

أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) النساء : ٢٣ ، وقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» (١).

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول في تقريب شهادة ما عن الايضاح ـ على دخول مثل الزوج والزوجة في محل النزاع ـ : إنه قد ابتنى بعض الأصحاب حرمة المرضعة الثانية على نزاع المشتق فعلى القول بالأعم : تحرم. وعلى القول بخصوص حال التلبس : لا تحرم وهذا ما أشار إليه بقوله : «وأما المرضعة الأخرى» أي : الثانية «ففي تحريمها خلاف» «فاختار والدي المصنف» ـ أي : العلامة ، لأن الإيضاح شرح على قواعد العلامة وكذا اختار محمد إدريس الحلي في السرائر ـ «تحريمها» على الزوج ، لأن هذه الأخرى يصدق عليها أم زوجته أيضا ، لأنها أرضعت الصغيرة أيضا.

وبعبارة واضحة : أن زوجته الصغيرة قد بطلت زوجيتها بالارتضاع من المرضعة الأولى ، فصارت ابنة الزوجة المدخول بها ، كما أن المرضعة الأولى صارت أمّ الزوجة ، فلا إشكال في تحريمهما على الزوج ؛ إذ كل من ابنة الزوجة وأمّها حرام قطعا. وهذا معنى قوله : «تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين».

وإنما الكلام في المرضعة الثانية حيث إن حرمتها على الزوج مبنيّة على وضع المشتق للأعم ، لأن سبب حرمتها عليه هو صدق أم الزوجة عليها ؛ فعلى القول بوضعه للأعم يصدق عليها أمّ الزوجة فتحرم. وأما على القول بوضعه لخصوص حال التلبس فلا تحرم. إذ لا يصدق عليها أمّ الزوجة ، بل يصدق عليها أمّ من كانت زوجة وقد انقضت زوجيته بالارتضاع من المرضعة الأولى هذا تمام الكلام في الشاهد الأول.

__________________

(١) الكافي ، ج ٥ ، ص ٤٣٧ ، ح ٢ ، ص ٤٤٢ ، ح ٩ ـ ص ٤٤٦ ، ح ١٦ / التهذيب ، ج ٧ ، ح ٥٩ ، ص ٢٩٢ ، ح ٦٠ إلخ. وبألفاظ أخرى مثل : «ما يحرم من القرابة». الكافي ، ج ٥ ، ص ٤٣٧ ، ح ١ / التهذيب ، ح ٧ ، ص ٢٩١ ، ح ٥٨ ـ ص ٢٩٢ ، ح ٦٣. الخ ، وبألفاظ أخرى : المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم ، ج ٤ ، ص ١١٩ ، ح ٣٣٨٤ / المجتبى من سنن النسائي ، ج ٦ ، ص ٩٩ ، ح ٣٣٠١ / سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٦٢٣ ، ح ١٩٣٧.

وكذلك ورد بلفظ : «يحرم من الرضاع ما يحرم بالولادة». المسند المستخرج ، ج ٤ ، ص ١١٧ ، ح ٣٣٧٥ / سنن الدارمي ، ج ٢ ، ص ٢٠٧ ، ح ٢٢٤٨ ، وهو عام يدخل غير طاهر المولد ، بخلاف الآخر ؛ وهو : ما يثبت به النسب.

١٦٦

«تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بالكبيرتين (١) وأمّا المرضعة الأخرى : ففي تحريمها خلاف ، فاختار والدي المصنف «رحمه‌الله» وابن إدريس تحريمها ، لأن هذه يصدق عليها أمّ زوجته ، لأنه لا يشترط في المشتق بقاء المشتق منه هكذا هاهنا» ، وما عن المسالك في هذه المسألة ، من ابتناء الحكم فيها (٢) على الخلاف في مسألة المشتق.

______________________________________________________

وأما الشاهد الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «وما عن المسالك في هذه المسألة من ابتناء الحكم فيها على الخلاف في مسألة المشتق».

وملخص ما عن الشهيد الثاني في المسالك ، ج ٧ ، ص ٢٦٩ ، ـ من ابتناء الحكم في المرضعة الثانية على الخلاف في المشتق ـ : أنه إن قلنا ببقاء الزوجية لأجل بقاء المشتق ، وصدقه بأنها زوجة ولو بعد خروجها عن الزوجية تحرم الثانية. وإن لم نقل ببقاء الزوجية يعني المشتق منه لا تحرم المرضعة الثانية ؛ إذ لا يصدق عليها أمّ الزوجة على هذا القول.

(١) عبارة الإيضاح ، ج ٣ ، ص ٥٢ ، والمحكي في البدائع ، والمشتق من فوائد المصنف ، ص ٦٤ ، هكذا : «مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع».

(٢) أي : من ابتناء الحكم بالتحريم في المرضعة الثانية «على الخلاف في مسألة المشتق» ، فقال ما لفظه : «بقي الكلام في تحريم الثانية من الكبيرتين ، فقد قيل : إنها لا تحرم ، وإليه مال المصنف ، حيث جعل التحريم أولى ، وهو مذهب الشيخ وابن الجنيد ، لخروج الصغيرة عن الزوجية إلى البنتية ، وأمّ البنت غير محرمة على أبيها ، خصوصا على القول باشتراط بقاء المعنى المشتق منه في صدق الاشتقاق ، كما هو رأي جمع من الأصوليين». ثم ذكر تحريمها إلى أن قال : «لأن هذه يصدق عليها أمّ زوجة وإن كان عقدها قد انفسخ ، لأن الأصح أنه لا يشترط في صدق المشتق بقاء المعنى المشتق منه». انتهى. على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ١ ، ص ٢١٧».

والحاصل : أن إرضاع الكبيرة الأولى للصغيرة محرّم لهما ، لأن الكبيرة تصير أم الزوجة ، والصغيرة تصير ابنة الزوجة وهما من موجبات الحرمة الأبدية بعد الدخول بالكبيرة. هذا مما لا إشكال فيه ، وإنما الكلام فيما إذا أرضعت الكبيرة الثانية للصغيرة فإن قلنا : بصدق المشتق ـ أي : الزوجة على الصغيرة بعد خروجها عن الزوجية تحرم الكبيرة الثانية ؛ لأنها برضاعها للصغيرة تكون أم الزوجة ، وإن لم نقل بالصدق لم تحرم لأنها لم ترضع الزوجة ؛ وإنما أرضعت أجنبية فلا تكون أمّ زوجته حتى تحرم.

فالمتحصل من الجميع : أنه تحرم على الزوج الكبيرة الأولى ، والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين ، أما الصغيرة : فلأجل أنها صارت بارتضاعها من إحدى الكبيرتين ابنة له إن كان اللبن

١٦٧

فعليه (١) : كلما كان مفهومه منتزعا من الذات ، بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات ـ كانت عرضا أو عرضيا ـ كالزوجية والرقية والحرية وغيرها من الاعتبارات والإضافات ، كان (٢) محل النزاع وإن كان جامدا.

وهذا بخلاف ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات (٣) والذاتيات (٤) فإنه لا نزاع في كونه (٥) حقيقة في خصوص ما إذا كانت باقية بذاتياتها.

______________________________________________________

له ، وربيبته إن كان اللبن من غيره ، وكلا العنوانين قد ثبتت حرمتهما في الكتاب والسنة.

وأما الكبيرة الأولى : فلأجل أنها صارت بإرضاعها الصغيرة أم زوجة له وهي محرمة أيضا في الكتاب والسنة.

وأمّا تحريم الكبيرة الثانية : فهو متفرع على كون المشتق المبحوث عنه للأعم من المتلبس بالمبدإ في الحال ، وممن انقضى عنه المبدأ ، ولذا قال الشهيد في المسالك : بابتناء الحكم في المرضعة الثانية على الخلاف في مسألة المشتق ، وقال : بحرمتها على القول بوضع المشتق للأعم مع كون لفظة الزوجة من الجوامد ، فلا يختص النزاع بالمشتق المتعارف عند النحاة.

وفي المسألة صور وأقسام ، ونقض وإبرام تركناها رعاية للاختصار.

(١) أي : فعلى ما ذكرناه من شمول النزاع لبعض الجوامد : «كلما كان مفهومه منتزعا من الذات» جامدا كان أو مشتقا «بملاحظة اتصافها بالصفات الخارجة عن الذاتيات» أي : لم تكن تلك الصفات من الذاتي في «باب الإيساغوجي» كالجنس والفصل والنوع ، ولا من الذاتي في «باب البرهان» كالمحمول الذي ينتزع عن نفس الذات بلا ضم ضميمة مثل إمكان الممكن ، فكلاهما خارجان عن هذا البحث لانتفاء الموضوع بانتفائه في «ذاتي باب الإيساغوجي» ، وامتناع ارتفاع الذاتي البرهاني الذي هو من لوازم الذات مع بقاء الملزوم أعني : الذات كما هو المقصود في باب المشتق.

(٢) أي : كلما كان مفهومه منتزعا عن الذات كان محل النزاع وإن كان جامدا باصطلاح النحاة ؛ إذ الملاك في المشتق في محل الكلام أن يكون جاريا على الذات ، وأن يكون خارجا عنها ، وهذا الملاك موجود في بعض الجوامد باصطلاح النحاة. فقوله : «كان محل النزاع ...» إلخ خبر قوله : «كلما كان مفهومه ...» إلخ.

(٣) أي : نظير إنسانية الإنسان حيث تنتزع عن ذات الإنسان.

(٤) أي : نظير الناطقية والحيوانية حيث إن الأولى تنتزع عن الفصل ، والثانية من الجنس ، وهما من الذاتيات.

(٥) أي : لا نزاع في كون المنتزع عن مقام الذات والذاتيات خارجا عن محل النزاع ،

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

لأنه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ ؛ إذ المبدأ هو الذات ، فلا بد من أن تكون باقية بذاتياتها.

وتوضيح خروج ذلك عن النزاع يتوقف على مقدمة : وهي : أن دخول شيء في محل النزاع يبتني على ركنين :

«الركن الأول» : أن يكون الشيء جاريا على الذات المتلبسة بالمبدإ ؛ ومتحدا معها خارجا بنحو من الاتحاد ، وبذلك الركن خرجت المصادر المزيدة لأنها لا تجري على الذات المتصفة بها ، فلا يقال : «زيد إكرام» إذا كان متصفا بهذا المبدأ.

«الركن الثاني» : أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ ؛ بأن تكون لها حالتان حالة تلبسها بالمبدإ ، وحالة انقضاء المبدأ عنها ، وبذلك الركن خرج القسم الأول من الجوامد كالإنسان والحيوان والشجر ونحوها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما كان مفهومه منتزعا عن مقام الذات والذاتيات قد خرج بالركن الثاني ، والوجه فيه : أن المبادئ في أمثال ذلك مقومة لنفس الحقيقة والذات ، وبانتفائها تنتفي الذات ، فلا تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ ، فلا يقال : هذا إنسان أو ناطق أو حيوان بعد انتفاء الإنسانية والناطقية والحيوانية.

وأما القسم الثاني من الجوامد وهو ما كان منتزعا عن أمر خارج عن مقام الذات : فهو داخل في محل النزاع كعنوان «الزوج والرق والحر» ؛ لأن الذات فيه باقية بعد انقضاء المبدأ عنها ، وحينئذ يشمله النزاع في أن الإطلاق عليها حال الانقضاء حقيقة أو مجاز.

خلاصة البحث حسب ما يلي :

١ ـ أن محل النزاع إنما هو في إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

٢ ـ المراد بالمشتق ما يكون جاريا على الذات سواء كان مشتقا باصطلاح النحاة أو جامدا.

٣ ـ أنه لا وجه لتخصيص صاحب الفصول محل النزاع باسم الفاعل وما بمعناه ؛ سوى تمثيلهم باسم الفاعل ، واحتجاج بعضهم بإطلاق اسم الفاعل على الأعم ؛ دون إطلاق بقية الأسماء.

إلّا إن الأول لا يدل على الاختصاص ، لأن التمثيل باسم الفاعل إنما هو من باب ذكر بعض مصاديق المشتق. وكذلك ذكر اسم الفاعل في مقام الاحتجاج لا يدل على الاختصاص.

١٦٩

ثانيها (١) : قد عرفت أنه لا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات الجارية على

______________________________________________________

٤ ـ لو قيل باختصاص النزاع بالمشتق باصطلاح النحاة ـ كما هو مقتضى الجمود على ظاهر لفظ المشتق ـ فهذا القسم من الجوامد أعني : الزوج والزوجة مثلا داخل في محل النزاع ؛ كما يشهد به ما عن الإيضاح ، ج ٣ ، ص ٥٢ ، وما عن المسالك ، ج ١ ، ص ٢٦٩.

قال في الإيضاح : في باب الرضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصغيرة ما هذا لفظه : (تحرم المرضعة الأولى والصغيرة مع الدخول بإحدى الكبيرتين بالإجماع ، وأما المرضعة الأخرى ففي تحريمها خلاف) بمعنى : أن حرمة المرضعة الثانية مبنية على الخلاف في مسألة المشتق ؛ فإن قلنا بوضعه للأعم فتحرم ، وإن قلنا بوضعه لحال التلبس بالمبدإ فلا تحرم ؛ إذ لا يصدق عليها حينئذ أمّ الزوجة لانقضاء زوجية الصغيرة بارتضاعها من المرضعة الأولى ، قصارت أجنبية حين ارتضاعها عن المرضعة الثانية.

هذا ملخص ما عن الإيضاح وقس عليه ما عن الشهيد في المسالك فلا حاجة إلى ذكره.

(١) الأمر الثاني من الأمور الستة لا بد لنا من تقديمه وإيضاحه ، وقد عرفت في الأمر الأول في تحرير محل النزاع : أن المشتق باصطلاح الأصوليين يعم ويشمل جميع ما يجري على الذات ، ولا وجه لتخصيص النزاع ببعض المشتقات كما توهمه صاحب الفصول ؛ «إلّا إنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان».

توضيح الإشكال على دخول اسم الزمان في نزاع المشتق يتوقف على مقدمة وهي : أنه قد عرفت : أن الملاك في كون المشتق داخلا في محل النزاع أن تكون الذات باقية بعد انقضاء المبدأ بأن تكون لها حالتان : حالة التلبس بالمبدإ ، وحالة الانقضاء ؛ كقولنا : «زيد عالم». حيث إن الذات فيه باقية بعد ارتفاع مبدأ العلم عنه فيقال : إن إطلاق العالم على زيد بعد الانقضاء هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا يمكن جريان النزاع في اسم الزمان ، لأن الذات فيه ـ وهو الزمان ـ لا يبقى بعد انقضاء المبدأ ، فلا يتصور وجود ذات انقضى عنها التلبس بالمبدإ ، كي يقال : إن اسم الزمان حقيقة فيها أو مجاز.

وذلك للفرق الواضح بين القاتل والمقتل بمعنى زمان القتل حيث إن الذات في الأول هو الشخص ؛ وهو باق بعد انقضاء المبدأ أعني : القتل بخلاف الثاني ؛ فإن الذات فيه هو نفس زمان وقوع القتل وهو ينقضي بانقضاء القتل ويتصرم ، فلا يعقل بقاؤه حتى يقال : إن اطلاق المقتل عليه هل هو على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز؟

١٧٠

الذوات ؛ إلّا إنه ربما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزمان ، لأن الذات فيه ـ وهي الزمان ـ بنفسه ينقضي وينصرم ، فكيف يمكن أن يقع النزاع في أنّ الوصف (١) الجاري عليه حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، أو فيما يعم المتلبس به في المضي؟

ويمكن حل الإشكال (٢) : بأن انحصار مفهوم عام بفرد ـ كما في المقام ـ لا يوجب

______________________________________________________

وأما إطلاق اسم الزمان في بعض الموارد ، كإطلاق مقتل الحسين «عليه‌السلام» على يوم العاشر من المحرم ؛ فهو من باب التجوز والعناية بلا إشكال.

(١) المراد بالوصف هو المبدأ «الجاري عليه» أي : على اسم الزمان كالمقتل الذي يحمل على يوم عاشوراء مثلا مع انقضاء الزمان المتلبس بالقتل.

فالمتحصل : أنه إذا كان الذات مما لا بقاء له ، وكان ينتفي وينقضي مع انقضاء المبدأ ؛ فلا مجال للنزاع في أن الموضوع له هو حال الاتصاف أو الأعم ، مثلا : أسماء الزمان ـ مثل مقتل ـ موضوع للزمان الذي يقع فيه القتل ، وهذا الزمان لا بقاء له بعد انقضاء المبدأ حتى يطلق اللفظ عليه ففي أسماء الزمان لا يعقل أن يقال بوضعها للأعم لعدم إمكان بقائه ، لأن زوال الوصف في اسم الزمان ملازم لزوال الذات ؛ لأن الزمان متصرم الوجود ، فكل جزء منه ينعدم بوجود الجزء اللاحق ، فلا تبقى ذات مستمرة ، فإذا كان يوم الجمعة مقتل زيد ـ مثلا ـ فيوم السبت الذي بعده ذات أخرى من الزمان لم يكن لها وصف القتل ، ويوم الجمعة تصرم وزال كما زال نفس الوصف. وهناك أقوال في حقيقة الزمان تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

(٢) قد أجاب المصنف عن الإشكال المذكور بوجهين :

الأول : بالحل والثاني : بالنقض. وقد أشار إلى الأول بقوله : «ويمكن حل الإشكال».

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن النزاع في المشتق يتصور على قسمين :

أحدهما : أن يكون في مفهومه.

وثانيهما : أن يكون في مصداقه الحق هو الأول ؛ لأن النزاع إنما هو في مفهوم المشتق لا في مصداقه.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الإشكال المذكور مبني على كون النزاع في المصداق ؛ لأنه حينئذ لا يتصور النزاع في وضع اسم الزمان للأعم ، إذ ليس له إلّا فرد واحد وهو المتلبس بالمبدإ ، ولا يعقل أن تكون له أفراد ثلاثة ـ فرد تلبس ، وفرد انقضائي ، وفرد استقبالي ـ حتى يقال : إنه حقيقة في الفرد التلبسي ، أو في الأعم منه

١٧١

أن يكون وضع اللفظ بإزاء الفرد دون العام ، وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة ، مع إن الواجب موضوع للمفهوم العام ، مع انحصاره فيه «تبارك وتعالى».

______________________________________________________

ومن الفرد الانقضائي ، فانحصار مصداق الزمان في الفرد التلبسي يقتضي خروجه عن نزاع المشتق.

هذا بخلاف ما إذا كان مورد البحث في المشتق هو المفهوم ؛ فلا مانع حينئذ من جريان النزاع في اسم الزمان كسائر المشتقات. فيقال : إن الموضوع له فيه هل هو مفهوم عام يشمل للمتلبس والمنقضي أم لا؟ وانحصاره في فرد لا يمنع عن جريان النزاع فيه ، لأن البحث إذا كان في المفهوم لا ينظر فيه إلى المصاديق ، فلا يكون عدم تحقق المصداق أو انحصاره في فرد موجبا لنفي صحة النزاع في المفهوم من جهة سعته وضيقه.

وبتعبير آخر : أن انحصار مفهوم اسم الزمان في فرد لا يوجب وضعه له ، كي لا يعقل النزاع فيه ، بل يمكن ملاحظة المفهوم العام ووضع اللفظ بإزائه. غاية الأمر : مصداق ذلك المفهوم وإن كان في الخارج منحصرا في فرد واحد ـ وهو الزمان المتلبس بالمبدإ ـ ويمتنع تحقق فرده الآخر ـ وهو الزمان المنقضي عنه المبدأ ـ إلّا إنه من الممكن أن يقال : إن لفظ «مقتل» هل هو موضوع للزمان المتصف بالقتل حالا أو للأعم منه وما انقضى عنه المبدأ ، وإن لم يتحقق في الخارج إلّا المتصف به فعلا. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : أعني الجواب بالنقض فقد أشار إليه بقوله : «مع إن الواجب موضوع للمفهوم العام ...» إلخ المراد بالنقض : وجود نظير اسم الزمان في انحصار المفهوم الكلي في فرد واحد.

توضيح ذلك : أن انحصار مفهوم كلي في فردين أحدهما ممكن والآخر ممتنع ؛ لا يوجب عدم إمكان وضع اللفظ للكلي ليضطر إلى وضعه للفرد الممكن فقط ، فإنه يمكن ملاحظة المعنى الجامع بين الفردين ووضع اللفظ له كما في وضع لفظ الجلالة ـ الله ـ على قول ، إذ قد وقع النزاع في وضع لفظ «الله» هل أنه للجامع ، أو علم لذاته المقدسة ، فلو لم يمكن الوضع للكلي بين الممكن والممتنع لم يصح النزاع فيه ، بل كان المتعين أنه علم لا اسم جنس ؛ كما أشار إليه بقوله : «وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة».

وأما نظير اسم الزمان في الانحصار في الفرد فهي كلمة الواجب فإنها موضوعة للمعنى الجامع مع استحالة سائر أفراده غير ذاته تعالى. فكما ان انحصار الواجب في فرد واحد غير مانع عن وضع لفظ الواجب للجامع ؛ فكذلك اسم الزمان انحصار مفهومه

١٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

في فرد واحد في الخارج غير مانع عن وضعه للجامع ، فلا مانع من وضع اللفظ للمفهوم الكلي الذي ينحصر في الخارج في فرد واحد ؛ سواء كان غير ذلك الفرد ممتنعا كمفهوم الواجب الوجود ، أو ممكنا كمفهوم الشمس مثلا.

وهناك جواب آخر لم يذكره المصنف ذكره الشيخ محمد رضا المظفر في «أصول الفقه ، ج ١ ، ص ٤٩ ، طبع بيروت». وحاصله : أن ما ذكر من الإشكال على اسم الزمان صحيح لو كان لاسم الزمان لفظ مستقل مخصوص ؛ بأن تكون صيغة «مفعل» كمقتل ومضرب ومرمى ونحوها موضوعة بوضعين : أحدهما : للزمان ، والآخر للمكان ، ولكن الحق : أن صيغة «مفعل» موضوعة بوضع واحد لمعنى جامع بين الزمان والمكان ، وهو وعاء المبدأ وظرفه سواء كان زمانا أو مكانا ، فمقتل موضوع لوعاء القتل سواء كان زمانا أو مكانا ؛ لا أنه موضوع بوضع مستقل لزمان القتل ، وبوضع آخر لمكان القتل ، فحينئذ يتجه النزاع إذ يكفي في صحة الوضع للجامع وتعميمه لما تلبس بالمبدإ ، وما انقضى عنه المبدأ : أن يكون أحد فرديه يمكن أن يتصور فيه انقضاء المبدأ وبقاء الذات.

والمتحصل من جميع ما ذكر في الجواب الثالث : أنه يكفي في صحة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه ، وإن امتنع الفرد الآخر.

خلاصة البحث

إن الغرض من عقد الأمر الثاني هو : دفع الإشكال الوارد على دخول اسم الزمان في نزاع المشتق.

تقريب الإشكال : أنه قد عرفت : اعتبار بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ في دخول المشتق في محل النزاع.

ومن المعلوم هو : عدم بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ في اسم الزمان ، لأن الذات هو نفس اسم الزمان وهو متصرم الوجود ، فلا يكون باقيا بعد انقضاء المبدأ ، فلا يعقل أن يكون اسم الزمان داخلا في محل النزاع.

الجواب : أولا : أن الإشكال المذكور مبني على أن يكون محل النزاع مصداق المشتق ، وليس الأمر كذلك بل محل النزاع هو المفهوم ، وانحصاره في فرد واحد لا يمنع عن كون اللفظ موضوعا للعام الكلي ، فحينئذ يصح أن يقال : إن اسم الزمان لخصوص حال التلبس أو للأعم منه وما انقضى عنه المبدأ.

وثانيا : أن صيغة «مفعل» وضعت للجامع بين الزمان والمكان أعني : ظرف المبدأ سواء

١٧٣

ثالثها (١) : أنه من الواضح : خروج الأفعال والمصادر المزيد فيها عن حريم النزاع ، لكونها غير جارية على الذوات ، ضرورة (٢) : أن المصادر المزيد فيها كالمجردة (٣) ، في الدلالة على ما يتصف به الذوات ويقوم بها ـ كما لا يخفى ـ وأن الأفعال إنما تدل

______________________________________________________

كان زمانا أو مكانا ، فمعنى «المضرب» مثلا : الذات المتصفة بكونها ظرفا للضرب سواء كان زمانا أو مكانا ، ويتعين أحدهما من الآخر بالقرينة.

وحيث إن صيغة «مفعل» في محل البحث وضعت لوعاء المبدأ ـ الجامع بين الزمان والمكان ـ كان النزاع في وضعها لخصوص المتلبس أو للأعم نزاعا معقولا ؛ إذ يكفي في صحة الوضع للأعم إمكان الفرد المنقضي عنه المبدأ في أحد أقسامه ، وهو موجود في اسم الزمان على هذا الفرض.

خروج الأفعال والمصادر عن محل النزاع

(١) ثالث الأمور التي لا بد من تقديمها : بيان خروج المصادر والأفعال عن محل النزاع ، وهذا الكلام من المصنف توضيح لما ذكره إجمالا في ضابط المشتق المبحوث عنه في المقام.

وتوضيح خروج الأفعال والمصادر عن حريم النزاع يتوقف على مقدمة وهي : أنك قد عرفت ما سبق في بيان ما هو المراد بالمشتق ؛ من أن المشتق المبحوث عنه في المقام عبارة عن الوصف الجاري على الذات ، والذي يصح حمله عليها دون ما لا يصح.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأفعال والمصادر خارجتان عن محل النزاع وذلك لعدم جريانهما على الذوات ؛ كما أشار إليه بقوله : «لكونها غير جارية على الذوات» هذا تعليل لخروجهما عن محل النزاع وحاصله : أن الضابط في المشتق المبحوث عنه في المقام ـ كما سبق في الأمر الأول ـ ما يجري على الذات مما يكون مفهومه منتزعا عن الذات بملاحظة اتصافها بالمبدإ ، واتحادها معه بنحو من الاتحاد.

وهذا الضابط لا ينطبق على الأفعال والمصادر لعدم جريانهما على الذوات.

(٢) قوله : «ضرورة ...» إلخ تعليل لعدم جريان الأفعال والمصادر على الذوات. أما المصادر : فلأنها وضعت للدلالة على المبادئ التي تغاير الذوات خارجا ، فلا يقبل الحمل عليها ؛ إذ لا يصح حمل المباين على المباين.

(٣) أي : المصادر المزيد فيها كالمصادر المجردة «في الدلالة على ما يتصف به الذوات» أي : في الدلالة على المبادئ التي يتصف بها الذوات ، وتقوم تلك المبادئ «بها» أي : بالذوات ، فالمراد ب ما الموصولة في قوله : ما يتصف به» : المبادئ. والضمير في قوله : «به» يرجع إلى ما الموصولة. فمعنى العبارة : أن معنى المصادر سواء كانت مزيدة أو مجردة هي

١٧٤

على قيام المبادئ بها قيام صدور (١) أو حلول أو طلب (٢) فعلها ، أو تركها منها ، على اختلافها (٣).

إزاحة شبهة (٤):

قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان ، حتى أخذوا الاقتران بها (٥)

______________________________________________________

المبادئ وهي تباين الذوات ، فلذا لا يصح حملها عليها ، ولا يقال : زيد إكرام ، أو زيد ضرب.

وأما الأفعال فلأنها بمادتها تدل على المبادئ المغايرة للذوات ، وبهيئتها وضعت للدلالة على نسبة المبادئ إلى الذوات وقيامها بها على أنحائها المختلفة باختلاف الأفعال ، فالفعل الماضي يدل على تحقق نسبة المبدأ إلى الذات ، والفعل المضارع يدل على ترقب وقوع تلك النسبة ، وفعل الأمر يدل على طلب تلك النسبة ، ومن المعلوم : أن معانيها هذه تأبى عن الحمل على الذوات ، لأن هذه المعاني مباينة لها.

(١) مثل : ضرب ويضرب ، أو حلول ـ مثل : مرض وحسن ـ ونحوهما. هذا في الإخبار أي : فيما إذا كان الفعل خبرا كفعل الماضي والمضارع.

(٢) أي : أو يدل الفعل في الإنشاء على «طلب فعلها» أي : الإتيان بالمبادئ كما في الأمر مثل : اضرب وانصر حيث يطلب من الذات فعل الضرب أو النصر ، أو يدل على طلب «تركها منها» أي : طلب ترك المبادئ من الذات كما في النهي مثل : لا تضرب ولا تشرب الخمر ونحوهما.

(٣) أي : اختلاف المبادئ من حيث الفعلية أو الشأنية ، والحرفة ، والملكة ، وغيرها. هذا ظاهر كلامه.

وهناك احتمال أن يكون الضمير في «اختلافها» راجعا إلى الأفعال التركية واختلافها من حيث كون النهي فيها تحريميا وإرشاديا وتنزيهيا.

أو المراد بالاختلاف : اختلاف أنحاء القيام من الصدور ، والحلول ، والانتزاع ونحوها. قلنا : إن الظاهر هو الاحتمال الأول.

عدم دلالة الفعل على الزمان

(٤) الشبهة هي : ما زعمه النحاة من دلالة الفعل على الزمان ؛ حتى أخذوا الاقتران به في تعريفه حيث قالوا : الفعل ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة.

(٥) أي : بالأزمنة الثلاثة ، أو بدلالة الفعل على الزمان ، والاحتمال الثاني وإن كان

١٧٥

في تعريفه ؛ وهو اشتباه ضرورة : عدم دلالة الأمر ولا النهي عليه ، بل على إنشاء طلب الفعل أو الترك ، غاية الأمر : نفس الإنشاء بهما (١) في الحال ، كما هو الحال في الإخبار بالماضي أو المستقبل أو بغيرهما كما لا يخفى. بل يمكن منع دلالة غيرهما (٢)

______________________________________________________

صحيحا نظرا إلى ذكر الدلالة قبل الضمير ؛ إلّا إن الاحتمال الأول أولى ؛ نظرا إلى ما هو ظاهر كلام النحاة في تعريف الفعل.

وكيف كان ؛ فلا يدل الفعل بجميع أقسامه على الزمان ، وأما ما للإنشاء كالأمر والنهي فلا يدل على زمان الحال أصلا.

ببيان : أن الأمر لا يدل إلّا على طلب الفعل ، والنهي لا يدل إلّا على طلب تركه من دون دلالة لهما على الزمان الحال أو المستقبل ، لأن المادة تدل على الفعل ، والهيئة تدل على إنشاء الطلب ، وليس فيهما ما يوجب الدلالة على الزمان ، نعم ؛ الإنشاء يكون في الحال لكنه أجنبيّ عن الدلالة على الحال ، إذ هو من باب أنه فعل صادر عن زماني فيقع قهرا في الزمان.

(١) أي : أن الأمر والنهي لا يدلان إلّا على إنشاء الطلب ، غاية الأمر : نفس الإنشاء بهما في الحال «كما هو الحال في الإخبار بالماضي» يعني كما أن إخبار المخبر بفعل الماضي أو المستقبل أو بغيرهما ـ كالجملة الاسمية ـ يقع في زمان النطق الذي هو الحال ، لكونه كلاما ؛ من غير فرق بين أن يكون الإخبار بالماضي كقولنا : ضرب زيد ، أو المستقبل كقولنا : يضرب زيد ، أو بالجملة الاسمية كقولنا : زيد ضارب ، فيكون الإخبار بجميع ما ذكرناه بالحال ، كما كان الإنشاء بفعل الأمر والنهي في الحال ، وأن زمان الحال كما لا يكون مدلولا لفعل الأمر والنهي كذلك لا يكون مدلولا لفعل الماضي والمضارع.

(٢) أي : غير الأمر والنهي «من الأفعال» ؛ كالماضي ، والمضارع «على زمان» أي : لا تدل صيغة الماضي على الزمان الماضي ، ولا صيغة المضارع على الحال أو الاستقبال ؛ «إلّا بالاطلاق ، والإسناد إلى الزمانيات».

وحاصل الكلام في المقام : أن دلالة فعل الماضي والمضارع على الزمان بالدلالة التضمنية ؛ بأن يكون الزمان جزءا لمدلولهما ممنوعة ؛ لما عرفت : من عدم دلالة شيء من الأفعال على الزمان.

نعم ؛ إذا أسندت إلى الزمانيات فتدل على الزمان لكن هذه الدلالة مستندة إلى الاطلاق والإسناد لا إلى الوضع الذي يقول به النحاة.

والحاصل : أن الدلالة على الزمان مشروطة بشرطين أحدهما : إطلاق الكلام.

١٧٦

من الأفعال على الزمان إلّا بالإطلاق ، والإسناد إلى الزمانيات (١) ، وإلّا لزم (٢) القول

______________________________________________________

وثانيهما : كون المسند إليه من الزمانيات لا نفس الزمان ، أو من المجردات الغير الزمانية. فلا تكون بالوضع كما توهمه النحاة.

(١) المراد بالزمانيات : ما كان الزمان ظرفا لوجوده ؛ بأن يكون وجوده في الزمان كغالب الموجودات ، ويقابله المجردات عن الزمان كذات الواجب تعالى ، وكذا نفس الزمان.

(٢) أي : لو لم تكن دلالة الفعل على الزمان بالإطلاق مع الإسناد إلى الزماني ؛ بأن كانت بالوضع لزم التجريد ، والالتزام بالمجازية عند الإسناد إلى غير الزمانيات أي : فيما أسند إلى نفس الزمان أو إلى من فوق الزمان كذات الباري تعالى وسائر المجردات. فيكون قوله : «وإلّا لزم القول بالمجاز ...» إلخ من الأدلة على نفي دلالة الفعل على الزمان تضمنا بتقريب : أنه لو كانت دلالة الفعل على الزمان بالوضع لزم القول بالمجاز والتجريد فيما إذا أسند الفعل إلى نفس الزمان ، أو المجردات الخالية من الزمان. والتالي بكلا قسميه باطل فالمقدم مثله.

والنتيجة هي : عدم دلالة الفعل على الزمان بالوضع وهو المطلوب ، والاستدلال بالقياس الاستثنائي إنما يتم بعد ثبوت أمرين : الملازمة وبطلان الثاني.

أما الملازمة : فهي ثابتة ؛ وذلك أن الفعل إذا أسند إلى نفس الزمان «مثل : مضى الزمان» ، أو إلى من فوق الزمان مثل : «علم الله كل شيء» ، وكان الإسناد بلا لحاظ التجريد ، لزم أن يقع الزمان في زمان آخر في المثال الأول ، ولزم أن يكون فعل المجرد عن الزمان في الزمان في المثال الثاني وكلاهما باطل ، لأن الأول : مستلزم للدور أو التسلسل ، والثاني : مستلزم لأن يكون فعل الله الذي لا حد له محدودا بالزمان.

أما لزوم الدور : فلأن الزمان ـ الذي هو جزء مدلول الفعل ـ مظروف ، وكل مظروف يتوقف على الظرف ، والظرف في المثال المذكور هو الزمان ، وهو فاعل يتوقف على الفعل من حيث كونه فاعلا ، والفعل هو المظروف المتوقف على الظرف الذي هو الزمان فيلزم الدور ؛ وهو توقف الزمان على الزمان.

وأما لزوم التسلسل : فتقريبه : أن الزمان المظروف ـ الذي هو مدلول الفعل ـ يتوقف على الزمان الذي هو فاعل في المثال المذكور ؛ لتوقف الفعل على الفاعل ، فإذا كان الزمان الظرفي في زمان آخر ـ بأن كان للزمان زمان ، ولذلك الزمان زمان آخر إلى ما لا نهاية له ـ يلزم التسلسل ، فلا بد حينئذ من التجريد والمجاز بإلغاء الزمان تجنبا عن الدور والتسلسل. هذا غاية ما يمكن أن يقال في بطلان وقوع الزمان في الزمان.

١٧٧

بالمجاز والتجريد عند الإسناد إلى غيرها من نفس الزمان والمجردات.

نعم ؛ لا يبعد (١) أن يكون لكل من الماضي والمضارع ـ بحسب المعنى ـ خصوصية أخرى موجبة للدلالة على وقوع النسبة في الزمان الماضي في الماضي ، وفي الحال أو

______________________________________________________

وأما بطلان إسناد الفعل من دون التجريد إلى المجردات الخالية من الزمان ؛ فلأن أفعالها لا تقع في الزمان لأنها غير محدودة ، وما كان في الزمان محدود بحد لا محالة فلا بد من التجريد والمجاز بإلغاء الزمان. هذا تمام الكلام في الملازمة.

وأما بطلان التالي : فلعدم الفرق بين إسناد الفعل إلى الزماني مثل : «ضرب زيد» وإسناده إلى نفس الزمان ، مثل : «مضى الزمان» ، وإسناده إلى المجرد عن الزمان مثل : «خلق الله الإنسان» ؛ فإن الفعل في جميع هذه الأمثلة استعمل في معنى واحد على نسق واحد ؛ بلا لحاظ تجريد أو تجوز بالغاء الزمان ، بل لحاظ التجريد والتجوز على خلاف حالهم في الاستعمالات. وبهذا البيان يستكشف كشفا قطعيا : أن الزمان غير مأخوذ في الفعل جزءا.

نعم ؛ الفعل المسند إلى الزماني لا بد أن يقع في الزمان ، فالفعل حينئذ وإن كان يدل على وقوع الحدث في أحد الأزمنة الثلاثة ؛ إلّا إنه ليس من جهة الوضع ، بل من جهة أن الأمر الزماني لا بد أن يقع في أحد الأزمنة الثلاثة ، فيدل الفعل على الزمان بالالتزام وهو ليس من محل الكلام.

فالمتحصل مما ذكرنا : أن الأفعال لا تدل على الزمان تضمنا ، وأن استعمالها في جميع الموارد على نحو الحقيقة ، من دون فرق بين استعمالها في الزمان وما فوقه من المجردات وبين استعمالها في الزماني.

امتياز الماضي عن المضارع

(١) هذا الكلام من المصنف بيان لامتياز الفعل الماضي عن المضارع بخصوصية ثابتة في كل واحد منهما ، ولأجل تلك الخصوصية لا يصح استعمال أحدهما في موضع الآخر ويكون الاستعمال غلطا واضحا. على ما في تقريرات أستاذنا الإمام الخوئي «قدس‌سره».

وخلاصة الكلام : أن لكل من معنى الفعل الماضي والمضارع خصوصية تستلزم الزمان ، ويمتاز بها كل واحد منهما عن الآخر ، وهي في الماضي تحقق النسبة في الزمان الماضي ، وخروج الحدث من القوة إلى الفعل ، ومن العدم إلى الوجود ، وفراغ الفاعل عن الفعل.

١٧٨

الاستقبال في المضارع ، فيما كان الفاعل من الزمانيات ، ويؤيده (١) : أن المضارع

______________________________________________________

ومن البديهي : أن هذه الخصوصية تلازم وقوع الحدث في الزمان الماضي ، وهذه الخصوصية موجودة في الفعل الماضي في جميع موارد استعمالاته ؛ من دون دلالة له على وقوع المبدأ في الزمان الماضي كي يقال : بدلالة الماضي على الزمان ، بل وقوع المبدأ في الزمان الماضي من لوازم الخصوصية الموجودة في الفعل الماضي.

وأما الخصوصية في الفعل المضارع : فهي خصوصية الترقب الجامعة بين الحال والاستقبال ، وهذه الخصوصية تلازم زمان الحال أو الاستقبال ، فلا دلالة للفعل المضارع على الزمان تضمنا. نعم ؛ كل من الفعل الماضي والمضارع يدل عليه التزاما لمكان الخصوصية في كل منهما.

وعليه : فدعوى : دلالة فعل الماضي أو المضارع بنفسهما على الزمان الماضي ، أو الحال ، والاستقبال بالتضمن ـ كما يستفاد ذلك من قول النحاة على نحو كان الزمان جزءا للموضوع له ـ مما لا وجه له أصلا.

(١) أي : يؤيد عدم دلالة الفعل على الزمان تضمنا : «أن المضارع يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال».

أما وجه التأييد : فيتضح بعد ذكر أمور منها : أن مرادهم من الزمان المقترن به الفعل هو : مصداق الزمان لا مفهومه ؛ لأن وقوع الحدث المحقق في الماضي ووقوع الحدث المترقّب ، أو الحدث الحاضر في المضارع كان في مصداق الزمان.

ومنها : أن مرادهم من الاقتران هو : دلالة الفعل على الزمان بالتضمن لا بالالتزام.

ومنها : أن مرادهم من الزمان المأخوذ في مدلول الفعل هو : المصداق.

ومنها : أنه لا جامع بين الحال والاستقبال إلّا مفهوم الزمان.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم : بالتنافي بين كلامهم بالاشتراك المعنوي في المضارع وبين قولهم : بأن المأخوذ في معنى الفعل هو المصداق بمعنى : أن ما يكون جامعا بين الحال والاستقبال ـ أعني : مفهوم الزمان ـ لم يؤخذ في مدلول الفعل ، وما أخذ في مدلوله لا يكون جامعا بينهما ، فإن قلنا حينئذ بالوضع لكل من المصداقين : يلزم الاشتراك اللفظي ، وإن قلنا بالوضع لأحدهما : يلزم التجوز في الآخر ، وكلاهما مناف لما صرحوا به من الاشتراك المعنوي ، فلا يمكن الجمع بينهما إلّا بأن يكون مرادهم من اقتران الفعل بالزمان اقترانه بخصوصية تستلزم الزمان ، وهي خصوصية الترقب الجامعة بين الحال والاستقبال. ولازم ذلك : عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن وإن كان يدل عليه بالالتزام ؛ فلذا يكون مؤيدا للمقام.

١٧٩

يكون مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال ، ولا معنى له إلّا أن يكون له خصوص معنى صح انطباقه على كل منهما ، لا (١) أنه يدل على مفهوم زمان يعمهما (٢) ، كما أن الجملة الاسمية (٣) ك «زيد ضارب» يكون لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة ، مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا ، فكانت الجملة الفعلية مثلها (٤).

وربما يؤيد ذلك (٥) : أن الزمان الماضي في فعله ، وزمان الحال أو الاستقبال في

______________________________________________________

وأما وجه جعله مؤيدا لا دليلا : فلأن الاشتراك المعنوي غير متسالم عليه ، بل قال بعض منهم بالاشتراك اللفظي فيه ، وعلى هذا يدل المضارع على زمان الحال والاستقبال. ولكن لما كان القول بالاشتراك المعنوي أمرا مشهورا بين النحاة فهو مما يصلح للتأييد ، ولذا جعله مؤيدا لمدّعاه لا دليلا عليه.

(١) أي : لا يكون مرادهم : أن فعل المضارع يدل على مفهوم زمان يعمهما أي : الحال والاستقبال.

(٢) أي : يعم الحال والاستقبال لما عرفت من أن المأخوذ في مدلول المضارع عند النحاة هو مصداق الزمان لا مفهومه الجامع بينهما ، فيكون المقارن للحدث هو مصداق الزمان لا مفهومه ، فليس مرادهم أن المضارع يدل على مفهوم زمان يعم الحال والاستقبال.

(٣) أي : كما أن الجملة الاسمية مثل : «زيد ضارب» «لها معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة ؛ مع عدم دلالتها على واحد منها أصلا».

وملخص الكلام في المقام : كما أن الجملة الاسمية لا تدل وضعا على الزمان باتفاق النحاة ؛ بحيث يكون الزمان جزء مدلولها ، بل تدل عليه بالالتزام لأجل دلالتها على معنى صح انطباقه على كل واحد من الأزمنة ، وذلك المعنى هو ثبوت المبدأ للذات على الدوام والاستمرار ، ويكون الثبوت كذلك مستلزما للزمان ، فالجملة الاسمية تدل عليه بالالتزام ، ولا تدل على واحد من الأزمنة الثلاثة بالتضمن المسبب عن الوضع.

هذا معنى قوله : «ومع عدم دلالتها على واحد منها» أي : الأزمنة الثلاثة «أصلا» أي : عدم دلالتها وضعا وإن كانت تدل عليه التزاما.

(٤) أي : مثل الجملة الاسمية في عدم دلالتها وضعا على الزمان وإن كانت تدل عليه بالالتزام.

(٥) أي : يؤيد ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل بالوضع على الزمان تضمنا ، بل يدل عليه التزاما ؛ أن الماضي قد يكون مستقبلا والمضارع ماضيا ، وإنما يكون الأوّل ماضيا والثاني مستقبلا بالإضافة كما سيأتي في المثالين.

١٨٠