دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

وكذا (١) الحال في سائر الصيغ الإنشائية ، والجمل الخبرية ، فإنه لا يكون غير الصفات المعروفة القائمة بالنفس من الترجي والتمني والعلم إلى غير ذلك ؛ صفة أخرى كانت قائمة بالنفس ، وقد دل اللفظ عليها ، كما قيل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

______________________________________________________

(١) أي : الحال في سائر الصيغ الإنشائية والجمل الخبرية ؛ كالحال في الجمل الإنشائية الطلبية ؛ حيث ليس هناك صفة أخرى قائمة بالنفس حتى تسمى بالكلام النفسي ، ويسمى ذلك الكلام النفسي طلبا حقيقيا في خصوص الأوامر ، وكان ذلك الطلب الحقيقي منشأ للطلب الإنشائي ، وذلك الكلام النفسي منشأ للكلام اللفظي كما قيل :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

أي : ليس الأمر كذلك توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن المتكلم إذا تكلم بكلام إنشائي أو إخباري ؛ فليس هناك إلّا الإرادة القائمة بالنفس ، ومضمون ذلك الكلام مثلا : أنّنا لا نجد في الجمل الإنشائية صفة نفسانية غير إنشاء التمني والترجي ، والطلب والدعاء ، والملكية ، والزوجية ، والحرية ونحوها مما يقبل الإنشاء.

ولا نجد في الجمل الخبرية ما عدا وقوع النسبة أو لا وقوعها شيئا آخر يسمى ذلك الشيء بالكلام النفسي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا محيص عن اتحاد الطلب والإرادة ؛ إذ عرفت : أنه ليس هناك سوى الإرادة ؛ والعلم بمضمون الكلام صفة قائمة بنفس المتكلم حتى تسمى بالكلام النفسي.

فالمتحصل مما ذكرناه : أنّنا لا نجد بعد الفحص عما في النفس من الصفات صفة زائدة على الإرادة تسمى بالطلب في صيغ الأمر ، ليكون ذلك هو الكلام النفسي ، وكذلك في سائر الجمل الإنشائية والجمل الخبرية ؛ ففي جميع الجمل الإنشائية الطلبية وغيرها ، وكذا الجمل الخبرية لا توجد صفة زائدة على مضامينها تسمى بالكلام النفسي ؛ كما هو مفاد ما قيل من :

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

فإن مقتضى هذا البيت هو : كون الكلام في الفؤاد ، وإنما اللفظ جعل دليلا عليه وحاكيا عنه ، ففي النفس صفة تسمى بالكلام النفسي.

٣٠١

وقد انقدح بما حققناه (١) : ما في استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل.

______________________________________________________

ثم أن هذا البيت مما استدل به الأشاعرة على ثبوت الكلام النفسي ؛ ولكن في الاستدلال المذكور يرد :

أولا : عدم اعتبار البيت المذكور ، إذ ليس مأثورا عن معصوم من نبي أو وصي.

وثانيا : عدم ظهوره فيما ادعوه من كون الطلب صفة زائدة في النفس غير الإرادة ومقدماتها ؛ بل لا يدل إلّا على معنى قائم بالنفس ؛ من العلم في الإخبار ، والتمني ، والترجي ، والاستفهام ، الحقيقية في تلك الصيغ ، والإرادة في الأوامر ، والكراهة في النواهي.

فالحاصل : أن مدلول الكلام اللفظي الذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر ، والإرادة في الأمر والكراهة في النهي.

(١) أي : ظهر بما حققناه من اتحاد الطلب والإرادة ؛ الإشكال في استدلال الأشاعرة على المغايرة بين الطلب والإرادة.

وحاصل استدلال الأشاعرة على المغايرة : أن الأوامر الامتحانية والاعتذارية مثل الأوامر الجدية ؛ في احتياجها إلى وجود منشأ في نفس المتكلم ، وحيث لا إرادة في نفس المتكلم ـ في تلك الأوامر ـ فلا بد من وجود صفة أخرى في نفسه ؛ لتكون هي المنشأ لأمره ، وتسمى هذه الصفة بالطلب النفسي. وإذا ثبت أن المنشأ للأوامر الامتحانية صفة أخرى في نفس المتكلم سوى الإرادة ؛ ثبت أن المنشأ لجميع الأوامر هذه الصفة ؛ لعدم القول بالفصل بين الأوامر الامتحانية وغيرها ؛ ولازم ذلك : مغايرة الطلب والإرادة لوجوده دونها في الأوامر الامتحانية ؛ ففيها يكون الطلب موجودا بدون الإرادة ، فهذا الانفكاك دليل على المغايرة ؛ كما أشار إليه بقوله : «استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأمر مع عدم الإرادة ، كما في صورتي الاختبار والاعتذار من الخلل».

والفرق بين الأمر الاختباري والاعتذاري هو : أن الأول : يصدر لاستخبار حال العبد في كونه مطيعا أو عاصيا ؛ مع عدم إرادة الفعل ، وقد يعبر عنه بالأمر الامتحاني.

والثاني : يصدر من المولى لتسجيل العصيان على العبد ، فيجعل المولى مخالفة العبد عذرا حتى يحسن عقوبته. وبعبارة أخرى : أن المولى يأمر عبده بشيء ، ولا يريد منه الفعل ؛ بل يريد بأمره رفع لوم الناس في ضرب عبده باعتذار أن العبد قد عصاه. وفي المقامين طلب بدون الإرادة.

٣٠٢

فإنه كما لا إرادة حقيقية في الصورتين ، لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما (١) إنما هو الطلب الإنشائي الإيقاعي ؛ الذي هو مدلول الصيغة أو المادة ، ولم يكن بيّنا ولا مبيّنا في الاستدلال مغايرته مع الإرادة الإنشائية.

وبالجملة : الذي يتكفله الدليل (٢) ، ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب المنشأ بالصيغة ؛ الكاشف عن مغايرتهما ، وهو (٣) مما لا محيص عن الالتزام به ، كما

______________________________________________________

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا الاستدلال هو : فقدان الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية معا ؛ في صورتي الاختبار والاعتذار ، لا أن الطلب موجود بدون الإرادة كما أشار إليه بقوله : «فإنه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين ـ الاختبار والاعتذار ـ لا طلب كذلك ـ حقيقة ـ فيهما» أي : في صورتي الاختبار والاعتذار ؛ أي : ليس هناك طلب حقيقي حتى يقال : أن عدم الإرادة الحقيقية مع وجود الطلب الحقيقي كاشف عن تغاير الطلب والإرادة الحقيقيين.

(١) أي : في صورتي الاختبار والاعتذار أي : الذي يوجد فيهما هو الطلب الإنشائي ، الإيقاعي ، الذي هو مدلول الصيغة فيما إذا أنشأ الطلب بصيغة افعل ، أو مدلول المادة فيما إذا أنشأ الطلب بمادة الأمر.

فالطلب الموجود فيهما هو الطلب الإنشائي وهو متحد مع الإرادة الإنشائية ، وهو المطلوب في المقام ، وليس من لوازم الاستدلال المزبور ما يدل على مغايرة الطلب الإنشائي ، مع الإرادة الإنشائية كما هو مطلوب الأشاعرة.

أي : ليس من لوازم الدليل المزبور مغايرة الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية لا باللزوم البين بالمعنى الأخص ، ولا بالمعنى الأعم ، إذ غاية ما يستفاد منه هو : انفكاك الطلب الإنشائي عن الإرادة الحقيقية ومغايرتهما ، وهذا مما لا نزاع فيه أصلا ، لأن النزاع إنما هو في مغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الحقيقية والدليل المزبور لا يدل عليها.

(٢) أي : ما يتكفله دليل الأشاعرة على المغايرة ليس إلّا الانفكاك بين الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائي ، وهذا الانفكاك كاشف عن مغايرة الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية ، وهو خارج عن محل الكلام.

(٣) أي : الانفكاك بين الإرادة الحقيقية وبين الطلب الإنشائي ؛ مما يجب الالتزام به كما عرفت غير مرة.

٣٠٣

عرفت ، ولكنه (١) لا يضر بدعوى الاتحاد أصلا ؛ لمكان (٢) هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والإنشائي كما لا يخفى.

ثم إنه يمكن ـ مما حققناه (٣) ـ أن يقع الصلح بين الطرفين ، ولم يكن نزاع في البين ، بأن يكون المراد (٤) بحديث الاتحاد ما عرفت من العينية مفهوما ووجودا حقيقيا وإنشائيا ، ويكون المراد بالمغايرة والاثنينية هو اثنينية الإنشائي من الطلب ، كما هو (٥) كثيرا ما يراد من إطلاق لفظه ، والحقيقي من الإرادة ، كما هو (٦) المراد غالبا منها حين إطلاقها ، فيرجع النزاع لفظيا ، فافهم (٧).

______________________________________________________

(١) أي : ولكن الانفكاك المزبور لا يضر بدعوى اتحاد الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية ؛ لما مر من اعتبار وحدة الرتبة في عينيتهما ، فالطلب الحقيقي متحد مع الإرادة الحقيقية ، دون الطلب الإنشائي معها ، فمغايرة الطلب الحقيقي للإرادة الإنشائية وبالعكس لا تنافي عينيتهما ، واتحادهما مع اتحادهما في الرتبة كالحقيقيين والإنشائيين.

(٢) أي : لثبوت هذه المغايرة والانفكاك بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي ، فكما إن مغايرة الطلب الحقيقي للطلب الإنشائي غير مضر في الاتحاد ، ولا يلزم منه سلب الشيء عن نفسه لتعدد المرتبة ، كذلك مغايرة الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقية غير مضر بدعوى الاتحاد لتعدد المرتبة.

(٣) أي : من تعدد مراتب الطلب والإرادة واتحادهما مفهوما ووجودا إنشاء وحقيقة ؛ يمكن «أن يقع الصلح بين الطرفين» أي : العدلية القائلين بالاتحاد ، والأشاعرة القائلين بالمغايرة.

(٤) هذا بيان وجه الصلح بين الطرفين بتقريب : أنه يمكن أن يكون مراد من يثبت اتحاد الطلب والإرادة اتحادهما مفهوما ومصداقا وإنشاء ؛ بمعنى : أنهما متحدان في هذه الجهات مع وحدة المرتبة ؛ بحيث يكون كل منهما عين الآخر في تلك المرتبة.

ومراد من ينفى اتحادهما ، ويثبت تغايرهما هو : تغايرهما مع اختلاف المرتبة ، كالطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية فإنهما متغايران ، ولا يتحدان أصلا ، وبهذا الوجه يقع الصلح بين الطرفين ويصير النزاع بينهما لفظيا.

(٥) أي : الطلب الإنشائي كثيرا ما يراد من إطلاق لفظ الطلب.

(٦) أي : الحقيقي من الإرادة هو المراد غالبا من لفظ الإرادة ؛ عند إطلاق لفظ الإرادة.

(٧) لعله إشارة إلى عدم كون النزاع لفظيا ؛ لأن الأشعري قائل بأن مدلول الصيغة

٣٠٤

دفع وهم (١):

لا يخفى : إنه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من نفي غير الصفات المشهورة ،

______________________________________________________

طلب حاصل في النفس ؛ سواء كان هناك إرادة أم لا. ثم أدلة الطرفين والتفاريع المتفرعة على القولين أقوى شاهد على معنوية النزاع.

ولذا يقول بعض أصحاب الحواشي ما هذا لفظه : «وليت شعري كيف يقع الصلح بين الطرفين ، ويرتفع النزاع من البين ، مع التزام الخصم بالكلام النفسي ، وأن هناك صفة أخرى في النفس قائمة بها ما وراء الإرادة تسمى بالطلب ، وتكون كلاما نفسيا ، ومدلولا للكلام اللفظي». فهذا الكلام صريح في مغايرة الطلب والإرادة مطلقا.

(١) المتوهم هو القوشجي في شرحه على التجريد على ما ذكره المصنف في فوائده ، ص ٢٥. قال فيما أفاده هناك ما لفظه : «لكن لا إن المدلول باللفظ عند الإنشاء أو الإخبار أحد هذه الصفات المشهورة كما ربما يتوهم من بعض الكلمات منها : ما في شرح التجريد للقوشجي في بيان انحصار الكلام في اللفظي حيث ساق الكلام» ـ إلى أن قال ـ : «والحاصل أن مدلول الكلام اللفظي الذي يسميه الأشاعرة كلاما نفسيا ليس أمرا وراء العلم في الخبر والإرادة والكراهة في النهي». انتهى كلام القوشجي.

فمفاد هذا الكلام هو : نفي صفة أخرى قائمة بالنفس غير الصفات المشهورة ؛ حتى تسمى كلاما نفسيا على ما زعمه الاشاعرة.

وكيف كان ؛ فغاية ما يقال في توضيح الوهم : إنكم قائلون بالكلام اللفظي دون الكلام النفسي ، ولا بد له من مدلول ؛ وهو يدور بين الكلام النفسي وبين الصفات المشهورة ؛ من العلم والإرادة والكراهة والتمني والترجي ونحوها. فإن كان هو الأول : ثبت مدعى الأشاعرة أي : الكلام النفسي. وإن كان هو الثاني : لزم الالتزام بما هو على خلاف التحقيق ، وحينئذ لا بد من الالتزام بأحد الأمرين : إما الكلام النفسي وقد أنكرتم ذلك ، وإما القول بكون هذه الصفات محكيات للكلام اللفظي ، ومعان له وهو خلاف التحقيق ؛ لأن الإرادة لا تكون من معاني الصيغ الإنشائية الطلبية وكذلك التمني والترجي والمدح والذم ونحوها لا تكون من معاني الصيغ الإنشائية غير الطلبية ، وكذلك العلم بثبوت النسبة أو نفيها لا يكون من معاني الجمل الخبرية.

فهناك سؤال يطرح نفسه : ما هو المدلول للكلام اللفظي بعد الإنكار للكلام النفسي ، وبعد عدم كون هذه الصفات مدلولات له؟ فيبقى الكلام اللفظي بلا حاك وهو باطل

٣٠٥

وأنه ليس صفة أخرى قائمة بالنفس كانت كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي ، كما يقول به الأشاعرة ، إن (١) هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام (٢).

______________________________________________________

بالضرورة والوجدان ، فلا بد من القول بالكلام النفسي ، كي يكون مدلولا للكلام اللفظي.

وحاصل الدفع : أنه لا يلزم من إنكار الكلام النفسي ، ومن عدم كون هذه الصفات مدلولات للكلام اللفظي ؛ أن يكون الكلام اللفظي بلا حاك ، بل إنه حاك عن ثبوت النسبة أو نفيها بين الطرفين في الجمل الخبرية ، وعن المعاني الإنشائية في الجمل الإنشائية.

فالمتحصل مما ذكرنا : أن عدم تعقل صفة أخرى تكون كلاما نفسيا مدلولا للكلام اللفظي ؛ لا يستلزم كون الصفات الباطنية المعروفة مدلولات له ، بل مدلولاته النسبية الثبوتية والسلبية ، والطلب الإنشائي ، والتمني الإنشائي ، والترجي الإنشائي ، والتمليك الإنشائي وغيرها من المعاني الإنشائية.

(١) قوله : «إن هذه الصفات ...» إلخ خبر لليس في قوله : «لا يخفى إنه ليس غرض الأصحاب ...» إلخ. فمعنى العبارة حينئذ : إنه ليس غرض الأصحاب من نفي غير الصفات المشهورة : أن هذه الصفات المشهورة مدلولات للكلام الخبري والإنشائي ؛ حتى يقال : إنه على خلاف التحقيق ، بل غرضهم من ذلك هو : ردّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي ؛ الذي هو صفة زائدة على الصفات المشهورة ؛ قالوا بذلك تصحيحا لكلامه تعالى حيث يطلق عليه سبحانه أنه متكلم وقالوا : بقدم كلامه تعالى ، وكونه قابلا لأن يكون مدلولا للكلام اللفظي.

(٢) أي : للكلام اللفظي. والوجه في عدم تعلق غرض الأصحاب والمعتزلة ـ بكون الصفات المشهورة مدلولات للكلام اللفظي ـ سواء كان خبريا أو إنشائيا هو : أنهم في مقام ردّ الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي ؛ الذي هو صفة زائدة على الصفات المشهورة.

ومن المعلوم : أن الأصحاب والمعتزلة في غنى عن إثبات كون الصفات الأخر مدلولات للكلام اللفظي ؛ لأن ردّهم على الأشاعرة لا يتوقف على ذلك ، بل يتوقف على نفي صفة زائدة على الصفات النفسانية من العلم والإرادة والكراهة في القضايا الخبرية والإنشائية ، فإثبات كون مدلول الكلام ما ذا لا دخل له في الردّ المزبور ؛ إذ مقصودهم : نفي ما ادعاه الأشاعرة من ثبوت صفة زائدة على الصفات المشهورة ، كما في بعض الشروح.

٣٠٦

إن قلت : (١) فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة؟

قلت : (٢) أما الجمل الخبرية : فهي دالة على ثبوت النسبة بين طرفيها ، أو نفيها في نفس الأمر من ذهن أو خارج ؛ كالإنسان نوع أو كاتب. وأما الصيغ الإنشائية : فهي ـ على ما حققناه في بعض فوائدنا (٣) ـ موجدة لمعانيها في نفس الأمر ، أي : قصد ثبوت معانيها وتحققها بها ، وهذا نحو من الوجود.

وربما يكون هذا (٤) منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه شرعا وعرفا آثار ؛ كما هو

______________________________________________________

(١) قد عرفت توضيح هذا السؤال مع الجواب ، وملخص ذلك : أنه بعد إنكار الصفة الزائدة القائمة بالنفس ؛ المسماة بالكلام النفسي الزائدة على الصفات المشهورة ، وإنكار كون تلك الصفات مدلولات للكلام اللفظي أيضا ، فما ذا يكون مدلولا عليه عند الأصحاب والمعتزلة بالجمل الخبرية والإنشائية ، والأشاعرة قد استراحوا بجعل الكلام النفسي مدلولا للكلام اللفظي.

(٢) أي : الجواب عن السؤال : أن الجمل الخبرية تدل على ثبوت النسبة ؛ إذا كانت موجبة ، وعلى نفيها إذا كانت سالبة في نفس الأمر أي : سواء كان في عالم الذهن فقط كقولنا : «الإنسان نوع» ، أم كان في عالم الخارج نحو : «الإنسان كاتب» ، وكذا السالبة نحو : «لا شيء من الإنسان بحجر». فقوله : «من ذهن أو خارج» بيان لنفس الأمر.

وأما الصيغ الإنشائية مثل الأمر والنهي والاستفهام ونحوها : فهي لا تدل على شيء ، بل وضعت لقصد إيجاد معانيها بواسطتها ؛ بمعنى : أن المتكلم قد يكون قاصدا للإخبار عن المعاني بالألفاظ ؛ كما في الجمل الخبرية ، وقد يكون قاصدا لإيجاد المعاني والمفاهيم بالألفاظ ، كما في الجمل الإنشائية.

فالجمل الإنشائية : وضعت لإيجاد مفاهيمها في وعاء الاعتبار ، في قبال وعاء الخارج والذهن ، فإن الوجود الإنشائي نحو من الوجود ، فيكون منشأ للآثار ، وموضوعا للأحكام ، كما في العقود والإيقاعات مثل : إنشاء التمليك في البيع ، وإنشاء الزوجية ، والحرية ، والطلاق ونحو ذلك ؛ مما يترتب عليه الأحكام التكليفية والوضعية.

(٣) فوائد الأصول ، ص ٢٣.

(٤) أي : الوجود الإنشائي الاعتباري «منشأ لانتزاع اعتبار مترتب عليه» أي : على هذا الوجود الإنشائي الاعتباري «شرعا وعرفا» أي : على سبيل منع الخلو «آثار» أي : مترتب عليه آثار شرعية أو عرفية.

وحاصل الكلام في المقام : أن الوجود الإنشائي منشأ لانتزاع اعتبار كالزوجية

٣٠٧

الحال في صيغ العقود والإيقاعات (١).

نعم (٢) ؛ لا مضايقة في دلالة مثل صيغة الطلب والاستفهام والترجي والتمني ـ بالدلالة الالتزامية ـ على ثبوت هذه الصفات حقيقة ، إما لأجل وضعها (٣)

______________________________________________________

والملكية والحرية ؛ ونحوها من الأمور الاعتبارية التي تترتب عليها أحكام شرعا ؛ كوجوب النفقة ، وجواز الوطء والتوارث ، وحرمة التزويج بالخامسة ، وحرمة الجمع بين الأختين وغيرها من الأحكام الشرعية المترتبة على الزوجية. وكذا الحال في إنشاء الملكية واعتبارها ، والملكية الاعتبارية منشأ للأحكام الشرعية ؛ كجواز التصرف ، وحرمة التصرف.

وكيف كان ؛ فالوجوب والحرمة وصفان اعتباريان منتزعان من الطلب الإنشائي ـ وقيل من الطلب الحقيقي ـ والملكية تنتزع من التمليك الإنشائي.

(١) أي : الفرق بينهما : أن الأول : ما يتوقف على الطرفين كالبيع والنكاح ونحوهما ، هذا بخلاف الثاني حيث يكفي فيه طرف واحد كالطلاق والعتق.

(٢) هذا استدراك على ما ذكره ؛ من كون الصيغ الإنشائية موجدة لمعانيها وجودا إنشائيا لا وجودا حقيقيا ، يعني : أن مدلولها المطابقي هو إنشاء مفاهيمها ، ولكن يمكن الالتزام بدلالتها على وجود تلك الصفات حقيقة أيضا بالدلالة الالتزامية العقلية ؛ بأن كانت موضوعة لإنشاء معانيها ؛ بشرط أن يكون الداعي إلى إنشائها ثبوت تلك الصفات في النفس ، فإنشاء الترجي بكلمة ـ لعل ـ أو التمني بكلمة ـ ليت ـ إنما يصح إذا كان ناشئا عن ترجّ نفساني ، أو تمنّ كذلك ، أو الدلالة الالتزامية العرفية الناشئة عن كثرة الاستعمال في إنشاء المفاهيم بداعي وجود تلك الصفات في النفس ، وهذه الكثرة توجب انصراف الإطلاق إلى وجود تلك الصفات.

وبالجملة : فدلالة الصيغ الإنشائية على وجود الصفات في النفس ؛ إما التزامية عقلية وضعية ، وإما عرفية إطلاقية ، «فتوهم» دلالة الجمل الخبرية وضعا على العلم بثبوت النسبة أو لا ثبوتها ، وكذا توهم دلالة الجمل الإنشائية على نفس تلك الصفات «فاسد» ، بل الدلالة على ذلك التزامية كما عرفت ؛ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ٣٩٧».

فالأوصاف الباطنية المذكورة ليست مدلولات مطابقية لهذه الألفاظ ، بل إنها مدلولات التزامية لها.

(٣) أي : وضع «صيغة الطلب والاستفهام ..» إلخ.

٣٠٨

لإيقاعها (١) ، فيما إذا كان الداعي إليه (٢) ثبوت هذه الصفات ، أو (٣) انصراف إطلاقها إلى هذه (٤) الصورة. فلو لم تكن هناك قرينة كان إنشاء (٥) الطلب ، أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتها ؛ لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائمة بالنفس وضعا أو إطلاقا (٦).

إشكال ودفع :

أما الإشكال (٧) فهو : أنه يلزم بناء على اتحاد الطلب والإرادة في تكليف الكفار

______________________________________________________

(١) أي : لإيقاع تلك الصفات. فقوله : «إما لأجل وضعها ...» إلخ إشارة إلى الدلالة الالتزامية العقلية الوضعية.

(٢) أي : إلى الايقاع.

(٣) معطوف على ـ وضعها ـ وهو إشارة إلى الدلالة الالتزامية العرفية.

(٤) أي : صورة كون الإيقاع بداعي ثبوت الصفات المزبورة.

(٥) أي : لو لم تكن قرينة على خلاف كون الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات في النفس ؛ «كان إنشاء الطلب أو الاستفهام أو غيرهما بصيغتهما» أي : بصفة الطلب أو الاستفهام أو غيرهما ؛ لأجل كون الطلب والاستفهام وغيرهما قائما بالنفس وضعا يعني : ثبوت الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات حقيقة إنما هو لأجل الوضع أي : الدلالة الالتزامية العقلية الوضعية ، أو «إطلاقا» أي : بسبب الانصراف ، فيكون إطلاقا عطفا على قوله : «وضعا» وهو مفعول له ، فالمعنى : أن ثبوت الإنشاء بداعي وجود تلك الصفات حقيقة إنما هو لأجل الوضع ، أو لأجل انصراف الإطلاق إليه ، كما في «منتهى الدراية» مع تصرف ما.

(٦) أي : المراد به هو الدلالة الالتزامية العرفية الإطلاقية.

(٧) هذا الإشكال من الوجوه التي استدل بها على مغايرة الطلب والإرادة.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن ما يقوله الأشاعرة : من تغاير الطلب والإرادة يتوقف على إثبات أمور :

الأول : استحالة انفكاك الطلب الحقيقي عن الإرادة الحقيقية على القول باتحادهما ؛ إذ حينئذ يكون كل واحد منهما عين الآخر خارجا ، فإذا تحقق أحدهما تحقق الآخر.

الثاني : الفرق بين التكليف الحقيقي والتكليف الصوري وذلك لأحد أمرين :

الأول : أن في مخالفة التكليف الحقيقي عقاب ، وليس في مخالفة التكليف الصوري عقاب أصلا.

٣٠٩

بالإيمان ، بل مطلق أهل العصيان في العمل بالأركان ؛ إما أن لا يكون هناك تكليف جدي ، إن لم يكن هناك إرادة ؛ حيث إنه لا يكون حينئذ طلب حقيقي ، واعتباره في الطلب الجدي ربما يكون من البديهي ، وإن كان هناك إرادة فكيف تتخلف عن المراد؟ ولا تكاد تتخلف إذا أراد الله شيئا يقول له : كن فيكون.

وأما الدفع (١) فهو : أن استحالة التخلف إنما تكون في الإرادة التكوينية وهي العلم

______________________________________________________

الثاني : أن التكليف الحقيقي يعتبر فيه الطلب الحقيقي ، ونظرا إلى اتحاد الطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية تعتبر فيه الإرادة الحقيقية أيضا ، ولازم ذلك : اعتبار الإرادة الحقيقية في التكليف الحقيقي.

الثالث : أنّنا نعلم بالضرورة من الدين : بأن الكفار وأهل العصيان مكلفون بما كلف به أهل الإطاعة والإيمان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه بناء على اتحاد الطلب والإرادة وعينيتهما يلزم أحد المحذورين في باب تكليف الكفار بالإيمان ، والعصاة بالعمل بالأركان :

الأول : كون التكليف صوريا إذا لم يكن هناك إرادة.

والثاني : تخلف المراد عن الإرادة إذا كان التكليف حقيقيا وجديّا ، وكلاهما باطل ، فالقول باتحادهما أيضا باطل.

أما بطلان الأول : فلكونه خلاف الإجماع القائم على أن الكفار والعصاة معاقبون على الكفر والعصيان ، فلا محيص عن كونهم مكلفين بالتكليف الحقيقي وهو خلف.

أما بطلان الثاني : ـ وهو كون التكليف حقيقيا وجديّا ـ فلاستلزامه تخلّف المراد عن الإرادة ، إذ المفروض : كون الطلب الحقيقي عين الإرادة الحقيقية ، فإنه تعالى أراد منهم الإيمان والعمل بالفروع ، فلم يؤمنوا ولم يعملوا ، فيلزم التخلّف وهو مستحيل لقوله تعالى : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(١) ، فلا محيص حينئذ عن تغاير الطلب والإرادة ، والالتزام بوجود الطلب الحقيقي في تكليف الكفار والعصاة ؛ دون الإرادة الحقيقية ، فيكون تكليفهم حقيقيا لا صوريا ؛ وذلك يكشف عن وجود صفة أخرى له تعالى سوى الإرادة حتى تكون تلك الصفة منشأ لأوامره اللفظية ، وتسمى بالطلب الحقيقي. ومن هنا يعلم تغاير الطلب الحقيقي والإرادة الحقيقية.

(١) توضيح الدفع يتوقف على مقدمة وهي : أن لله تعالى إرادتين : إرادة تكوينية ، وإرادة تشريعية.

__________________

(١) يس آية : ٨٢.

٣١٠

بالنظام على النحو الكامل التام ، دون الإرادة التشريعية ، وهي العلم بالمصلحة في فعل المكلف وما لا محيص عنه في التكليف إنما هو هذه الإرادة التشريعية لا التكوينية ، فإذا توافقتا (١) فلا بد من الإطاعة والإيمان ، وإذا تخالفتا فلا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان.

______________________________________________________

والفرق بينهما : أن الأولى : عبارة عن العلم بالنظام على نحو الكامل التام ـ كما هو صريح كلام المصنف ـ فهي تتعلق بذوات الماهيات ، وتفيض عليها الوجود الذي هو منبع كل خير وشرف ، فالماهيات بمجرد سماعها نداء ربها تطيع أمر خالقها ؛ فلهذا لا تتخلّف الإرادة التكوينية عن المراد هذا بخلاف الثانية ـ الإرادة التشريعية ـ فهي عبارة عن العلم بوجود المصلحة في فعل العبد إذا صدر عنه بالإرادة والاختيار ؛ لا بالإلجاء والاضطرار.

ومن المعلوم : أن هذه الإرادة التشريعية تتخلف عن المراد ، ولا ضير في ذلك التخلّف ؛ لعدم كون هذه الإرادة علة لوجود فعل العبد في الخارج ، بل علة لنفس التشريع وفائدتها إحداث الداعي في العبد ليوجد الفعل بإرادته واختياره ، فوجود الفعل منوط بإرادة العبد لا بإرادة الله تعالى التكوينية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالإرادة في باب التكليف هي الإرادة التشريعية التي تتخلف عن المراد ، لأنها ـ كما عرفت ـ عبارة عن إرادته تعالى صدور الفعل عن العبد والمكلف بإرادته واختياره. ومن المعلوم : أن المكلف يوجد الفعل تارة ، ويبقيه على العدم أخرى.

فحاصل الجواب عن الإشكال : أن الطلب والإرادة الحقيقيين موجودان في تكاليف الكفار والعصاة ، ولا يلزم شيء من المحذورين ـ أي : التكليف الصوري أو التخلف ـ.

أما عدم لزوم المحذور الأول : فلوجود الطلب الحقيقي ؛ الموجب لكون التكليف حقيقيا.

وأما عدم لزوم المحذور الثاني : فلما عرفت ، من عدم استحالة التخلف في الإرادة التشريعية ، واختصاص ذلك بالإرادة التكوينية المفروض فقدانها في التكاليف الشرعية ، لعدم احتياجها إليها ، بل هي مخلة فيها ؛ لما عرفت من توقف المصلحة على صدور الفعل عن اختيار العبد ، وإنما المحتاج إليه في كون التكليف جديّا حقيقيا لا صوريا هي الإرادة التشريعية.

(١) أي : فإذا توافقت الإرادة التكوينية والتشريعية ؛ بأن كان الواجب الشرعي ـ كالإيمان ـ مرادا بالإرادة التكوينية أيضا.

هذا الكلام من المصنف دخول في «شبهة الجبر». توضيحها يتوقف على مقدمة

٣١١

إن قلت : (١) إذا كان الكفر والعصيان ، والإطاعة والإيمان بإرادته تعالى التي لا

______________________________________________________

وهي : أنه عرفت : أن لله تعالى إرادتين ؛ التكوينية والتشريعية ، ثم هما إما متوافقتان أو متخالفتان ؛ بمعنى : أن الإرادة التكوينية إما تعلقت بعين ما تعلقت به الإرادة التشريعية ، أو بغيره ؛ مثلا : تعلقت الإرادة التكوينية بإيمان العبد ، كما أن الإرادة التشريعية تعلقت به. هذا معنى توافقهما. أما تخالفهما ففيما إذا تعلقت الإرادة التكوينية على خلاف التشريعية حيث إنها متعلقة بالإيمان دائما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يلزم الجبر على كلتا الصورتين ، وذلك لما عرفت : من استحالة تخلّف الإرادة التكوينية عن المراد ، والمفروض : تعلقها بإيمان العبد وإطاعته في الصورة الأولى ، وبكفره وعصيانه في الصورة الثانية ، فلا بد من الإطاعة والإيمان في الصورة الأولى ؛ كما أشار إليه بقوله : «فإذا توافقتا فلا بد من الإطاعة والايمان».

وكذلك لا محيص عن أن يختار الكفر والعصيان في الصورة الثانية ، فيخرج العباد عن كونهم مختارين في أفعالهم ، بل هم مجبورون في أفعالهم وليس هذا إلّا الجبر الذي يلتزم به الأشعري.

والمتحصل مما ذكرناه : أن معنى توافق الإرادتين بأن يكون صدور فعل من الأفعال عن مكلف خاص ذا مصلحة ، وكان أيضا دخيلا في النظام الأكمل ، فكان موردا للإرادتين ، فلا بد حينئذ من الإطاعة والإيمان.

ومعنى تخالفهما : بأن يكون صدور الفعل عن المكلف ذا مصلحة له ، ولكن كان مخلا بالنظام الأكمل ، فكان وجوده موردا للإرادة التشريعية ، وعدمه موردا للإرادة التكوينية ، فلا محيص حينئذ : عن أن يختار الكفر والعصيان أعني : عدم الإيمان والاطاعة.

(١) قوله : «إن قلت» بيان للإشكال المتولد عن توافق الإرادتين أو تخالفهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة : وهي أن التكاليف الشرعية مشروطة بشرائط ؛ منها : القدرة والاختيار وذلك لقبح التكليف بغير ما هو مقدور المكلف عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا تعلقت إرادته تعالى التكوينية بإيمان شخص وإطاعته ـ هذا في صورة توافق الإرادتين ـ أو تعلقت بكفره وعصيانه ـ هذا في صورة تخالفهما ـ امتنع تعلق التكليف بهذه الأمور ؛ لصيرورتها غير مقدورة للعبد بعد تعلق إرادته تعالى التكوينية بها ؛ الموجبة لضرورية وجودها ، فلا يبقى حينئذ اختيار للعبد يوجب صحة التكليف بها ، وعلى هذا فيكون العبد مضطرا إلى اختيار الكفر والعصيان أو الإطاعة والإيمان وليس هذا إلّا الجبر.

٣١٢

تكاد تتخلّف عن المراد ، فلا يصح أن يتعلق بها (١) التكليف ؛ لكونها خارجة عن الاختيار المعتبر فيه عقلا.

قلت (٢) : إنما يخرج بذلك (٣) عن الاختيار لو لم يكن تعلق الإرادة بها (٤) مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، وإلّا فلا بد من صدورها بالاختيار ، وإلّا (٥) لزم تخلّف إرادته عن

______________________________________________________

(١) أي : بالكفر والعصيان والإطاعة والإيمان ؛ لكون هذه الأمور خارجة عن الاختيار ؛ الذي هو شرط في التكليف عقلا.

(٢) توضيح ما أفاده من الجواب عن إشكال الجبر يتوقف على مقدمة وهي : أن إرادته تعالى التكوينية تارة : تتعلق بفعل العبد مطلقا أي : سواء أراد العبد ذلك الفعل أم لا ؛ فقد يوجد الفعل حينئذ من دون إرادته واختياره ؛ لوجوب صدوره عنه بعد صيرورته مرادا تكوينيا له تعالى. وأخرى : تتعلق بفعل العبد بما له من المبادئ الاختيارية ؛ الموجبة لكون فعله اختياريا وصادرا عنه عن إرادة واختيار.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن فعل العبد في الصورة الأولى وإن لم يكن اختياريا إذ المفروض : أنه لا تؤثر قدرته وإرادته فيه أصلا ؛ إلّا إنه لم تتعلق إرادته تعالى التكوينية بصرف صدور الفعل عن العبد مطلقا حتى يلزم الجبر ، بل تعلقت بصدوره عنه مسبوقا بإرادته واختياره. فيكون فعله حينئذ اختياريا ، ولا معنى لنفي الاختيار.

نعم ؛ اختيار العبد الكفر والعصيان إنما هو مستند إلى سوء اختياره وشقاوته ؛ لا إلى إرادته تعالى التكوينية حتى يقبح التكليف بالإيمان ، والعقاب على الكفر.

(٣) أي : بتعلق الإرادة التكوينية الإلهية بالإيمان وغيره.

(٤) أي : الكفر والعصيان والإيمان والإطاعة. والضمير في «بمقدماتها» أيضا يرجع إلى هذه الأمور.

وحاصل الجواب : أن أفعال العباد لا تتعلق بها الإرادة التكوينية لا وجودا ولا عدما ، فللعبد صفة الاختيار بحيث أنه يفعل باختياره ، أو يتركه باختياره ؛ فإن الله تعالى لا يوجد فعل العبد ولا يمنع عن فعل العبد ، وعلى فرض تسليم تعلقها بها وجودا فكانت تتعلق بها مسبوقة بمقدماتها الاختيارية ، فلا بد حينئذ من صدورها بالاختيار ؛ كما أشار إليه بقوله : «وإلّا» أي : لو كان تعلق الإرادة التكوينية بالإيمان وغيره بمباديها الاختيارية ، فلا بد من صدور الإيمان وغيره بالاختيار ، كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٠٣».

(٥) أي : وإن لم تصدر العناوين المذكورة بالاختيار ـ مع تعلق إرادته تعالى التكوينية بصدورها من العبد باختياره ـ لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده إذ المفروض : أن إرادته

٣١٣

مراده ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

إن قلت : (١) إن الكفر والعصيان من الكافر والعاصي ولو كانا مسبوقين بإرادتهما إلّا إنهما منتهيان إلى ما (٢) لا بالاختيار ، كيف (٣)؟ وقد سبقتهما الإرادة الأزلية والمشيئة الإلهية ، ومعه (٤) كيف تصح المؤاخذة على ما يكون بالأخرة بلا اختيار؟

______________________________________________________

«عزوجل» تعلقت بصدور تلك العناوين باختيار العبد ، فلو صدرت بدونه لزم التخلف.

فالمتحصل : أنه لا يلزم من تعلق إرادة الله تعالى تكوينا بالإيمان والإطاعة والكفر والعصيان جبر أصلا ، لما مر من كون إرادته التكوينية على نحوين ، ويلزم الجبر على أحدهما دون الآخر ، كما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٠٤».

(١) الغرض من هذا السؤال هو : عدم اندفاع إشكال الجبر بما تقدم من الجواب وهو : أن الكفر من الكافر والإيمان من المؤمن من الأمور الاختيارية ؛ وذلك لكون كل واحد منهما مسبوقا بالإرادة.

أما وجه عدم الاندفاع : أن صدور الأفعال من العباد وإن كان مسبوقا بإرادتهم واختيارهم ، إلّا إن تلك الأفعال بالأخرة منتهية إلى إرادته تعالى ، وإلّا لزم التسلسل ، لأن إرادة العبد من الممكنات ، وكل ممكن محتاج إلى المؤثر ، فإرادة العبد غير اختيارية ؛ لأنها مستندة إلى إرادة الواجب تعالى التي هي واجبة لكونها عين ذاته «عزوجل» ، فيقبح حينئذ التكليف بالإيمان وغيره لكونه تكليفا بما هو خارج عن الاختيار ، كما يقبح العقاب على الكفر والعصيان ؛ لكونه بما لا يكون بالاختيار ، فحينئذ لم يندفع إشكال الجبر بمجرد تأثير إرادة العبد في اختيارية الكفر والإيمان ؛ لأن الله قد خلق الكافر والمؤمن ، وأوجد فيهما إرادة الكفر والإيمان ؛ فلا بد من صدورهما عنهما.

(٢) المراد بالموصول هو : الإرادة الإلهية التي تنتهي إليها الممكنات ؛ التي من جملتها : إرادة المكلف ومقدماتها.

(٣) أي : كيف لا تنتهي إرادة الكفر والعصيان من الكافر والعاصي إلى ما لا بالاختيار ، والحال : أنه قد سبقت هذه الإرادة الأزلية الإلهية الرافعة للاختيار.

(٤) أي : مع السبق المزبور أي : مع سبق الإرادة الأزلية بإرادة الكافر الكفر ، والعاصي العصيان ، كيف تصح المؤاخذة على الكفر والعصيان اللذين هما مما يكون بالأخرة بلا اختيار؟ لأن سلب الاختيار يستلزم سلب التكليف ، فلا تصح المؤاخذة من دون تكليف أصلا.

فالمتحصل مما ذكرناه : أن الكفر والعصيان تابعان لإرادة العبد ، وإرادة العبد لكونها ممكنا ، وكل ممكن يجب أن ينتهي إلى الواجب تابعة للإرادة التكوينية الإلهية ، وهذا مستلزم للجبر.

٣١٤

قلت : (١) العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار الناشئ عن مقدماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما ، فإن «السعيد سعيد في بطن أمه ، والشقي شقي في بطن أمه» (*) و «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (**) كما

______________________________________________________

(١) توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن إشكال الجبر يتوقف على مقدمة وهي : أن الممكن مركب من الماهية والوجود ، فقد اتفق الفلاسفة على عدم كليهما من فعل الله ؛ بمعنى : أنه لا يكون كلاهما مجعولين بل المجعول هو أحدهما فقط إما الماهية وإما الوجود ، ثم الأثر يترتب على ما هو المجعول ، وينسب أثر ما هو المجعول منهما إلى الله تعالى. ولا يصح أن ينسب أثر ما هو غير المجعول إلى الله «عزوجل» ، ثم الأرجح هو قول من يقول إن المجعول هو الوجود دون الماهية ، بل لا يعقل أن تكون الماهية مجعولة ، لأن ثبوت شيء لنفسه ضروري ولذا قيل : «ما جعل الله المشمشة مشمشة ، بل أوجدها» فحينئذ إذا لم تكن الماهية مجعولة لم تكن آثارها مجعولة ومنسوبة إلى الله تعالى.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن إرادة الكفر من الكافر والعصيان من العاصي ناشئة من سوء سريرتهما وهو ناشئ من شقاوتهما ، والشقاوة إما ذاتي لهما أو من لوازم ذاتهما وماهيتهما والذاتي لا يعلل ، فينقطع السؤال بأنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟ إذ قد عرفت : أنه لا يصح أن تنسب الشقاوة والسعادة ولا آثارهما من الكفر والعصيان ، والإطاعة والإيمان إلى الله تعالى ، لأن السعيد سعيد بنفسه ، والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى لأن الوجود خير محض وفيض من الله «عزوجل» ، لأن الله فياض على الإطلاق.

ومن هنا يعلم : أن المؤاخذة في اختيار الكفر والعصيان ليست لأجل الاستحقاق حتى يرد عليه الإشكال بأن يقال : إنه لا استحقاق مع عدم الاختيار ، بل المؤاخذة هي من اللوازم الذاتية المترتبة على الكفر والعصيان الناشئين من الخبث الذاتي ترتب المعلول على العلة كما أشار إليه بقوله : «العقاب إنما يتبع الكفر والعصيان» ، فإذا انتهى الأمر إلى الذاتي

__________________

(*) في التوحيد ، ص ٣٥٦ ، ح ٣ / تفسير القمي ، ج ١ ، ص ٢٢٧ / غوالي اللآلي ، ج ١ ، ص ٣٥ ، ح ١٩ : «الشقي من شقي في بطن أمه ، والسعيد من سعد في بطن أمه ...».

وفي مصباح الزجاجة ، ج ١ ، ص ٩ ، سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ١٨ ، ح ٤٦ / الجامع لمعمر بن راشد ، ج ١١ ، ص ١١٦ ، ح ٢٠٠٧٦ / المعجم الأوسط للطبراني ، ج ١٨ ، ص ٣١ ، ح ٧٨٧١ إلخ : «.. الشقي من شقي في بطن أمه ، والسعيد من وعظ بغيره ...».

(**) مشكاة الأنوار ، ص ٢٦٠ / مسند الشهاب ، ج ١ ، ص ١٤٥ ، ح ١٩٥ / صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٢٠٣٠ ، ح ٢٦٣٨.

٣١٥

في الخبر والذاتي لا يعلل (١) ، فانقطع سؤال : أنه لم جعل السعيد سعيدا والشقي شقيا؟

فإن السعيد سعيد بنفسه ، والشقي شقي كذلك ، وإنما أوجدهما الله تعالى «قلم اينجا رسيد سر بشكست» (٢) ، قد انتهى الكلام في المقام إلى ما ربما لا يسعه كثير من الأفهام ، ومن الله الرشد والهداية ، وبه الاعتصام.

______________________________________________________

ينقطع السؤال لأن الذاتي لا يعلل ، فلا يقال : لم اختار المؤمن الإيمان ، والكافر الكفر ؛ إذ المفروض : أنهما من لوازم ذاتهما ، وإلى هذا يشير الحديث المعروف «السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه» و «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة».

فعلى هذا لا يلزم الجبر بالمعنى الذي يقول به الأشاعرة ؛ من أن أفعال العباد كلها من الله ، وأوجدها بواسطة العباد ، والعبد بمنزلة آلة لها. نعم ؛ يلزم الجبر بالمعنى الآخر أعني : الجبر الأخلاقي ، لأن الفعل ليس باختيار المكلف لو كان ناشئا من شقاوته الذاتية ، ولكن نظر المصنف إنما هو إلى ردّ الجبر المشهور المنسوب إلى الأشاعرة ؛ فإنه قد أجاب عن هذا الجبر بما يرجع إلى الجبر الأخلاقي. ولازم ذلك : أن الثواب والعقاب ليسا لأجل الاستحقاق ؛ بل هما من اللوازم الذاتية للأفعال الحسنة والقبيحة ؛ المنتهية إلى الشقاوة والسعادة الذاتيتين ؛ كما هو رأي جماعة من الفلاسفة.

(١) أي : معناه ما عرفت من : أن ماهيات الأشياء التي هي مواد الموجودات ليست مجعولات ، بل هي بنفسها متقررة في عالمها ، فالشقي شقي بنفسه لا أنه تعالى جعله شقيا بإرادته التكوينية ليقبح تكليفه وعقابه ، فكفره مستند إلى شقاوته الذاتية. نعم ؛ لو قلنا : بأن الله تعالى جعل الشقي شقيا يلزم الجبر ولا يجدي في دفعه ما قيل من : أن الذاتي لا يعلل. فتدبر.

فالمتحصل من كلام المصنف : أن السعادة والشقاوة ذاتيتان للناس ؛ كذاتية الذهبية والفضيّة للذهب والفضة ، والعقاب إنما بتبعة الكفر والعصيان وهما مستندان إلى الاختيار ، والاختيار إلى مقدماته ، ومقدماته إلى الشقاوة ، والشقاوة ذاتية ، والذاتي لا يعلل نظرا إلى ما عرفته من كون الذاتيات ضرورية الثبوت للذات.

(٢) أي : قلم اينجا رسيد سر بشكست جون بيرون از حد خود نوشت ، لأن حد القلم ووظيفته في المقام تحرير مسائل الأصول وقواعدها ؛ لا تحرير مسائل الكلام والاعتقاد ، لا سيما مسألة القضاء والقدر التي لا تدركها العقول ، ولا تسعها الأفهام ، فإن كل شيء إذا انحرف عن مسيره يقع في ورطة وفي معرض الحوادث. هذا في غير الأمور الاعتقادية. وأما في الأمور الاعتقادية : فالانحراف ربما يؤدي إلى الهلاك الدائم

٣١٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والعذاب الأليم ، نعوذ بالله من سوء العاقبة والانحراف في العقيدة ، فانكسار رأس القلم كناية عن توقف القلم عن التحرير والكتابة عند هذه المسألة ، وقد قيل : إن المصنف قد دخل في شبهة الجبر من غير ملزم له ، ويا ليته لم يدخل فيها أو دخل وأدى حقها.

وكيف كان ؛ فما أفاده المصنف في هذا المقام لا يخلو عن إشكال ، بل فيه وجوه من الإشكال ، كما في «منتهى الدراية» ونكتفي بذكر بعض تلك الوجوه رعاية للاختصار :

الأول : أن الثواب والعقاب ـ على ما دلت عليه الآيات والروايات ـ جزاء من الله تعالى بالعمل الحسن والقبيح ، والثواب ـ على ما عرّفه المتكلمون ـ هو : النفع المستحق المقارن للتعظيم ، والعقاب هو : الضرر المستحق المقارن للاستخفاف ، ومع الجبر لا استحقاق لعدم كون الفعل اختياريا للعبد.

الثاني : أن الثواب والعقاب لو كانا ذاتيين للعمل لم يكن وجه لتوقيف العباد في مواقف الحساب للسؤال عنهم على ما صرح به في قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ،) الصافات : ٢٤.

الثالث : أن ذاتيتهما تنافي ما ورد من العفو عن بعض الذنوب بالشفاعة أو غيرها ؛ إذ لا معنى للعفو حينئذ.

الرابع : هو عدم انطباق حد الذاتي على السعادة والشقاوة ؛ اللتين يترتب عليهما الثواب والعقاب ، وأما الذاتي الإيساغوجي ـ وهو الجنس والفصل ـ فواضح. وأما الذاتي البرهاني ـ وهو ما ينتزع عن نفس الذات من دون حاجة إلى ضم ضميمة ، كإمكان الإنسان وغيره من الماهيات الإمكانية ـ فلوضوح : عدم كون السعادة والشقاوة كذلك ؛ لأنهما من الصفات العارضة للنفس كسائر الأوصاف النفسانية.

بقي الكلام في الخبر المعروف أعني : «السعيد سعيد في بطن أمه ...» إلخ فنقول : إن المراد بالسعيد والشقي في بطن الأم هو : علمه تعالى بكونه سعيدا أو شقيا وهو في بطن أمه ؛ كما هو مفاد الرواية عن ابن أبي عمير قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر «عليهما‌السلام» عن معنى قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الشقي شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» قال : الشقي في علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنه سيعمل أعمال السعداء». البحار ج ٥ ، ص ٥٧ ، ح ١٠ ـ باب السعادة والشقاوة.

وأما الخبر الثاني : فالظاهر منه هو : تنزيل الناس منزلة المعادن ؛ في أنه كما تكون

٣١٧

وهم (١) ودفع

لعلك تقول : (٢) إذا كانت الإرادة التشريعية منه تعالى عين علمه بصلاح الفعل ،

______________________________________________________

المعادن من حيث المالية ، والجهات الموجبة لتنافس الخلق ، وتزاحمهم عليها مختلفة جدا ، ومتفاوتة جزما كذلك الناس ، فإنهم في الأخلاق والصفات متفاوتون كتفاوت المعادن ، فلا دلالة في هذا الخبر على كون السعادة والشقاوة ذاتيتين ؛ بمعنى : العلة التامة كما هو قضية الجبر ، ولو سلّمنا دلالة الخبر على كونهما ذاتيتين ، فالمتيقن منه ذاتيتهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة. ومن المعلوم : أن مجرد الاقتضاء لا يثبت الجبر.

فتلخص مما ذكرنا : عدم لزوم الجبر من ناحية ذاتية السعادة والشقاوة.

وأما من ناحية الإرادة : فلا يلزم الجبر أيضا ؛ لأن المراد بها هو علمه باشتمال فعل العبد الصادر عنه باختياره على المصلحة ؛ لا مطلقا ولو صدر عنه قهرا ، ومن المعلوم : أنّ هذه الإرادة لا توجب الجبر.

والحق في المقام أن يقال : إن الإرادة صفة كمال أودعها الله تعالى في الإنسان ، وبهذه الصفة يتحقق الاختيار المعتبر في التكليف ، فيحسن الثواب والعقاب. وأما كون إرادة العبد مسبوقة بإرادة الله تعالى فهو باطل ؛ وذلك لعدم تعلق الإرادة من الله تعالى بفعل العبد ولا بالترك ، وإنما يكون من جانب الله هو الأمر والنهي.

فما يظهر منه من : كون الكفر والعصيان والطاعة والإيمان إجباريا فاسد ؛ لأنه تعالى لا يريد تكوينا وجود شيء منها حتى يكون العبد مجبورا بها ، وعلمه تعالى بأن العبد يختار كذا لا يجبره عليه إذ العلم ليس علة للمعلوم ، بل تابع له متأخر عنه رتبة. ومن البديهي : أنّنا نجد في أنفسنا الاختيار ، وأن حركاتنا ليست كحركة يد المرتعش.

(١) أي : قبل تقريب هذا الوهم ينبغي بيان أمرين :

الأول : كان الأولى على المصنف أن يذكر هذا الوهم قبل شبهة الجبر ، لأن الوهم المزبور إشكال على العدلية القائلين باتحاد الطلب والإرادة ، ودليل على المغايرة.

الأمر الثاني : بيان ما يتولد منه هذا الوهم فنقول : إن الوهم المزبور تولد من لازم كلام العدلية في الردّ على الأشاعرة القائلين بالكلام النفسي ؛ الذي يعبر عنه بالخبر النفسي في الأخبار ، وبالطلب النفسي في الإنشاء ؛ حيث جعلوه مدلولا للكلام اللفظي ، فلازم كلام العدلية : بأنه ليس في النفس غير الإرادة ما يكون مدلولا للكلام اللفظي هو كون الإرادة مدلولة للطلب الإنشائي في الإنشاءات ، والعلم في الإخبارات.

(٢) نقول في تقريب الوهم الذي هو من أدلة القائلين بمغايرة الطلب والإرادة.

٣١٨

لزم ـ بناء على أن تكون عين الطلب ـ كون المنشأ بالصيغة في الخطابات الإلهية هو العلم ، وهو بمكان من البطلان.

لكنك غفلت (١) عن أن اتحاد الإرادة مع العلم بالصلاح إنما يكون خارجا لا مفهوما ، وقد عرفت : أن المنشأ ليس إلّا المفهوم (٢) لا الطلب الخارجي ، ولا غرو أصلا

______________________________________________________

وحاصل التوهم : أنه على تقدير اتحاد الطلب والإرادة يلزم أن يكون المنشأ بصيغة الطلب في الخطابات الشرعية هو العلم بالصلاح ، إذ المفروض : كون الإرادة التشريعية هو هذا العلم ، وذلك بديهي البطلان ؛ لأن العلم غير قابل للإنشاء بل يحصل بأسبابه الخاصة ؛ إذ لا معنى لتعلق إنشاء الطلب بما هو حاصل في الخارج.

وبعبارة أخرى : إنه لو كانت الإرادة التشريعية عبارة عن العلم بالصلاح ، وكانت عين الطلب لكان المنشأ بالأمر والنهي هو العلم وهو باطل ؛ لأن العلم من الصفات الحقيقية التي لا يتعلق بها الإنشاء. وأما بناء على مغايرة الطلب والإرادة : فلا يلزم هذا الإشكال أصلا ، حيث إن المنشأ حينئذ هو مفهوم الطلب لا الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح ؛ حتى يلزم أن يكون المنشأ عين العلم بالصلاح كما هو قضية قياس المساواة.

(١) هذا دفع للتوهم المذكور : توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن العلم بالصلاح والإرادة التشريعية متحدان خارجا ، ومختلفان مفهوما ، والإرادة التشريعية بمفهومها قابلة للإنشاء ، والعلم بمفهومه لا يقبله.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المنشأ بالصيغة هو مفهوم الطلب لا الطلب الخارجي ؛ الذي هو عين الإرادة التشريعية التي هي العلم بالصلاح ، فلا يلزم إنشاء العلم بالمصلحة الذي هو من الموجودات الخارجية ، إذ موطن اتحاد الإرادة التشريعية مع العلم بالصلاح هو الوجود الخارجي لا المفهوم ؛ لأن صفاته «جل وعلا» عين ذاته خارجا ، فالوحدة وجودية لا مفهومية ، والإنشاء متعلق بالمفهوم لا بالوجود حتى يلزم إنشاء الوجود الخارجي فيقال : إنه بديهي البطلان ، فلا تنافي بين صحة إنشاء الطلب بالصيغة ، وبين اتحاد الطلب والإرادة.

(٢) أي : مفهوم الطلب لا الطلب الخارجي ، ولا يلزم من إنشاء مفهوم الطلب إنشاء العلم بالمصلحة ؛ الذي هو من الموجودات الحقيقية.

نعم ؛ حكي عن كثير من المعتزلة القول باتحاد الإرادة والعلم مفهوما ، ولكنه في كمال السخافة.

٣١٩

في اتحاد الإرادة والعلم عينا وخارجا ، بل لا محيص عنه في جميع صفاته تعالى ؛ لرجوع الصفات إلى ذاته المقدسة (١) ، قال أمير المؤمنين «صلوات الله وسلامه عليه» : «وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه» (٢).

______________________________________________________

(١) أي : صفاته تعالى عين ذاته المقدسة ؛ كما دل عليه البرهان القطعي ، وتواترت بذلك الروايات ، وكفاك ما قاله أمير المؤمنين «عليه‌السلام». وغرضه من نقل كلام الإمام «عليه‌السلام» هو الاستشهاد به على اتحاد صفاته تعالى وعينيّتها لذاته المقدسة.

توضيحه : على ما في «منتهى الدراية ، ج ١ ، ص ٤٣٢» : أن الإخلاص له هو تجريده تعالى عن الزوائد والثواني ليكون بسيطا حقيقيا ، وإلّا لم يكن بسيطا كذلك ، وبساطته الحقيقية تتوقف على نفي الصفات عنه ؛ إذ بدونه يصير مقرونا بشيء أي : صفة زائدة على ذاته ، ومن قرنه بغيره فقد جعل له ثانيا في الوجود ولازمه : تركبه من جزءين ، وهذا ينافي بساطته الحقيقية ، إذ لو كان في الوجود غيره سواء كان صفة أم غيرها لم يكن بسيطا حقيقيا ، فالتوحيد المطلق هو : أن لا يعتبر معه تعالى غيره مطلقا ، هذا في الصفات المغايرة لذاته تعالى في الوجود.

وأما الصفات غير المغايرة لها وجودا بأن تكون عينها بحيث يكون الذات بذاته مصداقا لجميع النعوت الكمالية ؛ من دون قيام أمر زائد بذاته الأحدية «جل وعلا» ، فهي غير منفية عنه تعالى ، لقوله «عليه‌السلام» : «ليس لصفته حد محدود» ، فلا منافاة بين هذه الجملة : أعني : «ليس لصفته حد محدود» ، وبين قوله «عليه‌السلام» : «وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه» ، وقوله «عليه‌السلام» : «فمن وصفه قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزاه» ؛ وذلك لأن ما يثبت الصفات له تعالى ناظر إلى الصفات التي هي عين ذاته وجودا ، وما ينفي الصفات عنه بحيث صار نفيها مدار التوحيد ناظر إلى الصفات التي تكون مغايرة لذاته وجودا ، وموجبة للتركب ، كصفاتنا ، حيث إنها فينا زائدة على ذواتنا وقائمة بنا نحو قيام.

(٢) شرح نهج البلاغة ، ج ١ ، ص ٦٧ ، باب الخطب والأوامر.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

أما خلاصة البحث ففي أمور تالية :

١ ـ معنى لفظ الأمر هو : الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي.

فلو أبيت إلّا عن كون لفظ الأمر موضوعا للطلب المطلق ؛ فلا أقل من كونه منصرفا

٣٢٠