دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

الجهة الثانية (١):

الظاهر : اعتبار العلو في معنى الأمر.

فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا ، ولو أطلق عليه (٢) : كان بنحو من

______________________________________________________

في اعتبار العلو في معنى الأمر

(١) هذا هو المطلب الثاني من المطالب التي تقدم ذكرها إجمالا في بداية البحث.

والغرض من عقد الجهة الثانية هي : الإشارة إلى وجوه ، بل أقوال فيما هو ملاك صدق الأمر ، وبيان ما هو الحق عند المصنف من تلك الوجوه والأقوال فنقول في تفصيل ذلك : إن في المسألة وجوه ، بل أقوال :

الأول : اعتبار العلو في صدق الأمر فليس طلب السافل أو المساوي أمرا.

الثاني : اعتبار الاستعلاء ، فليس طلب الخافض جناحيه أمرا وإن كان من العالي.

الثالث : اعتبار العلو والاستعلاء جميعا ، فلا يكون الطلب من الخافض جناحيه أمرا وإن كان عاليا.

الرابع : اعتبار أحدهما : إما العلو وإما الاستعلاء ، على سبيل منع الخلو.

الخامس : عدم اعتبار شيء منهما ، بل مطلق الطلب أمر ؛ سواء صدر من العالي أم صدر من المساوي ، أم صدر من السافل مع عدم الاستعلاء. والمصنف اختار القول الأول حيث قال : «الظاهر اعتبار العلو في معنى الأمر ، فلا يكون الطلب من السافل أو المساوي أمرا».

وخلاصة الكلام في المقام : أن المصنف ادعى بأن الأمر هو خصوص الطلب من العالي ، فالطلب من العالي ـ ولو كان مستخفضا لجناحيه ـ يعدّ أمرا ، واستدل على دعواه : بظهور ذلك عرفا ؛ فإنه إذا قيل : «أمر زيد عمروا بكذا» يفهم منه ويتبادر : أن زيدا له العلو على عمرو ولو كان السامع لا يعرف زيدا ولا عمروا. ومن هنا يعلم : أن ملاك صدق الأمر وجود جهة العلو في الآمر ، فلا يكون الطلب من الشخص السافل أو الشخص المساوي أمرا.

(٢) أي : لو أطلق الأمر على طلب السافل أو المساوي رتبة ـ بحيث لا يكون له علوّ عقلا ولا شرعا ولا عرفا ـ كان الإطلاق بنحو من العناية والمجاز ؛ وذلك للمشابهة في الصورة. نعم ؛ جرى اصطلاح النحاة على تسمية مطلق ما كان بصيغة «افعل» بالأمر.

٢٨١

العناية ، كما أن الظاهر (١) : عدم اعتبار الاستعلاء ، فيكون الطلب من العالي أمرا ولو كان مستخفضا لجناحه (٢). وأما احتمال اعتبار احدهما (٣) فضعيف ، وتقبيح الطالب

______________________________________________________

(١) أي : عدم اعتبار استعلاء الطالب في الطلب ؛ الذي هو معنى الأمر. فقوله : «كما أن الظاهر ...» إلخ ، إشارة إلى القول الثاني وردّه.

وحاصل الردّ هو : إنه لا يعتبر الاستعلاء في معنى الأمر ، فطلب العالي ـ ولو مع الاستخفاض ـ أمر حقيقة ، فالمعتبر في الطلب هو : علو الطالب دون استعلائه ، كما يشهد به العرف والوجدان.

وقد يستدل على كفاية الاستعلاء في تحقق الأمر ، وعدم اعتبار العلو بتقبيح الطالب السافل من العالي وتوبيخه ، ويمكن تقريبه بوجهين :

أحدهما : أن نفس التوبيخ كاشف عن كون الطلب أمرا ، إذ أمر السافل العالي قبيح.

وثانيهما : إطلاق الأمر على طلبه في مقام التوبيخ بقولهم : «لم تأمره» فإنه كاشف عن كون طلبه أمرا ، إذ الظاهر : كون الاستعمال حقيقيا وبما له من المعنى لا مجازيا.

والجواب عن كلا الوجهين : أما عن الوجه الأول : فلأن التوبيخ لم يكن على الأمر ، بل على استعلائه على من هو أعلى منه وإثبات ما ليس له من المقام لنفسه لا على نفس الأمر.

وأما الجواب عن الوجه الثاني : فلأن إطلاق الأمر على طلبه إنما هو جريا على اعتقاده وبنائه لا حقيقة ، فالتوبيخ على ما هو أمر بنظره واعتقاده.

(٢) أي : استخفاض الجناح كناية عن التذلل والخضوع ، وهو مأخوذ من خضوع الطائر لأمّه بخفض جناحه.

(٣) أي : اعتبار أحدهما على سبيل منع الخلو ؛ بأن يكون الشرط في صدق الأمر إما اعتبار العلوّ ولو كان الطالب مستخفضا لجناحه ، وإما الاستعلاء ولو لم يكن عاليا. هذا هو القول الرابع.

وقد يستدل عليه بما ذكرناه ؛ من تقبيح السافل المستعلي بقولهم : «لما ذا تأمره؟» حيث يعلم من ذلك كفاية الاستعلاء في صدق الأمر ، إلّا أن هذا الاحتمال والقول ضعيف ؛ وذلك أولا : لعدم قيام دليل عليه. وثانيا : لصحة السلب فطلبه يسمى أمرا مجازا وبحسب زعمه واعتقاده أو التوبيخ إنما هو لاستعلائه كما عرفت.

وكيف كان ؛ فالمصنف ضعّفه بعدم الدليل عليه بعد ما عرفت آنفا اعتبار العلو الواقعي في مفهوم الطلب ؛ بشهادة العرف والوجدان.

٢٨٢

السافل من العالي المستعلي عليه ، وتوبيخه (١) بمثل : إنك لم تأمره ، إنما هو على استعلائه لا على أمره حقيقة بعد استعلائه ، وإنما يكون إطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه (٢) ، وكيف كان (٣) ؛ ففي صحة سلب الأمر عن طلب السافل ، ولو كان مستعليا كفاية.

______________________________________________________

قوله : «وتقبيح الطالب السافل من العالي ...» إلخ إشارة إلى دليل القول بكفاية الاستعلاء في صدق الأمر بتقريب : أن العقلاء يقبحون السافل المستعلي الذي يأمر العالي ، ويذمونه بأنك لم تأمر العالي؟ فإطلاقهم الأمر على طلب السافل المستعلي يدل على كفاية استعلاء الطالب في صدق الأمر ، وعدم اعتبار العلو الواقعي فيه.

(١) قوله : «وتوبيخه» عطف على «تقبيح» ، فيكون من تتمة الاستدلال على كفاية الاستعلاء في صدق الأمر.

وحاصل الجواب كما مر : أن التقبيح إنما هو على استعلاء السافل على العالي ؛ لا على أمره حتى يقال : إن الذّم على هذا الأمر كاشف عن كفاية مجرد الاستعلاء في صدق الأمر ، فالتوبيخ ليس دليلا على كفاية الاستعلاء فقط في صدق الأمر ، وإطلاق الأمر على طلبه في مقام توبيخه ـ بأنك لم تأمره؟ ـ إنما هو بحسب مقتضى استعلائه ، فيكون إطلاق الأمر على طلب المستعلي السافل مجازا في الكلمة أو في الإسناد ، والعلاقة المصححة للتجوز هي علاقة المشابهة ، لأن كلا من طلب العالي الواقعي وطلب السافل الواقعي طلب للفعل من المخاطب.

(٢) أي : استعلاء السافل وزعمه بكون طلبه أمرا ، فليس إطلاق الأمر على طلبه على نحو الحقيقة ، بل على نحو المجاز كما عرفت.

(٣) أي : سواء كان التقبيح والتوبيخ على الأمر أم على استعلائه ؛ لا يكون برهانا ودليلا على كفاية الاستعلاء في الأمر ضرورة : وجود علامة المجاز وهي صحة السلب فيه ؛ وذلك لصحة سلب الأمر عن طلب السافل ولو كان مستعليا ؛ ومع هذه العلامة لا يصح الاستدلال على كفاية الاستعلاء في صدق الأمر على طلب السافل بمجرد إطلاق الأمر عليه ، مع إن الاستعمال أعم من الحقيقة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ اعتبار العلو في معنى الأمر هذا هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، واستدل عليه بظهور ذلك عرفا.

٢٨٣

الجهة الثالثة (١):

لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ؛ لانسباقه عنه عند إطلاقه ،

______________________________________________________

٢ ـ أن القول : بكفاية الاستعلاء في صدق الأمر ـ وذلك لصدق الأمر على طلب السافل ـ مردود لعدم الدليل عليه أولا ، وصحة سلب الأمر عنه ثانيا.

٣ ـ أن إطلاق الأمر على طلب السافل ليس على نحو الحقيقة بل على نحو المجاز ؛ لأن الاستعمال أعم من الحقيقة.

فإن قلت : إنه لا بد من العلاقة التي تصحح المجازية وهي مفقودة في المقام.

قلت : إن العلاقة هي علاقة المشابهة ؛ إذ كل واحد من طلب العالي والسافل مشابه للآخر في كونه طلب الفعل عن الغير ، والمصنف لم يتعرض لبعض الأقوال أصلا ؛ لأن حال بعض الأقوال يعلم من اختياره القول الأوّل في معنى الأمر ؛ وهو اعتبار العلو الواقعي في صدق الأمر.

في كون الأمر حقيقة في الوجوب

(١) هذه الجهة هي المطلب الثالث ؛ من المطالب التي ذكرت إجمالا في أول البحث.

وعرفت في الجهة الثانية : أن الأمر معناه الطلب من العالي ، ولكن لم يعلم : أنه هل هو خصوص الطلب الإلزامي والذي يكون بنحو الوجوب ، أو الأعم منه ومن الطلب الندبي ، أو أنه خصوص الطلب الندبي.

والغرض من عقد هذه الجهة الثالثة هو تفصيل : ما أجمله المصنف في الجهة الثانية ، وبيان أن الأمر حقيقة في خصوص الطلب الوجوبي.

وكيف كان ؛ فقد ذهب المصنف إلى أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب ؛ مستدلا على ذلك بوجهين :

الأول : تبادر الوجوب من الأمر. وقد أشار إليه بقوله : «لانسباقه عنه عند إطلاقه» أي : لانسباق الوجوب عن لفظ الأمر عند الإطلاق ، والانسباق هو التبادر المثبت للوضع.

الثاني : هو صحة الاحتجاج على العبد ، ومؤاخذته بمجرد مخالفة الأمر ؛ كما أشار إليه بقوله الآتي : «وصحة الاحتجاج على العبد ...» إلخ ، ثم أيّده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المبسوطة ؛ ولذلك جعلها تأييدا ومقربا لا دليلا وشاهدا.

٢٨٤

ويؤيده (١) قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) : «لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك» (*) ،

______________________________________________________

(١) هذا من أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب بتقريب : أن الله تعالى حذر مخالف الأمر ، والتحذير يدل على الوجوب ؛ إذ لا معنى لندب الحذر أو إباحته.

لا يقال : أن الآية إنما دلت على أن مخالف الأمر مأمور بالحذر ، ولا يدل على وجوبه إلّا بفرض وتقدير كون الأمر للوجوب وهو عين المتنازع فيه.

فإنه يقال : إن هذا الأمر للإيجاب والإلزام قطعا ؛ إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب أو إباحته ، ومع التنزّل «عن كونه للوجوب» فلا أقل من دلالته على حسن الحذر عن مخالفة الأمر ، ومن المعلوم : أن حسنه موقوف على ثبوت المقتضي له ، وإلّا لكان الحذر عنه سفها وعبثا ، وذلك محال على الله تعالى ، وإذا ثبت المقتضى له ثبت أن الأمر للوجوب ، لأن المقتضي للعذاب هو مخالفة الواجب لا المندوب ، ثم إن وجه كون الآية مؤيّدة لا دليلا : أن غاية ما يستفاد منها هو إطلاق الأمر على الوجوب ، واستعماله فيه ، والاستعمال أعم من الحقيقة ؛ بل ربما يقال : إن فهم الوجوب هنا بقرينة مادة الحذر.

وكيف كان ؛ فالآية لا تكون من أدلة الوجوب.

(٢) سورة النور آية : ٨٣.

(٣) هذا ثاني أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب ؛ بتقريب : أن في الأمر مشقة ، ولا مشقة في الندب والاستحباب ، فهذا قرينة على كون الأمر في «لأمرتهم» للوجوب.

وكيف كان ؛ فمعناه : إنه لم يأمرنا بالسواك ، فلا بد من كون هذا الأمر للوجوب بعد فرض صدور الأمر الاستحبابي بالسواك منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأما وجه عدم كونه دليلا : فلأن غاية ما يدل عليه الحديث هو استعمال الأمر في الوجوب ، وهو أعم من الحقيقة كما عرفت غير مرة ؛ مع أن فهم الوجوب منه إنما هو

__________________

(*) علل الشرائع ، ص ٢٩٣ ، ح ١ / المحاسن ، ص ٥٦١ ، ح ٩٤٦ / غوالي اللآلي ، ج ٢ ، ص ٢١ ، ح ٤٣ / المنتقى لابن الجارود ، ج ١ ، ص ٢٧ ، ح ٦٣ ، بلفظ : «عند كل وضوء».

وبلفظ : «عند كل صلاة» وشبهها في صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٣٠٣ ، ح ٨٤٧ / صحيح ابن حبان ، ج ٣ ، ص ٣٥٢ ، ح ١٠٦٩ / مجمع الزوائد ، ج ٢ ، ص ٩٦ / سنن البيهقي الكبرى ، ج ١ ، ص ٣٥ ، ح ١٤٣. إلخ.

٢٨٥

وقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله : لبريرة بعد قولها : أتأمرني يا رسول الله؟ : «لا ، بل إنما أنا شافع» ، إلى غير ذلك (٢) ، وصحة (٣) الاحتجاج على العبد ومؤاخذته بمجرد

______________________________________________________

بقرينة المشقة ، والمدعى : دلالة لفظ الأمر على الوجوب بلا قرينة.

(١) هذا ثالث أدلة القائلين بكون الأمر حقيقة في الوجوب.

وخلاصة الكلام في قصة بريرة ؛ كما رويت (١) : أن بريرة كانت أمة لعائشة وزوجها كان عبدا ، ثم أعتقتها عائشة ، فلما علمت بريرة بخيارها في نكاحها بعد العتق أرادت مفارقة زوجها ، فاشتكى الزوج إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبريرة : «ارجعي إلى زوجك فإنه أبو ولدك وله عليك منّة». فقالت : يا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أتأمرني بذلك؟ فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا إنما أنا شافع».

وأمّا تقريب الاستدلال به : أن نفي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للأمر بقوله : «لا بل إنما أنا شافع» بعد قولها : «أتأمرني يا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، دليل على كونه للوجوب ؛ إذ لو لم تكن دلالة الأمر على الوجوب مركوزة في الأذهان لم يكن وجه وسبب لاستفهام بريرة ، وسؤالها منه.

وأمّا كونه مؤيدا لا دليلا : فلأن الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز ؛ إذ غاية ما يستفاد من الرواية هو : استعمال الأمر في الوجوب وهو أعم ، والمدعى هو كونه حقيقة فيه.

هذا مضافا إلى وجود القرينة على الوجوب وهي مقابلة الأمر بالشفاعة ؛ لأنها تستعمل في صورة رجحان الفعل ، فالأمر في مقامها إنما هو للوجوب والإلزام ؛ لا للرجحان والاستحباب.

(٢) إلى غير ذلك من موارد استعمال مادة الأمر في الكتاب والسنّة في الوجوب ؛ نحو قوله تعالى : (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ) أي : وجبت عليّ عبادة الله وطاعته «سبحانه وتعالى». ونحو قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أنا مأمور بالتبليغ» أي : وجب عليّ البلاغ. وغيرهما.

(٣) أي : هذا عطف على قوله : «انسباقه» ليكون دليلا ثانيا لا مؤيدا ؛ حيث إنه بمنزلة

__________________

(١) غوالي اللآلي ، ج ٣ ، ص ٣٤٩ ، ح ٢٨٤ / صحيح ابن حبان ، ج ١٠ ، ص ٩٦ ، ح ٤٢٧٣ / سنن أبي داود ، ج ٢ ، ص ٢٧٠ ، ح ٢٢٣١ / المعجم الكبير للطبراني ، ج ١١ ، ص ٣٤٥ ، ح ١١٩٦٢. إلخ.

٢٨٦

مخالفة أمره ، وتوبيخه على مجرد مخالفته ؛ كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ.)

______________________________________________________

أن يقال : «لا يبعد كون لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لانسباقه ، ولصحة الاحتجاج على العبد ...» إلخ. ويحتمل أن يكون عطفا على قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ) فيكون كغيره من المؤيّدات.

وكيف كان ؛ فتقريب الاستدلال به هو : أن صحة مؤاخذة العبد ، وتوبيخه على مجرد مخالفة أمر المولى دليل على كون الأمر حقيقة في الوجوب ، إذ لا يتوجه الذم والمؤاخذة إلّا على ترك الواجب ، ولذا توجه الذّم والتوبيخ على إبليس بسبب تركه لما أمر به من السجود لآدم ؛ حينما قال «تعالى شأنه» للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)(١) ، فلو لم يكن الأمر للوجوب لما توجه الذم على إبليس بمجرد مخالفة الأمر ، ولصح منه الاحتجاج على الباري «جل وعلا».

وبعبارة أخرى : أنه تعالى رتّب الذّم على مجرد مخالفة الأمر ولو كان الأمر أعم من الوجوب لم يكن الذم مرتبا عليه ، لأن ما يترتب على الخاص لا يصح ترتبه على العام إلّا مجازا.

تنبيه : ينبغي بيان أمرين :

الأول : أن كلمة «لا» في الآية أعني : (أَلَّا تَسْجُدَ) زائدة ليس لها معنى ؛ لأن توبيخ إبليس كان على ترك السجود لآدم «عليه‌السلام» ؛ لا على فعل السجود.

الثاني : أن الآية المباركة أجنبية عن ما نحن فيه ؛ لأن محل النزاع هو مادة الأمر لا صيغته ، والحال أن المراد من «أمرتك» هو صيغة الأمر أعني : قوله تعالى : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) لا مادة أمرتك ، فلا يكون هذا دليلا على المدعى ؛ بل يكون دليلا لى كون صيغة الأمر للوجوب ، وهو مطلب آخر يأتي في بحث صيغة الأمر.

ولو سلم كون مادة الأمر للوجوب ؛ لكان مفادها استعمال مادة الأمر في الوجوب ، وقد عرفت غير مرة : أن الاستعمال لا يدل على وضع الأمر للوجوب ؛ لأنه أعم من الحقيقة ، فجعل الآية المباركة من المؤيّدات أولى من جعلها دليلا.

__________________

(١) الأعراف آية : ١١ ـ ١٢.

٢٨٧

وتقسيمه (١) إلى الإيجاب والاستحباب ، إنما يكون قرينة (٢) على إرادة المعنى الأعم منه في مقام تقسيمه ، وصحة الاستعمال في معنى أعم من كونه على نحو الحقيقة ، كما لا يخفى.

وأما ما أفيد (٣) : من أن الاستعمال فيهما ثابت ، فلو لم يكن موضوعا للقدر

______________________________________________________

(١) أي : تقسيم الأمر إلى الإيجاب والاستحباب.

هذا إشارة إلى القول بوضع الأمر لمطلق الطلب ؛ الجامع بين الوجوب والاستحباب ، واستدل لذلك بصحة تقسيم الأمر إلى الإيجاب والاستحباب ؛ بأن يقال : إن الأمر إما للوجوب ، وإما للاستحباب. وهذا التقسيم يدل على كون الموضوع له هو الجامع بينهما ، وإلّا فلا معنى للتقسيم إليهما ؛ لأن القاعدة في التقسيم هو وجود المقسم في جميع الأقسام ، فلا بد من أن يكون المقسم جامعا بين الأقسام فيكون المقسم مشتركا بينها بالاشتراك المعنوي وهو المطلوب.

(٢) هذا الكلام من المصنف ردّ للاستدلال بصحة التقسيم على الاشتراك المعنوي ، والردّ : أن التقسيم إلى الايجاب والاستحباب لا يدل على أزيد من إرادة الطلب الجامع بينهما من المقسم ، وأما كونه معنى حقيقيا له فلا يدل عليه.

وبعبارة واضحة : أن التقسيم المزبور يدل على أن المراد من المقسم هو المعنى العام ، ولازم ذلك : استعمال لفظ الأمر في المعنى العام ، وقد عرفت : أن الاستعمال أعم من الحقيقة ، والمدعى هو : كون الأمر حقيقة في القدر الجامع والتقسيم لا يدل عليه.

وبالجملة : أن التقسيم المزبور يدل على استعمال الأمر في جامع الطلب ، ولكن لا يدل على المطلوب ، وهو كون هذا الاستعمال على نحو الحقيقة ؛ لعدم الملازمة بين صحة الاستعمال في معنى وبين كونه على نحو الحقيقة ؛ وذلك لصحة الاستعمال على نحو المجاز.

(٣) أي : «وأما ما أفيد» في وجه الاشتراك المعنوي. فقوله : «وأما ما أفيد» إشارة إلى دليل آخر على وضع الأمر للجامع ، فيكون مشتركا معنويا بين الوجوب والاستحباب.

وخلاصة الكلام في تقريبه : أنه لا إشكال في استعمال لفظ الأمر في كل من الوجوب والاستحباب ، فحينئذ إن كان موضوعا للقدر الجامع بينهما ـ وهو مطلق الطلب ـ : فقد ثبت المطلوب ، وإن كان موضوعا لكل واحد منهما بوضع على حدة : لزم الاشتراك اللفظي ، وإن كان موضوعا لأحدهما فقط : لزم المجاز في الآخر وهما مخالفان

٢٨٨

المشترك بينهما لزم الاشتراك أو المجاز ، فهو غير مفيد لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى ، وفي تعارض الأحوال فراجع.

والاستدلال (١) بأن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فهو فعل المأمور به ، ... فيه (٢) ما لا يخفى ؛ من منع الكبرى ، لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي وإلّا لا يفيد المدعى.

______________________________________________________

للأصل ، لأن الأصل الحقيقة وعدم تعدد الوضع ، فلا بد من الالتزام بالاشتراك المعنوي دفعا للاشتراك والمجاز ، إذ لو دار الأمر بين الاشتراك المعنوي وبين الاشتراك اللفظي أو المجاز كان الأول خيرا من الثاني والثالث.

فقد أشار المصنف إلى الجواب بقوله : «فهو غير مفيد».

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب : من أن هذا الاستدلال مبنيّ على الترجيح بالوجوه المذكورة في باب تعارض الأحوال ، وقد عرفت : عدم الدليل لا من النقل ولا من العقل ؛ على اعتبار ترجيح بعض أحوال اللفظ على الآخر ، وما ذكر في الترجيح ليس إلّا أمورا استحسانية لا عبرة بها إلّا إذا أوجبت ظهور اللفظ في معنى ، هذا مضافا إلى ما عرفت من تبادر الوجوب من الأمر ؛ وهو علامة الحقيقة كما أشار إليه بقوله : «لما مرت الإشارة إليه في الجهة الأولى».

(١) هذا هو الدليل الثالث على القول بالاشتراك المعنوي ، وهذا الدليل هو الاستدلال بالقياس الاقتراني من الشكل الأول ؛ بتقريب : أن فعل المندوب طاعة ، وكل طاعة فعل المأمور به ؛ فالمندوب فعل المأمور به ، فالنتيجة هي : المندوب هو فعل المأمور به من حيث كونه محمولا على المندوب ، ولازم ذلك : أن يكون النادب آمرا والندب أمرا ، لاتحاد المشتق منه والمشتق في مفهوم الحدث ، فيصدق الأمر على الندب ، كما يصدق على الوجوب ؛ فيكون مشتركا معنويا بينهما.

(٢) أي : في هذا الاستدلال ما لا يخفى. فقول المصنف : «فيه ما لا يخفى» جواب عن الاستدلال المزبور.

توضيح ما أفاده المصنف من الجواب يتوقف على مقدمة : وهي أن الاستدلال بالشكل الأول إنما يتم لو كان القياس الاقتراني من الشكل الأول واجدا لشرائط الإنتاج وهي :

١ ـ إيجاب الصغرى. ٢ ـ كلية الكبرى. ٣ ـ صدقهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المصنف قد أجاب عن الاستدلال المزبور بمنع كلية الكبرى ؛ بمعنى : أنه ليس كل طاعة فعل المأمور به لو أريد من المأمور به معناه الحقيقي

٢٨٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أي : المأمور به الوجوبي ؛ لأن الطاعة قد تكون في المندوبات ، فحصر الطاعة في المأمور به الحقيقي أعني : المأمور به الوجوبي غير صحيح.

وأما لو أريد منه مطلق المأمور به سواء كان واجبا أو مستحبا : فالكبرى وإن كانت كلية إلّا إن كليتها لا تفيد المدعى ؛ كما أشار إليه بقوله : «وإلّا لا يفيد المدعى» أي : وإن لم يراد من المأمور به معناه الحقيقي ؛ بل أريد مطلق الطلب وهو معنى يساوي الطاعة «فلا يفيد المدعى» أي : الاشتراك المعنوي ، لأن صدق المأمور به بالمعنى الأعم على المندوب لا يلزم صدق المأمور به الحقيقي عليه ؛ إذ صدق العام مجازا لا يستلزم صدق الخاص.

مع إن الملاك في الاشتراك المعنوي هو : صدق القدر الجامع على مصاديقه على نحو الحقيقة ؛ كصدق الإنسان على أفراده.

فهذا الدليل لا يخلو من مصادرة بالمطلوب ؛ لأن القائل بالاشتراك المعنوي يدعي أن المندوب مأمور به حقيقي كالواجب ، ونحن نقول : إنه مأمور به مجازي ، فما هو المدعى جعل دليلا ، فلا يصغى إليه.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

١ ـ أن لفظ الأمر حقيقة في الوجوب لوجهين :

١ ـ التبادر. ٢ ـ صحة احتجاج المولى على العبد ومؤاخذته بمجرد مخالفة أمره.

وأيده ببعض الاستعمالات التي نوقش في دلالتها في الكتب المبسوطة ، وجعل المصنف «قدس‌سره» من المؤيّدات آية الحذر والخبرين.

٢ ـ استدل القائل بكون الأمر حقيقة في القدر الجامع بين الوجوب والندب بوجوه :

الأول : صحّة تقسيمه إليهما.

الثاني : ثبوت استعماله فيهما قطعا ، فلا بد من الالتزام بأنه حقيقة في الجامع دفعا للمجاز والاشتراك اللفظي.

الثالث : القياس الاقتراني من الشكل الأول.

وقد أجاب المصنف عن الأول : بأن الاستعمال في الأعم لا يستلزم أن يكون على نحو الحقيقة كما هو المدعى.

وعن الثاني : بعدم ثبوت حجية الوجوه المذكورة في باب تعارض الأحوال ، بل هي أمور استحسانية لا دليل على اعتبارها.

٢٩٠

الجهة الرابعة (١):

الظاهر أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي ؛ الذي يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الإنشائي الذي لا يكون بهذا الحمل

______________________________________________________

وعن الثالث : بمنع كلية الكبرى.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» في لفظ الأمر :

أنه حقيقة في الوجوب ؛ فليس مشتركا معنويا أو لفظيا بين المعنيين أو المعاني.

اتحاد الطلب والإرادة

(١) المطلب الرابع من المطالب التي ذكرت إجمالها في بداية البحث عن مادة الأمر. وقد أقحم المصنف «قدس‌سره» مبحث الطلب والإرادة وحديث اتحادهما وتغايرهما في البحث عن مادة الأمر ؛ فإنه ـ بعد ما انتهى من الحديث عن معاني مادة الأمر وأنها عنده موضوعة للطلب الإنشائي الذي ينتزع منه الوجوب إذا كان إنشاء الطلب بداعي الطلب الحقيقي ـ قال : «الظاهر : أن الطلب الذي يكون هو معنى الأمر ...» إلخ.

وحاصل الكلام في المقام : أن الغرض من عقد هذه الجهة هو بيان أمرين :

الأمر الأول : إن الطلب الذي هو من معاني الأمر ليس هو الطلب الحقيقي أي : الصفة القائمة بالنفس ؛ التي يحمل عليها الطلب بالحمل الشائع الصناعي ، بل هو الطلب الإنشائي ، أي : المنشأ بالصيغة الذي لا يحمل عليه الطلب بهذا الحمل مطلقا ، بل يحمل عليه مقيدا بالإنشائي فتقول : هذا طلب إنشائي ، ولو أبيت إلّا عن كون الأمر موضوعا للطلب مطلقا ؛ سواء كان حقيقيا أو إنشائيا فالأمر لا أقل منصرف إلى خصوص الطلب الإنشائي ، كما أن لفظ الطلب أيضا منصرف إلى الإنشائي ؛ على عكس لفظ الإرادة فإنه منصرف إلى الإرادة الحقيقية أي : الصفة النفسانية القائمة بالنفس ؛ دون الإرادة الإنشائية وهي المنشأة بصيغة الأمر ، وهذا أي : كون المنصرف من لفظ الإرادة الإرادة الحقيقة ؛ على عكس لفظ الأمر والطلب أوجب إيهام تغايرهما ذاتا فقيل به ؛ إلّا إن المصنف قد اختار اتحاد الطلب والإرادة مفهوما وإنشاء ، وخارجا ؛ بمعنى : أن مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، والإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي ، وواقع الإرادة عين واقع الطلب ، ولا فرق بينهما ذاتا ووضعا ؛ وإنما الفرق بينهما لفظي لا أكثر ؛ بمعنى : أن لفظ الطلب ينصرف إلى الطلب الإنشائي ، ولفظ الإرادة ينصرف إلى الإرادة الحقيقية. هذا خلاصة الكلام في الأمر الأوّل الذي عقدت هذه الجهة الرابعة لبيانه.

٢٩١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأمّا الأمر الثاني : فهو التعرض لما هو محلّ الخلاف بين الأشاعرة والعدليّة من المعتزلة والإمامية ، من اتحاد الطلب والإرادة كما يقول به العدلية ، أو تغايرهما كما يقول به الأشاعرة وبيان ما هو الحق في المسألة هو : أن الطلب عين الإرادة.

فهذه الجهة تكون لبيان الأمرين ؛ اللذين يمكن الاختلاف فيهما فيقال في الأمر الأول : إن مدلول الأمر هل هو الطلب الحقيقي أم الإنشائي؟

ويقال في الأمر الثاني : هل الطلب والإرادة أمران متحدان أو هما متغايران.

وخلاصة الكلام في الأمر الأول : أنّ المصنف قال : إنّ مدلول الطلب هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي.

وتحقيق الكلام فيه يحتاج إلى مقدمة وهي : أن المفهوم إما له أفراد متأصلة في الخارج أو لا ، وكل منهما إما قابل للإنشاء أو لا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن لمفهوم الطلب أفراد متأصلة في الخارج ، وهو قابل للإنشاء ، فحينئذ يكون مقولة بالاشتراك على ثلاثة أقسام :

الأول : الطلب الذي له وجود في الخارج وهو من صفات النفس ومن الكيفيات النفسانية.

الثاني : الطلب الإنشائي المنتزع عن مقام إظهار الإرادة بقول نحو : «أعط زيدا درهما» ، أو إشارة كالإشارة بيد أو عين أو غيرهما إلى المخاطب بأن يفعل كذا وكذا. أو بكتابة.

وكيف كان ؛ فللطلب الحقيقي وجود عيني في نفس الطالب ؛ بخلاف الطلب الإنشائي إذ ليس له وجود عيني في النفس كالأوامر الامتحانية.

الثالث : مفهوم الطلب الجامع بين النوعين ، ومعنى لفظ الأمر هو الطلب الإنشائي لا الطلب الحقيقي القائم بالنفس ، فالطلب وإن كان له نوعان حقيقي وإنشائي إلّا إن معنى لفظ الأمر هو الطلب الإنشائي لا الحقيقي ؛ كما أشار إليه بقوله : «الظاهر أن الطلب ...» إلخ ، فإذا قلنا : إن لفظ الأمر معناه الطلب ؛ أريد منه الطلب الإنشائي الذي لا يكون طلبا بالحمل الشائع الصناعي ، بل طلبا مقيدا بالإنشائي بأن يقال : هذا الطلب طلب إنشائي ، هذا بخلاف الطلب الحقيقي حيث يطلق عليه الطلب ؛ من دون حاجة إلى التقييد فيقال : هذا الطلب طلب.

ولا تلازم بينهما ؛ لتفارقهما فيما إذا قال المولى لعبده : «اسقني ماء» ، ولم يكن في

٢٩٢

طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيا ، سواء أنشئ بصيغة افعل ، أو بمادة الطلب ، أو بمادة الأمر ، أو بغيرها. ولو أبيت (١) إلّا عن كونه موضوعا للطلب : فلا أقل من كونه منصرفا إلى الإنشائي منه عند إطلاقه ؛ كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة (٢) الاستعمال في الطلب الإنشائي ، كما أن الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب (٣) ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقية.

______________________________________________________

نفسه طلب حقيقة ، بل أمره امتحانا فيصدق عليه الطلب الإنشائي دون الطلب الحقيقي ، فثبت التفكيك بينهما ، وكانت النسبة عموما من وجه مادة الاجتماع إذا كانا معا ، ومادة الافتراق من جانب الحقيقي : ما إذا كان موجودا في النفس ، ولكن لم يظهر بالقول ولا بالإشارة لفقد المقتضي أو لوجود المانع ، ومادة الافتراق من جانب الإنشائي : ما عرفته من الطلب الإنشائي في الأوامر الامتحانية.

والمتحصل من جميع ما ذكرناه : أن قولهم : الأمر معناه الطلب يراد منه : أن الأمر معناه الطلب الإنشائي ، ولا يراد منه أن الأمر معناه الطلب الحقيقي ، أو الطلب المفهومي الجامع.

والدليل على ذلك : أن الطلب الحقيقي إنما يوجد بأسبابه الخاصة ، كما أن العلم يوجد بأسبابه الخاصة. وأما الطلب الإنشائي : فإنه يوجد باللفظ فما يوجد بلفظ الأمر لا يمكن أن يكون طلبا حقيقيا ، ولذا ترى أن المولى قد يأمر عبده من غير قيام طلب حقيقي في نفسه. وأما الطلب المفهومي فإنه لا يوجد إلّا بأحد فرديه ، وعليه : فلا يمكن أن يكون لفظ الأمر الموضوع لأحد فرديه ؛ أعني : الإنشائي دالا عليه.

(١) أي : لو أبيت إلّا عن كون لفظ الأمر موضوعا للطلب بقول مطلق أي : الجامع بين الحقيقي والإنشائي «فلا أقل من كونه» أي : كون لفظ الأمر منصرفا إلى الإنشائي منه عند الإطلاق.

وحاصل ما أفاده المصنف : أنه إذا قلنا : بكون لفظ الأمر موضوعا لمطلق الطلب الجامع بين الحقيقي والإنشائي ؛ لا لخصوص الطلب الإنشائي فلا أقل من كونه منصرفا إلى خصوص الطلب الإنشائي ، وهذا الانصراف يوجب ظهور لفظ الأمر فيه «كما هو الحال في لفظ الطلب» أي : لفظ الطلب أيضا ينصرف إلى الطلب الإنشائي كلفظ الأمر.

(٢) أي : الانصراف المزبور إنما هو لأجل كثرة استعمال كل من لفظ الأمر والطلب في الطلب الإنشائي.

(٣) أي : الإرادة عكس الطلب ، فإن الإرادة ـ وإن كانت كالطلب على ثلاثة أقسام أي : المفهومي الجامع والحقيقي والإنشائي ـ إلّا إن المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة

٢٩٣

واختلافهما (١) في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة ؛ من المغايرة بين الطلب والإرادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق والمعتزلة من اتحادهما ، فلا بأس بصرف

______________________________________________________

الحقيقية القائمة بالنفس ، فالاختلاف بين الطلب والإرادة إنما هو فيما ينصرف إليه كل منهما ؛ لأن المعنى الذي ينصرف إليه الطلب هو الإنشائي ، والذي تنصرف إليه الإرادة حين إطلاقها هو الإرادة الحقيقية ، وإلّا فلا فرق بينهما ذاتا ؛ بمعنى : أن مفهوم الإرادة عين مفهوم الطلب ، والإرادة الإنشائية عين الطلب الإنشائي ، والإرادة الحقيقية عين الطلب الحقيقي ، فكل من هذين اللفظين موضوع لمعنى واحد وهو الطلب الجامع بين الحقيقي والإنشائي.

ومن هنا يمكن الجمع بين كلمات الأشاعرة والعدلية : بأن مراد الأشاعرة من المغايرة هي المغايرة بين الإرادة الحقيقية والطلب الإنشائي.

ومراد العدلية من الاتحاد : هو الاتحاد بين الإنشائيين والحقيقيين منهما. ولعل غرض المصنف في هذا البحث ـ بعد إثباته واختياره بأن المقصود بالطلب الذي يكون معنى الأمر ليس الطلب الحقيقي ، بل الإنشائي منه ـ هو الجمع بين كلمات الأشاعرة والعدلية من المتكلمين فيما اختلفوا فيه ؛ من المغايرة بينهما كما ذهب إليه الأشاعرة ، ومن الاتحاد كما ذهب إليه العدلية.

وكيف كان ؛ فحاصل الكلام في الأمر الأول : إن معنى لفظ الأمر ليس هو الطلب الحقيقي ، بل هو الطلب الإنشائي.

(١) أي : اختلاف الطلب والإرادة في المعنى المنصرف إليه ؛ حيث ينصرف لفظ الطلب إلى الإنشائي ، ولفظ الإرادة إلى الحقيقي ؛ أي : اختلافهما في الانصراف «ألجأ بعض أصحابنا» كصاحب الحاشية المعروفة على المعالم «إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة» من العامة «من المغايرة بين الطلب والإرادة» حقيقة ، «خلافا لقاطبة أهل الحق» أي : الشيعة الإمامية «والمعتزلة من» العامة ، فإنهم ذهبوا إلى اتحادهما.

وحيث انجرّ البحث إلى الأمر الثاني أعني : الخلاف بين الأشاعرة والعدلية في تغاير الإرادة والطلب واتحادهما ، فلا بد من بسط الكلام في هذا المقام ؛ كي يتضح ما هو الحق في المقام من الاتحاد وعدمه.

وقبل بيان ما هو الحق في المقام نبين ما هو محط نظر المعتزلة والاشاعرة فنقول : إن ما هو مدار كلام الأشاعرة ومختارهم : أن للمتكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفسه سوى العلم والإرادة والكراهة ، ويسمونها بالكلام النفسي ، ويسمى الكلام النفسي طلبا حقيقيا

٢٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

في خصوص الأوامر ، وزجرا حقيقيا في خصوص النواهي ، ويكون هذا الزجر الحقيقي منشأ للزجر الإنشائي ، وذاك الطلب الحقيقي منشأ للطلب الإنشائي ، وذلك الكلام النفسي منشأ للكلام اللفظي ، وقد قيل :

«إن الكلام لفي الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا»

وما هو محط نظر المعتزلة نفي تلك الصفة النفسانية المغايرة للعلم والإرادة والكراهة ؛ بدعوى : أن الموجود في أذهاننا عند الإخبار هو صفة العلم فقط ، وعند الأمر أو النهي هو الإرادة أو الكراهة فقط ، وليس في أذهاننا في قبال العلم والإرادة والكراهة شيء يسمى بالكلام النفسي ، أو الطلب الحقيقي أو الزجر الحقيقي.

فنزاع الفريقين إنما هو في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة ، فالمعتزلة تنفيها وتقول : إن المنشأ للكلام اللفظي ليس سوى العلم أو الإرادة أو الكراهة ، والأشاعرة تثبتها وتقول : إنها المنشأ للكلام اللفظي والأمر والنهي.

فاتضح بذلك : أن النزاع بينهما لا يكون لفظيا كما يظهر من المصنف «قدس‌سره» ، ولا يكون لغويا بمعنى : أن لفظي الطلب والإرادة هل هما مترادفان ، أو لكل منهما معنى مغاير لمعنى الآخر ، بل النزاع بينهما في ثبوت صفة نفسانية.

فالأشاعرة : يثبتون صفة نفسانية في قبال العلم والإرادة والكراهة ؛ تسمى هذه الصفة في باب الأوامر طلبا ، فتكون حقيقة الطلب ـ الذي هو صفة نفسانية ـ عندهم مغايرة لحقيقة الإرادة التي هي أيضا صفة نفسانية.

وأما العدلية : فينكرون ثبوت تلك الصفة النفسانية ، فيكون الطلب عندهم متحدا مع الإرادة ، لا بمعنى : أن لنا طلبا وإرادة يكونان من صفات النفس وقد اتحدا ، بل بمعنى : أنه لا طلب لنا يكون من صفات النفس في قبال الإرادة ، فيكون الطلب في كل مرتبة هو عين الإرادة في تلك المرتبة.

نعم ؛ إن العالم المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني صاحب الحاشية لما صادف عنوان اتحاد الطلب والإرادة ، وكان المتبادر إلى ذهنه من لفظ الطلب : الطلب الإنشائي ، ومن لفظ الإرادة : الصفة النفسانية الخاصة ؛ حكم بتغاير الطلب والإرادة ، وتخيل : أنه وافق في هذه المسألة الأشاعرة ، وخالف المعتزلة والإمامية مع وضوح أنهم لم ينازعوا في أن الطلب الإنشائي هل هو مغاير للإرادة النفسانية أو متحد معها؟ لأن التغاير بينهما أظهر من الشمس ؛ بل نازعوا ـ كما عرفت ـ في ثبوت صفة نفسانية في قبال العلم

٢٩٥

.................................................................................................

______________________________________________________

والإرادة والكراهة ، وكان نزاعهم نزاعا مذهبيا ، إذ كان مقصودهم إثبات أن القرآن الذي هو كلام الله حادث كما يقول به المعتزلة ، أو قديم كما يقول به الأشاعرة.

فما فهمه صاحب الحاشية من عنوان اتحاد الطلب والإرادة ، وزعم أنه مطرح أنظار الأشاعرة والعدلية بعيد جدا ، ويكون ناشئا من عدم تتبع تاريخ المسألة ، وما هو محط نظر المتنازعين ، أو من أن المنصرف عن لفظ الإرادة هي الإرادة الحقيقية ، ومن لفظ الطلب هو الطلب الإنشائي ؛ غفلة عن أن المراد من الاتحاد هو : اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية ، والطلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية.

ومن هنا يعلم : أن ما ذكره المصنف من كلام طويل ، ثم زعم ما ذكره إصلاحا بين الأشاعرة والمعتزلة ، فجعل النزاع بينهما لفظيا لا يخلو عن إشكال.

وكيف كان ؛ فحاصل ما ذكره المصنف : أن لفظي الطلب والإرادة موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، ولهذا المفهوم الواحد نحوان من الوجود : الوجود الحقيقي ؛ وهو وجوده في النفس ، والوجود الإنشائي ؛ وهو المنشأ بالصيغة ، فالطلب والإرادة متحدان في المفهوم ، والوجود الحقيقي ، والوجود الإنشائي.

غاية الأمر : أن لفظ الطلب ينصرف عند إطلاقه إلى وجوده الإنشائي ، ولفظ الإرادة ينصرف إلى وجودها الحقيقي ، وهذا لا يوجب المغايرة بين اللفظين في المفهوم. نعم ؛ وجود هذا المفهوم الواحد بالوجود الإنشائي ـ الذي ينصرف إليه لفظ الطلب ـ مغاير لوجوده الحقيقي ، الذي ينصرف إليه إطلاق لفظ الإرادة.

وعلى هذا يمكن أن يصلح بين الطرفين بأن يقال : إن مراد العدلية من الاتحاد : ما ذكرناه من اتحادهما في المفهوم ، وفي كلا الوجودين ، ومراد الأشاعرة من التغاير : ما ذكرناه من أن ما ينصرف إليه إطلاق لفظ الطلب ـ أعني : الوجود الإنشائي لهذا المفهوم ـ مغاير لما ينصرف إليه إطلاق لفظ الإرادة أعني : الوجود الحقيقي لهذا المفهوم. انتهى حاصل ما أفاده المصنف في المقام.

وفيه : أنه قد عرفت : أن نزاع الأشاعرة والعدلية ليس في أن لفظي الإرادة والطلب هل وضعا بإزاء مفهوم واحد ، أو يكون لكل منهما معنى غير ما للآخر ؛ إذ البحث على هذا لغوي مربوط بعلم اللغة ، بل النزاع بينهما في أنه هل يكون عند التكلم بالكلام اللفظي صفة قائمة بنفس المتكلم ؛ تكون منشأ للكلام اللفظي سوى العلم والإرادة والكراهة ، أو لا تكون في نفسه صفة وراء هذه الثلاثة؟ وعلى هذا يكون البحث كلاميا

٢٩٦

عنان الكلام إلى بيان ما هو الحق في المقام وإن حققناه في بعض فوائدنا (١) ؛ إلّا أن الحوالة لما لم تكن عن المحذور خالية (٢) ، والإعادة (٣) بلا فائدة ولا إفادة ، كان المناسب هو التعرض هاهنا أيضا ، فاعلم : أن الحق كما عليه أهله (٤) وفاقا للمعتزلة ، وخلافا للأشاعرة (٥) هو (٦) : اتحاد الطلب والإرادة بمعنى : أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر ، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائية (٧).

______________________________________________________

ولا يقبل هذا النزاع إصلاحا ، ولعل ما يأتي في آخر كلامه من قوله : «فافهم» إشارة إلى هذا.

(١) فوائد الأصول ، ص ٢٣ ، بتصرف.

(٢) أي : ذلك المحذور إما لإجمال عبارة الفوائد ، أو عدم حضور نسختها عنده أو مشقة الرجوع اليها.

(٣) قوله : «الإعادة» عطف على الحوالة. ومعنى العبارة : ولما لم تكن الإعادة خالية عن الفائدة وهي التذكر لمن لاحظ الفوائد ، وفيها الإفادة لمن لم يلاحظ الفوائد ، أو لاحظها ولكن نسي ذلك.

(٤) أي : الشيعة الإمامية.

(٥) أي : القائلين بمغايرة الطلب والإرادة ؛ كما يأتي في كلام المصنف «قدس‌سره».

(٦) أي : الحق هو اتحاد الطلب والإرادة بمعنى : أن لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد فيكون لفظا الطلب والإرادة من الألفاظ المترادفة كالإنسان والبشر ، لأن المفروض :

وحدة المعنى الموضوع له فيهما ، ولازم ذلك : أن كون الفرد الخارجي لأحدهما هو الفرد الخارجي للآخر ، وإن شئت فقل : إن مطابق أحدهما عين مطابق الآخر خارجا.

وبعبارة واضحة : أن الطلب الإنشائي هو عين الإرادة الإنشائية ، والطلب الحقيقي هو عين الإرادة الحقيقية ، فالطلب والإرادة متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا. نعم ؛ يختلفان باختلاف المرتبة ، فإن الطلب الإنشائي غير الإرادة الحقيقية من حيث المرتبة.

(٧) ما ذكره المصنف من اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الإنشائية ؛ إنما يصح فيما لو كانت الإرادة كالطلب قابلة للإنشاء. وأما لو قلنا : بأن لفظ الإرادة موضوع لصفة خاصة من صفات النفس ، والصفات النفسانية من الأمور الحقيقية التي يكون بحذائها شيء في الخارج ؛ كانت الإرادة مغايرة للطلب ، وذلك لأن الإرادة حينئذ لا تقبل الوجود الإنشائي ، فشأنها كشأن الإنسان والحيوان والبياض ونحوها مما لا يقبل الإنشاء ؛ لأنها من الأمور الخارجية الآبية عن الوجود الإنشائي.

٢٩٧

وبالجملة (١) : هما متحدان مفهوما وإنشاء وخارجا ، لا أن (٢) الطلب الإنشائي الذي هو المنصرف إليه إطلاقه ـ كما عرفت ـ متحد مع الإرادة الحقيقية ؛ التي ينصرف إليها إطلاقها أيضا (٣) ضرورة (٤) : أن المغايرة بينهما أظهر من الشمس ، وأبين من الأمس.

______________________________________________________

هذا بخلاف الطلب ؛ فإن له معنى قابلا لأن يوجد بالإنشاء وهو البعث والتحريك ؛ إذ ليس معنى الطلب سوى البعث والتحريك نحو العمل ، وهما كما يحصلان بالتحريك الفعلي بأن يأخذ الطالب بيد المطلوب منه ، ويجره نحو العمل بالمقصود فيسمى حقيقيا ، فكذلك يحصلان بالتحريك القولي ؛ بأن يقول الطالب : «اضرب» أو : «أطلب منك الضرب» ، أو «آمرك بكذا» مثلا ، فيسمى الطلب إنشائيا. فقول الطالب : «افعل كذا» بمنزلة أخذه بيد المطلوب منه ، وجره نحو العمل المقصود.

فالمتحصل مما ذكرناه : أن حقيقة الإرادة مغايرة لحقيقة الطلب ؛ فإن الإرادة من الصفات النفسانية غير قابلة للإنشاء ؛ بخلاف الطلب فإنه عبارة عن تحريك المطلوب منه نحو العمل المقصود إما تحريكا عمليا أو تحريكا إنشائيا ، ولا ارتباط لهذا المعنى ـ بكلا قسميه ـ بالإرادة التي هي من صفات النفس.

نعم ؛ الطلب ـ بكلا معنييه ـ مظهر للإرادة ومبرز لها. ولا يخفى : إن ما ذكرناه من اختلاف الطلب والإرادة مفهوما ليس القول بالموافقة مع الأشاعرة ؛ إذ نزاع الأشاعرة مع العدلية ليس في اختلاف الطلب والإرادة مفهوما ، أو اتحادهما كذلك ؛ بل في وجود صفة نفسانية أخرى في قبال الإرادة وعدم وجودها.

(١) يقول المصنف باتحاد الطلب والإرادة في كل مرتبة ؛ بمعنى : أن الطلب المفهومي متحد مع الإرادة المفهومية ، والطلب الحقيقي الخارجي متحد مع الإرادة الحقيقية ، والطلب الإنشائي متحد مع الإرادة الإنشائية.

(٢) هذا إشارة إلى اختلاف الطلب والإرادة ، مع اختلاف المرتبة ، ولذا لا يكون الطلب الإنشائي الذي ينصرف إليه لفظ الطلب متحدا مع الإرادة الحقيقية ؛ التي ينصرف إليها لفظ الإرادة عند الإطلاق.

(٣) كانصراف لفظ الطلب إلى خصوص الطلب الإنشائي.

(٤) تعليل لعدم اتحاد الطلب الإنشائي مع الإرادة الحقيقية.

وجه المغايرة : أن الطلب الإنشائي هو الطلب الاعتباري ؛ المتحقق بقول تارة ، وبفعل أخرى ، بخلاف الإرادة الحقيقية التي هي الصفة القائمة بالنفس الناشئة عن أسباب خاصة ، فأين أحدهما من الآخر وكيف يتحدان مع ما بينهما من المغايرة؟

٢٩٨

فإذا عرفت المراد من حديث العينية والاتحاد (١) ، ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية ، فلا يحتاج إلى مزيد بيان ، وإقامة برهان ؛ فإن (٢) الإنسان لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها يكون (٣) هو الطلب غيرها (٤) ، سوى ما هو مقدمة تحققها (٥) ، عند خطور الشيء والميل ، وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق لفائدته ، وهو (٦) الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها.

______________________________________________________

(١) قد عرفت : أن المراد بالعينية والاتحاد هو اتحاد الطلب والإرادة ؛ مع وحدة الرتبة لا مع اختلافها. ثم أشار المصنف إلى الدليل لذلك بقوله : «ففي مراجعة الوجدان عند طلب شيء والأمر به حقيقة كفاية ...» إلخ.

وحاصل ما أفاده المصنف من استدلاله على إثبات اتحادهما بالبرهان الوجداني هو : أن الإنسان إذا راجع وجدانه عند طلب شيء ؛ لا يجد غير الإرادة القائمة بالنفس صفة أخرى قائمة بها تسمى بالطلب سوى مقدمات الإرادة ؛ وهي : تصور الشيء والعلم به ، والرغبة فيه والميل إليه ، وهيجان الرغبة إليه ، والتصديق العلمي أو الظني بفائدته ، فلا بد حينئذ من الالتزام باتحاد الطلب والإرادة ، ومجرد انصراف الطلب إلى الإنشائي عند إطلاقه ، وانصراف الإرادة إلى الحقيقية عند إطلاقها لا يوجب تغايرهما مفهوما وإنشاء وخارجا ؛ وإن نسب ذلك إلى بعض الإمامية والأشاعرة إلّا إن ذلك لعله نشأ من انصراف الطلب إلى الإنشائي ، وانصراف الإرادة إلى الحقيقية ، وقلنا : إن الانصراف لا يوجب التغاير.

(٢) أي : قوله : «فإن الإنسان لا يجد ...» إلخ ، بيان للوجدان الذي استدل به على اتحاد الطلب والإرادة.

(٣) الأولى تأنيث «يكون» ؛ لتأنيث مرجع الضمير وهي : «صفة أخرى».

(٤) أي : غير الإرادة. الظاهر : أنه لا حاجة إلى قوله : «غيرها» ؛ للاستغناء عنه بقوله : غير الإرادة. والمعنى : أننا لا نجد سوى الإرادة ومقدماتها صفة أخرى تسمى بالطلب.

(٥) أي : الإرادة. وأما مقدمات الإرادة فهي خمسة : الأولى : ما أشار إليه بقوله : «عند خطور الشيء» أي : العلم به. الثانية : التصديق بفائدته. الثالثة : الميل إليه. والرابعة والخامسة :

هيجان الرغبة إليه المنحل إلى الجزم والعزم في اصطلاحهم.

(٦) أي : ما هو مقدمة تحقق الإرادة عبارة عن «الجزم بدفع ما يوجب توقفه» أي : توقف المريد «عن طلبه» أي : عن طلب الشيء المراد «لأجلها» أي : لأجل فائدة ذلك

٢٩٩

وبالجملة : لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة (١) والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها (٢) يكون هو الطلب ، فلا محيص عن اتحاد الإرادة والطلب ، وأن يكون ذلك الشوق المؤكد ؛ المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة ، أو المستتبع لأمر عبيده به فيما لو أراده لا كذلك (٣) ، مسمى بالطلب والإرادة كما يعبر به تارة ، وبها أخرى ؛ كما لا يخفى.

______________________________________________________

الشيء ، فيكون قوله : «وهو الجزم» بيانا لقوله : «ما هو مقدمة تحققها» والمعنى : أن الجزم بدفع الأمور المانعة عن الطلب مقدمة للطلب ، لا أنه الطلب النفسي الذي يدعيه الأشعري.

(١) أي : مقدمات الإرادة لا تكون هناك صفة أخرى قائمة بالنفس حتى تكون هو الطلب غير الصفات النفسانية ؛ التي هي عبارة عن مقدمات الإرادة وغير نفس الإرادة.

وعلى هذا فلا بد من الالتزام باتحاد الإرادة والطلب ، وعن كون ذلك الشوق المؤكد المستتبع لتحريك عضلاته في الفعل المباشري ، والمستتبع لأمر عبيده في الفعل غير المباشري هو المسمى بالطلب والإرادة ، فيعبر عنه في الاصطلاح تارة : بالطلب. وأخرى : بالإرادة ، فالطلب والإرادة هما الشوق المؤكد ، وهو أمر وحداني.

قال السبزواري : إن الإرادة فينا شوق مؤكد ، يحصل عقيب داع هو إدراك الشيء الملائم إدراكا يقينيا أو ظنيا أو تخيليا ؛ موجبا لتحريك الأعضاء لأجل تحصيل ذلك الشيء.

وذكر في درر الفوائد ما حاصله : أن بيان مصداق الإرادة في الممكنات يحتاج إلى تفصيل ، فأول ما يحتاج إليه في الفعل الاختياري هو : العلم المسمى بالداعي ، ثم الشوق المؤكد نحو وجوده إن كان ملائما بطبع الفاعل المسمى بالإرادة ، ثم تصميم النفس نحو فعله بعد حصول التحير والتردد ؛ برفع التحير والبناء على إيجاده بترجيح جانب وجوده ومقتضيات وجوده على عدمه ، وهذا هو المسمى بالإجماع ، ثم حركة العضل ، فالفعل مترتب على حركة العضل ، بل هو نفس حركة العضل ، وعند تمام هذه المقدمات يقال : إنه فعل بالإرادة ، ويسمى هذا الفعل فعلا اختياريا ؛ لكونه مسبوقا بالإرادة والاختيار (١).

(٢) أي : بالنفس.

(٣) أي : بالمباشرة. فحاصل البرهان الوجداني على اتحاد الطلب والإرادة : إنه ليس في النفس إلّا صفة واحدة.

__________________

(١) درر الفوائد ، ج ١ ، ص ٨٠ ـ ٨١.

٣٠٠