دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

المضارع ، لا يكون ماضيا أو مستقبلا حقيقة لا محالة ، بل ربما يكون في الماضي مستقبلا حقيقة وفي المضارع ماضيا كذلك ، وإنما يكون ماضيا أو مستقبلا في فعلهما بالإضافة ، كما يظهر من مثل قوله : يجئني زيد بعد عام ، وقد ضرب قبله بأيّام ، وقوله : جاء زيد في شهر كذا ، وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده مما مضى ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

وأما وجه التأييد : فيوضح بعد ذكره مقدمة وهي : أن كلا من الماضي والمستقبل والحال على قسمين : الحقيقية والإضافية ، والمراد من الأولى : هو الماضي والحال والمستقبل بالنسبة إلى زمان النطق ، والإضافية هي الماضي والمستقبل والحال بالنسبة إلى أمر آخر ، مثلا : يجيئني زيد بعد عام وقد ضرب قبله بأيام ، ومثل : جاء زيد في شهر كذا وهو يضرب في ذلك الوقت أو فيما بعده مما مضى ؛ حيث إن المثال الأول مثال لاستعمال الماضي ـ وهو «ضرب» ـ في الزمان المستقبل حقيقة ، والمثال الثاني : مثال لاستعمال المضارع وهو ـ يضرب ـ في الزمان الماضي حقيقة ، لأن المفروض : مضي الشهر الذي هو أو ما بعده ظرف الضرب المستفاد من «يضرب» ، فإن «يضرب» في الجملتين في المثال الثاني ليس زمانه مستقبلا أو حالا بالنسبة إلى زمان النطق ، بل مستقبل بالنسبة إلى الشهر ، واستعمل في زمان الماضي حقيقة ؛ لأن جملة هو يضرب جملة حالية لاقترانها بالواو الحالية تكون حالا عن فاعل جاء ، فتكون قيدا للعامل وهو الفعل الماضي.

وكذلك «وقد ضرب» في المثال الأول جملة حالية لاقترانها بالواو الحالية تكون حالا عن فاعل يجئني وهو «زيد» ، والحال يكون قيدا للعامل وهو الفعل المضارع ؛ فيكون الضرب كالمجيء في المستقبل حقيقة ، فقد استعمل الماضي في المستقبل حقيقة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مرادهم من الماضي والحال والمستقبل المأخوذ في معنى الفعل هي الحقيقية منها لا الإضافية ، فحينئذ يلزم التجوّز في المثالين لعدم استعمال الماضي في الماضي الحقيقي ، ولا المضارع في المستقبل ؛ فلا بد من لحاظ العلاقة المصححة للمجازية مع إن أهل المحاورة لا يلاحظون في مثلهما علاقة المجاز ؛ هذا بخلاف ما ذكرنا من عدم دلالة الفعل على الزمان ، ولا يكون الزمان مأخوذا في مدلوله ، فلا يلزم المجاز حتى تلاحظ علاقة المجاز ، فلذا لا يلاحظون علاقة المجاز.

ثم إن ذكره تأييدا لا دليلا ؛ لاحتمال كون مرادهم من الماضي والحال والمستقبل : مطلقها لا الحقيقية منها ، ولكنه خلاف الظاهر ، فمجرد الاحتمال ـ مع كونه على خلاف الظاهر ـ لا يخرجه عن الدليلية ، ولعله لهذا أمر بالتأمل بقوله : «فتأمل جيدا».

١٨١

خلاصة البحث

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد الأمر الثالث : بيان خروج الأفعال والمصادر عن نزاع المشتق ، لأنها غير جارية على الذوات ، والمشتق المبحوث عنه ما يجري على الذات ، ويصح حمله عليها.

٢ ـ أن الفعل لا يدل على الزمان تضمنا بحيث يكون الزمان مأخوذا في مدلوله كما زعمه النحاة ؛ حيث قالوا : بدلالة الفعل على الزمان حتى أخذوا الاقتران به في تعريفه.

فما زعمه النحاة من دلالة الفعل على الزمان ـ حيث قالوا : الفعل : ما دل على معنى في نفسه مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة ـ اشتباه واضح.

٣ ـ الدليل على عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن : أنه لو دل عليه بالتضمن المسبب عن الوضع ـ بأن يكون الزمان جزءا لمدلوله ـ لزم القول بالمجاز والتجريد ؛ عند إسناد الفعل إلى نفس الزمان مثل : «مضى الزمان» ، أو إلى فوق الزمان أي : المجرد عنه مثل : «خلق الله الزمان» ، وكلاهما باطل ، لأن الأول : مستلزم للدور أو التسلسل.

والثاني : مستلزم لأن تكون أفعال الله محدودة وهو باطل ، لأن أفعال الله غير محدودة بحد أصلا ، فلا بد من القول بالمجاز بإلغاء الزمان والتجريد وهو باطل ؛ وذلك لعدم الفرق في استعمال الفعل بين إسناده إلى الزماني أو غيره ، وكان استعمال الفعل في جميع الموارد بمعنى واحد ، وعلى نسق فارد ، وهذا دليل على عدم دلالة الفعل على الزمان بالتضمن وإن كان يدل عليه بالالتزام.

ومما يؤيد ذلك هو : قول النحاة بكون المضارع مشتركا معنويا بين الحال والاستقبال ؛ إذ المأخوذ في معنى الفعل هو مصداق الزمان لا مفهومه ، والمفهوم المشترك بينهما لم يؤخذ في مدلول الفعل ، فلا يمكن الجمع بين الاشتراك المعنوي وبين أخذ مصداق الزمان في معنى الفعل ؛ إلّا إن يقال : بأن للمضارع خصوصية تستلزم الزمان وهي جامعة بين الحال والاستقبال ، فيدل الفعل على الزمان بالالتزام لا بالتضمن.

ومما يؤيد عدم دلالة الفعل على الزمان أيضا هو : استعمال الفعل الماضي في المستقبل حقيقة ، واستعمال المضارع في الماضي كذلك من دون تجوّز ولحاظ علاقة المجاز ؛ إذ لو كان الزمان مأخوذا في مدلول الفعل لكان الزمان الماضي مأخوذا في الفعل الماضي ، والمستقبل في المضارع ؛ فيكون استعمال الماضي في المستقبل ، واستعمال المضارع في

١٨٢

ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان ما به يمتاز الحرف عما عداه (١) بما يناسب المقام ، لأجل الاطراد في الاستطراد في تمام الأقسام.

فاعلم : أنه وإن اشتهر بين الأعلام : أن الحرف ما دل على معنى في غيره (٢) ، وقد

______________________________________________________

الماضي مجازا ، مع إن الأمر ليس كذلك ، وليس ذلك إلّا لأجل عدم دلالة الفعل على الزمان بالوضع ، وعدم أخذ الزمان في معنى الفعل وهو المطلوب.

امتياز الحرف عن الاسم والفعل

(١) أي : الاسم والفعل. قوله : «بما يناسب المقام» : فيه احتمال أن تكون العبارة في النسخة الأصلية : «مما» بدل «بما» ، ليكون بيانا ل «ما» الموصولة في قوله : «ما به يمتاز الحرف عما عداه» ، أو المراد : بما مقدار ما يناسب المقام.

وكيف كان ؛ فتوضيح ذكر امتياز الحرف عما عداه من باب الاطراد في الاستطراد يتوقف على مقدمة وهي : أن معنى الاستطراد هو : سوق الكلام على وجه يلزم منه كلام آخر غير مقصود بالأصالة ، بل كان مقصودا بالتبع ، فذكر ما ليس مقصودا بالأصالة إنما هو من باب الاستطراد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقصود بالأصالة في الأمر الثالث هو : بيان خروج الأفعال عن حريم نزاع المشتق ، فكان بيان الفرق بين الفعل والاسم ـ بأن للفعل خصوصية تستلزم الزمان فيدل عليه بالالتزام بخلاف الاسم ـ من باب الاستطراد ؛ ثم ذكر الحرف وبيان الامتياز بينه وبين ما عداه من الاسم والفعل اطراد في الاستطراد ؛ يعني ؛ تعميم لبيان الفرق بين جميع أقسام الكلمة ؛ ليتضح الامتياز بين كل من الاسم وأخويه.

فإن قيل : لما ذا كرر المصنف بحث الحرف وقد مر في بحث الوضع ، فليس تكراره إلّا إتلافا للوقت وتضييعا للعمر؟

فإنه يقال : إن التكرار إتلاف للوقت لو لم تترتب عليه فائدة ، ومعها يكون مطلوبا عند البلغاء والعقلاء ، ومن فوائده في المقام : بيان عدم المنافاة بين كون المعنى في الحرف كليا ، وبين كونه جزئيا ذهنيا.

ومنها : أن بيان الفرق بين معنى الحرف والاسم هنا أوضح مما مر سابقا.

(٢) أي : كائنا في غيره ؛ بأن يكون ذلك المعنى قائما بذلك الغير وجودا كقيام العرض بموضوعه.

والفرق بينهما : أن العرض قابل للتصور بدون الموضوع ، ومعنى الحرف غير قابل

١٨٣

بيناه في الفوائد (١) بما لا مزيد عليه ، إلّا أنّك عرفت فيما تقدم : عدم الفرق بينه (٢) وبين

______________________________________________________

للتصور بدون ذلك الغير ، لأنه من قبيل النسب القائمة بالمنتسبين على هذا القول المشهور بين الأعلام.

(١) أي : الفوائد كتاب كتبه المصنف قبل الكفاية ونذكر ما فيه ؛ لأنه لا يخلو عن فائدة وقال فيه ما هذا لفظه : «ثم لا بأس بصرف عنان الكلام إلى بيان معنى الحرف في المقام استطرادا كسائر الأقسام ، ولنمهّد لذلك مقدمة وهي أن الوجود الخارجي كما أنه تارة : يكون موجودا في نفسه سواء كان بنفسه أولا ، كالواجب تعالى والجواهر ، وأخرى : يكون موجودا في غيره كما في الأعراض كذلك المتصور والموجود الذهني فتارة : يكون موجودا فيه في نفسه ومتصورا على استقلاله ، ومدركا بحياله ، وأخرى : يكون موجودا في غيره ومتصورا بتبعيته ، ومدركا على أنه من خصوصياته وأحواله.

إذا عرفت ذلك فاعلم : أن القسم الأول من الذهني هو المعنى الاسمي المدلول عليه بالأسماء مطلقا ، مطابقة أو تضمنا أو التزاما ، والأفعال تضمنا ، والقسم الثاني هو المعنى الحرفي المدلول عليه بالحروف مطابقة ، والأفعال وبعض الأسماء تضمنا ، وهذا معنى أن الحرف يدل على معنى في غيره أي : في معنى آخر يكون قائما به ومتصورا بتبعيّته ، لا أنه يدل على معنى يكون لغير لفظه ، بل للفظ آخر ، كي لا يكون له معنى ، بل مجرد علامة على دلالة الغير على معناه بخصوصياته المتقوّمة به الغير المستقلة بالمفهومية ، كما توهم ذلك من كلام بعض المحققين.

والحاصل : أن الدلالة على المعاني الخاصة في الخصوصيات الغير المستقلة بالمفهومية بدالين فيكون من باب تعدد الدال والمدلول ، لا من وحدة الدال وتعدده ، كيف؟ وهو يستلزم الالتزام بالمجاز في الألفاظ المتعلقات لو التزم باستعمالها في المعاني الخاصة بهذه الخصوصيات؟ بداهة : عدم وضعها لها ، وهو بعيد لا أظن أن يلتزم به أحد ، وإرادة الخصوصيات بلا دلالة لفظ عليه ، وهو أبعد ، ودلالة الحرف عليها لا يكون إلّا من باب الدال والمدلول وهو عين المأمول ، نعم ؛ فرق بين الحرف وغيره حيث إنه لا يدل على معنى تحت لفظه ، بل على ما تحت المتعلقات ؛ لما عرفت : من أن معناه يكون هو الخصوصية المتقومة بغيره المتصورة بتبعه ، فافهم واستقم». انتهى. فوائد الأصول ، ص ٦٥.

(٢) أي : بين الحرف وبين الاسم أي : لا فرق بينهما في أصل المعنى كما توهموه ، ولم يلحظ الاستقلال بالمفهومية في الاسم ، كما أنه لم يلحظ عدم الاستقلال بالمفهومية في الحرف ، فالفرق بينهما في كيفية الاستعمال لا في ذات المعنى الموضوع له. نعم ؛ في

١٨٤

الاسم بحسب المعنى ، وإنه (١) فيهما لم يلحظ فيه (٢) الاستقلال بالمفهومية ، ولا عدم الاستقلال بها ، وإنما الفرق هو أنه (٣) وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو.

وعليه (٤) : يكون كل من الاستقلال بالمفهومية ، وعدم الاستقلال بها ، إنما اعتبر في جانب الاستعمال لا في المستعمل فيه ، ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ، فلفظ «الابتداء» (٥) لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة «من» في المعنى الاستقلالي ، لما كان

______________________________________________________

مقام الاستعمال يستعمل لفظ الحرف إذا أريد المعنى حالة لغيره ، ولفظ الاسم إذا أريد المعنى بما هو هو.

فلفظ «من» يستعمل في مفهوم الابتداء عند لحاظه آليا ، ولفظ «الابتداء» يستعمل فيه عند لحاظه استقلاليا ، فالموضوع له فيهما واحد وهو ذات المعنى ، ولحاظ الاستقلال بالمفهومية ، وعدم الاستقلال بها خارج عن المعنى ؛ لما عرفت في مبحث الوضع : من امتناع أخذ اللحاظ في الموضوع له.

(١) أي : المعنى في الاسم والحرف.

(٢) أي : في المعنى أي : فالمعنى الموضوع له في الحرف والاسم واحد.

(٣) أي : الحرف وضع ليستعمل وأريد منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، فالفرق بينهما إنما هو في ناحية الاستعمال لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه ، فالحرف يمتاز عن الاسم في كيفيّة الاستعمال بمعنى : أنه إن أريد المعنى بما هو حالة لغيره يكون حرفا ، وإن أريد بما هو هو وفي نفسه يكون اسما.

(٤) أي : وعلى ما ذكرناه من الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي ـ في كيفيّة الاستعمال لا في ذات المعنى ، ولا في المستعمل فيه ـ يكون كل واحد من الاستقلال بالمفهومية المأخوذ في الاسم ، وعدم الاستقلال بالمفهومية المأخوذ في الحرف «إنما اعتبر في جانب الاستعمال» من المستعمل ـ بصيغة الفاعل ـ لا في المستعمل فيه أو الموضوع له ؛ حتى يكون التفاوت بين المعنى الاسمي والحرفي بحسب ذات المعنى ؛ كما هو المشهور بين النحاة. فلمّا كانت ألفاظ الأسماء والحروف موضوعة للمعاني الكلية الطبيعية بدون أن يكون قيد الآلية والاستقلالية جزءا أو قيدا لها كان الوضع والموضوع له فيهما عامين ؛ فإن المعنى الموضوع له فيهما هو ذات المعنى ، من دون أن يكون مقيدا بقيد أصلا.

(٥) أي : الابتداء الذي هو اسم لو استعمل في المعنى الآلي ؛ بأن يستعمل الاسم مكان ما يستعمل الحرف ؛ مثل قولك : «سرت ابتداء البصرة» ، بدل قولك : سرت من

١٨٥

مجازا واستعمالا له في غير ما وضع له وإن كان بغير ما وضع له (١) ، فالمعنى في كليهما (٢) في نفسه كلي طبيعي يصدق على كثيرين ، ومقيدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي وإن كان بملاحظة أن لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيا ذهنيا ، فإن

______________________________________________________

البصرة ، وكذلك استعملت لفظة «من» في المعنى الاستقلالي مثل قولك : «من خير من إلى» بمعنى : «الابتداء خير من الانتهاء» لا يضر ، ولما كان الاستعمال فيهما مجازا أو استعمالا للفظ في غير ما وضع له ، لأن المفروض : تساوي الموضوع له فيهما.

(١) أي : وإن كان هذا النوع من الاستعمال بغير ما وضع له أي : بغير النهج الذي اعتبره الواضع في مقام الاستعمال ؛ إذ قد عرفت : اشتراط الواضع وهو : أن يستعمل الحرف في المعنى الآلي ، والاسم في المعنى الاستقلالي ، فهذا الاستعمال أي : استعمال الحرف في المعنى الاستقلالي ، مما لم يسمح به الواضع ، ولهذا يكون استعمالا بغير ما وضع له. أي : بغير النهج المطلوب للواضع وكان فيما وضع له ؛ لأن المعنى الموضوع له هو مفهوم الابتداء في كليهما.

(٢) أي : فالمعنى في الاسم ، والحرف في نفسه ـ مع قطع النظر عن اللحاظ الاستقلالي أو الآلي ـ كلي طبيعي ، ومع تقيّده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي عقلي ، ونظرا إلى أن لحاظ المعنى وجوده ذهنا جزئيّ ذهنيّ.

وغرض المصنف هو عدم التنافي بين المعاني المذكورة.

توضيح ذلك يتوقف على ذكر أمور :

الأول : الفرق بين الكلي الطبيعي ، والمنطقي والعقلي في اصطلاح أهل الميزان : أن مفهوم الكلي يسمى كليا منطقيا ، ومعروضه طبيعيا ، والمجموع عقليا ، مثلا لو قلنا : الإنسان كلي كان موضوع هذه القضية هو : الكلي الطبيعي ، ومحمولها هو الكلي المنطقي ، ومجموع الموضوع والمحمول هو الكلي العقلي ، فالكلي الطبيعي باصطلاح أهل الميزان هي الطبيعة المعروضة للكلية بما هي معروضة لها ؛ إلّا إن المراد بالكلي الطبيعي هنا هو نفس المعنى الذي لا يمنع الشركة ؛ لا المعنى المقيد بكونه معروضا للكلية.

وكذلك الكلي العقلي في اصطلاح أهل الميزان ؛ وإن كان هو المجموع من العارض والمعروض ، وإطلاق الكلي عليه باعتبار العارض ؛ إلّا إن المراد به هنا هو : المعنى المقيد بأمر ذهنيّ كاللحاظ الاستقلالي أو الآلي.

الثاني : أن كل ما دخل في حيّز الوجود لا بد أن يكون جزئيا ؛ سواء وجد في الخارج أو في الذهن ، وذلك نظرا إلى ما هو المعروف بين الفلاسفة من أن الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد.

١٨٦

الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد. وإن كان (١) بالوجود الذهني ، فافهم (٢) وتأمل فيما وقع في المقام من الأعلام ؛ من الخلط والاشتباه ، وتوهم كون الموضوع له أو المستعمل

______________________________________________________

الثالث : أن الفرق بين الإيجاد والوجود أمر اعتباري ؛ فإن الشيء الواحد بالنسبة إلى الفاعل إيجاد ، وبالنسبة إلى القابل وجود ، ثم الوجود الذهني هو نفس لحاظ النفس وتصورها ، لأنه إيجادها دون شيء آخر.

ولما كان تشخص اللحاظ بتشخص النفس لكونه من عوارضها ، وتشخص العارض بتشخص المعروض كان جزئيا ذهنيا.

إذا عرفت هذه الأمور فاعلم : إنه لا منافاة بين المعاني المذكورة ، فنفس المعنى في الاسم والحرف في نفسه. أي : مع قطع النظر عن تقيّده باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلي طبيعي ؛ لأنه لا يمنع عن الشركة ، وقد عرفت : أن المراد بالكلي الطبيعي ما لا يمنع عن الشركة ، ونفس المعنى نظرا إلى تقيّده بلحاظ الآلية أو الاستقلالية كلي عقلي ، لما عرفت : من أن المراد بالكلي العقلي هنا هو المعنى المقيد بأمر ذهني ، ثم إن التقيد باللحاظ معتبر في كون المعنى كليا عقليا لا في كونه جزئيا ذهنيا ، إذ يكفي في كونه جزئيا ذهنيا حصوله في الذهن سواء قيد باللحاظ أم لا.

ومن هنا ظهر عدم التنافي بين كون المعنى كليا عقليا وجزئيا ذهنيا ، فإنه كلي عقلي نظرا إلى نفس لحاظ النفس وتصورها آلية المعنى أو استقلاليته ، فيكون المعنى مقيّدا باعتبار كونه مقيدا بأمر ذهنيّ وهو لحاظ الآلية والاستقلالية ، وجزئي ذهني باعتبار كونه موجودا في الذهن بتصور النفس ، ولا منافاة بينهما لأجل تعدد الاعتبار.

فالمتحصل من الجميع : أنه لا منافاة بين كون المعنى كليا طبيعيا ، وكليا عقليا ، وجزئيا ذهنيا ؛ لأجل تعدد الاعتبار.

(١) أي : وإن كان التشخّص بسبب الوجود الذهني.

(٢) أي : فافهم فائدة الإعادة والتكرار ، «وتأمل فيما وقع في المقام من الأعلام من الخلط والاشتباه» ؛ بين كون لحاظ الآلية في الحروف قيدا للموضوع له ، أو المستعمل فيه ؛ حيث أخذوه شطرا للموضوع له فيها ، أو قيدا للمستعمل فيه ، فتوهموا كون الموضوع له والمستعمل فيه في الحروف خاصا ، غافلين عن كون لحاظ الآلية فيها ناشئا من الاستعمال ، فيمتنع دخله في نفس المعنى ، وقد عرفت : أن الأقوال هنا ثلاثة ، فقد توهم جماعة عموم الوضع فقط وقالوا بكون الموضوع له كالمستعمل فيه خاصا ، وذهب جماعة آخرون ـ منهم التفتازاني ـ إلى عموم الموضوع له كالوضع ، وقالوا : بكون المستعمل فيه خاصا.

١٨٧

فيه في الحروف خاصا ، بخلاف ما عداه (١) فإنه عام. وليت شعري (٢) إن كان قصد الآلية فيها موجبا لكون المعنى جزئيا فلم لا يكون قصد الاستقلالية فيه موجبا له؟ وهل (٣) يكون ذلك إلّا لكون هذا القصد ، ليس مما يعتبر في الموضوع له ، ولا المستعمل فيه ، بل في الاستعمال ، فلم لا يكون فيها كذلك؟ (٤) كيف؟ (٥) وإلّا لزم أن

______________________________________________________

والمصنف يقول بعمومية الكل أي : الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ، والخصوصية ناشئة من قبل الاستعمال ، فهي من شئون الاستعمال وأطواره ؛ لا من قيود الموضوع له ، ولا المستعمل فيه.

(١) أي : بخلاف ما عدا الحروف وهو الاسم. وكان الأولى تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الحروف. أي : الموضوع له في الاسم عام كما أشار إليه بقوله : «فإنه عام».

(٢) هذا إشارة إلى وجه عدم الفرق بين الحرف والاسم ، فكما لا دخل للحاظ الاستقلالية في المعنى الاسمي ؛ فكذلك لا دخل للحاظ الآلية في المعنى الحرفي ، «وليت شعري» يعني : وليتني دريت وعلمت ـ بمعنى : التعجب ـ إن كان قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف فلما ذا لا يكون قصد الاستقلالية في الأسماء موجبا لكون المعنى جزئيا فيها؟ فكما لا يعتبر قصد الاستقلالية في الأسماء لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه قطعا ، فكذا في الحروف.

(٣) الاستفهام للإنكار ، فيكون مفاده نفي اعتبار قصد الاستقلالية في الموضوع له ، والمستعمل فيه فيما عدا الحروف ، فليكن الأمر في الحروف كذلك ، فلا فرق بين هذين القصدين في عدم دخلهما في الموضوع له ، وعدم إيجابهما جزئية المعنى بعد كون كليهما من شئون الاستعمال وأطواره. فالالتزام بكون القصد في أحدهما موجبا لجزئيته دون الآخر ليس إلّا تحكما واضحا.

(٤) أي : فلما ذا لا يكون قصد الآلية في الحروف ، كقصد الاستقلالية في الأسماء في عدم أخذه في نفس الموضوع له ، فيكون المعنى فيهما واحدا حقيقة كما مرّ غير مرة.

(٥) أي : كيف لا يكون قصد الآلية خارجا عن المعنى الحرفي «وإلّا لزم ...» إلخ أي : لو كان اللحاظ داخلا في المعنى الحرفي «لزم أن يكون معاني المتعلقات للحروف غير منطبقة على الجزئيات الخارجية».

وحاصل كلام المصنف «قدس‌سره» في المقام : أنه لا يجوز الالتزام بكون قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف وذلك لأمرين :

الأول : أن ذلك مستلزم للترجيح بلا مرجح نظرا إلى أن حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد ، فإذا جاز أن يكون قصد الآلية موجبا لجزئية المعنى في الحروف ؛ جاز أن

١٨٨

يكون معاني المتعلقات غير منطبقة على الجزئيات الخارجية لكونها على هذا كليات عقلية ، والكلي العقلي لا موطن له إلّا الذهن ، فالسير والبصرة والكوفة في ـ سرت من البصرة إلى الكوفة ـ لا يكاد يصدق على السير والبصرة والكوفة ، لتقيّدها (١) بما اعتبر فيه القصد ، فتصير (٢) عقلية فيستحيل انطباقها (٣) على الأمور الخارجية.

وبما حققناه (٤) يوفق بين جزئية المعنى الحرفي بل الاسمي ، والصدق على الكثيرين ،

______________________________________________________

يكون قصد الاستقلالية موجبا لجزئية المعنى في الأسماء أيضا ، فكما لا يكون قصد الاستقلالية مأخوذا في معاني الأسماء ، فكذلك لا يكون قصد الآلية مأخوذا في معاني الحروف. هذا ما أشار إليه لقوله : «فلم لا يكون فيها كذلك».

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «كيف؟ وإلّا لزم أن يكون معاني المتعلقات».

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن اللحاظ إذا كان قيدا لمعنى الحرف لكان قيدا لمعنى الاسم أيضا ، لأن معنى الحرف قد يكون قيدا لمعنى الاسم ، فاللحاظ الآلي قيد لمعنى الاسم ، لأن قيد القيد قيد ، فلزم حينئذ أن يكون معاني متعلقات الحروف مثل : السير والبصرة والكوفة في قولك : «سرت من البصرة إلى الكوفة» كليات عقلية.

وإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه يلزم من كون اللحاظ الآلي مأخوذا في المعنى الحرفي أمران :

الأول : عدم صدق متعلقات معاني الحروف على الخارجيات ، لأنها حسب الفرض مقيدة بقيد عقلي وهو لحاظ الآلية ، ومن البديهي : أن المقيد بقيد عقليّ عقليّ ، والعقلي لا موطن له إلّا العقل.

الثاني : يلزم امتناع امتثال الأمر في قولك : «سر من البصرة إلى الكوفة» ، والحال أنه يصدق على ما في الخارج ، ولا يمتنع الامتثال ، وليس هذا إلّا لعدم اعتبار قصد الآلية في الموضوع له في الحروف ، كما لا يعتبر قصد الاستقلالية في الموضوع له في الأسماء.

(١) أي : تعليل لعدم صدق ما ذكر على ما في الخارج ، لتقيّد السير والكوفة والبصرة بالمعنى الحرفي المقيد بقيد عقلي وهو لحاظ الآلية.

(٢) أي : تصير الأمور الثلاثة كليات عقلية لما عرفت من أنّ المقيّد بالقيد العقلي يصير عقليا.

(٣) أي : فيستحيل انطباق الأمور الثلاثة على الأمور الخارجية ، لأنّ الأمور العقلية لا موطن لها إلّا في العقل.

(٤) أي : من كون المعنى بنفسه في كل من الاسم والحرف كليا طبيعيا قابلا للصدق على كثيرين ، وبلحاظ تقيّده باللحاظ الآلي أو الاستقلالي جزئيا ذهنيا ؛ يوفق بين جزئية

١٨٩

وأن الجزئية باعتبار تقيد المعنى باللحاظ في موارد الاستعمالات آليا أو استقلاليا ، وكليته بلحاظ نفس المعنى.

ومنه (١) ظهر عدم اختصاص الإشكال والدفع بالحرف ، بل يعم غيره فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الأقدام للأعلام. وقد سبق في بعض الأمور (٢) بعض الكلام والإعادة مع ذلك (٣) لما فيها (٤) من الفائدة فافهم (٥).

رابعها (٦) : أن اختلاف المشتقات في المبادئ ، وكون المبدأ في بعضها حرفة

______________________________________________________

المعنى الحرفي بل الاسمي ، وبين الصدق على الكثيرين.

(١) أي : مما حققناه من التوفيق بين كلية المعنى الحرفي والاسمي وبين جزئيته ظهر : عدم اختصاص هذا الإشكال ـ أعني : التنافي بين كلية المعنى وجزئيته ـ والدفع الذي تقدم من كون الكلية باعتبار ، والجزئية باعتبار آخر أي : لا يختص الإشكال مع دفعه بالحرف «بل يعم غيره» أي : غير الحرف وهو الاسم.

(٢) أي : الأمر الثاني تقدم فيه الكلام في الفرق بين المعنى الحرفي والاسمي.

(٣) أي : مع سبق البحث في المعنى الحرفي.

(٤) أي : لما في الاعادة والتكرار من الفائدة ، وهي : عدم المنافاة بين كون الشيء كليا طبيعيا وكونه جزئيا ذهنيا ، وعدم المنافاة بين كون الشيء كليا عقليا ، وبين كونه جزئيا ذهنيا.

(٥) لعله إشارة إلى ضعف قوله : «والإعادة مع ذلك لما فيها من الفائدة».

وجه الضعف : أن الإعادة وإن كانت كذلك أي : فيها الفائدة ولكن ليست كل فائدة من موجبات الإعادة ، بل ما إذا كانت الإعادة مقرونة بشواهد ودلائل زائدة على ما سبق وليست هي في المقام كذلك. وتركنا ذكر خلاصة البحث لأننا ذكرناه في الأمر الثاني.

(٦) الرابع من الأمور التي ينبغي تقديمها على البحث في بيان دفع توهم التفصيل المنسوب إلى «الفاضل التوني «رحمه‌الله» ، حيث قال ما محصله :

من أنّ المبدأ إن كان من قبيل الملكة والصناعة والحرفة فكانت هيئة المشتق موضوعة للأعم ؛ حيث يكون إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ على نحو الحقيقة ، وإن كان من قبيل الأفعال الخارجية كالضرب والأكل والشرب ونحوها فكانت موضوعة لخصوص المتلبس بالمبدإ ؛ حيث يكون إطلاقه على من انقضى عنه المبدأ على نحو المجاز.

وحاصل الدفع : أن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة.

١٩٠

وصناعة ، وفي بعضها قوة وملكة ، وفي بعضها فعليا لا يوجب اختلافا في دلالتها بحسب الهيئة أصلا ، ولا تفاوتا في الجهة المبحوث عنها كما لا يخفى.

غاية الأمر : أنه يختلف التلبس به في المضي أو الحال ، فيكون التلبس به (١) فعلا لو

______________________________________________________

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن اختلاف المشتقات إنما يوجب فرقا بين المبادئ في التلبس وعدمه ؛ بمعنى : أنه إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال الخارجية كالقيام والقعود والركوع والسجود وما شاكل ؛ ذلك كان التلبس به بمباشرته فعلا ، ويصدق الانقضاء عند عدم مباشرته فعلا ، فلا يصدق القائم على النائم ولا القاعد على القائم مثلا.

وأما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة مثل : التجارة والبقالية ، أو من قبيل الصناعة مثل : النجارة والصياغة ، أو من قبيل القوة والملكة مثل : الكتابة والاجتهاد فيختلف التلبس ، فالتلبس به فيما إذا كان المبدأ من قبيل الحرفة يصدق ما دام محترفا ، وفي الصناعة يصدق التلبس ما دام مشتغلا بها أي : لم يتركها ، وفي الملكة والقوة يصدق التلبس ما دامتا موجودتين.

وهذا الاختلاف لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ؛ وهي : إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك دفع توهم التفصيل ، وأنه توهم فاسد ، لأن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب اختصاص النزاع بما إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال ، بل هو يتأتّى في جميع الموارد ؛ لأن البحث في جميع تلك الموارد إنما هو بعد انقضاء المبدأ.

غاية الأمر : يختلف الانقضاء باختلاف المبادئ ، فالانقضاء فيما إذا كان المبدأ من قبيل الأفعال يتحقق برفع اليد عن تلك الأفعال ولو أنا ما.

وفيما إذا كان من قبيل الحرفة والصناعة يكون بتركهما والإعراض عنهما. وفيما إذا كان من قبيل القوة والملكة يكون بزوالهما. وهذا الاختلاف لا يوجب تفاوتا بحسب الهيئة أصلا ولا في الجهة المبحوث عنها.

(١) أي : بالمبدإ «فعلا» ، ولو لم يكن مشتغلا بالمبدإ يصدق التلبس «لو أخذ» المبدأ «حرفة أو ملكة» ، فالمجتهد والتجار متلبسان بالمبدإ حتى في حال النوم ، بل «ولو لم يتلبس به» أي : بالتجارة في الحرفة ، وبالاستنباط في الملكة «إلى الحال» أي : حال الإسناد ، «أو انقضى عنه» أي : عن ذي الملكة والحرفة بأن اجتهد واتجر في الزمان السابق.

١٩١

أخذ حرفة أو ملكة ولو لم يتلبس به إلى الحال أو انقضى عنه ويكون (١) مما مضى أو يأتي لو أخذ فعليا ، فلا يتفاوت فيها (٢) أنحاء التلبسات وأنواع التعلقات كما أشرنا إليه.

خامسها : أن المراد بالحال (٣) في عنوان المسألة هو حال التلبس لا حال النطق ؛

______________________________________________________

(١) أي : يكون التلبس مما مضى أو يأتي لو أخذ المبدأ فعليا كالآكل مثلا ؛ فإنه غير متلبس بالأكل حال النطق لو انقضى عنه الأكل ، أو لم يأكل بعد.

(٢) أي : في الجهة المبحوث عنها وهي دلالة هيئة المشتق على أنحاء التلبسات لما عرفت : من أنّ اختلاف التلبسات الناشئ عن المبدأ أجنبيّ عن وضع هيئة المشتق. والغرض : أن اختلاف المبادئ حرفة وصناعة وقوة وفعلية لا يوجب اختلافا في دلالة هيئة المشتق.

خلاصة البحث

إن هذا الأمر الرابع ردّ لتفصيل الفاضل التوني ، وملخص الردّ : أن اختلاف المشتقات في المبادئ لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها ، لأن الاختلاف المذكور إنما هو بسبب وضع المبدأ ، والجهة المبحوث عنها إنما هي في وضع الهيئة. فلا ربط لأحدهما بالآخر.

بيان المراد من الحال في باب المشتق

(٣) غرض المصنف من عقد هذا الأمر الخامس : بيان ما هو المراد من الحال في عنوان المسألة أي : في قولهم : هل المشتق حقيقة في خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، أو فيما يعمه وما انقضى عنه المبدأ؟

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة هي : أن الحال هنا ليس بمعنى : الهيئة والكيفية كما هو عند النحاة.

بل الحال في باب المشتق إنما هو بمعنى : الزمان ، والحال بهذا المعنى باعتبار ما أضيف إليه ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

١ ـ حال النطق : وهو عبارة عن الزمان الذي يتفوه فيه الإنسان ، وهو الزمان المتوسط بين الزمان الماضي ، وبين الزمان المستقبل.

٢ ـ حال التلبس : وهو عبارة عن الوقت الذي تتصف الذات بالمبدإ ويقوم المبدأ بها.

٣ ـ حال الجري والنسبة الايقاعية إلى الذات : وهو عبارة عن الوقت الذي أراد المتكلم نسبة المبدأ إلى الذات فيه.

١٩٢

ضرورة : أن مثل : «كان زيد ضاربا أمس» (١) ، أو «سيكون غدا ضاربا» (٢) حقيقة إذا

______________________________________________________

ولكل واحد من الأحوال الثلاثة ماض ومستقبل وحال ، فحاصل ضرب الثلاثة في الثلاثة هي تسعة ، ويتعين كل من الماضي والمستقبل بالنسبة إلى كل حال من الأحوال الثلاث بالقرينة ، وهي كلمة الأمس في الماضي ، والغد في المستقبل والآن في الحال.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا إشكال في كون المشتق حقيقة إن اتفقت هذه الأحوال الثلاث كقولنا : «زيد عالم الآن» مع كون زيد عالما حال النطق.

وأما مع الاختلاف فهناك احتمالان فيما هو المعيار في كون المشتق حقيقة : أحدهما : اتفاق زمان الجري والنسبة مع زمان التلبس. ثانيهما : اتفاق زمان النطق مع زمان التلبس ، والمحكي عن صريح بعض.

وإن كان العبرة في كون المشتق حقيقة هو اتفاق زمان النطق مع زمان التلبس إلّا إن الحق عند المصنف هو : اتفاق زمان الجري مع زمان التلبس ، فإن اتفق زمانهما كان إطلاق المشتق على نحو الحقيقة سواء كان زمانهما ماضيا مثل : «زيد ضارب أمس» إذا جعل أمس قيدا لكل من التلبس والجري ، أم كان مستقبلا مثل : «زيد ضارب غدا» إذا جعل ظرفا لكل من التلبس والجري معا.

وإن اختلف حال التلبس والجري : فإن اتحد زمان الجري والنطق ، ولم يتحقق التلبس بعد بأن كان مستقبلا مثل : «زيد ضارب غدا» إذا جعل غد قيدا للتلبس فقط ، دون الجري ؛ كان استعمال المشتق مجازا بلا خلاف ولا إشكال.

وإن اتحد زمان الجري والنطق وقد تحقق التلبس في الزمان الماضي مثل : «زيد ضارب أمس» إذا جعل ـ أمس ـ قيدا للتلبس فقط دون الجري ؛ فهو محل الخلاف ، وإن استعماله هل هو على نحو الحقيقة أو المجاز؟ فإن قلنا : بوضع المشتق لخصوص المتلبس بالمبدإ حال تلبسه به فهو مجاز ، وإن قلنا : بوضعه للأعم من حال تلبسه وحال انقضائه فهو حقيقة.

(١) أي : إطلاق المشتق كان على نحو الحقيقة إذا كان زيد متلبسا بالضرب في الأمس ؛ بأن كان الأمس قيدا لكل من الجري والتلبس.

(٢) أي : كان إطلاق المشتق على نحو الحقيقة إذا كان الغد ظرفا لكل من الجري والتلبس ؛ مع إنه لو كان المعيار هو زمان النطق لزم كون المشتق في كلا المثالين مجازا ؛ لعدم تلبس زيد بلباس الضرب في حال النطق.

وبالجملة : أن العبرة في كون استعمال المشتق حقيقة أو مجازا إنما هي بحال التلبس دون غيره ، فإن كان الجري بلحاظه بأن اتحد زمانهما كان حقيقة ؛ سواء كانا ماضيين أم مستقبلين أم حالين أي : متحدين مع زمان التكلم.

١٩٣

كان متلبسا بالضرب في الأمس في المثال الأول ، ومتلبسا به في الغد في الثاني ، فجري (١) المشتق حيث كان بلحاظ حال التلبس ، وإن مضى زمانه في أحدهما ، ولم يأت بعد في آخر كان حقيقة بلا خلاف ، ولا ينافيه (٢) الاتفاق على أن مثل : «زيد ضارب غدا» مجاز ، فإن الظاهر : أنه فيما إذا كان الجري في الحال ، كما هو قضية الإطلاق ، والغد إنما يكون لبيان زمان التلبس ، فيكون الجري والاتصاف في الحال ،

______________________________________________________

وأن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس لازمان النطق.

(١) فإسناد المشتق وحمله على الذات حيث كان بلحاظ حال التلبس كان حقيقة بلا خلاف ؛ وإن مضى زمان التلبس في أحد المثالين المذكورين ولم يأت زمانه في المثال الآخر ، ثم نفي الخلاف إنما يتمّ نظرا إلى ما هو الحق عند المصنف من أن العبرة بزمان الجري والنسبة ؛ لا حال النطق.

(٢) أي : لا ينافي ما تقدم من كون الإطلاق باعتبار حال التلبس في المثالين على نحو الحقيقة ؛ الاتفاق على مجازية مثل : زيد ضارب غدا ، مما يكون زمان التلبس فيه بعد زمان النطق. فقوله : «ولا ينافيه الاتفاق» دفع لتوهم التنافي فلا بد من توضيح التنافي حتى يتضح دفعه. فنقول في توضيح ذلك : إن ما ذكرتم من عدم الخلاف في كون المشتق في المثالين المزبورين ـ كان زيد ضاربا أمس ، أو سيكون غدا ضاربا ـ حقيقة ينافي الاتفاق على أن مثل : «زيد ضارب غدا» مجاز ، فكما أن مثل : «زيد ضارب غدا» مجاز بالاتفاق ؛ فكذلك مثل : «كان زيد ضاربا غدا» ، ومثل : «سيكون غدا ضاربا» مجاز بالاتفاق ، لأنّ الملاك في جميع هذه الأمثلة واحد ؛ وهو : تأخر حال التلبس عن زمان التكلم ، وحكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.

وحاصل الدفع : أن مورد الاتفاق أي : مثل «زيد ضارب غدا» ليس مثلا للمثالين ، كي يقال : إن حكم الأمثال فيما يجوز.

ولا يجوز واحد ، فكما أن إطلاق المشتق في مثل : «زيد ضارب غدا» مجاز بالاتفاق فكذلك في المثالين ، فيتحقق التنافي بين كون المشتق في المثالين حقيقة ، وفي المثال الثالث مجازا ، لأن الفرق بين المثالين وبين المثال الثالث أوضح من الشمس ؛ حيث إن الغد في مثل : «زيد ضارب غدا» قيد للتلبس فقط فيكون مجازا بالاتفاق. هذا بخلاف المثالين السابقين حيث يكون الغد قيدا لكل واحد من الجري والتلبس ؛ فيكون إطلاق المشتق بلحاظ حال التلبس وهو حقيقة كما مر. فقياس المثالين بما قام الإجماع على مجازيّته قياس مع الفارق وهو باطل.

١٩٤

والتلبس في الاستقبال (١).

ومن هنا (٢) ظهر الحال في مثل : «زيد ضارب أمس» ، وأنه داخل في محل الخلاف والإشكال. ولو كانت لفظة «أمس» (٣) أو «غد» قرينة (٤) على تعيين زمان النسبة والجري أيضا كان المثالان حقيقة.

وبالجملة (٥) : لا ينبغي الإشكال في كون المشتق حقيقة ، فيما إذا جرى على الذات

______________________________________________________

(١) أي : لا يكون زمان الجري متحدا مع زمان التلبس ، لأن الجري حالي والتلبس استقبالي ، وعليه : فلا تنافي بين الاتفاق على المجازية وبين الاتفاق على كون المشتق في المثالين حقيقة ؛ لأنّ زمان الجري متحد مع زمان التلبس فإنّ الجري فيه كالتلبس يكون في الغد.

(٢) أي : من أن المعيار في كون المشتق حقيقة هو اتفاق زمان الجري والتلبس ، والمعيار في كونه مجازا أو محل الخلاف اختلافهما زمانا «ظهر الحال في مثل : «زيد ضارب أمس» ؛ مما يكون الجري فيه فعليا والتلبس انقضائيا أي : ظهر أنه داخل في محل الخلاف بين الأعمي وغيره ، إذ قد يكون أمس قرينة للتلبس فقط ، مع إن الجري في الحال ، فيكون محلا للخلاف والإشكال حيث إن الأعمي يراه حقيقة ، ومن يشترط التلبس الفعلي يراه مجازا.

(٣) أي : في مثل : «زيد ضارب أمس» ، أو «غد» في مثل «زيد ضارب غدا».

(٤) أي : قرينة على تعيين زمان النسبة والجري أيضا أي : كما أن لفظة «أمس» أو «غد» قرينة على تعيين زمان التلبس أي : لو كانت لفظة أمس أو غد قرينة على تعيين زمان النسبة والجري كان المثالان حقيقة ؛ وذلك لاتفاق زمان الجري والتلبس فيهما.

فقوله : «كان» جواب لو في قوله : «لو كانت». والمراد بالمثالين هو قوله : «زيد ضارب غدا» ، وقوله : «زيد ضارب أمس».

(٥) قوله : «بالجملة ...» إلخ بيان إجمالي لما تقدم ، وإشارة إلى عمدة الصور واختلافها حكما حسب تقيّدها «بأمس» تارة ، و «بغد» أخرى.

وأما بيان الأقسام والصور في المقام : فلأن كل واحد من لفظ «أمس» و «غد» ينقسم إلى قسمين : وذلك فإن لفظ «أمس» قد يكون قرينة لتعيين حال التلبس فقط فيكون قيدا له ، وقد يكون قرينة لتعيين حال الجري والتلبس معا فيكون قيدا لهما.

وكذلك لفظ «غد» قد يكون قيدا لحال التلبس فقط ، وقد يكون قيدا لهما معا.

إذا عرفت هذه الأقسام والصور فاعلم : أن المشتق في القسم الثاني لكل واحد من

١٩٥

بلحاظ حال التلبس ، ولو كان في المضي أو الاستقبال ، وإنما الخلاف في كونه حقيقة في خصوصه ، أو فيما يعم ما إذا جرى عليها في الحال بعد ما انقضى عنه التلبس ، بعد الفراغ عن كونه مجازا فيما إذا جرى عليها فعلا بلحاظ التلبس في الاستقبال ، ويؤيد ذلك (١) : اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، ومنه (٢) الصفات الجارية على الذوات ، ولا ينافيه (٣) اشتراط العمل في بعضها بكونه بمعنى : الحال أو الاستقبال ؛ ضرورة (٤) : أن المراد الدلالة على أحدهما بقرينة ، كيف لا وقد اتفقوا على كونه مجازا في الاستقبال؟

______________________________________________________

التقسيمين حقيقة ، لكون جريه على الذات بلحاظ حال التلبس. وأما القسم الأوّل من التقسيم الأول ـ وهو بأن يكون لفظ «أمس» قيدا لحال التلبس فقط ـ فيكون محلا للخلاف فيراه الأعمي حقيقة ، ويراه من يقول بكون المشتق حقيقة في خصوص حال التلبس بالمبدإ مجازا.

وأما القسم الأول من التقسيم الأول وهو : أن يكون لفظ «غد» قيدا لحال التلبس ، وقرينة لتعيينه فقط ؛ فيكون مجازا بلا إشكال ولا خلاف.

(١) أي : يؤيد ما ذكرناه من كون المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس ـ لا حال النطق ـ : «اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان».

خلاصة التأييد : أن الاتفاق الحاصل من أهل العربية القائم على عدم دلالة الاسم على الزمان ـ ومنه المشتق الجاري على الذات ـ فلو أريد من الحال حال النطق لا حال التلبس كان المشتق دالا على الزمان ؛ مع إنهم اتفقوا على عدم دلالة الاسم على الزمان ، وهذا الاتفاق شاهد على خروج الزمان عن مدلول الاسم. ولعل وجه عدم جعل ذلك دليلا برأسه : عدم حجية اتفاقهم على فرض ثبوته ، ولكن مع ذلك لا يخلو عن تأييد.

(٢) أي : ومن الاسم هو المشتق في محل الكلام أعني : الصفات الجارية على الذوات.

(٣) قوله : «ولا ينافيه اشتراط العمل ...» إلخ دفع لتوهم التنافي بتقريب : أن اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ينافي ويناقض ما ذكره النحاة من اشتراط العمل في بعضها ؛ كاسمي الفاعل والمفعول بالدلالة على زمان الحال أو الاستقبال ، وأنه لو دل على الماضي لا يعمل عمل الفعل. فالاتفاق الحاصل على عدم الدلالة على الزمان ينافي الاشتراط المزبور. حيث إنه ظاهر في دلالة بعض المشتقات الاسمية على زمان الحال أو الاستقبال.

(٤) تعليل لقوله : «ولا ينافيه».

١٩٦

لا يقال (١) : يمكن أن يكون المراد بالحال في العنوان زمانه ، كما هو الظاهر منه عند إطلاقه ، وادعي أنه الظاهر في المشتقات إما لدعوى الانسباق من الإطلاق ، أو بمعونة قرينة الحكمة.

لأنا نقول (٢) : هذا الانسباق ، وإن كان مما لا ينكر ، إلّا إنهم في هذا العنوان بصدد

______________________________________________________

وحاصل دفع التنافي : أنّ الاتفاق إنما قام على عدم دلالة الاسم على الزمان وضعا لا مطلقا ولو بقرينة ، فلا مانع من قيام قرينة على دلالة الاسم على الزمان ، والاتفاق السابق لا يمنع عن هذه الدلالة فيكون المشتق دالا على الزمان بدال آخر لا بالوضع ، «وكيف لا» أي : كيف لا يكون الدلالة على الزمان بدالّ آخر وهي قرينة ، «وقد اتفقوا على كونه مجازا» في المستقبل ، فلو كان الزمان داخلا في مفهوم المشتق لم يكن للاتفاق على المجازية مجال لمنافاته له.

(١) حاصل الإشكال : أن مرادهم بالحال في عنوان البحث هو : حال النطق المتوسط بين الماضي والمستقبل ، لا حال التلبس. وذلك لأمرين :

الأول : أن الظاهر من لفظ الحال عند إطلاقه ، وعدم تحديده بشيء هو : زمان الحال المساوق لزمان النطق ؛ لا حال التلبس.

الثاني : وهو العمدة : أنه ادعي أن الظاهر من المشتقات هو : زمان الحال إما لدعوى الانسباق من الإطلاق ؛ أي : التبادر الإطلاقي المستند إلى كثرة الاستعمال ؛ في قبال التبادر الحاقّي المستند إلى الوضع.

وإما بمعونة قرينة الحكمة. فإن اللافظ لو أراد من المشتق غير زمان الحال ؛ لكان عليه البيان ، وحيث لم يبين فهو المراد.

(٢) وحاصل الجواب : أن الانسباق المذكور ـ وإن كان مما لا سبيل لإنكاره ـ إلّا إن المقام مقام تعيين ما وضع له المشتق هل إنه خصوص المتلبس بالمبدإ حال النطق ، أو حال الجري ، أو الأعم منه ، ومما انقضى عنه ، والانسباق المزبور ليس أمارة على وضع المشتق لزمان النطق ، فإن مثل هذا التبادر لا يصلح إلّا لتعيين المراد دون تشخيص الموضوع له ؛ الذي هو مورد البحث في مسألة المشتق.

فالتبادر المستند إلى الإطلاق ، أو قرينة الحكمة لا يجدي في إثبات الوضع.

ثم إن المصنف لم يجب عن الأمر الأول ، وكأنه غفل عنه في مقام الجواب ، ووجّه كلامه إلى الأمر الثاني فقط ؛ فقال ما ملخصه : من أن التبادر الإطلاقي يعيّن المراد من المشتق ، وهو أجنبي عن محل الكلام ، ولا يعيّن ما وضع له المشتق الذي هو المطلوب في المقام ، لأن غرضهم في باب المشتق تعيين ما هو حقيقة فيه لا تعيين ما هو ظاهر فيه بالقرينة.

١٩٧

تعيين ما وضع له المشتق ، لا تعيين ما يراد بالقرينة منه.

سادسها (١) : أنه لا أصل في نفس هذه المسألة يعول عليه عند الشك وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية ، مع معارضتها (٢) بأصالة عدم ملاحظة العموم ، لا دليل على اعتبارها في تعيين الموضوع له.

______________________________________________________

خلاصة البحث مع رأي المصنف

١ ـ إن المراد بالحال في عنوان المسألة هو حال التلبس أي : زمانه ؛ لا زمان النطق على ما قيل ، فحينئذ يكون جري المشتق على الذات بلحاظ حال التلبس حقيقة ؛ سواء كان في الماضي أو المستقبل أو الحال ، وإطلاقه على من يتلبس بالمبدإ في المستقبل مجاز ، وعلى من انقضى عنه المبدأ محل للنزاع.

٢ ـ أن المشتق الجاري على الذات لا يدل على الزمان بالاتفاق ، وأما اشتراط العمل في اسم الفاعل بكونه بمعنى الحال أو الاستقبال : فلا ينافي اتفاق أهل العربية على عدم دلالة الاسم على الزمان ، إذ مرادهم : أنه لا يدل على الزمان بالوضع ، ولازم اشتراط العمل بالحال أو الاستقبال هو : دلالة الاسم على الزمان بالقرينة.

٣ ـ وأما ما يقال : من أن الظاهر من الحال عند إطلاقه هو : الحال المساوق لزمان النطق ؛ لا حال التلبس وهو الظاهر في المشتقات ، إما لدعوى التبادر من الإطلاق ، أو بمعونة قرينة الحكمة فمدفوع ؛ بأن المقام مقام تعيين ما وضع له المشتق لا تعيين ما هو الظاهر فيه بالقرينة ، لأن غرضهم في باب المشتق تعيين ما هو حقيقة فيه لا تعيين ما هو ظاهر فيه ولو بالقرينة. فالتبادر المستند إلى الإطلاق أو قرينة الحكمة لا يجدي في إثبات الوضع.

٤ ـ أما رأي المصنف «قدس‌سره» فهو :

أن المراد بالحال هو حال التلبس لا حال النطق ، وفي المقام صور وأقسام تركناها رعاية للاختصار. انتهى الكلام في خلاصة البحث في معنى المشتق.

تأسيس الأصل

(١) السادس من الأمور التي ينبغي تقديمها في بيان الأصل : هل في المقام أصل لفظي ، أو أصل عملي يفيد كون المشتق موضوعا لخصوص المتلبس بالمبدإ ، أو للأعم منه ، ومن المنقضي عنه أم لا؟ يقول المصنف : «أنه لا أصل» أي : ليس هناك أصل لفظي «في نفس هذه المسألة» حتى «يعوّل عليه عند الشك».

(٢) أي : معارضة أصالة عدم ملاحظة الخصوصية ؛ «بأصالة عدم ملاحظة العموم».

١٩٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وحاصل الكلام في تأسيس الأصل في المقام بمعنى : أنه مع الشك والتردد ، وعدم قيام الدليل على أحد الاحتمالين هل هناك من الأصول ما يعين أحدهما ، أو تكون نتيجته توافق أحدهما؟

والكلام تارة : يقع في قيام الأصل في المسألة الأصولية ؛ بأن يثبت به الوضع والموضوع له ، وقد أشار إليه بقوله : «وأصالة عدم ملاحظة الخصوصية ...» إلخ.

وأخرى : يقع الكلام في الأصل في المسألة الفرعية ؛ بأن يثبت به الحكم للمشتق مع عدم تعيين الموضوع له. وقد أشار إليه بقوله : «وأما الأصل العملي ...» إلخ ، وأما الأصل في المسألة الأصولية فغير ثابت ؛ إذ لا أصل لدينا يعين به أن الموضوع له هو خصوص المتلبس أو الأعم منه.

وما يدّعى : من جريان أصالة عدم ملاحظة الخصوصية فيثبت بها الوضع للأعم مدفوع بوجهين :

أحدهما : أن أصالة عدم لحاظ الأخص معارضة بأصالة عدم لحاظ العموم ؛ إذ الوضع للأخص ـ كما يقتضي ملاحظة الخصوصية فتنفي بالأصل ـ كذلك الوضع للأعم يستدعي لحاظ العموم للزوم ملاحظة الموضوع له ، ولا يكتفى في لحاظه بعدم لحاظ الخاص ، لأن الخاص والعام متباينان مفهوما ، فعدم لحاظ أحدهما لا يكون لحاظا للآخر.

والحاصل : أنه كما تنفى ملاحظة الخصوصية بالأصل ؛ كذلك تنفى ملاحظة العموم بالأصل ، فيقع التعارض بين الأصلين.

ثانيهما : أنه لا دليل على اعتبار أصالة عدم ملاحظة الخصوصية في تعيين الموضوع له ؛ وذلك أن الأصل المزبور إما أصل عقلائي ، وإما أصل شرعي مثل الاستصحاب. فإن كان المقصود منه هو الأصل العقلائي فلا دليل على اعتباره ؛ إذ لم يثبت بناء العقلاء على نفي ملاحظة الخصوصية مع الشك بها.

وإن كان المقصود منه الأصل الشرعي أعني : الاستصحاب أي : استصحاب عدم ملاحظة الخصوصية من باب أصالة عدم الحادث ؛ فلا يكون حجة لأن اعتبار الاستصحاب مشروط بأحد أمرين :

أحدهما : أن يكون المستصحب حكما شرعيا.

ثانيهما : أن يكون ذا أثر شرعي ، وعدم ملاحظة الخصوصية ليس حكما شرعيا ، وليس له أثر شرعي لأنّ أثره هو الوضع للأعم ، وهو ليس أثرا شرعيا ، فلو كان له أثر

١٩٩

وأما ترجيح (١) الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز ؛ إذا دار الأمر بينهما لأجل الغلبة ، فممنوع ؛ لمنع الغلبة أولا ، ومنع نهوض حجة على الترجيح بها ثانيا.

وأما الأصل العملي (٢) : فيختلف في الموارد ، فأصالة البراءة في مثل : «أكرم كل

______________________________________________________

شرعي بواسطة أو وسائط لكان أصلا مثبتا ، وهو لا يكون حجة إلّا على القول بالأصل المثبت.

(١) قوله : «وأما ترجيح الاشتراك المعنوي ...» إلخ دفع لما يتوهم : من أنه إذا دار أمر اللفظ بين كونه مشتركا معنويا بين معنيين أو أزيد ، وبين كونه حقيقة ومجازا ؛ بأن يكون حقيقة في أحدهما ، ومجازا في الآخر ؛ كان الترجيح مع الاشتراك المعنوي على الحقيقة والمجاز «لأجل الغلبة» أي : لأجل غلبة الاشتراك المعنوي ، ولازم ذلك : ثبوت وضع المشتق للأعم.

وحاصل الدفع : أن التوهم المذكور يدفع أولا : بمنع الصغرى لعدم ثبوت الغلبة ؛ إذ لم يثبت أكثرية المشترك المعنوي من الحقيقة والمجاز حتى يصار إليه بقاعدة : الظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب.

وثانيا : بمنع الكبرى ؛ إذ لا دليل على الترجيح بالغلبة لو سلم ثبوتها ؛ وذلك لعدم الدليل على اعتبار الظن الحاصل من الغلبة حتى يرجح به القول بالاشتراك المعنوي ، فإن الترجيح فرع الحجية ، والشك في الحجية يكفي في عدم الترجيح به.

(٢) أي : وأما الأصل في المسألة الفرعية : فقد قال المصنف : بأنّه يختلف باختلاف الموارد ؛ بمعنى : أنه قد تكون نتيجته في بعض الموارد تلائم وتوافق الوضع للأخص ـ أعني : وضع المشتق للأخص ـ كما لو ورد : «أكرم كل عالم» ، وكان زيد قد انقضى عنه العلم قبل الإيجاب ؛ فإنه حيث يشك في صدق العالم عليه فعلا ـ للشك في الوضع ـ يشك في ثبوت الحكم له أيضا ؛ فتجري أصالة البراءة عن وجوب إكرامه ؛ للشك في التكليف ، فتنفي ثبوت الحكم له.

وقد تكون نتيجته تلائم وتوافق الوضع للأعم ـ كالمثال المزبور ـ بأن يكون زيد متلبسا بالعلم حال الإيجاب ، لكنه انقضى عنه بعد ورود الوجوب حين العمل ، فإنه حينئذ يشك في بقاء الحكم له ، فيستصحب وجوب إكرامه.

وبعبارة أخرى : أنه لو كان الإيجاب قبل انقضاء المبدأ ـ يعني : حين الأمر كان زيد متلبسا بالعلم وقبل الإكرام ، خرج من التلبس ـ فالاستصحاب يوجب الإكرام ؛ وذلك لأن زيدا كان داخلا في الأمر عند الإطلاق فتستصحب عالميته ويكرم ، أو يستصحب وجوب إكرامه للعلم به سابقا ، والشك فيه لاحقا فتتم أركان الاستصحاب.

٢٠٠