التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقول أبي بكر أرجح لما روى أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها قوم كفروا فمن مات عليها فهو ممن استقام ، وقال بعض الصوفية : معنى استقاموا أعرضوا عما سوى الله ، وهذه حالة الكمال على أن اللفظ لا يقتضيه (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ) يعني عند الموت (وَلَكُمْ فِيها) الضمير للآخرة (ما تَدَّعُونَ) أي ما تطلبون (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) أي : لا أحد أحسن قولا منه ، ويدخل في ذلك كل من دعا إلى عبادة الله أو طاعته على العموم ، وقيل : المراد سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل المؤذنون وهذا بعيد ؛ لأنها مكية ، وإنما شرع الأذان بالمدينة ولكن المؤذنين يدخلون في العموم (وَما يُلَقَّاها) الضمير يعود على الخلق الجميل الذي يتضمنه قوله : ادفع بالتي هي أحسن (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي حظ من العقل والفضل وقيل : حظ عظيم في الجنة (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ) إن شرطية دخلت عليها ما الزائدة ، ونزغ الشيطان : وساوسه وأمره بالسوء (الَّذِي خَلَقَهُنَ) الضمير يعود على الليل والنهار والشمس والقمر ، لأن جماعة ما لا يعقل كجماعة المؤنث ، أو كالواحدة المؤنثة ، وقيل ؛ إنما يعود على الشمس والقمر ، وجمعهما لأن الإثنين جمع وهذا بعيد (فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) الملائكة (لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملون (الْأَرْضَ خاشِعَةً) عبارة عن قلة النبات (اهْتَزَّتْ) ذكر في [الحج : ٥] (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) تمثيل واحتجاج على صحة البعث (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا) أي يطعنون عليها ، وهذا الإلحاد هو بالتكذيب وقيل ؛ باللغو فيه حسبما تقدم في السورة (أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ) الآية : قيل إن المراد بالذي يلقى بالنار أبو جهل ، وبالذي يأتي آمنا عثمان بن عفان وقيل : عمار بن ياسر واللفظ أعم من ذلك (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) تهديد لا إباحة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) الذكر هنا القرآن باتفاق ، وخبر إن محذوف تقديره ؛ ضلوا أو هلكوا ، وقيل : خبرها : أولئك ينادون من مكان بعيد ، وذلك بعيد.

٢٤١

(إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ) أي كريم على الله ، وقيل منيع من الشيطان (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ) أي ليس فيما تقدمه ما يبطله ، ولا يأتي بعده ما يبطله والمراد على الجملة أنه لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ) في معناه قولان : أحدهما : ما يقول الله لك من الوحي والشرائع ، إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والآخر : ما يقول لك الكفار من التكذيب والأذى إلا مثل ما قالت الأمم المتقدمون لرسلهم ، فالمراد على هذا تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتأسي ، والمراد على القول الأوّل أنه عليه الصلاة والسلام أتى بما جاءت به الرسل فلا تنكر رسالته (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ) يحتمل أن يكون مستأنفا ، أو يكون هو المقول في الآية المتقدمة ، وذلك على القول الأوّل ، وأما على القول الثاني فهو مستأنف منقطع مما قبله.

(وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ) الأعجمي الذي لا يفصح ، ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من العجم ، والعجمي الذي ليس من العرب فصيحا كان أو غير فصيح ، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن ، فالمعنى أنه لو كان أعجميا لطعنوا فيه وقالوا : هلا كان مبينا فظهر أنهم يطعنون فيه على أي وجه كان (أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) (١) هذا من تمام كلامهم ، والهمزة للإنكار ، والمعنى : أنه لو كان القرآن أعجميا لقالوا قرآن أعجمي ، ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقيل : إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية ، كسجين وإستبرق ، فقالوا أقرآن أعجمي وعربي ، أي مختلط من كلام العرب والعجم ، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين (فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ) عبارة عن إعراضهم عن القرآن ، فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) عبارة عن قلة فهمهم له (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فيه قولان : أحدهما عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادى من مكان بعيد فهو لا يسمع الصوت ولا يفقه ما يقال ، والثاني أنه حقيقة في يوم القيامة أي ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم ، والأوّل أليق بالكنايات التي قبلها (كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) يعني القدر (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم زمان وقوعها ، فإذا سئل أحد عن ذلك قال : الله هو الذي يعلمها (مِنْ أَكْمامِها) جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها.

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : أأعجمي : بهمزتين وقرأ الباقون : آعجمي بالهمز والمدّ.

٢٤٢

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي) العامل في يوم محذوف والمراد به يوم القيامة ، والضمير للمشركين وقوله : أين شركائي توبيخ لهم ، وأضاف الشركاء إلى نفسه على زعم المشركين ، كأنه قال : الشركاء الذين جعلتم لي (قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) المعنى : أنهم قالوا : أعلمناك ما منا من يشهد اليوم بأن لك شريكا ، لأنهم كفروا يوم القيامة بشركائهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ) أي ضل عنهم شركاؤهم ، بمعنى أنهم لا يرونهم حينئذ ، فما على هذا موصولة ، أو ضل عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من الشرك ، فما على هذا مصدرية (وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب : أي علموا أنهم لا مهرب لهم من العذاب ؛ وقيل : يوقف على ظنوا ، ويكون مالهم ؛ استئنافا ، وذلك ضعيف (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ) أي لا يمل من الدعاء بالمال والعافية وشبه ذلك ، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة ، وقيل في غيره من الكفار واللفظ أعم من ذلك (لَيَقُولَنَّ هذا لِي) أي هذا حقي الواجب لي ، وليس تفضلا من الله ولا يقول هذا إلا كافر ، ويدل على ذلك قوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) وقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) معناه إن بعثت تكون لي الجنة ، وهذا تخرص وتكبر ، وروي أن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة (وَنَأى بِجانِبِهِ) ذكر في الإسراء : ٨٣ (دُعاءٍ عَرِيضٍ) أي كثير ، وذكر الله هذه الأخلاق على وجه الذم لها (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) الآية معناها : أخبروني إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به ألستم في شقاق بعيد؟ فوضع قوله من أضل موضع الخطاب لهم (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الضمير لقريش وفيها ثلاثة أقوال : أحدها أن الآيات في الآفاق هي فتح الأقطار للمسلمين ، والآيات في أنفسهم هي فتح مكة فجمع ذلك وعدا للمسلمين بالظهور ، وتهديدا للكفار ، واحتجاجا عليهم بظهور الحق وخمول الباطل ، والثاني أن الآيات في الآفاق هي ما أصاب الأمم المتقدمة من الهلاك وفي أنفسهم يوم بدر. الثالث أن الآيات في الآفاق : هي خلق السماء وما فيها من العبر والآيات ، وفي أنفسهم خلقة بني آدم وهذا ضعيف لأنه قال : سنريهم بسين الاستقبال ، وقد كانت السموات وخلقة بني آدم مرئية والأول هو الراجح (أَنَّهُ الْحَقُّ*) الضمير للقرآن أو للإسلام (مُحِيطٌ) أي بعلمه وقدرته وسلطانه.

٢٤٣

سورة الشورى

مكية إلا الآيات ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ و ٢٧ فمدنية وآياتها ٥٣ نزلت بعد فصلت

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الشورى) (حم عسق) الكلام فيه كسائر حروف الهجاء حسبما تقدم في سورة البقرة ، وقد حكى الطبري أن رجلا سأل ابن عباس عن حم عسق فأعرض عنه ، فقال حذيفة : إنما كرهها ابن عباس ، لأنها نزلت في رجل من أهل بيته اسمه عبد الله يبني مدينة على نهر من أنهار المشرق ، ثم يخسف الله بها في آخر الزمان ، والرجل على هذا أبو جعفر المنصور ، والمدينة بغداد. وقد ورد في الحديث الصحيح أنها يخسف بها (١) (كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ) الكاف نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه القرآن أو السورة ، وقيل : الإشارة لقوله : حم عسق فإن الله أنزل هذه الأحرف بعينها في كل كتاب أنزله ، وفي صحة هذا نظر (اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) اسم الله فاعل بيوحى ، وأما على قراءة يوحي بالفتح فهو فاعل بفعل مضمر ، دل عليه يوحى كأن قائلا قال : من الذي أوحى؟ فقيل : الله (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ) (٢) أي يتشققن من خوف الله وعظيم جلاله ، وقيل : من قول الكفار : اتخذ الله ولدا ، فهي كالآية التي في مريم قال ابن عطية : وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه : مردود لأن الله تعالى لا يوصف به (مِنْ فَوْقِهِنَ) الضمير للسموات والمعنى يتشققن من أعلاهن ، وذلك مبالغة في التهويل ، وقيل : الضمير للأرضين وهذا بعيد ، وقيل : الضمير للكفار كأنه قال : من فوق الجماعات الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السموات يتفطرن ، وهذا أيضا بعيد (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) عموم يراد به الخصوص ؛ لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض ، فهي كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [غافر : ٧]. وقيل : إنّ يستغفرون للذين آمنوا نسخ هذه الآية ،

__________________

(١). في الطبري حديث موقوف على ابن عباس بهذا المعنى وقد زالت دولة بني العباس عام ٦٥٦ ه‍ ، قبل ولادة الإمام ابن جزي بسنوات ، فالله أعلم بما سيكون.

(٢). قرأ نافع والكسائي : يكاد بالياء وقرأ الباقون : تكاد بالتاء.

٢٤٤

وهذا باطل ، لأن النسخ لا يدخل في الأخبار ، ويحتمل أن يريد بالاستغفار طلب الحلم عن أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ، ومعناه : الإمهال لهم ، وأن لا يعاجلوا بالعقوبة فيكون عاما ، فإن قيل : ما وجه اتصال قوله : والملائكة يسبحون الآية : بما قبلها؟ فالجواب أنا إن فسرنا تفطر السموات بأنه من عظمة الله ؛ فإنه يكون تسبيح الملائكة أيضا تعظيما له ، فينتظم الكلام ، وإن فسرنا تفطرها بأنه من كفر بني آدم ؛ فيكون تسبيح الملائكة تنزيها لله تعالى عن كفر بني آدم ، وعن أقوالهم القبيحة.

(أُمَّ الْقُرى) هي مكة ، والمراد أهلها ، ولذلك عطف عليه من حولها يعني من الناس (يَوْمَ الْجَمْعِ) يعني يوم القيامة وسمي بذلك لأن الخلائق يجتمعون فيه (أَمِ اتَّخَذُوا) أم منقطعة ، والأولياء هنا المعبودون من دون الله (فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) أي ما اختلفتم فيه أنتم والكفار من أمر الدين فحكمه إلى الله ؛ بأن يعاقب المبطل ويثيب المحق ؛ أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكموا فيه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كقوله : فردّوه إلى الله والرسول (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) يعني الإناث (وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً) يحتمل أن يريد الإناث أو الأصناف (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) معنى يذرؤكم يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن ، وقيل : يكثركم ، والضمير المجرور يعود على الجعل الذي يتضمنه قوله : جعل لكم ، وهذا كما تقول كلمت زيدا كلاما أكرمته فيه ، وقيل : الضمير للتزويج الذي دل عليه قوله أزواجا ، وقال الزمخشري : تقديره يذرؤكم في هذا التدبير. وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا ، والضمير في يذرؤكم خطاب للناس ؛ والأنعام غلّب فيه العقلاء على غيرهم ، فإن قيل : لم قال يذرؤكم فيه وهلا قال يذرؤكم به؟ فالجواب : أن هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير قاله الزمخشري (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنزيه لله تعالى عن مشابهة المخلوقين ، قال كثير من الناس : الكاف زائدة للتأكيد ، والمعنى ليس مثله شيء ، وقال الطبري وغيره ليست بزائدة ، ولكن وضع مثله موضع هو ، والمعنى ليس كهو شيء قال الزمخشري : وهذا كما تقول : مثلك لا يبخل ، والمراد : أنت لا تبخل ، فنفى البخل عن مثله والمراد نفيه عن ذاته.

(مَقالِيدُ) قد ذكر في [الزمر : ٦٣] (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً) اتفق

٢٤٥

دين سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات ، وذلك هو المراد هنا ، ولذلك فسره بقوله : أن أقيموا الدين يعني إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة ، وأما الأحكام الفروعية ، فاختلفت فيها الشرائع فليست تراد هنا (أَنْ أَقِيمُوا) يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلا من قوله : ما وصى أو في موضع خفض بدلا من به ، أو في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر ، أو تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) أي صعب الإسلام على المشركين (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ) الضمير في إليه يعود على الله تعالى ، وقيل على الدين (وَما تَفَرَّقُوا) يعني أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ) يعني القضاء السابق بأن لا يفصل بينهم في الدنيا (وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ) يعني المعاصرين لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : يعني العرب ، والكتاب على هذا القرآن (لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) الضمير للكتاب ، أو للدين أو لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَلِذلِكَ فَادْعُ) أي إلى ذلك الذي شرع الله ، فادع الناس فاللام بمعنى إلى ، والإشارة بذلك إلى قوله شرع لكم من الدين أو إلى قوله : ما تدعوهم إليه وقيل : إن اللام بمعنى أجل ، والإشارة إلى التفرق والاختلاف ، أي لأجل ما حدث من التفرق ادع إلى الله وعلى هذا يكون قوله : واستقم معطوفا ، وعلى الأول يكون مستأنفا فيوقف على فادع واستقم (كَما أُمِرْتَ) أي دم على ما أمرت به من عبادة الله وطاعته وتبليغ رسالته ، (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) الضمير للكفار ، وأهواؤهم ما كانوا يحبون من الكفر والباطل كله (وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) قيل : يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه ، ويحتمل أن يريد العدل في دعائهم إلى دين الإسلام ، أي أمرت أن أحملكم على الحق (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) أي لا جدال ولا مناظرة ، فإن الحق قد ظهر وأنتم تعاندون.

(وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ) أي يجادلون المؤمنين في دين الإسلام ، ويعني كفار قريش ، وقيل : اليهود (مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ) الضمير يعود على الله أي من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا في دينه ، وقيل : يعود على الدين وقيل : على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول أظهر وأحسن (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ) أي زاهقة باطلة (أَنْزَلَ الْكِتابَ) يعني جنس

٢٤٦

الكتاب (بِالْحَقِ) أي بالواجب أو متضمنا الحق (وَالْمِيزانَ) قال ابن عباس وغيره يعني : العدل ، ومعنى إنزال العدل ، إنزال الأمر به في الكتب المنزلة ، وقيل : يعني الميزان المعروف ، فإن قيل : ما وجه اتصال ذكر الكتاب والميزان بذكر الساعة؟ فالجواب أن الساعة يوم الجزاء والحساب ، فكأنه قال : اعدلوا وافعلوا الصواب قبل اليوم الذي تحاسبون فيه على أعمالكم (لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) جاء قريب ، بالتذكير ، لأن تأنيث الساعة غير حقيقي ، ولأن المراد به وقت الساعة (يَسْتَعْجِلُ بِهَا) أي يطلبون تعجيلها استهزاء بها ، وتعجيزا للمؤمنين (يُمارُونَ) أي يجادلون ويخالفون (يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ) يعني الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦] أي ما تقوم به الحياة ، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره ، والزائد خاص بمن شاء الله (حَرْثَ الْآخِرَةِ) عبارة عن العمل لها ، وكذلك حرث الدنيا ، وهو مستعار من حرث الأرض ؛ لأن الحراث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل (نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ) عبارة عن تضعيف الثواب (نُؤْتِهِ مِنْها) أي نؤته منها ما قدّر له ، لأن كل أحد لا بد أن يصل إلى ما قسم له (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) هذا للكفار ، أو لمن كان يريد الدنيا خاصة ، ولا رغبة له في الآخرة (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) أم منقطعة للإنكار والتوبيخ ، والشركاء الأصنام وغيرها ، وقيل : الشياطين (شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) الضمير في شرعوا للشركاء ، وفي لهم : للكفار ، وقيل : بالعكس والأول أظهر ولم يأذن بمعنى : لم يأمر ، والمراد بما شرعوا من البواطل في الاعتقادات ، وفي الأعمال ، كالبحيرة والوصيلة وغير ذلك.

(وَلَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ) أي لو لا القضاء السابق بأن لا يقضى بينهم في الدنيا لقضي بينهم فيها (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ) يعني في الآخرة (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) تقديره يبشر به ، وحذف الجار والمجرور (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) فيه أربعة أقوال : الأول أن القربى بمعنى القرابة ، وفي بمعنى من أجل ، والمعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم ؛ فالمقصد على هذا استعطاف قريش ، ولم يكن فيهم بطن

٢٤٧

إلا وبينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرابة : الثاني أن القربى بمعنى الأقارب ، أو ذوي القربى ، والمعنى إلا أن تودّوا أقاربي وتحفظوني فيهم ، والمقصد على هذا وصية بأهل البيت : الثالث أن القربى قرابة الناس بعضهم من بعض ، والمعنى أن تودوا أقاربكم ، والمقصود على هذا وصية بصلة الأرحام : الرابع أن القربى التقرّب إلى الله ، والمعنى إلا أن تتقربوا إلى الله بطاعته ، والاستثناء على القول الثالث والرابع منقطع ، وأما على الأول والثاني فيحتمل الانقطاع ، لأن المودّة ليست بأجر ، ويحتمل الاتصال على المجاز كأنه قال : لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة فجعل المودة كالأجر (يَقْتَرِفْ) أي يكتسب (نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) يعني مضاعفة الثواب.

(أَمْ يَقُولُونَ) أم منقطعة للإنكار والتوبيخ (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) فالمقصد بهذا قولان : أحدهما أنه رد على الكفار في قولهم افترى على الله كذبا : أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك ، ولكنك لم تفتر على الله كذبا فقد هداك وسددك ، والآخر أن المراد : إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار وتحمل أذاهم (وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ) هذا فعل مستأنف غير معطوف على ما قبله ، لأن الذي قبله مجزوم ، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله ويبدأ به ، وفي المراد به وجهان : أحدهما أنه من تمام ما قبله : أي لو افتريت على الله كذبا لختم على قلبك ومحا الباطل الذي كنت تفتريه لو افتريت ، والآخر أنه وعد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يمحو الله الباطل وهو الكفر ، ويحق الحق وهو الإسلام (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (١) عن هنا بمعنى من ، وكأنه قال التوبة الصادرة من عباده وقبول التوبة على ثلاثة أوجه : أحدها التوبة من الكفر فهي مقبولة قطعا والثاني التوبة من مظالم العباد فهي غير مقبولة حتى تردّ المظالم أو يستحل منها والثالث التوبة من المعاصي التي بين العبد وبين الله فالصحيح أنها مقبولة بدليل هذه الآية وقيل : إنها في المشيئة (وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا ، وأما العفو دون التوبة فهو على أربعة أقسام الأول العفو عن الكفر وهو لا يكون أصلا ، والثاني العفو عن مظالم العباد وهو كذلك والثالث العفو عن الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ، وهو حاصل باتفاق الرابع العفو عن الكبائر فمذهب أهل السنة أنها في المشيئة ، ومذهب المعتزلة أنها لا تغفر إلا بالتوبة (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معنى يستجيب يجيب والذين آمنوا مفعول ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي يجيبهم فيما يطلبون منه. وقال الزمخشري : أي أصله يستجيب للذين آمنوا فحذف اللام. والثاني أن معناه يجيب والذين

__________________

(١). قرأ حفص وغيره : ويعلم ما تفعلون بالتاء وقرأ الباقون : يفعلون بالياء.

٢٤٨

آمنوا فاعل أي يستجيب المؤمنون لربهم باتباع دينه والثالث أن معناه يطلب المؤمنون الإجابة من ربهم واستفعل هذا على بابه من الطلب ، والأول أرجح لدلالة قوله : ويزيدهم من فضله ؛ ولأنه قول ابن عباس ومعاذ بن جبل. (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي يزيدهم ما لا يطلبون ، زيادة على الاستجابة فيما طلبوا ، وهذه الزيادة روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنها الشفاعة والرضوان.

(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) أي بغى بعضهم على بعض ، وطغوا ؛ لأن الغنى يوجب الطغيان ، وقال بعض الصحابة : فينا نزلت لأنا نظرنا إلى أموال الكفار فتمنيناها (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) قيل لعمر رضي الله عنه : اشتد القحط وقنط الناس. فقال : الآن يمطرون ، وأخذ ذلك من هذه الآية ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اشتدي أزمة تنفرجي (١) (وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) قيل : يعني المطر فهو تكرار للمعنى الأول بلفظ آخر ، وقيل : يعني الشمس وقيل : بالعموم (وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) لا إشكال ؛ لأن الدواب في الأرض وأما في السماء فقيل : يعني الملائكة وقيل : يمكن أن تكون في السماء دواب لا نعلمها نحن وقيل : المعنى أنه بث في أحدهما فذكر الاثنين كما تقول في بني فلان كذا وإنما هو في بعضهم (وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) يريد جمع الخلق في الحشر يوم القيامة (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) المعنى أن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم وأموالهم ؛ إنما هي بسبب الذنوب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر (٢). وقرأ نافع وابن عامر بما كسبت بغير فاء على أن يكون ما أصابكم بمعنى الذي وقرأ الباقون بالفاء على أن يكون ما أصابكم شرطا (بِمُعْجِزِينَ) قد ذكر الجواري (٣) جمع جارية وهي السفينة (كَالْأَعْلامِ) جمع علم وهو الجبل (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ)

__________________

(١). أورده المناوي في التيسير وعزاه للقضاعي في الشهاب عن علي وفيه ضعف ونكارة.

(٢). لم أجده ومعناه صحيح وروى أحمد عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري حديثا يقاربه في المعنى ج ٣ ص ١٨ وأوله : ما يصيب المرء المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلّا كفّر الله به من خطاياه.

(٣). الجواري : قرأ نافع بإثبات الياء وصلا دون الوقف ، وقرأ أهل الكوفة والشام بدون ياء وصلا ووقفا.

٢٤٩

الضمير في يظللن للجواري وفي ظهره للبحر ، أي لو أراد الله أن يسكن الرياح لبقيت السفن واقفة على ظهر البحر ، فالمقصود تعديد النعمة في إرسال الرياح أو تهديد بإسكانه (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا) عطف على يسكن الريح ، ومعنى يوبقهن يهلكهن بالغرق ، من شدة الرياح العاصفة والضمير فيه للسفن ، وفي كسبوا لركابها من الناس والمعنى : أنه لو شاء لأغرقها بذنوب الناس (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي يعلمون أنه لا مهرب لهم من الله ، وقرأ نافع وابن عامر يعلم بالرفع على الاستئناف ، [وقرأ الباقون] بالنصب واختلف في إعرابه على قولين : أحدهما أنه نصب بإضمار أن بعد الواو لما وقعت بعد الشرط والجزاء ؛ لأنه غير واجب. وأنكر ذلك الزمخشري وقال : إنه شاذ فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، والثاني قول الزمخشري إنه معطوف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم ، قال : ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف في القرآن كثير ، ومنه قوله : ولنجعله آية للناس [مريم : ٢١] (كَبائِرَ الْإِثْمِ) ذكرنا الكبائر في [النساء : ٣١] وقيل : كبائر الإثم : هو الشرك ، والفواحش : هي الزنا واللفظ أعم من ذلك.

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) قيل : يعني الأنصار ، لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الإسلام ، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولا بصفات أبي بكر الصديق ، ثم صفات عمر بن الخطاب ، ثم صفات عثمان بن عفان ، ثم صفات علي بن أبي طالب ، فكونه جمع هذه الصفات ، ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك ، فأما صفات أبي بكر فقوله : الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ، وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن كان جميعهم متصفا بها ، لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره فقد روي : لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحهم (١) وورد : أنا مدينة الإيمان وأبو بكر بابها (٢) وقال أبو بكر : لو كشف الغطاء لما ازددت إلا يقينا ، والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان. أما صفات عمر فقوله : والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش لأن ذلك هو التقوى ، وقوله : وإذا ما غضبوا هم يغفرون ، وقوله : قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله نزلت في عمر ، وأما صفات عثمان فقوله : والذين استجابوا لربهم لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان تبعه ، وبادر إلى

__________________

(١). قال عنه في تخريج الإحياء : رواه البيهقي في الشعب موقوفا على عمر بإسناد صحيح.

(٢). المشهور : وعلى بابها وقد ذكره المناوي في التيسير وعزاه للعقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم وصححه عن ابن عباس. والحديث مدعوم بكثرة طرقه والله أعلم.

٢٥٠

الإسلام وقوله ، وأقاموا الصلاة ، لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت أمّن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما الآية : وروي أنه كان يحيي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن كله ، وقوله : وأمرهم شورى بينهم لأن عثمان ولي الخلافة بالشورى ، وقوله : ومما رزقناهم ينفقون ، لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة ، وأما صفة عليّ فقوله : والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصارا للحق ، وانظر كيف سمّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر : تقتلك الفئة الباغية فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : «فمن عفا وأصلح فأجره على الله» إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في الحسن : إن ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين (١) وقوله : ولمن انتصر بعد ظلمه ، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار قيام الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وقوله : «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس» إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم : أنهم جعلوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم (٢) ، وقوله : «ولمن صبر وغفر» الآية إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدّة بني أمية (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) سمى العقوبة باسم الذنب ، وجعلها مثلها تحرزا من الزيادة عليها (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : «ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل» وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله «والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» والمباح لا مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه أحدها أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل ، والثاني أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم ، تحرزا ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم ، والثالث إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى «فقاتلوا التي

__________________

(١). الحديث في البخاري رواه في كتاب الصلح ج ٣ / ١٧٠.

(٢). عند ما بويع عمر بن عبد العزيز منع السب وأبدله بتلاوة قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) إلخ [النحل : ٩٠].

٢٥١

تبغي» (يُعْرَضُونَ عَلَيْها) أي على النار (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) عبارة عن الذل والكآبة ، ومن الذل يتعلق بخاشعين (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) فيه قولان : أحدهما أنه عبارة عن الذل ، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة ، والآخر أنهم يحشرون عميا فلا ينظرون بأبصارهم ، وإنما ينظرون بقلوبهم واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري : والظرف يحتمل أن يريد به العين أو يكون مصدرا (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يتعلق بقال أو بخسروا (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ) يحتمل أن يكون من كلام الذين آمنوا أو مستأنفا من كلام الله تعالى (لا مَرَدَّ لَهُ) ذكر في غافر [١١] (مِنْ نَكِيرٍ) أي إنكار يعني لا تنكرون أعمالكم (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) قدم الإناث اعتناء بهنّ وتأنيسا لمن وهبهن له. قال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بأنثى قبل الذكر ، لأن الله بدأ بالإناث وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم‌السلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور ، وإبراهيم كان له ذكور دون إناث ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع الإناث والذكور ، ويحيى كان عقيما ، والظاهر أنها على العموم في جميع الناس ، إذ كل واحد منهم لا يخلو عن قسم من هذه الأقسام الأربعة التي ذكر ، وفي الآية من أدوات البيان التقسيم.

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) الآية : بين الله تعالى فيها كلامه لعباده ، وجعله على ثلاثة أوجه أحدها الوحي المذكور أولا وهو الذي يكون بإلهام أو منام والآخر أن يسمعه كلامه من وراء حجاب الثالث الوحي بواسطة الملك وهو قوله : أو يرسل رسولا يعني ملكا ، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي ، وهذا خاص بالأنبياء والثاني خاص بموسى وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ كلمه الله ليلة الإسراء ، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء كثيرا ، وقد يكون لسائر الخلق ومنه ، وأوحى ربك إلى النحل ومنه ؛ منامات الناس (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) قرأ نافع يرسل ويوحي بالرفع ، على تقدير أو هو يرسل والباقون

٢٥٢

بالنصب عطفا على وحيا لأن تقديره : أن يوحي عطف على أن المقدرة (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) الروح هنا القرآن ، والمعنى مثل هذا الوحي ، وهو بإرسال ملك أوحينا إليك القرآن ، والأمر هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور ، أو يكون من الأمر بالشيء (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) المقصد بهذا شيئان : أحدهما تعداد النعمة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ بأن علمه الله ما لم يكن يعلم. والآخر احتجاج على نبوته لكونه أتى بما لم يكن يعلمه ولا تعلمه من أحد ، فإن قيل : أما كونه لم يكن يدري الكتاب فلا إشكال فيه ، وأما الإيمان ففيه إشكال لأن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم؟ فالجواب أن الإيمان يحتوي على معارف كثيرة ، وإنما كمل له معرفتها بعد بعثه ، وقد كان مؤمنا بالله قبل ذلك ، فالإيمان هنا يعني به كمال المعرفة وهي التي حصلت له بالنبوة (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) الضمير للقرآن.

٢٥٣

سورة الزخرف

مكية إلا آية ٥٤ فمدنية وآياتها ٨٩ نزلت بعد الشورى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الزخرف) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) يعني القرآن ، والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البيّن ، أو المبيّن لغيره (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) أم الكتاب ، اللوح المحفوظ ، والمعنى : أن القرآن وصف في اللوح بأنه عليّ حكيم ، وقيل : المعنى أن القرآن نسخ بجملته في اللوح المحفوظ ، ومنه كان جبريل ينقله ، فوصفه الله بأنه علي حكيم ؛ لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ. والأول أظهر وأشهر (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً) الهمزة للإنكار والمعنى : أنمسك عنكم الذكر ، ونضرب من قولك : أضربت عن كذا : إذا تركته ، والذكر يراد به : القرآن ، أو التذكير ، والوعظ. وصفحا فيه وجهان : أحدهما أنه بمعنى الإعراض ، تقول : صفحت عنه إذا أعرضت عنه ؛ فكأنه قال : أنترك تذكيركم إعراضا عنكم؟ وإعراب صفحا على هذا مصدر من المعنى ، أو مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران ، فكأنه يقول : أنمسك عنكم الذكر عفوا عنكم وغفرانا لذنوبكم؟ وإعراب صفحا على هذا مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط ، والجواب في الكلام الذي قبله ، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله (أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله : (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ، فإن قيل : كيف قال : إن كنتم على الشرط بحرف إن التي معناها الشك ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف ، وتجهيلهم في ارتكابه ، فكأنه شيء لا يقع من عاقل ، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا.

٢٥٤

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية احتجاج على قريش ؛ لأنهم كانوا يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض ؛ وكانوا مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره ، ومقتضى جوابهم أن يقولوا : خلقهن الله ، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله بالعزيز العليم ؛ لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم ، وأما قوله : الذي جعل لكم فهو من كلام الله لا من كلامهم (مِهاداً) (١) أي فراشا على وجه التشبيه (سُبُلاً) أي طرقا تمشون فيها (ماءً بِقَدَرٍ) أي بمقدار ووزن معلوم وقيل : معناه بقضاء (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) تمثيل للخروج من القبور ؛ بخروج النبات من الأرض (الْأَزْواجَ كُلَّها) يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) الضمير يعود على ما تركبون (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ) يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان ، ويحتمل أن يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الإطلاق ، وكان بعض السلف إذا ركب دابة يقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، ثم يقول : (سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) أي مطيقين وغالبين (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) اعتراف بالحشر فإن قيل : ما مناسبة هذا للركوب؟ فالجواب : أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة ، أو سقوطه عن الدابة ، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعدا للموت الذي قد يعرض له ، وقيل يذكر عند الركوب ركوب الجنازة ، (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي له لله تعالى ، وهذا الكلام متصل بقوله : ولئن سألتهم الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله ، فكأنهم جعلوا جزءا من عباده نصيبا له وحظا دون سائر عباده. وقال الزمخشري : معناه أنهم جعلوا الملائكة جزءا منه وقال بعض اللغويين : الجزء في اللغة الإناث واستشهد على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع.

(أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ) أم للإنكار والرد على الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ومعنى أصفاكم : خصكم. أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهن أدنى ، وأصفاكم بالبنين وهم أعلى (٢) (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي إذا بشر بالأنثى ، وقد ذكر هذا

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : مهدا والباقون : مهادا.

(٢). هذا حسب معايير الزمان الجاهلي ، أما اليوم فالأمر مختلف.

٢٥٥

المعنى في النحل والمراد أنهم يكرهون البنات فكيف ينسبونها إلى الله؟ تعالى الله عن قولهم.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) المراد بمن ينشأ في الحلية النساء ، والحلية هي الحلي من الذهب والفضة ، وشبه ذلك. ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها. وقرئ (١) ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يربّى فيها ، والمقصد الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله. كأنه قال : أجعلتم لله من ينشأ في الحلية وذلك صفة النقص ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله : وهو في الخصام غير مبين ، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجّتها لنقص عقلها ، وقلّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره : أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، فحكى عنهم ثلاثة أقوال شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد ، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون البنين ، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا ، وقرئ (٢) عند الرحمن بالنون ، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم كقوله والذين عند ربك ، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضا الاختصاص والتشريف (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) (٣) هذا ردّ على العرب في قولهم : إن الملائكة إناث ، والمعنى لم يشهدوا خلق الملائكة ، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة ، ويسألون عنها يوم القيامة (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) الضمير في قالوا للكفار ، وفي عبدناهم للملائكة ، وقال ابن عطية للأصنام : والأول أظهر وأشهر ، والمعنى : احتجاج احتجّ به الذين عبدوا الملائكة ، وذلك أنهم قالوا : لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم ، فكونه يمهلنا وينعم علينا : دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم ، ثم رد الله عليهم بقوله (ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) يعني أن قولهم بلا دليل وحجة ، وإنا هو تخرّص منهم (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل القرآن ، وهذا أيضا رد عليهم ؛ لكونهم ليس لهم كتاب يحتجون به (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) أي على دين وطريقة ، والمعنى أنهم ليس لهم حجة ، وإنما هم مقلدو آبائهم (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية المعنى كما اتبع

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتشديد والباقون : ينشأ بالتخفيف.

(٢). قرأ نافع وابن عامر وابن كثير : عند الرحمن وقرأ الباقون : عباد الرحمن.

(٣). قرأ نافع أأشهدوا.

٢٥٦

هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة اتبع كل من كان قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة ، بل بطريق التقليد المذموم قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم هذا رد على الذين اتبعوا آباءهم ، والمعنى قل لهم أتتبعونهم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم ، وقرئ (١) قال أو لو جئتكم ، والفاعل ضمير يعود على النذير المتقدم ، وأما قراءة قل بالأمر فهو خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمره الله أن يقول ذلك لقريش وقيل : هو للنذير المتقدم ، أمره الله أن يقول ذلك لقومه ، والأول أظهر ، وعلى هذا تكون هذه الجملة اعتراضا بين قصة المتقدمين ، فإن قوله قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون : حكاية عن الكفار المتقدمين ، وكذلك قوله : فانتقمنا منهم : يعني من المتقدمين.

(إِنَّنِي بَراءٌ) أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة ، ولذلك استوى فيها الواحد والجماعة كعدل وشبهه (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) يحتمل أن يكون استثناء منقطعا ، وذلك إن كانوا لا يعبدون الله ، أو يكون متصلا إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، وإعرابه على هذا بدل مما تعبدون فهو في موضع خفض ، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب (سَيَهْدِينِ) قال هنا : سيهدين ، وقال مرة أخرى : فهو يهدين ، ليدل على أن الهداية في الحال والاستقبال [من الله] (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه‌السلام ، وقيل على الله تعالى ، والأول أظهر ، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي : إنني براء مما تعبدون ، ومعناه : التوحيد ، ولذلك قيل : يعود على الإسلام لقوله : هو سماكم المسلمين من قبل ، وقيل : يعود على لا إله إلا الله ، والمعنى متقارب : أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته ؛ لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد ، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبدا (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) الإشارة بهؤلاء إلى قريش ، وهذا الكلام متصل بما قبله ، لأن قريشا من عقب إبراهيم عليه‌السلام ، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم ، بل متعتهم بالنعم والعافية ، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله (حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) الضمير في قالوا لقريش ، والقريتان مكة والطائف ، ومن القريتين : معناها من إحدى القريتين ، كقولك : يخرج منهما

__________________

(١). قرأ حفص وابن عامر : قال وقرأ الباقون : قل.

٢٥٧

اللؤلؤ والمرجان : أي من أحدهما ، وقيل : معناه على رجل من رجلين من القريتين ، فالرجل الذي من مكة الوليد بن المغيرة ، وقيل : عتبة بن ربيعة ، والرجل الذي من الطائف عروة بن مسعود ، وقيل حبيب بن عمير ، ومعنى الآية أن قريشا استبعدوا نزول القرآن على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واقترحوا أن ينزل على أحد هؤلاء ، وصفوه بالعظمة يريدون الرئاسة في قومه وكثرة ماله ، فردّ الله عليهم بقوله (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) يعني أن الله يخص بالنبوّة من يشاء من عباده ؛ على ما تقتضيه حكمته وإرادته ، وليس ذلك بتدبير المخلوقين ، ولا بإرادتهم ، ثم أوضح ذلك بقوله (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) أي كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية ، وإذا كنا لم نهمل الحظوظ الفانية الحقيرة ، فأولى وأحرى أن لا نهمل الحظوظ الشريفة الباقية (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) وهو من التسخير في الخدمة : أي رفعنا بعضهم فوق بعض ليخدم بعضهم بعضا (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) هذا تحقير للدنيا ، والمراد برحمة ربك هنا النبوة وقيل : الجنة.

(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) الآية : تحقير أيضا للدنيا ، ومعناها لو لا أن يكفر الناس كلهم ، لجعلنا للكفار سقفا من فضة ، وذلك لهوان الدنيا على الله ، كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها جرعة ماء (١) (وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) المعارج : الأدراج والسلالم ، ومعنى يظهرون يرتفعون ، ومنه «فما استطاعوا أن يظهروه» والسرر جمع سرير ، والزخرف الذهب (٢) ، وقيل أثاث البيت من الستور والنمارق ، وشبه ذلك وقيل : هو التزويق والنقش وشبه ذلك من التزيين ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس : ٢٤] (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) يعش من قولك : عشي الرجل إذا أظلم بصره ، والمراد به هنا ظلمة القلب والبصيرة ، وقال الزمخشري : يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه ، ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى ، وليس به آفة ، فالفرق بينهما كالفرق بين

__________________

(١). أورده المناوي في التيسير وعزاه للترمذي والضياء المقدسي عن سهل بن سعد الساعدي وبلفظ : تزن بدل : تعدل ، وشربة بدل : جرعة.

(٢). قوله : لما متاع قرأ عاصم وحمزة بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف.

٢٥٨

قولك : عمي وتعامى ، فمعنى القراءة بالضم : يتجاهل ويجحد معرفته بالحق ، والظاهر أن ذلك عبارة عن الغفلة وإهمال النظر ، وذكر الرحمن ، وقال الزمخشري يريد به القرآن ، وقال ابن عطية : يريد به ما ذكر الله به عباده من المواعظ ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد لله ، ومعنى الآية : أن من غفل عن ذكر الله يسّر الله له شيطانا يكون له قرينا ، فتلك عقوبة على الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان ، كما أن من داوم على الذكر تباعد عنه الشيطان.

(وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الضمير في إنهم للشياطين ، وضمير المفعول في يصدونهم لمن يعش عن ذكر الرحمن ، وجمع الضميرين لأن المراد به جمع (حَتَّى إِذا جاءَنا) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر جاءانا بضمير الاثنين وهما من يعش وشيطانه ، وقرأ الباقون بغير ألف على أنه ضمير واحد وهو من يعش ، والضمير في قال : لمن يعش ، وقيل : للشيطان (بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ) فيه قولان. أحدهما أنه يعني المشرق والمغرب ، وغلّب أحدهما في التشبيه ، كما قيل : القمران ، والآخر : أنه يعني المشرقين والمغربين ، وحذف المغربين لدلالة المشرقين عليه (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) هذا كلام يقال للكفار في الآخرة ، ومعناه أنهم لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب ، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا ، إذا رأى غيره قد أصابه مثل الذي أصابه ، والفاعل في ينفعكم قوله : «إنكم في العذاب مشتركون» ، وإذ ظلمتم : تعليل معناه : بسبب ظلمكم ، وقيل : الفاعل مضمر ، وهو التبري الذي يقتضيه قوله : «يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين» وأنكم على هذا تعليل ، والأول أرجح (أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ) الآية : خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد بالصم والعمي الكفار ؛ إذ كانوا لا يعقلون براهين الإسلام (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ) إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة ، ومقصد الآية وعيد للكفار ، والمعنى إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم فإنا سننتقم منهم بعد وفاتك ، وإن أخرنا وفاتك إلى حين الانتقام منهم فإنا عليهم مقتدرون ، وهذا الانتقام يحتمل أن يريد به قتلهم يوم بدر ، وفتح مكة وشبه ذلك من الانتقام في الدنيا ، أو يريد به عذاب الآخرة ، وقيل : إن الضمير في منهم منتقمون للمسلمين ، وأن معنى ذلك أن الله قضى أن ينتقم منهم بالفتن والشدائد ، وإنه أكرم نبيه عليه‌السلام بأن توفاه قبل أن يرى الانتقام من أمته ، والأول أشهر وأظهر.

(وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) الضمير في إنه للقرآن أو للإسلام ، والذكر هنا بمعنى

٢٥٩

الشرف ، وقوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم قريش وسائر العرب ، فإنهم نالوا بالإسلام شرف الدنيا والآخرة ، ويكفيك أن فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ، وصارت فيهم الخلافة والملك ، وورد عن ابن عباس أنه لما نزلت هذه الآية علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الأمر بعده لقريش ، ويحتمل أن يريد بالذكر التذكير والموعظة ، فقومه على هذا أمته كلهم وكل من بعث إليهم (وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) أي تسألون عن العمل بالقرآن وعن شكر الله عليه (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) إن قيل : كيف أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل الرسل المتقدّمين وهو لم يدركهم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنه رآهم ليلة الإسراء. الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك. الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة ، وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله ، بحيث لو سألوا : هل مع الله آلهة يعبدون ؛ لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) الآيات هنا المعجزات ؛ كقلب العصا حية ، وإخراج اليد بيضاء وقيل : البراهين والحجج العقلية ، والأول أظهر ومعنى أكبر من أختها أنها في غاية الكبر والظهور ، ولم يرد تفضيلها على غيرها من الآيات ، إنما المعنى أنها إذا نظرت وجدت كبيرة ، وإذا نظرت غيرها وجدت كبيرة فهو كقول الشاعر [وهو عبيد بن الأبرص أو غيره] :

من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

هكذا قال الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يريد ما نريهم من آية إلا هي أكبر مما تقدمها ، فالمراد أكثر من أختها المتقدّمة عليها.

(وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ظاهر كلامهم هذا التناقض ، فإن قولهم : يا أيها الساحر يقتضي تكذيبهم له ، وقولهم : ادع لنا ربك يقتضي تصديقه ، والجواب من وجهين : أحدهما أن القائلين لذلك كانوا مكذبين ، وقولهم (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) يريدون على قولك وزعمك ، وقولهم : إننا لمهتدون وعد نووا خلافه ، والآخر : أنهم كانوا مصدّقين ، وقولهم : يا أيها الساحر ؛ إما أن يكون عندهم غير مذموم ، لأن السحر كان علم أهل زمانهم ، وكأنهم قالوا : يا أيها العالم ، وإما أن يكون ذلك اسما قد ألفوا تسمية موسى به من أول ما جاءهم ، فنطقوا به بعد ذلك من غير اعتقاد معناه (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) يحتمل أنه ناداهم بنفسه أو أمر مناديا ينادي فيهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) قصد بذلك الافتخار على

٢٦٠