التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

سبب رزقكم التكذيب ، ويحتمل أن يكون مفعولا من أجله تقديره : تجعلون رزقكم حاصلا من أجل أنكم تكذبون ، وأما على القول الأول فإعراب أنكم تكذبون مفعول لا غير.

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) لو لا هنا عرض والضمير في بلغت للنفس ، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وبلوغها للحلقوم حين الموت ، والفعل الذي دخلت عليه لو لا هو قوله ترجعونها أي : هلا رددتم النفس حين الموت ، ومعنى الآية احتجاج على البشر وإظهار لعجزهم لأنهم إذا حضر أحدهم الموت لم يقدروا أن يردوا روحه إلى جسده ، وذلك دليل على أنهم عبيد مقهورون (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) هذا خطاب لمن يحضر الميت من أقاربه وغيرهم ، يعني تنظرون إليه ولا تقدرون له على شيء (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) يحتمل أن يريد قرب نفسه تعالى بعلمه واطلاعه ، أو قرب الملائكة الذين يقبضون الأرواح ، فيكون من قرب المسافة (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) إن أراد بقوله نحن أقرب الملائكة فقوله : لا تبصرون من رؤية العين ، وإن أراد نفسه تعالى فهو من رؤية القلب (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) لو لا هنا عرض كالأولى وكررت للتأكيد والبيان لما طال الكلام ، والفعل الذي دخلت عليه لو لا الأولى والثانية قوله ترجعونها أي : هلا رددتم النفس إلى الجسد إذا بلغت الحلقوم ؛ إن كنتم غير مدينين ، وغير مربوبين ومقهورين ، فافعلوا ذلك إن كنتم صادقين في كفركم. وترتيب الكلام : فلو لا ترجعون النفس إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين فارجعوا إن كنتم صادقين (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) الضمير في كان للمتوفي وكرر هنا ما ذكره في أول السورة من تقسيم الناس إلى ثلاثة أصناف السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فالمراد بالمقربين هنا السابقون المذكورون هناك (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) الروح الاستراحة وقيل : الرحمة روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ فروح بضم الراء ومعناه الرحمة وقيل : الخلود أي بقاء الروح وأما الريحان فقيل : إنه الرزق وقيل : الاستراحة وقيل : الطيب وقيل الريحان المعروف وفي قوله : روح وريحان ضرب من ضروب التجنيس.

(فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) معنى هذا على الجملة نجاة أصحاب اليمين وسعادتهم ، والسلام هنا يحتمل أن يكون بمعنى السلامة أو التحية ، والخطاب في ذلك يحتمل أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لأحد من أصحاب اليمين ؛ فإن كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالسلام بمعنى السلامة والمعنى : سلام لك يا محمد منهم أي لا ترى منهم إلا السلامة من العذاب ، وإن كان الخطاب لأحد من أصحاب اليمين فالسلام بمعنى التحية والمعنى : سلام لك أي تحية لك يا صاحب اليمين من إخوانك ، وهم أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك فهو كقوله : إلا قيلا سلاما سلاما ، أو يكون بمعنى السلامة والتقدير : سلامة لك يا صاحب اليمين ، ثم

٣٤١

يكون قوله : من أصحاب اليمين خبر ابتداء مضمر تقديره أنت من أصحاب اليمين (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) يعني الكفار وهم أصحاب الشمال وأصحاب المشأمة (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) النزل أول شيء يقدّم للضيف (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) الإشارة إلى ما تضمنته هذه السورة من أحوال الخلق في الآخرة ، وحق اليقين معناه : الثابت من اليقين ، وقيل : إن الحق واليقين بمعنى واحد ، فهو من إضافة الشيء إلى نفسه كقوله : مسجد الجامع ، واختار ابن عطية أن يكون كقولك في أمر تؤكده : هذا يقين اليقين أو صواب الصواب ، بمعنى أنه نهاية الصواب (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال عليه‌السلام :

اجعلوها في سجودكم ، فلذلك استحب مالك وغيره أن يقول في السجود سبحان ربي الأعلى وفي الركوع سبحان ربي العظيم وأوجبه الظاهرية ، ويحتمل أن يكون المعنى تسبيح الله بذكر أسمائه ، والاسم هنا جنس الأسماء والتعظيم صفة للرب أو يكون الاسم هنا واحدا والعظيم صفة له ، وكأنه أمره أن يسبح بالاسم الأعظم. ويؤيد هذا ويشير إليه اتصال سورة الحديد بها وفي أولها التسبيح وجملة من أسماء الله وصفاته ، قال ابن عباس : اسم الله العظيم الأعظم موجود في ست آيات من أول سورة الحديد ، وروي أن الدعاء عند قراءتها مستجاب.

٣٤٢

سورة الحديد

مدنية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الزلزلة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات يحتمل أن يكون حقيقة ، أو أن يكون بلسان الحال ؛ لأن كل ما في السموات والأرض دليل على وجود الله وقدرته ، وحكمته ، والأول أرجح لقوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] ، وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي ، وفي الجمعة والتغابن بلفظ يسبح المضارع ، وكل واحد منهما يقتضي الدوام (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية (وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) أي الظاهر للعقول بالأدلة ، والبراهين الدالة على الباطن ، الذي لا تدركه الأبصار ، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته ، وقيل : الظاهر : العالي على كل شيء فهو من قولك : ظهرت على الشيء إذا علوت عليه ، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه ، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها ، مع اختلاف معانيها ، وفي ذلك مطابقة لفظية ، وهي من أحسن أدوات البيان (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد ذكر في الأعراف [٥٣] وكذلك ما بعده (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على تأويل هذه الآية بذلك (يُولِجُ اللَّيْلَ) ذكر في الحج ولقمان [٢٩] (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته ، وروي أنها نزلت في الإنفاق في غزوة تبوك ، وعلى هذا روي أن قوله (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فإنه جهز جيش العسرة يومئذ ،

٣٤٣

ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس ، وقوله مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله ؛ لأنه خلقها ، ولكنه متّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه ، ويحتمل أن يكون جعلكم مستخلفين عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال ، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم ، كما خلفها لكم من كان قبلكم ، والمقصود على كل وجه : تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله : ما لكم استفهام يراد به الإنكار. ولا تؤمنون في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. في قوله والرسول يدعوكم واو الحال (وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان ، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم ؛ حين أخرجهم من ظهر آدم ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا : بلى.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ) يعني سيدنا محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص ، والآيات هنا القرآن (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية : معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) الفتح هنا فتح مكة ، وقيل : صلح الحديبية ، والأول أظهر وأشهر ، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات ؛ بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة ، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك ، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفا ، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد ، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرا ممن أنفق في حال الرخاء ، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله : أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه (١) ، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة ، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري ج ٣ ص ١١ ، ٦٣.

٣٤٤

كل واحدة من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده ؛ وعدهم الله الجنة.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) ذكر في [البقرة : ٢٤٥] (يَوْمَ تَرَى) العامل في الظرف أجر كريم أو تقدير اذكر (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) قيل : إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان ، والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة ، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور يضيء قدّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل : يكون أصله في إيمانهم يحملونه فينبسط نوره قدامهم ، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه ، فمنهم من يكون نوره كالنخلة ، ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه ، ومنهم من يضيء مرة ويهمّ بالإطفاء مرة ، قال ابن عطية : ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتق بالشمعة قدّام معتقه إذا مات (بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ) أي يقال لهم ذلك.

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) يوم بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم ، أو بمحذوف : تقديره اذكر ومعنى الآية : أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورا فيبقى نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين ، فيقول المنافقون للمؤمنين ، انظرونا نقتبس من نوركم أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا : انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف ، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر أي انظروا إلينا ، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاءوا بنورهم. ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى ، وقرئ أنظرونا (٢) بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نلحقكم (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين ، أو قول الملائكة ومعناه الطرد للمنافقين ، والتهكم بهم ؛ لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور ، ووراءكم ظرف العامل فيه ارجعوا وقيل : إنه لا موضع له من الإعراب ، وأنه كما لو قال : ارجعوا ومعنى هذا الرجوع ، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور ، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين ، وتنحوا عنا فالتمسوا نورا آخر ، فلا سبيل لكم إلى هذا النور (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ) أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم ، وفي ذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل : إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار. وقيل : هو الجدار الشرقي من بيت المقدس وهذا بعيد

__________________

(١). بقية الآية : فيضاعفه له. قرأ عاصم بفتح الفاء وقرأ نافع وغيره فيضاعفه بضم الفاء وقرأ ابن كثير : فيضعّفه.

(٢). قرأ حمزة : أنظرونا بهمزة القطع أي : أمهلونا. وقال الفراء هي أيضا بمعنى : انتظرونا.

٣٤٥

(باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) باطنه هو جهة المؤمنين ، وظاهره هو جهة المنافقين وهي خارجه. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون للسور أو للباب والأول أظهر (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم : ألم نكن معكم في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان (فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي أهلكتموها وأضللتموها بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) أي أبطأتم بإيمانكم وقيل : تربصتم الدوائر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالمسلمين (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في الإيمان (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) أي طول الأمل والتمني ، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين ، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) أي الفتح وظهور الإسلام ، أو موت المنافقين على الحال الموجبة للعذاب (الْغَرُورُ) هو الشيطان (هِيَ مَوْلاكُمْ) أي هي أولى بكم ، وحقيقة المولى الولي الناصر ، فكان هذا استعارة منه ، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (١) معنى ألم يأن : ألم يحن. يقال : أنى الأمر إذا حان وقته ، وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر ، أو التذكير بالمواعظ وهذه آية موعظة وتذكير قال ابن عباس : عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن ، وسمع الفضيل بن عياض قارئا يقرأ هذه الآية فقال : قد آن فكان سبب رجوعه إلى الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابن المبارك ، وتاب إلى الله (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) عطف ولا يكونوا على أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيا ، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) أي مدة الحياة وقيل : انتظار القيامة ، وقيل : انتظار الفتح والأول أظهر (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات ، وقيل : إنه تمثيل للقلوب أي : يحيى الله القلوب بالمواعظ كما يحيى الأرض بالمطر ، وفي هذا تأنيس للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم ، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) بتشديد الصاد من الصدقة وأصله المتصدقين ، وكذلك

__________________

(١). بقية الآية : وما نزل من الحق. هكذا قرأها نافع وحفص وقرأ الباقون : وما نزّل من الحق بالتشديد.

٣٤٦

قرأ أبيّ بن كعب وقرأ بالتخفيف من التصديق ، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام ، (وَأَقْرَضُوا اللهَ) معطوف على المعنى ، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا ، وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله : من ذا الذي يقرض الله (الصِّدِّيقُونَ) مبالغة من الصدق أو من التصديق ، وكونه من الصدق أرجح ؛ لأن صيغة فعّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر ، وقد حكي بناؤها من رباعي كقولهم : رجل مسّيك من أمسك (وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده ، أو يكون معطوفا على الصديقين ، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان : أحدهما أنه جمع شهيد في سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد ، ويراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأنهم يشهدون على قومهم ، وإن كان معطوفا ففي المعنى قولان ، أحدهما : أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء : أي جمعوا الوصفين ، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مؤمنو أمتي شهداء (١) وتلا هذه الآية ، والآخر أنه جمع شاهد ، لأن المؤمنين يشهدون على الناس كقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ ، أو خبر عن المؤمنين إن كان الشهداء معطوفا ، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة ، حسبما ذكره في هذه السورة ، وقيل : هو عبارة عن الهدى والإيمان ، (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه ، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله : كفرت الحبّ إذا سترته تحت الأرض : وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة ، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب ، وقيل : أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر ؛ لأنهم أشد إعجابا بالدنيا وأكثر حرصا عليها.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة ، فقيل : المعنى كونوا في أول صف من القتال ، وقيل : احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام ، وقيل : كونوا أول داخل إلى المسجد ، وأول خارج منه وهذه أمثلة ، والمعنى العام : المسابقة إلى جميع الأعمال الصالحات ، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت

__________________

(١). روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى البراء بن عازب.

٣٤٧

أفضل (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في آل عمران [١٣٣] ، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» (١) وعرشه على الماء ، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من خير أو شر ، وقيل : أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر ، وخص ذلك بالذكر لأنه أهم على الناس ، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك ، وفي أنفسكم يعني الموت ، والفقر ، وغير ذلك ونبرأها معناه : نخلقها والضمير يعود على المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض ، وقيل : يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في كلها (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم ، ومعنى لا تأسوا : لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على ما فاتكم منها ولا تفرحوا فيها ، وقرأ الجمهور بما آتاكم بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا ، وقرأ أبو عمرو بما أتاكم بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل : إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أتي بمال كثير ؛ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا ، فالجواب : أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان ، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم (كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) المختال صاحب الخيلاء ، والفخور شديد الفخر على الناس (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) (٢) بدل من كل مختال فخور أو خبر ابتداء مضمر تقديره : هم الذين أو منصوب بإضمار : أعني أو مبتدأ وخبره محذوف (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) الكتاب هنا جنس الكتب والميزان العدل وقيل : الميزان الذي يوزن به ، وروي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له : مر قومك يزنوا به (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل : بل أنزله حقيقة ، لأن آدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يعني أنه يعمل منه سلاح

__________________

(١). لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.

(٢). بقية الآية : فإن الله هو الغني الحميد. قرأ نافع وابن عامر : فإن الله الغني الحميد.. بدون هو.

٣٤٨

للقتال ولذلك قال : وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس : سكك الحرث والمسامير وغير ذلك (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون ، وأكثرهم فاسقون لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.

(وَقَفَّيْنا) ذكر في البقرة [٨٧] (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) هذا ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بأنهم رحماء بينهم (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) الرهبانية هي الانفراد في الجبال ، والانقطاع عن الناس في الصوامع ، ورفض النساء وترك الدنيا ، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم ، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية ، وابتدعوها صفة للرهبانية ، والجعل هنا بمعنى الخلق. والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها ؛ لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله ، فأعربوها على مذهبهم ، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) كتبنا هنا بمعنى ، فرضنا وشرعنا وفي هذا قولان : أحدهما أن الاستثناء منقطع ، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ، ابتغاء رضوان الله ، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله «ابتدعوها» ولقراءة عبد الله بن مسعود : ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) أي لم يدوموا عليها ، ولم يحافظوا على الوفاء بها ، يعني أن جميعهم لم يرعوها وإن رعاها بعضهم. والضمير في رعوها للذين ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامها ، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم ، لأن من دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل : الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم.

(وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) إن قيل : كيف خاطب الذين آمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان وأثبتوا عليه ، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى : يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤيد هذا قوله : يؤتكم كفلين من رحمته أي نصيبين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي (١) الحديث (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) يحتمل أن يريد النور

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي موسى الأشعري ج ٤ ص ٤٠٢ ، ٤٠٥.

٣٤٩

الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة ، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة ، ويؤيد الثاني قوله : وجعلنا له نورا يمشي به في الناس (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لا في قوله لئلا زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب وكذلك قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود لكيلا يعلم ، والمعنى : إن كان الخطاب لأهل الكتاب : يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء من فضل الله الذي وعد من آمن منكم ، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة ، لأنهم لم يسلموا ، فلم ينالوا شيئا ، من ذلك ، وإن كان الخطاب للمسلمين ، فالمعنى : ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئا مما أعطى الله المسلمين من تضعيف الأجر والنور والمغفرة ، وقد روي في سبب نزول الآية : أن اليهود افتخرت على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم ، وهو يقوي هذا القول ، وروي أيضا أن سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك.

٣٥٠

سورة المجادلة

مدنية وآياتها ٢٢ نزلت بعد المنافقون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) نزلت الآية في خولة بنت حكيم ، وقيل خولة بنت ثعلبة ، وقيل خولة بنت خويلد ، وقيل : اسمها جميلة وكانت امرأة أوس بن الصامت الأنصاري أخي عبادة بن الصامت. فظاهر منها ، وكان الظهار في الجاهلية يوجب تحريما مؤبدا ، فلما فعل أوس ذلك جاءت امرأته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوسا أكل شبابي ونثرت له بطني ، فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما رأيتك إلا قد حرمت عليه ، فقالت يا رسول الله لا تفعل إني وحيدة ، ليس لي أهل سواه ، فراجعها رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بمثل مقالته فراجعته ، فهذا هو جدالها (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) كانت تقول اللهم : إني أشكو إليك حالي وانفرادي وفقري ، وروي أنها كانت تقول : اللهم إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) المحاورة هي المراجعة في الكلام قالت عائشة رضي الله عنها : سبحان من وسع سمعه الأصوات ، لقد كنت حاضرة وكان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع الله كلامها ، ونزل القرآن في ذلك فبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى زوجها وقال له : أتعتق رقبة؟ ، فقال : والله ما أملكها. فقال : أتصوم شهرين متتابعين؟ ، فقال والله ، ما أقدر ، فقال له : أتطعم ستين مسكينا؟ فقال لا أجد إلا أن يعينني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعونة وصلاة ، يريد الدعاء فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا. وقيل : بثلاثين صاعا ودعا له ، فكفّر بالإطعام وأمسك زوجته.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) قرئ يظاهرون (١) بألف بعد الظاء وبحذفها

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويظّهّرون بتشديد الظاء وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : يظّاهرون. وقرأ عاصم يظاهرون.

٣٥١

وبالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو إيقاع الظهار ، والظهار المجمع عليه هو أن يقول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي ، ويجري مجرى ذلك عند مالك تشبيه الزوجة بكل امرأة محرّمة على التأبيد ، كالبنت والأخت وسائر المحرمات بالنسب ، والمحرمات بالرضاع والمصاهرة ، سواء ذكر لفظ الظهر أو لم يذكره كقوله : أنت علي كأمي أو كبطن أمي أو يدها أو رجلها خلافا للشافعي فإن ذلك كله عنده ليس بظهار. لأنه وقف عند لفظ الآية وقاس مالك عليها لأنه رأى أن المقصد تشبيه حلال بحرام (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) ردّ الله بهذا على من كان يوقع الظهار ويعتقده حقيقة ، وأخبر تعالى : أن تصير الزوجة أمّا باطل ، فإن الأم في الحقيقة إنما هي الوالدة (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) أخبر تعالى أن الظهار منكر وزور ، فالمنكر هو الذي لا تعرف له حقيقة ، والزور هو الكذب. وإنما جعله كذبا لأن المظاهر يصيّر امرأته كأمه. وهي لا تصير كذلك أبدا. والظهار محرم ويدل على تحريمه أربعة أشياء أحدها قوله تعالى : ما هن أمهاتهم فإن ذلك تكذيب للمظاهر والثاني أنه سماه منكرا والثالث أنه سماه زورا والرابع قوله : (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فإن العفو والمغفرة لا تقع إلا عن ذنب وهو مع ذلك لازم للمظاهر حتى يرفعه بالكفارة (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) جعل الله الكفارة في الظهار (١) على ثلاثة أنواع مرتبة لا ينتقل إلى الثاني حتى يعجز عن الأول ولا ينتقل إلى الثالث حتى يعجز عن الثاني فالأول تحرير رقبة والثاني صيام شهرين متتابعين والثالث إطعام ستين مسكينا والطعام يكون من غالب قوت البلد (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) مذهب مالك والجمهور أن المسيس هنا يراد به الوطء وما دونه من اللمس والتقبيل فلا يجوز للمظاهر أن يفعل شيئا من ذلك حتى يكفر ، (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا) قال ابن عطية : الإشارة إلى الرخصة في النقل من التحرير إلى الصوم وقال الزمخشري : المعنى : ذلك البيان والتعليم لتؤمنوا ، وهذا أظهر لأنه أعم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ) أي يخالفون ويعادون (كُبِتُوا) أي هلكوا وقيل : لعنوا وقيل : كبت الرجل إذا بقي خزيان ونزلت الآية في المنافقين واليهود (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) يحتمل أن يكون النجوى هنا بمعنى الكلام الخفي ، فيكون ثلاثة مضاف إليه بمعنى

__________________

(١). الظهار من الأمور التي أصبحت من الماضي ولا حاجة إلى كل ما ذكره المصنف ولذلك رأيت الاختصار أولى.

٣٥٢

الجماعة من الناس فيكون ثلاثة بدل أو صفة ، والأول أحسن (إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) يعني بعلمه وإحاطته ، وكذلك سادسهم ، وهو معهم أينما كانوا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) نزل في قوم من اليهود كانوا يتناجون فيما بينهم ويتغامزون على المؤمنين فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فعادوا ، وقيل : نزلت في المنافقين ، والأول أرجح لقوله : (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) لأن هذا من فعل اليهود والأحسن أن المراد اليهود والمنافقين معا لقوله : ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم فنزلت الآية في الطائفتين (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) كانت اليهود يأتون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقولون : السام عليك يا محمد بدلا من السلام : عليكم. والسام : الموت. وهو ما أرادوه بقولهم وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لهم : وعليكم. فسمعتهم عائشة يوما فقالت : بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مهلا يا عائشة إن الله يكره الفحش والتفحش فقالت : أما سمعت ما قالوا؟ قال أما سمعت ما قلت لهم إني قلت : وعليكم. ويريد بقوله ما لم يحيك به الله قوله تعالى : قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى [النمل : ٥٩] (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) كانوا يقولون : لو كان نبيا لعذبنا الله بإذايته فقال الله (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) أي يكفيهم ذلك عذابا (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) قيل : يعني النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، وحذف وصفها بذلك لدلالة الأول عليه وقيل : أراد نجوى اليهود والمنافقين ويؤيد هذا قوله : ليحزن الذين آمنوا.

(إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا) اختلف في سبب نزول الآية فقيل : نزلت في مقاعد الحرب والقتال ، وقيل : نزلت بسبب ازدحام الناس ، في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحرصهم على القرب منه ، وقيل : أقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوما ليجلس أشياخا من أهل بدر في مواضعهم ، فنزلت الآية. ثم اختلفوا هل هي مقصورة على مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو هي عامة في جميع المجالس؟ فقال قوم إنها مخصوصة ويدل على ذلك قراءة المجلس بالإفراد (١) ، وذهب الجمهور إلى أنها عامة ويدل على ذلك قراءة المجالس بالجمع ، وهذا هو الأصح ويكون المجلس بالإفراد على هذا للجنس ، والتفسيح المأمور به

__________________

(١). قرأ المجالس بالجمع عاصم وقرأ الباقون : المجلس بالإفراد..

٣٥٣

هو التوسع دون القيام ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يقم أحد من مجلسه ثم يجلس الرجل فيه ، ولكن تفسحوا وتوسعوا (١) وقد اختلف في هذا النهي عن القيام من المجلس لأحد هل هو على التحريم أو الكراهة (يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) أي يوسع لكم في جنته ورحمته (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) (٢) أي إذا قيل لكم : ارتفعوا وقوموا فافعلوا ذلك ، واختلف في هذا النشوز المأمور به فقيل : إذا دعوا إلى قتال أو صلاة أو فعل طاعة ، وقيل : إذا أمروا بالقيام من مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه كان يحب الانفراد أحيانا ، وربما جلس قوم حتى يؤمروا بالقيام ، وقيل : المراد القيام في المجلس للتوسع.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) فيها قولان أحدهما : يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فقوله : والذين أوتوا العلم درجات صفة للذين آمنوا كقوله : جاءني العاقل الكريم وأنت تريد رجلا واحدا ، والثاني : يرفع الله المؤمنين والعلماء الصنفين جميعا درجات ، فالدرجات على الأول للمؤمنين بشرط أن يكونوا علماء ، وعلى الثاني للمؤمنين الذين ليسوا علماء ، وللعلماء أيضا ولكن بين درجات العلماء وغيرهم تفاوت يوجد في موضع آخر كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» (٣) ، وقوله عليه الصلاة والسلام «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم (٤) رجلا» وقوله عليه‌السلام : «يشفع يوم القيامة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» (٥) فإذا كان لهم فضل على العابدين والشهداء ، فما ظنك بفضلهم على سائر المؤمنين (إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قال ابن عباس : سببها أن قوما من شبان المسلمين كثرت مناجاتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غير حاجة ، لتظهر منزلتهم ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمحا لا يرد أحدا ، فنزلت الآية مشددة في أمر المناجاة ، وقيل : سببها أن الأغنياء غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذه الآية منسوخة باتفاق نسخها قوله بعدها

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) الآية : فأباح الله لهم المناجاة دون تقديم صدقة ، بعد أن كان أوجب تقديم

__________________

(١). ورد الحديث في مسند أحمد عن ابن عمر ج ٢ ص ٢٢ ونصه : لا يقيم الرجل الرجل عند مقعده ثم يقعد فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا.

(٢). قرأ نافع وحفص وابن عامر : فانشزوا بضم الشين وقرأ الباقون فانشزوا بكسرها. وهما لغتان.

(٣). حديث فضل العالم على العابد رواه أحمد عن أبي الدرداء ج ٥ ص ١٩٦.

(٤). وحديث فضل العالم.. كفضلي على أدناكم : في الإحياء عزاه للترمذي عن أبي أمامة.

(٥). حديث يشفع يوم القيامة.. قال في الإحياء : رواه ابن ماجة عن عثمان بإسناد ضعيف.

٣٥٤

الصدقة قبل مناجاته عليه‌السلام ، واختلف هل كان هذا النسخ بعد أن عمل بالآية أم لا؟ فقال قوم : لم يعمل بها أحد وقال قوم : عمل بها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه روي أنه كان له دينار فصرفه بعشرة دراهم وناجاه عشر مرات ، تصدق في كل مرة منها بدرهم. وقيل : تصدق في كل مرة بدينار ، ثم أنزل الله الرخصة لمن كان قادرا على الصدقة ، وأما من لم يجد فالرخصة لم تزل ثابتة له بقوله : فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم (وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) التوبة هنا يراد بها عفو الله عنهم في تركهم للصدقة التي أمروا بها ، أو تخفيفها بعد وجوبها (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعد شرعكم ، دون ما كنتم قد كلفتم من الصدقة عند المناجاة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) نزلت في قوم من المنافقين تولوا قوما من اليهود ، وهم الذين غضب الله عليهم (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) يعني أن المنافقين ليسوا من المسلمين ، ولا من اليهود فهو كقوله فيهم (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ)(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعني أن المنافقين كانوا إذا عوتبوا على سوء أقوالهم وأفعالهم حلفوا أنهم ما قالوا ، ولا فعلوا وقد صدر ذلك منهم مرارا كثيرة وهي مذكورة في السير وغيرها (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أصل الجنة ما يستتر به ويتقى به المحذور كالترس ، ثم استعمل هنا استعارة لأنهم كانوا يظهرون الإسلام لتعصم دماؤهم وأموالهم ، وقرئ اتخذوا بكسر الهمزة (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب عليهم وتملك نفوسهم (فِي الْأَذَلِّينَ) أي في جملة الأذلين : أي معهم (كَتَبَ اللهُ) أي قضى وقدر.

(لا تَجِدُ قَوْماً) الآية : معناها لا تجد مؤمنا يحب كافرا ولو كان أقرب الناس إليه ، وهذه حال المؤمن الصادق الإيمان ، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم إذا كانوا كفارا ، فقد قتل أبو عبيدة بن الجراح أباه يوم أحد ، وقتل مصعب بن عمير أخاه عزيزا بن عمير يوم أحد ، ودعا أبو بكر الصديق ابنه يوم بدر للبراز فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقعد ، وقيل : إن الآية نزلت في حاطب حين كتب إلى المشركين يخبرهم بأخبار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأحسن أنها على العموم ، وقيل : نزلت فيمن يصحب

٣٥٥

السلطان وذلك بعيد (يُوادُّونَ) هذه مفاعلة من المودّة فتقتضي أن المودّة من الجهتين (مَنْ حَادَّ اللهَ) أي عاداه وخالفه (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبته فيها كأنه مكتوب (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي بلطف وهدى وتوفيق وقيل بالقرآن ، وقيل بجبريل (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) هذه في مقابلة قوله : أولئك حزب الشيطان ، والحزب هم الجماعة المتحزبون لمن أضيفوا إليه.

٣٥٦

سورة الحشر

مدنية وآياتها ٢٤ نزل بعد البينة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

نزلت هذه السورة في يهود بني النضير وكانوا في حصون بمقربة من المدينة ، وكان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عهد ، فأرادوا غدره فأطلعه الله على ذلك ، فخرج إليهم وحاصرهم إحدى وعشرين ليلة حتى صالحوه على أن يخرجوا من حصونهم ، فخرجوا منها وتفرقوا في البلاد (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني بني النضير (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) في معناه أربعة أقوال : أحدها أنه حشر القيامة أي خروجهم من حصونهم أول الحشر والقيام من القبور آخره ، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم : امضوا هذا أول الحشر ، وأنا على الأثر : الثاني أن : المعنى لأول موضع الحشر وهو الشام ، وذلك أن أكثر بني النضير خرجوا إلى الشام ، وقد جاء في الأثر أن حشر القيامة إلى أرض الشام ، وروي في هذا المعنى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال لبني النضير : أخرجوا قالوا إلى أين؟ قال إلى أرض المحشر. الثالث أن المراد الحشر في الدنيا الذي هو الجلاء والإخراج ، فإخراجهم من حصونهم أول الحشر ، وإخراج أهل خيبر آخره. الرابع أن معناه إخراجهم من ديارهم لأول ما حشر لقتالهم ؛ لأنه أول قتال قاتلهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقال الزمخشري : اللام في قوله لأول بمعنى عند كقولك جئت لوقت كذا (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) يعني لكثرة عدتهم ومنعة حصونهم (فَأَتاهُمُ اللهُ) عبارة عن أخذ الله لهم (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) (١) أما إخراب المؤمنين فهو هدم أسوار الحصون ليدخلوها ، وأسند ذلك إلى الكفار في قوله يخربون لأنه كان بسبب كفرهم وغدرهم ، وأما إخراب الكفار لبيوتهم فلثلاثة مقاصد : أحدها حاجتهم إلى الخشب

__________________

(١). قرأ أبو عمرو : يخرّبون بالتشديد والباقون بالتخفيف.

٣٥٧

والحجارة ليسدوا بها أفواه الأزقة ويحصنوا ما خرّبه المسلمون من الأسوار ، والثاني ليحملوا معهم ما أعجبهم من الخشب والسواري وغير ذلك. الثالث أن لا تبقى مساكنهم مبنية للمسلمين فهدموها شحا عليها (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) استدل الذين أثبتوا القياس في الفقه بهذه الآية ، واستدلالهم بها ضعيف خارج عن معناها (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) الجلاء هو الخروج عن الوطن ، فالمعنى لو لا أن كتب الله على بني النضير خروجهم عن أوطانهم لعذبهم في الدنيا بالسيف كما فعل بإخوانهم بني قريظة ، ولهم مع ذلك عذاب النار (شَاقُّوا) ذكر في الأنفال.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ) اللينة هي النخلة وقيل : هي الكريمة من النخل ، وقيل : النخلة التي ليست بعجوة ، وقيل : ألوان النخل المختلط ، وسبب الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل على حصون بني النضير قطع المسلمون بعض نخلهم ، وأحرقوه فقال بنو النضير : ما هذا إلا فساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد ، فنزلت الآية معلمة أن كل ما جرى من قطع أو إمساك فإن الله أذن للمسلمين في ذلك (لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) يعني بني النضير ، واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على أن كل مجتهد مصيب ، فإن الله قد صوب فعل من قطع النخل ومن تركها ، واختلف العلماء في قطع شجر المشركين وتخريب بلادهم ؛ فأجازه الجمهور لهذه الآية ، ولإقرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تحريق نخل بني النضير ، وكرهه قوم لوصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه الجيش الذي وجهه إلى الشام أن لا يقطعوا شجرا مثمرا.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) معنى أفاء الله : جعله فيئا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأوجفتم من الوجيف وهو سرعة السير ، والركاب هي الإبل ، والمعنى أن ما أعطى الله رسوله من أموال بني النضير لم يمش المسلمون إليه بخيل ولا إبل ولا تعبوا فيه ولا حصلوه بقتال ، ولكن حصل بتسليط رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بني النضير ، فأعلم الله من هذه الآية أن ما أخذه من بني النضير وما أخذه من فدك : فهو فيء خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل فيه ما يشاء ، لأنه لم يوجف عليها ، ولا قوتلت كبير قتال. فهما بخلاف الغنيمة التي تؤخذ بالقتال فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لنفسه من أموال بني النضير قوت عياله ، وقسم سائرها في المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئا غير أن أبا دجانة وسهل بن حنيف شكوا فاقة فأعطاهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منها سهما ، هذا قول جماعة ، وقال عمر بن الخطاب كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله.

٣٥٨

وقال قوم من العلماء : وكذلك كل ما فتحه الأئمة مما لم يوجف عليه فهو لهم خاصة يأخذون منه حاجتهم ويصرفون باقيه في مصالح المسلمين ، (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الآية اضطرب الناس في تفسير هذه الآية وحكمها اضطرابا عظيما فإن ظاهرها أن الأموال التي تؤخذ للكفار تكون لله وللرسول ومن ذكر بعد ذلك ولا يخرج منها خمس ، ولا تقسم على من حضر الوقيعة وذلك يعارض ما ورد في الأنفال من إخراج الخمس ، وقسمة سائر الغنيمة على من حضر الوقيعة فقال بعضهم : إن هذه الآية منسوخة بآية الأنفال ، وهذه خطأ لأن آية الأنفال نزلت قبل هذه بمدة. وقال بعضهم : إن آية الأنفال في الأموال التي تغنم ما عدا الأرض ، وأن هذه الآية في أرض الكفار. قالوا : ولذلك لم يقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرض مصر والعراق بل تركها لمصالح المسلمين ، وهذا التخصيص لا دليل عليه وقيل : غير ذلك ، والصحيح أنه لا تعارض بين هذه الآية وبين آية الأنفال ، فإن آية الأنفال في حكم الغنيمة التي تؤخذ بالقتال وإيجاف الخيل والركاب ، فهذا يخرج منه الخمس ويقسم باقية على الغانمين ، وأما هذه الآية ففي حكم الفيء وهو ما يؤخذ من أموال الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، وإذا كان كذلك فكل واحدة من الآيتين في معنى غير معنى الأخرى. ولها حكم غير حكم الأخرى فلا تعارض بينهما ولا نسخ ، وانظر كيف ذكر هنا لفظ الفيء وفي الأنفال لفظ الغنيمة وقد تقرر في الفقه الفرق بين الفيء والغنيمة ، وأن حكمهما مختلف ، قاله أبو محمد بن الفرس : وهو قول الجمهور وبه قال مالك وجميع أصحابه وهو أظهر الأقوال.

وأما فعل عمر في أرض مصر والعراق ، فالصحيح أنه فعل ذلك لمصلحة المسلمين بعد استطابة نفوس الغانمين بقوله تعالى (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) يريد بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب كما كانت أموال بني النضير ، ولكنه حذف هذا لقوله في الآية قبل هذا : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ، فاستغنى بذكر ذلك أولا عن ذكره ثانيا ، ولذلك لم تدخل الواو العاطفة في هذه الجملة لأنها من تمام الأولى فهي غير أجنبية منها فإنه بين في الآية الأولى حكم أموال بني النضير ، وبين في هذه الآية حكم ما كان مثلها من أموال غيرهم على العموم ، ويصرف الفيء فيما يصرف فيه خمس الغنائم ؛ لأن الله سوّى بينهما في قوله : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وقد ذكرنا ذلك في الأنفال فأغنى عن إعادته ، وقد ذكرنا في الأنفال معنى قوله : لله وللرسول وما بعد ذلك (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) أي كيلا يكون الفيء الذي أفاء الله على رسوله من أهل القرى دولة ينتفع به الأغنياء دون الفقراء ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسم أموال بني النضير على المهاجرين فإنهم كانوا حينئذ فقراء ، ولم يعط الأنصار منها شيئا ، فإنهم كانوا أغنياء فقال بعض الأنصار : لنا سهمنا من هذا الفيء فأنزل

٣٥٩

الله هذه الآية ، والدولة بالضم والفتح ما يدول الإنسان أي يدور عليه من الخير ، ويحتمل أن يكون من المداولة ، أي كي لا يتداول ذلك المال الأغنياء بينهم ويبقى الفقراء بلا شيء.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) نزلت بسبب الفيء المذكور : أي ما أتاكم الرسول من الفيء فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا ، فكأنها أمر للمهاجرين بأخذ الفيء ونهي للأنصار عنه ، ولفظ الآية مع ذلك عام في أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو نواهيه ، ولذلك استدل بها عبد الله بن مسعود على المنع من لبس المحرم المخيط ولعن الواشمة والواصلة في القرآن لورود ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِلْفُقَراءِ) هذا بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ليبين بذلك أن المراد المهاجرين ، ووصفهم بأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ؛ لأنهم هاجروا من مكة وتركوا فيها أموالهم وديارهم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) هم الأنصار والدار هي المدينة لأنها كانت بلدهم ، والضمير في قبلهم للمهاجرين ، فإن قيل : كيف قال تبوؤا الدار والإيمان وإنما تتبوّأ الدار. أي تسكن ولا يتبوأ الإيمان؟ فالجواب من وجهين : الأول أن معناه تبوؤا الدار وأخلصوا الإيمان فهو كقولك : فعلفتها تبنا وماء باردا : تقديره : علفتها تبنا وسقيتها ماء باردا ، الثاني أن المعنى أنهم جعلوا الإيمان كأنه موطن لهم لتمكنهم فيه ، كما جعلوا المدينة كذلك. فإن قيل : قوله من قبلهم يقتضي أن الأنصار سبقوا المهاجرين بنزول المدينة وبالإيمان ، فأما سبقهم لهم بنزول المدينة فلا شك فيه لأنها كانت بلدهم ، وأما سبقهم لهم بالإيمان فمشكل ، لأن أكثر المهاجرين أسلم قبل الأنصار. فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد بقوله من قبلهم من قبل هجرتهم ، والآخر أنه أراد تبوؤا الدار مع الإيمان معا. أي جمعوا بين الحالتين قبل المهاجرين ، لأن المهاجرين إنما سبقوهم بالإيمان لا بتبوّئ الدار فيكون الإيمان على هذا مفعولا معه ، وهذا الوجه أحسن ، لأنه جواب عن هذا السؤال وعن السؤال الأول ، فإنه إذا كان الإيمان مفعولا معه لم يلزم السؤال الأول ، إذ لا يلزم إلا إذا كان الإيمان معطوفا على الدار.

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) قيل : إن الحاجة هنا بمعنى الحسد ، ويحتمل أن تكون بمعنى الاحتجاج على أصلها ، والضمير في يجدون للأنصار ، وفي أوتوا المهاجرين ، والمعنى. أن الأنصار تطيب نفوسهم بما يعطاه المهاجرون من الفيء وغيره ، ولا يجدون في صدورهم شيئا بسبب ذلك (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) أي يؤثرون غيرهم بالمال على أنفسهم ولو كانوا في غاية الاحتياج ، والخصاصة هي الفاقة ، وروي أن سبب هذه

٣٦٠