التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

سورة سبأ

مكية إلا آية ٦ فمدنية وآياتها ٥٤ نزلت بعد لقمان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة سبأ) (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، وعلى هذا حمله الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يكون الحمد الأول للعموم والاستغراق ، فجمع الحمد في الدنيا والآخرة ، ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله : (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ، ثم إن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس ، أو يريد به قوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] أو (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] (ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك (وَما يَخْرُجُ مِنْها) من النبات وغيره (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك (وَما يَعْرُجُ فِيها) أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) روي : أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب (١) (لا يَعْزُبُ) أي لا يغيب ولا يخفى (وَلا أَصْغَرُ) معطوف على مثقال ؛ وقال الزمخشري : هو مبتدأ ، لأن حرف الاستثناء من حروف العطف ، ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا الموضع ، وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة ، وإنما الخلاف في [يونس : ٦١] (فِي كِتابٍ مُبِينٍ) يعني اللوح المحفوظ (لِيَجْزِيَ) متعلق بقوله : لتأتينكم أو بقوله : لا يعزب أو بمعنى قوله : في كتاب مبين.

(وَالَّذِينَ سَعَوْا) مبتدأ وخبره الجملة بعده ، وقال ابن عطية : هو معطوف على الذين

__________________

(١). قوله : عالم الغيب. قرأها نافع وابن عامر : عالم ، وقرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم : عالم الغيب.

١٦١

الأول ، وقد ذكر في [الحج : ٥١] معنى سعوا ، ومعاجزين (أَلِيمٌ) بالرفع قراءة حفص صفة لعذاب ، وبالخفض قراءة نافع وغيره صفة لرجز (وَيَرَى) معطوف على ليجزي أو مستأنف ، وهذا أظهر (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب ، أو على العموم (الْحَقَ) مفعول ثاني ليرى ، لأن الرؤية هنا بالقلب بمعنى العلم والضمير ضمير فصل (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي قال بعضهم لبعض : هل ندلكم على رجل يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) معنى مزقتم أي : بليتم في القبور ، وتقطعت أوصالكم ، وكل ممزق : مصدر ، والخلق الجديد : هو الحشر في القيامة ، والعامل في إذا معنى إنكم لفي خلق جديد ، لأن معناه : تبعثون إذا مزقتم ، وقيل : العامل فيه فعل مضمر مقدر قبلها وذلك ضعيف ، وإنكم لفي خلق جديد معمول ينبئكم وكسرت اللام التي في خبرها ، ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض ، ومرادهم استبعاد الحشر (أَفْتَرى عَلَى اللهِ) هذا من جملة كلام الكفار ، ودخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ) هذا ردّ عليهم : أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به جنة ، بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب ، ويحتمل أن يريد بالعذاب عذاب الآخرة ، أو العذاب في الدنيا بمعاندة الحق ، ومحاولة ظهور الباطل.

(أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث ، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخلفهم ، لأنهما محيطتان بهم ، والمعنى ألم يروا إلى السماء والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم ، ويحتمل أن يكون المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله : إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء : أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم ، فيعلمون أنهم لا مهرب لهم من الله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) الإشارة إلى إحاطة السماء بهم ، أو إلى عظمة السماء والأرض بأن فيهما آية تدل على البعث.

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) تقديره : قلنا يا جبال ، والجملة تفسير لفضلا ، ومعنى أوّبي : سبّحي ، وأصله من التأويب ، وهو الترجيع ، لأنه كان يرجّع التسبيح فترجعه معه : وقيل : هو من التأويب بمعنى السير بالنهار ، وقيل : كان ينوح فتساعده الجبال بصداها ، والطير بأصواتها (وَالطَّيْرَ) بالنصب عطف على موضع يا جبال ، وقيل : مفعول معه ، وقيل :

١٦٢

معطوف على فضلا ، وقرئ بالرفع عطفا على لفظ : يا جبال (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) أي جعلناه له لينا بغير نار كالطين والعجين ، وقيل ؛ لان له الحديد لشدّة قوته (سابِغاتٍ) هي الدروع الكاسية (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) معنى السرد هنا نسج الدروع ، وتقديرها أن لا يعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها ، وقيل : لا يجعل المسمار دقيقا ولا غليظا (وَاعْمَلُوا صالِحاً) خطاب لداود وأهله (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) بالنصب على تقدير وسخرنا ، وقرئ بالرفع رواية أبي بكر عن عاصم على الابتداء (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر ، وبالعشي مسيرة شهر فكان يجلس على سريره وكان من خشب ، يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس ، فترفعه الريح ثم تحمله (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع منها ما أحب ، والقطر : النحاس ، وقيل : القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك : كان يسيل له منه أربعة عيون ، وقيل : المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما صنع بالحديد لداود (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) يعني نار الآخرة ، وقيل : كان معه ملك يضربهم بصوت من نار (مَحارِيبَ) هي القصور ، وقيل : المساجد وتماثيل قيل : إنها كانت على غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزا عندهم (كَالْجَوابِ) جمع جابية (١) وهي البركة التي يجتمع فيها الماء (راسِياتٍ) أي ثابتات في مواضعها لعظمها (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) حكاية ما قيل لآل داود ، وانتصب شكرا على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، تقديره : شاكرين ، أو مصدر من المعنى لأن العمل شكر تقديره : اشكروا شكرا ، أو مفعول به (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) المنسأة هي العصا ، وقرئ بهمز وبغير همز ، ودابة الأرض هي الأرضة ، وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره ، وقصة الآية أن سليمان عليه‌السلام دخل قبة من قوارير ، وقام يصلي متكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك سنة ، لم يعلم أحد بموته ، حتى وقعت العصا فخر إلى الأرض. واختصرنا كثيرا مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته (تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) من تبين الشيء إذا ظهر ، وما بعدها بدل من الجنّ ، والمعنى ظهر للناس أن الجن لا يعلمون الغيب ، وقيل : تبينت بمعنى علمت ، وأن وما بعدها مفعول به على هذه. والمعنى : علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، وتحققوا أن

__________________

(١). قرأ أبو عمرو وورش كالجوابي (في الوصل).

١٦٣

ذلك بعد التباس الأمر عليهم ، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم كاذبون في دعوى ذلك (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال ، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ) سبأ : قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه ، وقيل : باسم أمها ، وقيل : باسم موضعها ، والأول أشهر ، لأنه ورد في الحديث ، وكانت مساكنهم (١) بين الشام [الشام هي جبال في اليمن] واليمن (جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) كان لهم واد ، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله ، وجنتان بدل من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف (كُلُوا) تقديره : قيل : لهم كلوا من رزق ربكم ، قالت لهم ذلك الأنبياء ، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام (فَأَعْرَضُوا) أي أعرضوا عن شكر الله ، أو عن طاعة الأنبياء (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان ، فأرسل الله على السد الجرذ ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان ، وقيل : لما خرب السدّ حمل السيل الجنتين وكثيرا من الناس ، واختلف في معنى العرم : فقيل هو السدّ ، وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه ، وقيل معناه الشديد ، فكأنه صفة للسيل من العرامة ، وقيل هو الجرذ الذي خرب السدّ ، وقيل : المطر الشديد (أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) الأكل بضم الهمزة المأكول ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل شجرة ذات شوك ، والأثل شجر يشبه الطرفا والسدر شجر معروف ، وإعراب خمط بدل من أكل ، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط ، لأن الأثل لا أكل له ، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل : أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) (٢) معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور ؛ لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء السيل وهلاك جناتهم ، ويعني بالقرى التي باركنا فيها الشام ، والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى الشام ، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها ، وقيل : مرتفعة في الآكام ، وقال ابن عطية : خارجة عن المدن كما

__________________

(١). قوله سبحانه : مسكنهم : قرأ الكسائي مسكنهم بكسر الكاف والنون ، وقرأ حفص وحمزة في مسكنهم بفتح الكاف. وقرأ الباقون : مساكنهم بالجمع.

(٢). قرأ حمزة والكسائي وحفص : (نجازي) وقرأ نافع وغيره : يجازي بالرفع على ما لم يسم فاعله.

١٦٤

تقول بظاهر المدينة أي خارجها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : قسمنا مراحل السفر ، وكانت القرى متصلة ، فكان المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى ، ولا يخاف جوعا ولا عطشا ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ، ولا يخاف من أحد (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) قرئ باعد وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بعد بالتخفيف والتشديد على وجه الطلب ، والمعنى أنهم بطروا النعمة وملّوا العافية ، وطلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزوّدوا للأسفار ، فعجل الله إجابتهم ، وقرئ باعد بفتح العين على الخبر ، والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم ، وذلك كذب وجحد للنعمة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) يعني بقولهم باعد بين أسفارنا أو بذنوبهم على الإطلاق (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم ، قيل تفرقوا أيدي سبا ، وفي الحديث ، إن سبأ أبو عشرة من القبائل ، فلما جاء السيل على بلادهم تفرقوا فتيامن (١) منهم ستة وتشاءم أربعة.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي وجد ظنه فيهم صادقا يعني قوله : لَأُغْوِيَنَّهُمْ ، وقوله : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم آلهتهم ، ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء ، وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا (مِنْ شِرْكٍ) أي نصيب والظهير المعين (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن الله له أن يشفع ، فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه ، وقيل : المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه ، والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله ، ففي ذلك ردّ على المشركين الذين كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أن هذه الآية في الملائكة عليهم‌السلام ، فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعا عظيما ، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم فيقولون : قال الحق ، ومعنى فزع عن قلوبهم زال عنها الفزع ، والضمير في قلوبهم وفي قالوا للملائكة ، فإن قيل :

__________________

(١). أي ذهبوا لجهة اليمين وتشاءم : ذهبوا نحو الشام.

١٦٥

كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة ، فإن قيل : بم اتصل قوله حتى إذا فزّع عن قلوبهم ولأي شيء وقعت حتى غائية؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظارا للإذن ، وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة ، ويقرب هذا في المعنى من قوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [عمّ : ٣٨] ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم : هي في الكفار بعد الموت ، ومعنى فزع عن قلوبهم : رأوا الحقيقة ، فقيل لهم : ماذا قال ربكم؟ فيقولون : قال الحق. فيقرّون حيث لا ينفعهم الإقرار ، والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث ، ولأن القصد الردّ على الكفار الذين عبدوا الملائكة ، فذكره شدّة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) سؤال قصد به إقامة الحجة على المشركين (قُلِ اللهُ) جواب عن السؤال بما لا يمكن المخالفة فيه ، ولذلك جاء السؤال والجواب من جهة واحدة (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) هذه ملاطفة وتنزل في المجادلة إلى غاية الإنصاف كقولك : الله يعلم أن أحدنا على حق وأن الآخر على باطل ، ولا تعين بالتصريح أحدهما ، ولكن تنبه الخصم على النظر حتى يعلم من هو على الحق ومن هو على الباطل ، والمقصود من الآية أن المؤمنين على هدى ، وأن الكفار على ضلال مبين (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) إخبار يقتضي مسالمة نسخت بالسيف (يَفْتَحُ بَيْنَنا) أي يحكم ، والفتاح الحاكم (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) إقامة حجة على المشركين ، والرؤية هنا رؤية قلب فشركاء مفعول ثالث ، والمعنى أروني بالدليل والحجة من هم له شركاء عندكم ، وكيف وجه الشركة ، وقيل : هي رؤية بصر ، وشركاء حال من المفعول في ألحقتم كأنه قال : أين الذين تعبدون من دونه وفي قوله : (أَرُونِيَ) تحقير للشركاء وازدراء بهم ، وتعجيز للمشركين ، وفي قوله : (كَلَّا) ردع لهم عن الإشراك ، وفي وصف الله بالعزيز الحكيم : ردّ عليهم بأن شركاءهم ليسوا كذلك.

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) المعنى أن الله أرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جميع الناس ، وهذه إحدى الخصال التي أعطاه الله دون سائر الأنبياء ، وإعراب كافة حال من الناس قدمت للاهتمام ، هكذا قال ابن عطية ، وقال الزمخشري : ذلك خطأ لأن تقدم حال المجرور عليه

١٦٦

لا يجوز ، وتقديره عنده : وما أرسلناك إلا رسالة عامة للناس ، فكافة صفة للمصدر المحذوف ، وقال الزجّاج : المعنى أرسلناك جامعا للناس في الإنذار والتبشير ، فجعله حالا من الكاف ، والتاء على هذا للمبالغة كالتاء في راوية وعلّامة (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ) يعني يوم القيامة ، أو نزول العذاب بهم في الدنيا ، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف ، فقالوا : متى هذا الوعد (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) يعني الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ، وإنما قال الكفار هذه المقالة ، حين وقع عليهم الاحتجاج بما في التوراة ، من ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الذي بين يديه يوم القيامة وهذا خطأ وعكس ؛ لأن الذي بين يدي الشيء هو ما تقدم عليه.

(وَلَوْ تَرى) جواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمرا عظيما (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) أي يتكلمون ويجيب بعضهم بعضا (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أي كفرتم باختياركم لا بأمرنا (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) المعنى أن المستضعفين قالوا للمستكبرين : بل مكركم بنا في الليل والنهار سبب كفرنا ، وإعراب مكر مبتدأ وخبره محذوف ، أو خبر ابتداء مضمر ، وأضاف مكر إلى الليل والنهار على وجه الاتساع ، ويحتمل أن يكون إضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل على وجه المجاز : كقولهم : نهاره صيام وليله قيام أي يصام فيه ويقام ، ودلت الإضافة على كثرة المكر ودوامه بالليل والنهار ، فإن قيل : لم أثبت الواو في قول الذين استضعفوا دون قول الذين استكبروا؟ (١) فالجواب أنه قد تقدم كلام الذين استضعفوا قبل ذلك فعطف عليه كلامهم الثاني ، ولم يتقدم للذين استكبروا كلام آخر فيعطف عليه (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) أي أخفوها في نفوسهم ، وقيل : أظهروها فهو من الأضداد ، والضمير لجميع المستضعفين والمستكبرين (مُتْرَفُوها) يعني أهل الغنى والتنعم في الدنيا ، وهم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء ، والقصد بالآية تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب أكابر قريش له (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) الضمير لقريش أو للمترفين المتقدمين : قاسوا أمر الدنيا على الآخرة ، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في

__________________

(١). المقصود بالواو في قوله : وقال الذين استضعفوا وفي الآية قبلها : قال الذين استكبروا بدون واو.

١٦٧

الآخرة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) إخبار يتضمن الردّ عليهم بأن بسط الرزق وقبضه في الدنيا معلق بمشيئة الله ، فقد يوسع الله على الكافر وعلى العاصي ، ويضيق على المؤمن والمطيع ، وبالعكس ، فليس في ذلك دليل على أمر الآخرة (زُلْفى) مصدر بمعنى القرب كأنه قال : تقربكم قربى (إِلَّا مَنْ آمَنَ) استثناء من المفعول في تقربكم ، والمعنى أن الأموال لا تقرب إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، وقيل الاستثناء منقطع ، والأول أحسن (جَزاءُ الضِّعْفِ) يعني تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها فما فوق ذلك.

(يَبْسُطُ الرِّزْقَ) الآية : كررت لاختلاف القصد ، فإن القصد بالأول على الكفار ، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) الخلف قد يكون بمال أو بالثواب (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) براءة من أن يكون لهم رضا بعبادة المشركين لهم ، وليس في ذلك نفي لعبادتهم لهم (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) عبادتهم للجن طاعتهم لهم في الكفر والعصيان ، وقيل : كانوا يدخلون في جوف الأصنام فيعبدون بعبادتها ، ويحتمل أن يكون قوم عبدوا الجن لقوله : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) الآية : في معناها وجهين : أحدهما ليس عندهم كتب تدل على صحة أقوالهم ، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه ؛ فأقوالهم باطلة إذ لا حجة لهم عليها ، فالقصد على هذا ردّ عليهم ، والآخر : أنهم ليس عندهم كتب ولا جاءهم نذير فهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم ، ولذلك بعث الله إليهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالقصد على هذا إثبات نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) المعشار العشر ، وقيل عشر العشر ، والأول أصح ، والضمير في بلغوا لكفار قريش ، وفي آتيناهم للكتب المتقدمة : أي إن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله للمتقدمين من القوة والأموال ، وقيل : الضمير في بلغوا للمتقدمين ، وفي آتيناهم لقريش : أي ما بلغ المتقدمون عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة ، والأول أصح وهو نظير قوله : كانوا أشدّ منهم قوة (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري ، يعني عقوبة الكفار المتقدمين ، وفي ذلك تهديد لقريش.

١٦٨

(قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) أي بقضية واحدة تقريبا عليكم (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) هذا تفسير القضية الواحدة وأن تقوموا بدل أو عطف بيان أو خبر ابتداء مضمر ، ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قياما خالصا لله تعالى ليس فيه اتباع هوى ولا ميل ، وليس المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين ؛ إنما المراد القيام بالأمر والجدّ فيه (مَثْنى وَفُرادى) حال من الضمير في تقوموا ، والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحدا واحدا لإحضار الذهن واستجماع الفكرة ، ثم تتفكروا في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتعلموا أن ما به من جنة ، لأنه جاء بالحق الواضح ، ومع ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه ، وأنه بلغ في الحكمة مبلغا عظيما ، فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) متصل بما قبله على الأصح : أي تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقيل هو استئناف (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) هذا كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئا فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئا ، ولكنه يريد البراءة من عطائه ، وكذلك معنى هذا ، فهو كقولك : قل ما أسألكم عليه من أجر (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) القذف الرمي ويستعار للإلقاء ، فالمعنى يلقي الحق إلى أصفيائه ، أو يرمي الباطل بالحق فيذهبه (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في يقذف أو من اسم إن على الموضع (قُلْ جاءَ الْحَقُ) يعني الإسلام (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الباطل الكفر ، ونفى الإبداء والإعادة ، على أنه لا يفعل شيئا ولا يكون له ظهور أو عبارة عن ذهابه كقوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) [الإسراء : ٨١] وقيل : الباطل الشيطان (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يعني قربه تعالى بعلمه وإحاطته.

(وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) جواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمرا عظيما ، أو معنى فزعوا : أسرعوا إلى الهروب ، والفعل ماض بمعنى الاستقبال ، وكذلك ما بعده من الأفعال ، ووقت الفزع البعث ، وقيل : الموت ، وقيل : يوم بدر (فَلا فَوْتَ) أي لا يفوتون الله إذ هربوا (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) يعني من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من أرض بدر إلى القليب ، والمراد على كل قول سرعة أخذهم (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي قالوا ذلك عند أخذهم ، والضمير المجرور لله تعالى أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو للقرآن أو للإسلام (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) التناوش بالواو التناول ، إلا أن التناوش تناول

١٦٩

قريب سهل لشيء قريب ، وقرئ (١) بهمز الواو فيحتمل أن يكون المعنى واحدا ، ويكون المهموز بمعنى الطلب ، ومعنى الآية استبعاد وصولهم إلى مرادهم ، والمكان البعيد : عبارة عن تعذر مقصودهم فإنهم يطلبون ما لا يكون ، أو يريدون أن يتناولوا ما لا ينالون وهو رجوعهم إلى الدنيا أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) الضمير يعود على ما عاد عليه قولهم آمنا به (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) يقذفون فعل ماض في المعنى معطوف على كفروا ، ومعناه أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون : لا بعث ولا جنة ولا نار. ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام : إنه ساحر أو شاعر. والمكان البعيد هنا عبارة عن بطلان ظنونهم وبعد أقوالهم عن الحق (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) أي حيل بينهم وبين دخول الجنة ، وقيل : حيل بينهم وبين الانتفاع بالإيمان حينئذ ، وقيل : حيل بينهم وبين نعيم الدنيا والرجوع إليها (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) يعني الكفار المتقدمين وجعلهم أشياعهم لاتفاقهم في مذاهبهم ، ومن قبل يحتمل أن يتعلق بفعل ، أو بأشياعهم على حسب معنى ما قبله (فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) هو أقوى الشك وأشده إظلاما.

__________________

(١). قرا بالهمز أبو عمرو وحمزة والكسائي : وأنّى التناؤش.

١٧٠

سورة فاطر

مكية وآياتها ٤٥ نزلت بعد الفرقان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة فاطر) (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) أي وسائط بين الله وبين الأنبياء متصرفين في أمر الله (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) صفات للأجنحة ولم ينصرف للعدل والوصف ، والمعنى أن الملائكة منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة أجنحة (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قيل : يعني حسن الصوت ، وقيل : حسن الوجه ، وقيل : حسن الحظ ، والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكة ، أو يكون على الإطلاق في كل زيادة في المخلوقين (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها) الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع ، والإرسال الإطلاق بعد المنع والرحمة كل ما يمنّ الله به على عباده من خيري الدنيا والآخرة فمعنى الآية : لا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع الله ، فإن قيل : لم أنث الضمير في قوله (فَلا مُمْسِكَ لَها) وذكّره في قوله : (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) وكلاهما يعود على ما الشرطية ، فالجواب : أنه لما فسر من الأولى بقوله من رحمة أنثه لتأنيث الرحمة ، وترك الآخر على الأصل من التذكير (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد إمساكه (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) رفع غير على الصفة لخالق على الموضع ، وخفضه صفة على الرفع ، ورزق السماء المطر ، ورزق الأرض النبات ، والمعنى تذكير بنعم الله وإقامة حجة على المشركين ، ولذلك أعقبه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية : تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على تكذيب قومه كأنه يقول : إن يكذبوك فلا تحزن لذلك فإن الله سينصرك عليهم ، كما كذبت رسل من قبلك فنصرهم الله (الْغَرُورُ)

١٧١

الشيطان ، وقيل : التسويف (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) توقيف [سؤال] وجوابه محذوف تقديره : أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له؟ ثم بنى على ذلك ما بعده ، فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله الله ، ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن حزنه لعدم إيمانهم ، لأن ذلك بيد الله (كَذلِكَ النُّشُورُ) أي الحشر ، والمعنى : كما يحيي الله الأرض بالنبات كذلك يحيي الموتى.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الآية تحتمل ثلاثة معان : أحدها وهو الأظهر من كان يريد نيل العزة فليطلبها من عند الله ، فإن العزة كلها لله ، والثاني من كان يريد العزة بمغالبة الإسلام فلله العزة جميعا ، فالمغالب له مغلوب ، والثالث من كان يريد أن يعلم لمن العزة فليعلم أن العزة لله جميعا (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) قيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ يعم ذلك وغيره من الذكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن ، وتعليم العلم : فالعموم أولى (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ضمير الفاعل في يرفعه : الله وضمير المفعول للعمل الصالح ، فالمعنى على هذا أن الله يرفع العمل الصالح : أي يتقبله ويثيب عليه ، والثاني أن ضمير الفاعل للكلام الطيب ، وضمير المفعول للعمل الصالح ، والمعنى على هذا : لا يقبل عمل صالح إلا ممن له كلام طيب ، وهذا يصح إن قلنا : إن الكلم الطيب لا إله إلا الله ، لأنه لا يقبل العمل إلا من موحد ، والثالث أن ضمير الفاعل للعمل الصالح ، وضمير المفعول للكلم الطيب ، والمعنى على هذا أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب فلا يقبل الكلم إلا ممن له عمل صالح ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، واستبعده ابن عطية وقال : لم يصح عنه ؛ لأن اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبل من كل مسلم. قال وقد يستقيم بأن يتأول أن الله يزيد في رفعه وحسن موقعه (يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) لا يتعدى مكر فتأويله يمكرون المكرات السيئات ، فتكون السيئات مصدرا أو تضمن يمكرون معنى يكتسبون فتكون السيئات مفعولا ، والإشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ حين اجتمعوا في دار الندوة ؛ وأرادوا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) البوار الهلاك أو الكساد ، ومعناه هنا أن مكرهم يبطل ولا ينفعهم.

(ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) أي أصنافا وقيل : ذكرانا وإناثا وهذا أظهر (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) التعمير : طول العمر والنقص : قصره والكتاب : اللوح

١٧٢

المحفوظ فإن قيل : إن التعمير والنقص لا يجتمعان لشخص واحد فيكف أعاد الضمير في قوله : ولا ينقص من عمره على الشخص المعمر؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو الصحيح أن المعنى ما يعمر من أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، فوضع من معمر موضع من أحد ، وليس المراد شخصا واحدا ، وإنما ذلك كقولك لا يعاقب الله عبدا ولا يثيبه إلا بحق ، والثاني أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، وذلك أن يكتب في اللوح المحفوظ أن فلانا إن تصدق فعمره ستون سنة وإن لم يتصدق فعمره أربعون ، وهذا ظاهر قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلة الرحم تزيد في العمر ، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين وليس مذهب الأشعرية ، وقد قال كعب حين طعن عمر : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر الناس عليه فاحتج بهذه الآية. والثالث أن التعمير هو كتب ما يستقبل من العمر والنقص هو : كتب ما مضى منه في اللوح المحفوظ وذلك حق كل شخص.

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ) قد فسرنا البحرين الفرات والأجاج في [الفرقان : ٥٣] وسائغ في [النحل : ٦٦] ، والقصد بالآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده ، وقال الزمخشري : إن المعنى أن الله ضرب للبحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر وهذا بعيد (لَحْماً طَرِيًّا) يعني الحوت [السمك] (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يعني الجوهر والمرجان ، فإن قيل : إن الحلية لا تخرج إلا من البحر الملح دون العذب ، فكيف قال : ومن كل أي من كل واحد منهما؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أن ذلك تجوّز في العبارة كما قال : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣] والرسل إنما هي من الإنس. الثاني أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح حيث تنصب أنهار الماء العذب ، أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصب في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعا. الثالث زعم قوم أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب ، وهذا قول يبطله الحس أي الواقع (مَواخِرَ) ذكر في [النحل : ١٤] (يُولِجُ) ذكر في [لقمان : ٢٩] (قِطْمِيرٍ) هو القشر الرقيق الأبيض الذي على نوى التمر ، والمعنى أن الأصنام لا يملكون أقل الأشياء فكيف أكثرها (يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) أي بإشراككم ، فالمصدر مضاف للفاعل ، وكفر الأصنام بالشرك يحتمل أن يكون بكلام يخلقه الله عندها ، أو بقرينة الحال (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر عالم به ، يعني نفسه تعالى في إخباره أن الأصنام يكفرون يوم القيامة بمن عبدهم.

١٧٣

(أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) خطاب لجميع الناس ، وإنما عرف الفقر بالألف واللام ليدل على اختصاص الفقر بجنس الناس ، وإن كان غيرهم فقراء ولكن فقراء الناس أعظم ، ثم وصف نفسه بأنه الغني في مقابلة وصفهم بالفقر ، ووصفه بأنه الحميد ليدل على وجوده وكرمه الذي يوجب أن يحمده عباده (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) الحمل عبارة عن الذنوب ، والمثقلة الثقيلة الحمل أو النفس الكثيرة الذنوب ، والمعنى أنها لو دعت أحدا إلى أن يحمل عنها ذنوبها لم يحمل عنها ، وحذف مفعول إن تدع لدلالة المعنى وقصد العموم ، وهذه الآية بيان وتكميل لمعنى قوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥] (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) المعنى ولو كان المدعوّ ذا قربى ممن دعاه إلى حمل ذنوبه لم يحمل منه شيئا ، لأن كل واحد يقول : نفسي نفسي (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم ، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار (بِالْغَيْبِ) في موضع حال من الفاعل في يخشون أي يخشون ربهم ، وهم غائبون عن الناس فخشيتهم حق لا رياء.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) تمثيل للكافر والمؤمن (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) تمثيل للكفر والإيمان (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) تمثيل للثواب والعقاب وقيل : الظل : الجنة والحرور النار. والحرور في اللغة : شدة الحر بالنهار والليل والسموم بالنهار خاصة (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) تمثيل لمن آمن فهو كالحي ومن لم يؤمن فهو كالميت (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) عبارة عن هداية الله لمن يشاء (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) عبارة عن عدم سماع الكفار للبراهين والمواعظ ، فشبههم بالموتى في عدم إحساسهم ، وقيل : المعنى أن أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون ، فليس عليك أن تسمعهم ، وإنما بعث للأحياء (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) معناه أن الله قد بعث إلى كل أمة نبيا يقيم عليهم الحجة ، فإن قيل : كيف ذلك وقد كان بين الأنبياء فترات وأزمنة طويلة؟ ألا ترى أن بين عيسى ومحمدا صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي؟ فالجواب أن دعوة عيسى ومن تقدمه من الأنبياء كانت قد بلغتهم فقامت عليهم الحجة. فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ؟) [السجدة : ٣] فالجواب أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم ، فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم ، وأيضا فإن المراد بقوله : وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أن نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر ، لأن الله أرسله كما

١٧٤

أرسل من قبله والمراد بقوله : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك أنهم محتاجون إلى الإنذار ، لكونهم لم يتقدم من ينذرهم فاختلف سياق الكلام فلا تعارض بينهما.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتأسي (نَكِيرِ) ذكر في سبأ (ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) يريد الصفرة والحمرة وغير ذلك من الألوان ، وقيل : يريد الأنواع والأول أظهر لذكره البيض والحمر والسود بعد ذلك. وفي الوجهين دليل على أن الله تعالى فاعل مختار ، يخلق ما يشاء ويختار. وفيه ردّ على الطبائعيين [الدهريين] لأن الطبيعة لا يصدر عنها إلا نوع واحد (جُدَدٌ) جمع جدة وهي الخطط والطرائق في الجبال (وَغَرابِيبُ) جمع غربيب وهو الشديد السواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر لقصد التأكيد ، ولأن ذلك كثيرا ما يأتي في كلام العرب (كَذلِكَ) يتعلق بما قبله فيتم الوقف عليه والمعنى : أن من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ، مثل الجبال المختلف ألوانها ، والثمرات المختلف ألوانها ، وذلك كله استدلال على قدرة الله وإرادته.

(إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه علما يوجب لهم الخشية من عذابه وفي الحديث : أعلمكم بالله أشدكم له خشية (١) لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه وإذا لم يعرفه لم يخف منه فلذلك خص العلماء بالخشية (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يقرءون القرآن وقيل : معنى يتلون : يتبعون والخبر يرجون تجارة أو محذوف (لَنْ تَبُورَ) أي لن تكسد ويعني بالتجارة طلب الثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) توفية الأجور ، وهو ما يستحقه المطيع من الثواب ، والزيادة التضعيف فوق ذلك ، وقيل : الزيادة النظر إلى وجه الله (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) تقدم في البقرة.

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) يعني أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف

__________________

(١). لم أعثر عليه بهذا اللفظ ومعناه صحيح والله أعلم.

١٧٥

الثلاثة في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسناته وسيّئاته ، وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له] (١) وقيل : الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد ، وأما على القول الأول فيعود على الذين اصطفينا وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث ، وجلالة القائلين به ، فإن قيل : لم قدّم الظالم ووسط المقتصد وأخر السابق؟ فالجواب : أنه قدّم الظالم لنفسه رفقا به لئلا ييئس وأخر السابق لئلا يعجب بنفسه ، وقال الزمخشري : قدّم الظالم لكثرة الظالمين وأخر السابق لقلة السابقين (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) إشارة إلى الاصطفاء (جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل من الفضل أو خبر مبتدأ تقديره : ثوابهم جنات عدن أو مبتدأ تقديره : لهم جنات عدن (يَدْخُلُونَها) ضمير الفاعل يعود على الظالم ، والمقتصد ، والسابق ، على القول بأن الآية في هذه الأمة : وأما على القول بأن الظالم هو الكافر فيعود على المقتصد والسابق خاصة ، وقال الزمخشري : إنه يعود على السابق خاصة وذلك على قول المعتزلة في الوعيد (أَساوِرَ) ذكر في [الحج : ٢٣] (أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) قيل هو عذاب النار ، وقيل : أهوال القيامة وقيل : هموم الدنيا والصواب العموم في ذلك كله (دارَ الْمُقامَةِ) هي الجنة والمقامة هي الإقامة ، والموضع وإنما سميت الجنة دار المقامة ، لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها (نَصَبٌ) النصب تعب البدن ، واللغوب تعب النفس ، اللازم عن تعب البدن (يَصْطَرِخُونَ) يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون : ربنا أخرجنا وفي قولهم : غير الذي كنا نعمل اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه.

__________________

(١). ذكره في التيسير ج ٢ ص ٤٩ وعزاه لابن مردويه والبيهقي في البعث عن ابن عمر ثم قال : وهذا منكر رواه بلفظ : السابق والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب والظالم لنفسه يحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة وعزاه للحاكم عن أبي الدرداء بإسناد صحيح ص ٦٨ وأقول : إن الفرقاء الثلاثة ناجون ؛ لقوله سبحانه في أول الآية : اصطفينا من عبادنا ـ والاصطفاء لا يتفق مع الكفر ولا مع العذاب ، إذن فتسمية هؤلاء الفرقاء المصطفين بأنهم ظالم لنفسه ومقتصد وسابق ، لبيان اختلاف درجاتهم. كما يقول الصوفية : حسنات الأبرار سيئات المقربين. والله أعلم. مصححة.

١٧٦

(أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل : إن مدة التذكير ستون سنة وقيل : أربعون وقيل : البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من عمره الله ستين فقد أعذر إليه في العمر (١) (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : يعني الشيب ، لأنه نذير بالموت والأول أظهر (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما تضمره الصدور وتعتقده ، وقال الزمخشري : ذات هنا تأنيث ذو بمعنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور (خَلائِفَ) ذكر في الأنعام (مَقْتاً) المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ) الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ) أي نصيب (عَلى بَيِّنَةٍ) (٢) قرأ نافع بيّنات أي على أمر جليّ ، والضمير في أتيناهم يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من الضمائر (أَنْ تَزُولا) في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تزولا أو مفعول به لأن يمسك بمعنى يمنع (وَلَئِنْ زالَتا) أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد ، وقيل : أراد زوالهما يوم القيامة عند طيّ السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد تركه الإمساك (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ) الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى جاءتهم الرسل فكذبوهم ، والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم (إِحْدَى الْأُمَمِ) يعني اليهود والنصارى (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) يعني محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (اسْتِكْباراً) بدل من نفورا أو مفعول من أجله (وَمَكْرَ السَّيِّئِ) هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك : مسجد الجامع وجانب الغربي والأصل أن يقال : المكر السيء (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي لا يحيط وبال المكر السيء إلا بمن مكره ودبره ، وقال كعب لابن عباس : إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس : أنا أجد هذا في كتاب الله : ولا يحيق المكر

__________________

(١). ورد في البخاري عن أبي هريرة ونصه : أعذر الله إلى امرئ أخّر أجله حتى بلغ ستين سنة ج / ٧ / ١٧١.

(٢). قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر والكسائي : فهم على بينات منه ، والباقون : بينة.

١٧٧

السيء إلا بأهله (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) أي هل ينظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم وإهلاكهم بتكذيبهم للرسل (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ) أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل : أراد بني آدم خاصة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد.

١٧٨

سورة يس

مكية إلا ٤٥ فمدنية وآياتها ٨٣ نزلت بعد الجن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة يس) قد تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل : في (يس) إنه من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : معناه يا إنسان (تَنْزِيلَ) بالرفع (١) خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر (لِتُنْذِرَ قَوْماً) هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) ما نافية والمعنى : لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم ، وقيل المعنى : لتنذر قوما مثل ما أنذر آباؤهم ، فما على هذا موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية والأول أرجح لقوله (فَهُمْ غافِلُونَ) يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم ، وتكون بمعنى قوله : ما أتاهم من نذير من قبلك ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين ، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آباؤهم الأقربون (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) أي سبق القضاء (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) الآية : فيها ثلاثة أقوال : الأول أنها عبارة عن تماديهم على الكفر ، ومنع الله لهم من الإيمان ، فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من الالتفات ، وغطى على بصره فصار لا يرى ، والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر ، فرجع عنه فزعا مرعوبا ، والثالث : أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم ، والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقوله بعدها («وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية ، والضمير للأغلال ، وذلك أن الغل حلقة في العنق ، فإذا كان واسعا عريضا وصل إلى الذقن فكان أشدّ على المغلول ، وقيل : الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر ، ولكنها تفهم من سياق الكلام ، لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه ، وفي مصحف ابن مسعود : إنا جعلنا في أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان. وهذه القراءة تدل على هذا المعنى ، وقد أنكره الزمخشري

__________________

(١). قرأ نافع بالرفع وقرأ آخرون بالنصب.

١٧٩

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) يقال قمح البعير إذا رفع رأسه ، وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك ، والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع ، وقيل : معنى مقمحون ممنوعون من كل خير.

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) الآية : السد (١) الحائل بين الشيئين ، وذلك عبارة عن منعهم من الإيمان (فَأَغْشَيْناهُمْ) أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضا مجاز يراد به إضلالهم (وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ) الآية : ذكرنا معناها وإعرابها في [البقرة : ٦] (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) معناه كقولك : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد ذكرناه في [فاطر : ١٨] (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) أي نبعثهم يوم القيامة ، وقيل : إحياؤهم إخراجهم من الشرك إلى الإيمان ، والأوّل أظهر (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) أي ما قدموا من أعمالهم ، وما تركوه بعدهم ، كعلم علموه أو تحبيس [وقف] حبسوه ، وقيل : الأثر هنا : الخطا إلى المساجد ، وجاء ذلك في الحديث (إِمامٍ مُبِينٍ) أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) الضمير لقريش ، ومثلا وأصحاب القرية مفعولان باضرب على القول بأنها تتعدى إلى مفعولين ، وهو الصحيح والقرية أنطاكية (إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام ، يدعون الناس إلى عبادة الله ، وقيل : بل هم رسل أرسلهم الله ، ويدل على هذا قول قومهم : ما أنتم إلا بشر مثلنا ، فإن هذا إنما يقال : لمن ادعى أن الله أرسله (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي قوينا الاثنين برسول ثالث ، قيل : اسمه شمعون (رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) إنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين ، بخلاف الموضع الأول فإنه إخبار مجرد (قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) أي تشاءمنا بكم ، وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما يكون من شر أو خير ، وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاءوهم بدين غير دينهم ، وقيل : وقع فيهم الجذام لما كفروا ، وقيل : قحطوا (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي قال الرسل لأهل القرية : شؤمكم معكم ؛ أي إنما الشؤم الذي أصابكم

__________________

(١). السد فيه لغتان قرأ نافع بالضم وقرأ الباقون بفتح السين.

١٨٠