التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

سورة البيّنة

مدنية وآياتها ٨ نزلت بعد الطلاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ذكر الله الكفار ثم قسمهم إلى صنفين أهل الكتاب والمشركين ، وذكر أن جميعهم لم يكونوا منفكين حتى تأتيهم البينة ، وتقوم عليهم الحجة ببعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى منفكين : منفصلين ، ثم اختلف في هذا الانفصال على أربعة أقوال : أحدها أن المعنى لم يكونوا منفصلين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة لتقوم عليهم الحجة. الثاني لم يكونوا منفصلين عن معرفة نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعثه الله. الثالث اختاره ابن عطية وهو لم يكونوا منفصلين عن نظر الله وقدرته ، حتى يبعث الله إليهم رسولا يقيم عليهم الحجة الرابع وهو الأظهر عندي أن المعنى لم يكونوا لينفصلوا من الدنيا حتى بعث الله لهم سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقامت عليهم الحجة ، لأنهم لو انفصلت الدنيا دون بعثه : (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] فلما بعثه الله لم يبق لهم عذر ولا حجة ، فمنفكين على هذا كقولك : لا تبرح أو لا تزول حتى يكون كذا وكذا (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) يعني سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعرابه بدل من البينة أو خبر ابتداء مضمر (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) يعني القرآن في صحفه (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي قيمة بالحق مستقيمة بالمعاني ، ووزن قيّمة فيعلة وفيه مبالغة قال ابن عطية : هذا على حذف مضاف تقديره : فيها أحكام كتب ولا يحتاج هذا إلى الحذف لأن الكتب بمعنى المكتوبات.

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من بعد ما علموا أنه حق ، ويحتمل أن يريد تفرقهم في دينهم كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) [فصلت : ٤٥] وإنما خص الذين أوتوا الكتاب بالذكر هنا بعد ذكرهم مع غيرهم في أول السورة ؛ لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه تعالى وآله وسلم ، بما يجدون في كتبهم من ذكره (وَما أُمِرُوا) الآية : هنا معناها : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بعبادة الله ، ولكنهم حرّفوا أو بدّلوا ، ويحتمل أن يكون المعنى ما أمروا في القرآن إلا بعبادة الله ، فلأيّ شيء ينكرونه ويكفرون به (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء ، وهو بعيد لأن الإخلاص هنا يراد

٥٠١

به التوحيد وترك الشرك أو ترك الرياء ، وذلك أن الإخلاص مطلوب في التوحيد وفي الأعمال ، وهذا الإخلاص في التوحيد من الشرك الجليّ ، وهذا الإخلاص في الأعمال من الشرك الخفيّ ، وهو الرياء. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الرياء الشرك الأصغر وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه إنه تعالى يقول «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشريكه» (١).

واعلم أن الأعمال ثلاثة أنواع : مأمورات ومنهيات ومباحات فأما المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن خلوص النية لوجه الله ، بحيث لا يشوبها بنية أخرى ، فإن كانت كذلك فالعمل خالص مقبول ، وإن كانت النية لغير وجه الله ، من طلب منفعة دنيوية ، أو مدح أو غير ذلك فالعمل رياء محض مردود ، وإن كانت النية مشتركة ففي ذلك تفصيل فيه نظر واحتمال. وأما المنهيات فإن تركها دون نية خرج عن عهدتها ، ولم يكن له أجر في تركها وإن تركها بنية وجه الله حصل له الخروج عن عهدتها مع الأجر ، وأما المباحات كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك فإن فعلها بغير نية لم يكن فيها أجر ، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر ، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إذا قصد به وجه الله مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفف عن الحرام (حُنَفاءَ) جمع حنيف وقد ذكر (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) تقديره : الملة القيمة ، أو الجماعة القيمة وقد فسرنا القيمة ومعناها أن الذي أمروا به من عبادة الله والإخلاص له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة هو دين الإسلام فلأيّ شيء لا يدخلون فيه؟ (الْبَرِيَّةِ) الخلق لأن الله برأهم وأوجدهم بعد العدم. وقرأ [نافع وابن عامر البريئة] بالهمز وهو الأصل و [الباقون] بالياء وهو تخفيف من المهموز ، وهو أكثر استعمالا عند العرب.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) اختلف هل هذا في الدنيا أو في الآخرة؟ فرضاهم عن الله في الدنيا هو الرضا بقضائه والرضا بدينه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا (٢) ، ورضاهم عنه في الآخرة : هو رضاهم بما أعطاهم الله فيها ، أو رضا الله عنهم لما ورد في الحديث أن الله يقول : يا أهل الجنة هل تريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا ربنا وأي شيء نريد وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين فيقول عندي أفضل من ذلك وهو رضواني فلا أسخط عليكم أبدا (٣) (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي لمن خافه وهذا دليل على فضل الخوف قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوف الله رأس كل حكمة (٤).

__________________

(١). رواه مسلم عن أبي هريرة الاتحافات السنية للمناوي رقم ٥٩.

(٢). رواه أحمد عن العباس ج ١ ص ٢٠٨.

(٣). رواه المنذري وعزاه للشيخين والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

(٤). ذكره المناوي في التيسير بمعناه : رأس الحكمة مخافة الله وعزاه للحكيم في نوادره وابن لال في مكارم الأخلاق عن ابن مسعود.

٥٠٢

سورة الزلزلة

مدنية وآياتها ٨ نزلت بعد النساء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) أي حركت واهتزت (زِلْزالَها) مصدر وإنما أضيف إليها تهويلا كأنه يقول الزلزلة التي تليق بها على عظم جرمها (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) يعني الموتى الذين في جوفها ، وذلك عند النفخة الثانية في الصور. وقيل : هي الكنوز وهذا ضعيف لأن إخراجها للكنوز وقت الدجال (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) أي يتعجب من شأنها فيحتمل أن يريد جنس الإنسان أو الكافر خاصة ؛ لأنه الذي يرى حينئذ ما لا يظن (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) هذه عبارة عما يحدث فيها من الأهوال فهو مجاز وحديث بلسان الحال وقيل : هو شهادتها على الناس بما عملوا على ظهرها فهو حقيقة ، وتحدّث يتعدّى إلى مفعولين حذف المفعول منهما ، والتقدير تحدث الخلق أخبارها ، وانتزع بعض المحدثين من قوله تحدّث أخبارها أن قول المحدّث حدثنا وأخبرنا سواء ، وهذه الجملة هي جواب إذا زلزلت وتحدث هو العامل في إذا. ويومئذ بدل من إذا ويجوز أن يكون العامل في إذا مضمر وتحدث عامل في يومئذ (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) الباء سببية متعلقة بتحدث أي تحدث بسبب أن الله أوحى لها ، ويحتمل أن يكون بأن الله أوحى لها بدلا من إخبارها وهذا كما تقول : حدثت كذا وحدثت بكذا والمعنى على هذا تحدث بحديث الوحي لها ، وهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما أو كلاما بواسطة الملائكة ولها بمعنى إليها ، وقيل : معناها أوحى إلى الملائكة من أجلها وهذا بعيد.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) مختلفين في أحوالهم ، وواحد الأشتات شتيت وصدر الناس : هو انصرافهم من موضع وردهم فقيل : الورد هو الدفن في القبور والصدر : هو القيام للبعث. وقيل الورد القيام للحشر ، والصدر الانصراف إلى الجنة أو النار. وهذا أظهر. وفيه يعظم التفاوت بين أحوال الناس فيظهر كونهم أشتاتا (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (١) المثقال هو الوزن والذرة هي النملة الصغيرة ، والرؤية هنا ليست برؤية بصر

__________________

(١). يره : قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء : يره والباقون بإشباع الضمة : يرهو.

٥٠٣

وإنما هي عبارة عن الجزاء. وذكر الله مثقال الذرة تنبيها على ما هو أكثر منه من طريق الأولى ، كأنه قال : من يعمل قليلا أو كثيرا وهذه الآية هي في المؤمنين ، لأن الكافر لا يجازى في الآخرة على حسناته ، إذ لم تقبل منه. واستدل أهل السنة بهذه الآية : أنه لا يخلد مؤمن في النار ؛ لأنه إذا خلد لم ير ثوابا على إيمانه وعلى ما عمل من الحسنات ، وروي عن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فقيل لها في ذلك ؛ فقالت : كم فيها من مثقال ذرة ، وسمع رجلا هذه الآية عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : حسبي الله لا أبالي أن أسمع غيرها (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١) هذا على عمومه في حق الكافر ، وأما المؤمنون فلا يجازون بذنوبهم إلا بستة شروط : وهي أن تكون ذنوبهم كبائر ، وأن يموتوا قبل التوبة منها وأن لا تكون لهم حسنات أرجح في الميزان منها ، وأن لا يشفع فيهم وأن لا يكون ممن استحق المغفرة بعمل كأهل بدر ، وأن لا يعفو الله عنهم فإن المؤمن العاصي في مشيئة الله إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له.

__________________

(١). يره : قرأها أحد الرواة وهو يحيى بن آدم بسكون الهاء : يره والباقون بإشباع الضمة : يرهو.

٥٠٤

سورة العاديات

مكية وآياتها ١١ نزلت بعد العصر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اختلف في العاديات والموريات والمغيرات هل يراد بها الخيل أو الإبل؟ وعلى القول بأنها الخيل اختلف هل يعني خيل المجاهدين أو الخيل على الإطلاق؟ وعلى القول بأنها الإبل اختلف هل يعني إبل غزوة بدر أو إبل المجاهدين مطلقا ، أو إبل الحجاج أو الإبل على الإطلاق؟ ومعنى العاديات التي تعدو في مشيها ، والضبح هو تصويت جهير عند العدو الشديد ، ليس بصهال. وهو مصدر منصوب على تقدير : يضبحن ضبحا أو هو مصدر في موضع الحال تقديره : العاديات في حال ضبحها ، والموريات من قولك أوريت النار إذا أوقدتها ، والقدح هو صك الحجارة فيخرج منها شعلة نار. وذلك عند ضرب الأرض لأرجل الخيل أو الإبل ، وإعراب قدحا كإعراب صبحا ، والمغيرات من قولك : أغارت الخيل إذا خرجت للإغارة على الأعداء ، وصبحا ظرف زمان لأن عادة أهل الغارة في الأكثر أن يخرجوا في الصباح (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) هذه الجملة معطوفة على العاديات وما بعده لأنه في تقدير التي تعدو ، والنقع : الغبار والضمير المجرور للوقت المذكور وهو الصبح ، فالباء ظرفية أو لكان الذي يقتضيه المعنى ، فالباء أيضا ظرفية أو للعدو ، وهو المصدر الذي يقتضيه العاديات. فالباء سببية ومعنى أثرن حركن والضمير الفاعل للإبل أو للخيل أي حركن الغبار عند مشيهن (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) معنى وسطن توسطن ، وجمعا اختلف هل المراد به جمع من الناس أو المزدلفة (١) لأن اسمها جمع والضمير المجرور للوقت أو للمكان أو للعدو أو للنقع.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم والكنود الكفور للنعمة فالتقدير : إن

__________________

(١). هكذا وقد ذكرها الطبري أيضا وهي مكان معروف بين عرفات ومنى حيث ينفر إليها الحجاج ليلة النحر.

٥٠٥

الإنسان لنعمة ربه لكفور ، والإنسان جنس ، وقيل : الكنود العاصي ، وقال بعض الصوفية : الكنود هو الذي يعبد الله على عوض [بمقابل] (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) الضمير للإنسان أي هو شاهد على نفسه بكنوده ، وقيل : هو لله تعالى على معنى التهديد : والأول أرجح لأن الضمير الذي بعده الإنسان باتفاق ، فيجري الكلام على نسق واحد (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) الخير هنا المال ، كقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) [البقرة : ١٨٠] والمعنى أن الإنسان شديد الحب للمال ، فهو ذم لحبه والحرص عليه ، وقيل : الشديد : البخيل ، والمعنى على هذا أنه بخيل من أجل حب المال ، والأول أظهر (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي بحث عند ذلك عبارة عن البعث (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) أي جمع ما في الصحف وأظهر محصلا أو ميز خيره من شره (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) الضمير في ربهم وبهم يعود على الإنسان ، لأنه يراد به الجنس وفي هذه الجملة وجهان : أحدهما أن هذه الجملة معمول أفلا يعلم فكان الأصل أن تفتح إن ، ولكنها كسرت من أجل اللام التي في خبرها الثاني أن تكون هذه الجملة مستأنفة ويكون معمول أفلا يعلم محذوفا ويكون الفاعل ضميرا يعود على الإنسان والتقدير : أفلا يعلم الإنسان حاله وما يكون منه إذا بعثر ما في القبور؟ وهذا هو الذي قاله ابن عطية ويحتمل عندي أن يكون فاعل أفلا يعلم ضميرا يعود على الله ، والمفعول محذوف والتقدير : أفلا يعلم الله أعمال الإنسان إذا بعثر ما في القبور ، ثم استأنف قوله إن ربهم بهم يومئذ لخبير على وجه التأكيد ، أو البيان للمعنى المتقدم ، والعامل في إذا بعثر على هذا الوجه هو أفلا يعلم والعمل فيه على مقتضى قول ابن عطية هو المفعول المحذوف ، وإذا هنا ظرفية بمعنى حين ووقت وليست بشرطية ، والعامل في يومئذ خبير ، وإنما خص ذلك بيوم القيامة لأنه يوم الجزاء بقصد التهديد ، مع أن الله خبير على الإطلاق.

٥٠٦

سورة القارعة

مكية وآياتها ١١ نزلت بعد قريش

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بهولها ، وقيل : هي النفخة في الصور لأنها تقرع الأسماع (مَا الْقارِعَةُ) مبتدأ وخبر في موضع خبر القارعة ، والمراد به تعظيم شأنها ، كذلك (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) العامل في الظرف محذوف دل عليه القارعة تقديره ، تقرع في يوم ، والفراش هو الطير الصغير الذي يشبه البعوض ، ويدور حول المصباح. والمبثوث هو المنتشر المفترق. شبّه الله الخلق يوم القيامة به في كثرتهم وانتشارهم وذلتهم ، ويحتمل أنه شبههم به لتساقطهم في جهنم. كما يتساقط الفراش في المصباح. قال بعض العلماء : الناس في أول قيامهم من القبور كالفراش المبثوث ، لأنهم يجيئون ويذهبون على غير نظام ، ثم يدعوهم الداعي فيتوجهون إلى ناحية المحشر ؛ فيكونون حينئذ كالجراد المنتشر. لأن الجراد يقصد إلى جهة واحدة ، وقيل :

الفراش هنا الجراد الصغير وهو ضعيف (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن هو الصوف ، وقيل : الصوف الأحمر وقيل : الصوف الملون ألوانا ، شبّه الله الجبال يوم القيامة به ، لأنها تنسف فتصير لينة ، وعلى القول بأنه الملون يكون التشبيه أيضا من طريق اختلاف ألوان الجبال ؛ لأن منها بيضاء وحمراء وسوداء.

(مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) هو جمع ميزان أو جمع موزون ، وميزان الأعمال يوم القيامة له لسان وكفتان عند الجمهور ، وقال قوم : هو عبارة عن العدل (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) معناه ذات رضا عند سيبويه : وثقل الموازين بكثرة الحسنات وخفتها بقلتها ، ولا يخف ميزان مؤمن خفة موبقة لأن الإيمان يوزن فيه (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما أن الهاوية جهنم سميت بذلك لأن الناس يهوون فيها أي يسقطون ، وأمه معناه مأواه كقولك : المدينة أم فلان أي مسكنه على التشبيه بالأمّ الوالدة لأنها مأوى الولد ومرجعه. الثاني أن الأم هي الوالدة ،

٥٠٧

وهاوية ساقطة وذلك عبارة عن هلاكه كقولك : أمه ثكلى إذا هلك : الثالث أن المعنى أم رأسه هاوية في جهنم. أي ساقطة فيها ، لأنه يطرح فيها منكوسا ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : لا أمّ لك فقال : يا رسول الله تدعوني إلى الهدى وتقول لي لا أمّ لك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أردت لا نار لك ، قال الله تعالى : فأمه هاوية وهذا يؤيد القول الأول (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) الهاء للسكت والضمير لجهنم على القول بأنها الهاوية ، وهو للفعلة والخصلة التي يراد بها العذاب على القول الثاني والثالث ، والمقصود تعظيمها ثم فسرها بقوله (نارٌ حامِيَةٌ).

٥٠٨

سورة التكاثر

مكية وآياتها ٨ نزلت بعد الكوثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) هذا خبر يراد به الوعظ والتوبيخ ، ومعنى ألهاكم شغلكم والتكاثر المباهاة بكثرة المال والأولاد ، وأن يقول هؤلاء : نحن أكثر ويقول هؤلاء : نحن أكثر ، ولما قرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يقول ابن آدم مالي مالي وليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت (١) (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدهما أن معناه حتى متم فأراد بزيارة المقابر الدفن فيها. الثاني أن معناه حتى ذكرتم الموتى الذين في المقابر ، فعبّر بزيارتها عن التفاخر بمن فيها ؛ لأن بعض العرب تفاخر بآبائها الموتى. فالمعنى (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) حتى بلغتم فيه إلى ذكر الموتى : الثالث أن معناها زيارة المقابر حقيقة لتعظيم أهلها والتفاخر بهم فيقال : هذا قبر فلان ليشهر ذكره ويعظم قدره (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) زجر وتهديد ، ثم كرره للتأكد وعطفه بثم إشارة إلى أن الثاني أعظم من الأول ، وقيل : الأول تهديد للكفار والثاني : تهديد للمؤمنين وحذف معمول تعلمون وتقديره ما يحل بكم ، أو تعلمون أن القرآن حق ، أو تعلمون أنكم كنتم على خطأ في اشتغالكم بالدنيا ، وإنما حذفه لقصد التهويل فيقدر السامع أعظم ما يخطر بباله.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) جواب لو محذوف تقديره لو تعلمون لازدجرتم واستعددتم للآخرة ، فينبغي الوقف على اليقين ومعمول لو تعملون محذوف أيضا وعلم اليقين مصدر ومعنى علم اليقين : العلم الذي لا يشك فيه. قال بعضهم : هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولك : دار الآخرة وقال الزمخشري : معناه علم الأمور التي تتيقنونها بالمشاهدة (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (٢) هذا جواب قسم محذوف ، وهو تفسير لمفعول لو تعلمون تقديره : لو تعلمون

__________________

(١). الحديث ذكره المنذري وعزاه لمسلم عن أبي هريرة ص ١٠١ ج ٤ المنيرية.

(٢). قرأ الكسائي وابن عامر : لترونّ الجحيم بضم التاء والباقون بفتح التاء.

٥٠٩

عاقبة أمركم ثم فسرها بأنها رؤية الجحيم ، والتفسير بعد الإبهام يدل على التهويل والتعظيم. والخطاب لجميع الناس فهو كقوله : [وإن منكم إلا واردها] [مريم : ٧١] وقيل : للكفار خاصة ، فالرؤية على هذا يراد بها الدخول فيها (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) هذا تأكيد للرؤية المتقدمة وعطفه بثم للتهويل والتفخيم ، والعين هنا من قولك : عين الشيء نفسه وذاته ، أي لترونها الرؤية التي هي نفس اليقين (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) هذا إخبار بالسؤال في الآخرة عن نعيم الدنيا ، فقيل : النعيم الأمن والصحة ، وقيل : الطعام والشراب ، وهذه أمثلة ، والصواب العموم في كل ما يتلذذ به قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بيت يكنّك [يؤويك] وخرقة تواريك وكسرة تشدّ قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل نعيم فمسؤول عنه إلا نعيم في سبيل الله ، وأكل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما مع أصحابه رطبا وشربوا عليه ماء فقال لهم هذا من النعيم الذي تسئلون عنه (١).

__________________

(١). الحديثان مشهوران وقد رواهما الطبري في تفسيره بألفاظ مقاربة.

٥١٠

سورة العصر

مكية وآياتها ٣ نزلت بعد الشرح

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْعَصْرِ) فيه ثلاثة أقوال : الأول أنه صلاة العصر أقسم الله بها لفضلها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله (١) : الثاني أنه العشيّ أقسم به كما أقسم بالضحى ، ويؤيد هذا قول أبيّ بن كعب : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العصر فقال : أقسم ربكم بآخر النهار : الثالث أنه الزمان (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) الإنسان جنس ولذلك استثنى منه الذين آمنوا فهو استثناء متصل (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي وصى بعضهم بعضا بالحق وبالصبر ، فالحق هو الإسلام وما يتضمنه ، وفيه إشارة إلى كذب الكفار ، وفي الصبر إشارة إلى صبر المؤمنين على إذاية الكفار لهم بمكة.

__________________

(١). الحديث رواه أحمد عن ابن عمر ج ٢ ص ١٣ والشافعي في الأم.

٥١١

سورة الهمزة

مكية وآياتها ٩ نزلت بعد القيامة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) هو على الجملة الذي يعيب الناس ويأكل أعراضهم ، واشتقاقه من الهمز واللمز ، وصيغة فعلة للمبالغة ، واختلف في الفرق بين الكلمتين فقيل : الهمز في الحضور ، واللمز في الغيبة وقيل : بالعكس. وقيل : الهمز باليد والعين ، واللمز باللسان ، وقيل : هما سواء. ونزلت السورة في الأخنس بن شريق لأنه كان كثير الوقيعة في الناس وقيل : في أمية بن خلف ، وقيل في الوليد بن المغيرة. ولفظها مع ذلك على العموم في كل من اتصف بهذه الصفات (١) (وَعَدَّدَهُ) أي أحصاه وحافظ على عدده أن لا ينقص فمنعه من الخيرات ، وقيل : معناه استعدّه وادّخره عدّة لحوادث الدهر (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن لفرط جهله واغتراره أن ماله يخلده في الدنيا ، وقيل : يظن أن ماله يوصله إلى دار الخلد (كَلَّا) رد عليه فيما ظنه (لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) هذا جواب قسم محذوف والحطمة هي جهنم ، وإنما سميت حطمة لأنها تحطم ما يلقى فيها ، وتلتهبه وقد عظّمها بقوله : وما أدراك ثم فسّرها بأنها (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : تبلغ القلوب بإحراقها قال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى أنها تطلع على ما في القلوب من العقائد والنيّات باطلاع الله إياها (مُؤْصَدَةٌ) مغلقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) العمد جمع عمود وهو عند سيبويه اسم جمع وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] في عمد بضمتين ، والعمود هو : المستطيل من حديد أو خشب [أو حجر] والممددة الطويلة ، وفي المعنى قولان : أحدهما أن أبواب جهنم أغلقت عليهم ، ثم مدت على أبوابها عمد تشديدا في الإغلاق والثقاف كما تثقف أبواب البيوت بالعمد ، وهو على هذا متعلق بمؤصدة ، والآخر أنهم موثوقون مغلولون في العمد ، فالمجرور على هذا في موضع خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم موثوقون في عمد.

__________________

(١). قوله تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : جمع مالا بالتشديد والباقون بالتخفيف.

٥١٢

سورة الفيل

مكية وآياتها ٥ نزلت بعد الكافرون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

نزلت هذه السورة منبهة على العبرة في قصة الفيل ، التي وقعت في عام مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنها تدل على كرامة الله للكعبة ، وإنعامه على قريش بدفع العدو عنهم ، فكان يجب عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به ، وفيها مع ذلك عجائب من قدرة الله وشدة عقابه ، وقد ذكرت القصة في كتب السير وغيرها واختصارها : أن أبرهة ملك الحبشة بنى بيتا باليمن ، وأراد أن يحج الناس إليه كما يحجون إلى الكعبة فذهب أعرابي وأحدث في البيت [قضى حاجته] فغضب أبرهة وحلف أن يهدم الكعبة ، فاحتفل في جموعه وركب الفيل وقصد مكة. فلما وصل قريبا منها فرّ أهلها إلى الجبال وأسلموا له الكعبة ، وأخذ لعبد المطلب مائتي بعير. فكلّمه فيها فقال له : كيف تكلمني في الإبل ولا تكلمني في الكعبة ، وقد جئت لهدمها وهي شرفك وشرف قومك؟ فقال له : أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه فبرك الفيل بذي الغميس ، ولم يتوجه إلى مكة فكانوا إذا وجهوه إلى غيرها هرول ، وإذا وجهوه إليها توقف ولو بضعوه بالحديد ، فبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيورا سودا وقيل : خضرا عند كل طائر ثلاثة أحجار في منقاره ورجليه ، فرمتهم الطيور بالحجارة ، فكان الحجر يقتل من وقع عليه ووقع في سائرهم الجدري والأسقام. وانصرفوا فماتوا في الطريق متفرقين في المراحل وتقطع أبرهة أنملة أنملة.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) معناه : ألم تعلم وكيف في موضع نصب بفعل ربك لا بألم تر والجملة معمول ألم تر في تضليل أي إبطال وتخسير (أَبابِيلَ) معناها جماعات شيئا بعد شيء قال الزمخشري واحدها أبالة وقال جمهور الناس هو جمع لا واحد له من لفظه (بِحِجارَةٍ) روي أن كل حجر منها كان فوق العدسة ودون الحمصة. قال ابن عباس : إنه أدرك عند أم هانئ نحو قفتين من هذه الحجارة ، وأنها كانت مخططة بحمرة وروي أنه كان على كل حجر اسم من يقع عليه مكتوبا (سِجِّيلٍ) قد ذكر (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) العصف ورق الزرع وتبنه والمراد أنهم صاروا رميما ، وفي تشبيههم به ثلاثة أوجه الأول أنه شبههم بالتبن إذا أكلته الدواب ثم راثته فجمع التلف والخسة ، ولكن الله كنّى عن هذا على حسب آدب القرآن. الثاني أنه أراد ورق الزرع إذا أكلته الدود. الثالث أنه أراد كعصف مأكول زرعه وبقي هو لا شيء.

٥١٣

سورة قريش

مكية وآياتها ٤ نزلت بعد التين

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) قريش هم حيّ من عرب الحجاز الذين هم من ذرية معد بن عدنان ، إلا أنه لا يقال قريشيّ إلا لمن كان من ذرية النضر بن كنانة ، وهم ينقسمون إلى أفخاذ وبيوت نحو بني هاشم ، وبني أمية ، وبني مخزوم ، وغيرهم وإنما سميت القبيلة قريشا لتقرشهم ، والتقرّش التكسب وكانوا تجارا ، وعن معاوية أنه سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟ قال : لدابة في البحر تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى [القرش] ، وكانوا ساكنين بمكة ، وكان لهم رحلتان في كل عام للتجارة رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام ، وقيل : كانت الرحلتان جميعا إلى الشام ، وقيل : كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل ، فيقيمون بها ويرحلون في الشتاء إلى مكة لسكناهم بها ، والإيلاف مصدر من قولك آلفت المكان إذا ألفته وقيل : هو منقول منه بالهمزة يقال ألف الرجل الشيء ، وألفه إياه غيره فالمعنى على القول الأول أن قريشا ألفوا رحلة الشتاء والصيف ، وعلى الثاني أن الله ألفهم الرحلتين واختلف في تعلق قوله لايلاف قريش على ثلاثة أقوال : أحدهما أنه يتعلق بقوله فليعبدوا والمعنى فليعبدوا الله من أجل إيلافهم الرحلتين فإن ذلك نعمة من الله عليهم : الثاني أنه يتعلق بمحذوف تقديره : أعجبوا لإيلاف قريش : الثالث أنه يتعلق بسورة الفيل ، والمعنى أن الله أهلك أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، فهو يتعلق بقوله : فجعلهم أو بما قبله من الأفعال. ويؤيد هذا أن السورتين في مصحف أبيّ بن كعب سورة واحدة لا فصل بينهما ، وقد قرأهما عمر في ركعة واحدة من المغرب ، وذكر الله الإيلاف مطلقا ثم أبدل منه الإيلاف المقيّد بالرحلتين تعظيما للأمر ، ونصب رحلة لأنه مفعول بإيلافهم وقال : رحلة وأراد رحلتين فهو كقول الشاعر : كلوا في بعض بطنكم تعفّوا.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) هذا إقامة حجة عليهم بملاطفة واستدعاء لهم وتذكير بالنعم ، والبيت هو المسجد الحرام (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) يحتمل أن يريد إطعامهم

٥١٤

بسبب الرحلتين ، فقد روي أنهم كانوا قبل ذلك في شدة وضيق حال حتى أكلوا الجيف ويحتمل أن يريد إطعامهم على الإطلاق ، فقد كان أهل مكة ساكنين بواد غير ذي زرع ، ولكن الله أطعمهم مما يجلب إليهم من البلاد ، بدعوة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وهو قوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) [البقرة : ١٢٦] (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) يحتمل أن يريد : آمنهم من خوف أصحاب الفيل ، ويحتمل أن يريد آمنهم في بلدهم بدعوة إبراهيم في قوله (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦] وقد فسرناه في موضعه ، أو يعني آمنهم في أسفارهم لأنهم كانوا في رحلتهم آمنين ، لا يتعرض لهم أحد بسوء ، وكان غيرهم من الناس تؤخذ أموالهم وأنفسهم : وقيل : آمنهم من الجذام فلا يرى بمكة [أحد] مجذوما قال الزمخشري : التنكير في جوع وخوف لشدتهما.

٥١٥

سورة الماعون

مكية ثلاث الآيات الأول ، مدنية الباقي : وآياتها ٧ نزلت بعد التكاثر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) قيل : إن هذا نزل في أبي جهل وأبي سفيان بن حرب ، وقيل : هو مطلق والدين هنا الملة أو الجزاء (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف ، وهذا الدفع يحتمل أن يكون عن إطعامه ، والإحسان إليه أو عن ماله وحقوقه ، وهذا أشدّ والذي لا يحض على طعام المسكين لا يطعمه من باب أولى. وهذه الجملة هي جواب أرأيت لأن معناها : أخبرني فكأنه سؤال وجواب والمعنى : انظر الذي كذب بالدين ، تجد فيه هذه الأخلاق القبيحة ، والأعمال السيئة ، وإنما ذلك لأن الدين يحمل صاحبه على فعل الحسنات. وترك السيئات فمقصود الكلام ذمّ الكفار وأحوالهم (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) قيل : إن هذا نزل في عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق ، والسورة على هذا نصفها مكي ونصفها مدني قاله أبو زيد السهيلي. وذلك أن ذكر أبي جهل وغيره من الكفار أكثر ما جاء في السور المكية ، وذكر السهو عن الصلاة والرياء فيها ، إنما هو من صفة الذين كانوا بالمدينة ، لا سيما على قول من قال : أنها في عبد الله بن أبيّ ، وقيل : إنها مكية كلها وهو الأشهر ، ونزل آخرها على هذا في رجل أسلم بمكة ولم يكن صحيح الإيمان ، وقيل : مدنية ، والسهو عن الصلاة هو تركها أو تأخيرها تهاونا بها.

وقد سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الذين هم عن صلاتهم ساهون ، قال : الذين يؤخرونها عن وقتها وقال عطاء بن يسار : الحمد لله الذي قال (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل في صلاتهم (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) هو من الرياء أي صلاتهم رياء للناس لا لله (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) وصف لهم بالبخل وقلة المنفعة للناس. وفي الماعون أربعة أقوال : الأول أنه الزكاة ، والثاني أنه المال بلغة قريش. الثالث أنه الماء ، الرابع أنه ما يتعاطاه الناس بينهم كالآنية والفأس والدلو والمقص ، وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ فقال الماء والنار والملح وزاد في بعض الطرق الإبرة والخميرة.

٥١٦

سورة الكوثر

مكية وآياتها ٣ نزلت بعد العاديات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والكوثر بثاء مبالغة من الكثرة وفي تفسيره سبعة أقوال : الأول حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الثاني أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله [له] في الدنيا والآخرة. قاله ابن عباس وتبعه سعيد بن جبير ، فإن قيل : إن النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله فالمعنى أنه على العموم. الثالث أن الكوثر القرآن. الرابع أنه كثرة الأصحاب والأتباع. الخامس أنه التوحيد. السادس أنه الشفاعة ، السابع أنه نور وضعه الله في قلبه ، ولا شك أن الله أعطاه هذه الأشياء كلها ، ولكن الصحيح أن المراد بالكوثر الحوض لما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أتدرون ما الكوثر هو نهر أعطانيه الله وهو الحوض آنيته عدد نجوم السماء (١).

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) فيه خمسة أقوال : الأول أنه أمره بالصلاة على الإطلاق وبنحر الهدي والضحايا ، الثاني أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يضحي قبل صلاة العيد فأمره أن يصلي ثم ينحر ، فالمقصود على هذا تأخير نحر الأضاحي عن الصلاة الثالث أن الكفار يصلون مكاء وتصدية وينحرون للأصنام فقال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : صل لربك وحده وانحر له أي لوجهه لا لغيره ، فهو على هذا أمر بالتوحيد والإخلاص. الرابع أن معنى انحر ضع يدك اليمنى على اليسرى عند صدرك في الصلاة فهو على هذا من النحر وهو الصدر. الخامس أن معناه ارفع يديك عند نحرك في افتتاح الصلاة (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) الشانئ هو المبغض ، وهو الشنآن بمعنى العداوة ، ونزلت هذه الآية في العاصي بن وائل ، وقيل : في أبي جهل على وجه الرد عليه إذ قال : إن محمدا أبتر أي لا ولد له ذكر ، فإذا مات استرحنا منه وانقطع أمره بموته ، فأخبر الله أن هذا الكافر هو الأبتر وإن كان له أولاد لأنه مبتور من رحمة الله أي مقطوع عنها ، ولأنه لا يذكر إذا ذكر إلا باللعنة بخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن ذكره خالد إلى آخر الدهر ، مرفوع على المنابر والصوامع مقرون بذكر الله والمؤمنون من زمانه إلى يوم القيامة أتباعه فهو كوالدهم.

__________________

(١). روى المنذري الحديث وعزاه للترمذي عن أنس ج ٤ ص ٢٥٥ ، المنيرية.

٥١٧

سورة الكافرون

مكية وآياتها ٦ نزلت بعد الماعون

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سبب هذه السورة أن قوما من قريش منهم الوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل وأبو جهل ونظراؤهم قالوا : يا محمد اتبع ديننا ونتبع دينك ، أعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فقال : معاذ الله أن نشرك بالله شيئا ، ونزلت السورة في معنى البراءة من آلهتهم ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرأها فقد برىء من الشرك (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) هذا إخبار أنه لا يعبد أصنامهم ، فإن قيل لم كرر هذا المعنى بقوله : ولا أنا عابد ما عبدتم؟ فالجواب من وجهين أحدهما قاله الزمخشري وهو أن قوله : لا أعبد ما تعبدون يريد في الزمان المستقبل وقوله : ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به فيما مضى ، أي ما كنت قط عابدا ما عبدتم فيما سلف ، فكيف تطلبون ذلك مني الآن. الثاني قاله ابن عطية : وهو أن قوله : لا أعبد ما تعبدون لما كان يحتمل أن يراد به زمان الحال خاصة قال : ولا أنا عابد ما عبدتم أي : أبدا ما عشت. لأن لا النافية إذا دخلت على الفعل المضارع خلصته للاستقبال فقوله : لا أعبد لا يحتمل أن يراد به الحال. ويحتمل عندي أن يكون قوله : لا أعبد ما تعبدون يراد به في المستقبل ، على حسب ما تقتضيه لا من الاستقبال ، ويكون قوله ولا أنا عابد ما عبدتم يريد به في الحال ، فيحصل من المجموع نفي عبادته الأصنام في الحال والاستقبال. ومعنى الحال في قوله ولا أنا عابد ما عبدتم ثم أظهر من معنى المضي الذي قاله الزمخشري ، ومن معنى الاستقبال فإن قولك : ما زيد بقائم بنفي الجملة الاسمية يقتضي الحال.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) هذا إخبار أن هؤلاء الكفار لا يعبدون الله ، كما قيل لنوح : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] إلا أن هذا في حق قوم مخصوصين ماتوا على الكفر ، وقد روي أن هؤلاء الجماعة المذكورين هم أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبيّ بن خلف وأبن الحجاج وكلهم ماتوا كفارا ، فإن قيل : لم قال ما أعبد بما دون من التي هي موضوعة لمن يعقل؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدهما أن ذلك لمناسبة قوله : لا أعبد ما تعبدون فإن هذا

٥١٨

واقع على الأصنام التي لا تعقل ثم جعل ما أعبد على طريقته لتناسب اللفظ. الثاني أنه أراد الصفة كأنه قال : لا أعبد الباطل ولا تعبدون الحق قاله الزمخشري. الثالث أن ما مصدرية والتقدير : لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وهذا ضعيف ، فإن قيل لم كرّر هذا المعنى واللفظ فقال بعد ذلك : ولا أنتم عابدون ما أعبد مرة أخرى؟ فالجواب من وجهين : أحدهما قول الزمخشري : وهو أن الأوّل في المستقبل والثاني فيما مضى والآخر قاله ابن عطية وهو أن الأول في الحال والثاني في الاستقبال فهو حتم عليهم أن لا يؤمنوا أبدا (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذه براءة منهم ، وفيها مسالمة منسوخة بالسيف.

٥١٩

سورة النصر

نزلت بمنى في حجة الوداع فتعد مدنية وهي آخر ما نزل من سور القرآن وآياتها ٣ نزلت بعد التوبة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سأل عمر بن الخطاب جماعة من الصحابة رضي الله عنهم عن معنى هذه السورة فقالوا : إن الله أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتسبيح والاستغفار عند النصر والفتح ، وذلك على ظاهر لفظها فقال لابن عباس بمحضرهم : يا عبد الله ما تقول أنت؟ قال هو أجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلمه الله بقربه إذا رأى النصر والفتح ، فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما علمت. وقد قال بهذا المعنى ابن مسعود وغيره ، ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم ويؤيده قول عائشة إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة وأسلم جعل يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم إني أستغفرك يتأول القرآن ، أي هذه السورة وقال لها مرة ما أراه إلا حضور أجلي. وقال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى أيام التشريق في حجة الوداع. وعاش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها ثمانين يوما أو نحوها ، وقال ابن مسعود : هذه السورة تسمى سورة التوديع.

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) يعني بالفتح فتح مكة والطائف وغيرهما من البلاد التي فتحها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال ابن عباس : إن النصر صلح الحديبية والفتح فتح مكة وقيل : النصر إسلام أهل اليمن ، والإخبار بذلك كله قبل وقوعه إخباره بغيب ، فهو من أعلام النبوّة (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي جماعات ، وذلك أنه أسلم بعد فتح مكة بشر كثير ، فقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معه في فتح مكة عشرة آلاف ، وكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفا وقال أبو عمر بن عبد البر : لم يمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي العرب رجل كافر (١). وقد قيل : إن عدد المسلمين عند موته مائة ألف وأربعة عشر ألفا بل أكثر (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) قد ذكر التسبيح والاستغفار ومعنى بحمد ربك فيما تقدم ، فإن قيل : لم أمره الله بالتسبيح والحمد والاستغفار عند رؤية النصر والفتح ، وعند اقتراب أجله؟ فالجواب أنه أمر بالتسبيح والحمد ليكون شكرا على النصر والفتح وظهور الإسلام وأمره بذلك وبالاستغفار عند اقتراب أجله ليكون ذلك زادا للآخرة وعدة للقاء الله.

__________________

(١). هذا الكلام فيه نظر لوجود مسيلمة الكذاب على الأقل.

٥٢٠