التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الأثقال ، فالمعنى حتى تذهب وتزول أثقالها ، وهي آلاتها وقيل : الأوزار : الآثام ، لأن الحرب لا بد أن يكون فيها إثم في أحد الجانبين ، واختلف في الغاية المرادة هنا فقيل : حتى يسلموا جميعا ؛ فحينئذ تضع الحرب أوزارها وقيل : حتى تقتلوهم وتغلبوهم ، وقيل : حتى ينزل عيسى ابن مريم : قال ابن عطية : ظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا ، كما تقول : أنا فاعل ذلك إلى يوم القيامة (ذلِكَ) تقديره : الأمر ذلك (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) (١) أو لو شاء الله لأهلك الكفار بعذاب من عنده ، ولكنه تعالى أراد اختبار المؤمنين ، وأن يبلو بعض الناس ببعض (عَرَّفَها لَهُمْ) أي جعلهم يعرفون منازلهم فيها ، فهو من المعرفة وقيل : معناه طيّبها لهم فهو من العرف وهو طيب الرائحة ، وقيل : معناه شرّفها ورفعها ، فهو من الأعراف التي هي الجبال (فَتَعْساً لَهُمْ) أي عثارا وهلاكا. وانتصابه على المصدرية ، والعامل فيه فعل مضمر ، وعلى هذا الفعل عطف وأضلّ أعمالهم (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) أي لكفار قريش أمثال عاقبة الكفار المتقدمين من الدمار والهلاك.

(مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليهم وناصرهم ، وكذلك (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) معناه : لا ناصر لهم ، ولا يصح أن يكون المولى هنا بمعنى السيد ، لأن الله مولى المؤمنين والكافرين بهذا المعنى ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) [الأنعام : ٦٢] لأن معنى المولى مختلف في الموضعين ؛ فمعنى مولاهم الحق : ربهم وهذا على العموم في جميع الخلق بخلاف قوله : (مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ فإنه خاص بالمؤمنين لأنه بمعنى الولي والناصر (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) عبارة عن كثرة أكلهم ، وعن غفلتهم عن النظر كالبهائم (مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) يعني مكة. وخروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وقت الهجرة ، ونسب الإخراج إلى القرية. والمراد أهلها ، لأنهم آذوه حتى خرج (أَهْلَكْناهُمْ) الضمير للقرى المتقدمة المذكورة في قوله : وكأين من قرية وجمعه حملا على المعنى والمراد أهلكنا : أهلها (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على حجة ويعني به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما يعني قريشا بقوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) واللفظ أعم من ذلك.

__________________

(١). قوله تعالى : والذين قاتلوا في سبيل الله. قرأها أبو عمرو وحفص قتلوا. والباقون : قاتلوا.

٢٨١

(مَثَلُ الْجَنَّةِ) ذكر في الرعد [٣٥] (غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) تقديره : أمثل أهل الجنة المذكورة كمن هو خالد في النار؟ فحذف هذا على التقدير والمراد به النفي ، وإنما حذف لدلالة التقدير المتقدم وهو قوله : أفمن كان على بينة من ربه (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) يعني المنافقين ، وجاء يستمعون (١) بلفظ الجمع رعيا لمعنى من (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) روي أنه عبد الله بن مسعود (ما ذا قالَ آنِفاً) كانوا يقولون ذلك على أحد وجهين : إما احتقارا لكلامه ، كأنهم قالوا : أي فائدة فيه ، وإما جهلا منهم ونسيانا ، لأنهم كانوا وقت كلامه معرضين عنه ، وآنفا معناه الساعة الماضية قريبا ، وأصله من : استأنفت الشيء إذا ابتدأته (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) يعني المؤمنين والضمير في زادهم لله تعالى أو للكلام الذي قال فيه المنافقون : ماذا قال آنفا. وقيل : يعني بالذين اهتدوا قوما من النصارى آمنوا بسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاهتداؤهم هو إيمانهم بعيسى وزيادة هداهم إسلامهم (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) الضمير للمنافقين ، والمعنى هل ينتظرون إلا الساعة لأنها قريبة (فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) أي علاماتها والذي كان قد جاء من ذلك مبعث سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه قال : أنا من أشراط الساعة ، وبعثت أنا والساعة كهاتين (٢) (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) أي كيف لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة بغتة؟ فلا يقدرون على عمل ولا تنفعهم التوبة ، ففاعل جاءتهم الساعة ، وذكراهم مبتدأ وخبره الاستفهام المتقدم ، والمراد به الاستبعاد.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) أي دم على العلم بذلك ، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن النظر والعلم قبل العمل ، لأنه قدم قوله : فاعلم على قوله : واستغفر (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) قيل : متقلبكم تصرفكم في الدنيا ، ومثواكم إقامتكم في القبور. وقيل : متقلبكم تصرفكم في اليقظة ، ومثواكم منامكم (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) كان المؤمنون يقولون ذلك على وجه الحرص على نزول القرآن ، والرغبة فيه ؛ لأنهم كانوا يفرحون به ويستوحشون من إبطائه (مُحْكَمَةٌ) يحتمل أن يريد بالمحكمة أي ليس فيها منسوخ ، أو يراد متقنة ، وقرأ ابن مسعود سورة محدثة (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يعني المنافقين ،

__________________

(١). قوله : يستمعون : خلاف الآية : ومنهم من يستمع فلعل المؤلف وهم والله أعلم.

(٢). قوله : بعثت أنا والساعة كهاتين رواه أحمد عن أنس وجابر بن سمرة ج ٣ ص ٢٣٧.

٢٨٢

ونظرهم ذلك في شدّة الخوف من القتل لأن نظر الخائف قريب من نظر المغشي عليه (فَأَوْلى لَهُمْ) في معناه قولان : أحدهما أنه بمعنى أحق وخبره على هذا طاعة. والمعنى أن الطاعة والقول المعروف أولى لهم وأحق والآخر أن أولى لهم كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقولك : ويل لهم ومنه : أولى لك فأولى ، فيوقف على أولى لهم على هذا القول ، ويكون طاعة ابتداء كلام ، تقديره : طاعة وقول معروف أمثل ، أو المطلوب منهم طاعة وقول معروف ، وقولهم لك يا محمد طاعة وقول معروف بألسنتهم دون قلوبهم (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) أسند العزم إلى الأمر مجازا كقولك : نهاره صائم وليله قائم (صَدَقُوا اللهَ) يحتمل أن يريد صدق اللسان ، أو صدق العزم والنية وهو أظهر.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) هذا خطاب للمنافقين المذكورين خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ليكون أبلغ في التوبيخ والمعنى هل يتوقع منكم ، إلّا فساد في الأرض وقطع الأرحام إن توليتم ، ومعنى توليتم : صرتم ولاة على الناس وصار الأمر لكم ، وعلى هذا قيل : إنها نزلت في بني أمية. وقيل : معناه أعرضتم عن الإسلام (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) نزلت في المنافقين الذين نافقوا بعد إسلامهم وقيل : نزلت في قوم من اليهود ، كانوا قد عرفوا نبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوراة ثم كفروا به (سَوَّلَ لَهُمْ) أي زيّن لهم ورجّاهم ومنّاهم و (وَأَمْلى لَهُمْ) أي مدّ لهم في الأماني والآمال ، والفاعل هو الشيطان وقيل : الله تعالى والأول أظهر ، لتناسب الضمير بين الفاعلين ، في سوّل وأملى (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) (١) قال ذلك اليهود للمنافقين ، وبعض الأمر : يعنون به مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومحاربته (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة؟ يعني ملك الموت ومن معه ، والفاء رابطة للكلام مع ما قبله. والمعنى : هذا جزعهم من ذكر القتال ، فكيف يكون حالهم عند الموت؟ (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) ضمير الفاعل للملائكة ، وقيل : إنه للكفار أي يضربون وجوه أنفسهم وذلك ضعيف.

__________________

(١). تتمة الآية : والله يعلم أسرارهم : قرأها حمزة والكسائي وحفص : إسرارهم بكسر الهمزة والباقون بالفتح.

٢٨٣

(أَمْ حَسِبَ) الآية : معناها ظن المنافقون أن لن يفضحهم الله. والضغن : الحقد ، ويراد به هنا النفاق والبغض في الإسلام وأهله (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) أي لو نشاء لأريناك المنافقين بأعيانهم حتى تعرفهم بعلامتهم ، ولكن الله ستر عليهم إبقاء عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين ، وروي أن الله لم يذكر واحدا منهم باسمه (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) معنى لحن القول مقصده وطريقته ، وقيل : اللحن هو الخفي المعنى كالكناية والتعريض ، والمعنى أنه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم سيعرفهم من دلائل كلامهم ، وإن لم يعرفه الله بهم على التعيين (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) أي نختبركم (حَتَّى نَعْلَمَ) أي نعلمه علما ظاهرا في الوجود تقوم به الحجة عليكم ؛ وقد علم الله الأشياء قبل كونها ، ولكنه أراد إقامة الحجة على عباده ؛ بما يصدر منهم ، وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبتلينا ، فإنك إذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي خالفوه وعادوه ، ونزلت الآية في المنافقين وقيل : في اليهود.

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) يحتمل أربعة معان : أحدها لا تبطلوا أعمالكم بالكفر بعد الإيمان والثاني لا تبطلوا حسناتكم بفعل السيئات ذكره الزمخشري وهذا على مذهب المعتزلة ، خلافا للأشعرية فإن مذهبهم أن السيئات لا تبطل الحسنات. والثالث لا تبطلوا أعمالكم بالرياء والعجب ، والرابع لا تبطلوا أعمالكم بأن تقتطعوها قبل تمامها ، وعلى هذا أخذ الفقهاء الآية : وبهذا يستدلون على أن من ابتدأ نافلة لم يجز له قطعها ، وهذا أبعد هذه المعاني ، والأول أظهر لقوله قبل ذلك في الكفار أو المنافقين ، وسيحبط أعمالهم فكأنه يقول : يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا أعمالكم مثل هؤلاء الذين أحبط الله أعمالهم بكفرهم وصدهم عن سبيل الله ومشاقتهم الرسول (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) هذا قطع بأن من مات على الكفر لا يغفر الله له ، وقد أجمع المسلمون على ذلك (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) (١) أي لا تضعفوا عن مقاتلة الكفار وتبتدئوهم بالصلح ، هو كقوله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) [الأنفال : ٦١] (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أي لن ينقصكم أجور أعمالكم ، يقال : وترت

__________________

(١). قوله : السّلم : قرأها أبو بكر وحمزة : السّلم بكسر السين والباقون بالفتح. وهما لغتان.

٢٨٤

الرجل أتره إذا نقصته شيئا ، أو أذهبت له متاعا (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي لا يسألكم جميعها إنما يسألكم ما يخفّ عليكم مثل ربع العشر وذلك خفيف (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) معنى يحفكم يلح عليكم ، والإحفاء أشد السؤال وتبخلوا جواب الشرط (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) الفاعل الله تعالى أو البخل ، والمعنى يخرج ما في قلوبكم من البخل وكراهة الإنفاق (هؤُلاءِ) منصوب على التخصيص أو منادى (لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) يعني الجهاد والزكاة (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أي إنما ضرر بخله على نفسه فكأنه بخل على نفسه بالثواب الذي يستحقه بالإنفاق (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يأت بقوم على خلاف صفتكم ، بل راغبين في الإنفاق في سبيل الله ، فقيل إن هذا الخطاب لقريش ، والقوم غيرهم هم الأنصار ؛ وهذا ضعيف لأن الآية مدنية نزلت والأنصار حاضرون ، وقيل : الخطاب لكل من كان حينئذ بالمدينة ، والقوم هم أهل اليمن وقيل فارس.

٢٨٥

سورة الفتح

مدنية نزلت في الطريق عند الانصراف من الحديبية وآياتها ٢٩ نزلت بعد الجمعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الفتح) نزلت هذه السورة حين انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية ، لما أراد أن يعتمر بمكة فصدّه المشركون ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر وهما راجعان إلى المدينة : لقد نزلت عليّ سورة هي أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) يحتمل هذا الفتح في اللغة أن يكون بمعنى الحكم ، أي حكمنا لك على أعدائك ، أو من الفتح بمعنى العطاء كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) [فاطر : ٢] أو من فتح البلاد ، واختلف في المراد بهذا الفتح على أربعة أقوال : الأول أنه فتح مكة وعده الله به قبل أن يكون ، وذكره بلفظ الماضي لتحققه ، وهو على هذا بمعنى فتح البلاد ، الثاني أنه ما جرى في الحديبية من بيعة الرضوان ، ومن الصلح الذي عقده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع قريش ، وهو على هذا بمعنى الحكم ، أو بمعنى العطاء ، ويدل على صحة هذا القول : أنه لما وقع صلح الحديبية ، شق ذلك على بعض المسلمين لشروط كانت فيه ، حتى أنزل الله هذه السورة ، ويتبين أن ذلك الصلح له عاقبة محمودة ، وهذا هو الأصح ؛ لأنه روي أنها لما نزلت قال بعض الناس : ما هذا الفتح وقد صدنا المشركون عن البيت؟ فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بل هو أعظم الفتوح ، قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالروح ، ورغبوا إليكم في الأمان ، الثالث أنه ما أصاب المسلمون بعد الحديبية من الفتوح كفتح خيبر وغيرها ، الرابع أنه الهداية إلى الإسلام ودليل هذا القول قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) فجعل الفتح علة للمغفرة ، ولا حجة في ذلك إذ يتصور في الجهاد وغيره أن يكون علة للمغفرة أيضا ، أو تكون اللام ، للصيرورة والعاقبة لا للتعليل ؛ فيكون المعنى : إنا فتحنا لك فتحا مبينا فكان عاقبة أمرك أن جمع الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة ؛ بأن غفر لك ، وأتم نعمته عليك ، وهداك ونصرك.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي السكون والطمأنينة ، يعني سكونهم في صلح الحديبية

٢٨٦

وتسليمهم بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : معناه الرحمة (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) معناه أنهم ظنوا أن الله يخذل المؤمنين وقالوا : لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا. وقيل : معناه أنهم لا يعرفون الله بصفاته ، فذلك هو ظن السوء به ، والأول أظهر بدليل ما بعده (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) (١) يحتمل أن يكون خبرا أو دعاء (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) أي تشهد على أمتك (وَتُعَزِّرُوهُ) أي تعظموه وقيل : تنصرونه ، وقرئ تعززوه بزاءين منقوطتين ، والضمير في تعزروه وتوقروه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي تسبحوه لله تعالى ، وقيل : الثلاثة لله.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) هذا تشريف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث جعل مبايعته بمنزلة مبايعة الله ، ثم أكد هذا المعنى بقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وذلك على وجه التخييل والتمثيل ، يريد أن يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي تعلو يد المبايعين له هي يد الله في المعنى ، وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. وإنما المراد أن عقد ميثاق البيعة مع الرسول عليه الصلاة والسلام ، كعقده مع الله كقوله (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] وتأوّل المتأوّلون ذلك بأن يد الله معناها النعمة أو القوة ، وهذا بعيد هنا ونزلت الآية في بيعة الرضوان تحت الشجرة وسنذكرها بعد (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (٢) يعني أن ضرر نكثه على نفسه ويراد بالنكث هنا نقض البيعة.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) الآية : سماهم بالمخلفين ، لأنهم تخلفوا عن غزوة الحديبية ، والأعراب هم أهل البوادي من العرب ، لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكة يعتمر ، رأوا أنه يستقبل عدوا كثيرا من قريش وغيرهم ، فقعدوا عن الخروج معه ، ولم يكن إيمانهم متمكنا ، فظنوا أنه لا يرجع هو والمؤمنون من ذلك السفر ففضحهم الله في هذه السورة ، وأعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم ، وأعلمه أنهم كاذبون في اعتذارهم (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ)

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : السوء : بضم السين والباقون بفتحها وسكون الواو السّوء.

(٢). قوله تعالى : (وَمَنْ أَوْفى)... (فَسَيُؤْتِيهِ) قرأ نافع وغيره : فسنؤتيه بالنون وقرأ غيرهم فسيؤتيه بالياء.

وقوله : بما عاهد عليه الله هكذا قرأها حفص ، والباقون قرءوها : عليه بكسر الهاء.

٢٨٧

يحتمل أن يريد قولهم : شغلتنا أموالنا وأهلونا لأنهم كذبوا في ذلك ، أو قولهم : فاستغفر لنا لأنهم قالوا ذلك رياء من غير صدق ولا توبة (قَوْماً بُوراً) أي هالكين من البوار ، وهو الهلاك ويعني به الهلاك في الدين (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الآية : أخبر الله رسوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أن المخلفين عن غزوة الحديبية يريدون الخروج معه إذا خرجوا إلى غزوة أخرى ، وهي غزوة خيبر. فأمر الله بمنعهم من ذلك ، وأن يقول لهم : لن تتبعونا (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي يريدون أن يبدلوا وعد الله لأهل الحديبية ، وذلك أن الله وعدهم أن يعوضهم من غنيمة مكة غنيمة خيبر وفتحها ، وأن يكون ذلك مختصا بهم دون غيرهم ، وأراد المخلفون أن يشاركوهم في ذلك ، فهذا هو ما أرادوا من التبديل. وقيل : كلام الله قوله : فلن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا. وهذا ضعيف ؛ لأن هذه الآية نزلت بعد رجوع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تبوك بعد الحديبية بمدة (كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) يريد وعده باختصاصه أهل الحديبية بغنائم خيبر (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) معناه يعز عليكم أن نصيب معكم مالا وغنيمة ، وبل هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله : لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فمعناها : رد أن يكون الله حكم بأن لا يتبعوهم. وأما بل في قوله تعالى بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد ، وإثبات لوصف المخلفين بالجهل.

(سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) اختلف في هؤلاء القوم على أربعة أقوال الأول : أنهم هوازن ومن حارب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة خيبر والثاني أنهم الروم إذ دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قتالهم في غزوة تبوك والثالث أنهم أهل الردة من بني حنيفة وغيرهم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والرابع أنهم الفرس ويتقوى الأول والثاني بأن ذلك ظهر في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوّى المنذر بن سعيد القول الثالث بأن الله جعل حكمهم القتل أو الإسلام ولم يذكر الجزية ، قال : وهذا لا يوجد إلا في أهل الردّة ، قلت : وكذلك هو موجود في كفار العرب ، إذ لا تؤخذ منهم الجزية فيقوّي ذلك أنهم هوازن أو يسلمون عطف على تقاتلونهم وقال ابن عطية : هو مستأنف (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يريد في غزوة

٢٨٨

الحديبية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية (١) معناها أن الله تعالى عذر الأعمى والأعرج والمريض في تركهم للجهاد ؛ لسبب أعذارهم (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يدخل النار إن شاء الله أحد من أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها وفي الحديث أنهم كانوا ألفا وأربعمائة ، وقيل : ألفا وخمسمائة. وسبب هذه البيعة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ الحديبية ، وهي موضع على نحو عشرة أميال من مكة ، أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولا إلى أهل مكة ، يخبرهم أنه إنما جاء ليعتمر ، وأنه لا يريد حربا. فلما وصل إليهم عثمان حبسه أقاربه كرامة له ، فصرخ صارخ أن عثمان قد قتل. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة على القتال وأن لا يفر أحد. وقيل : بايعوه على الموت ثم جاء عثمان بعد ذلك سالما ، وانعقد الصلح بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أهل مكة ؛ على أن يرجع ذلك العام ويعتمر في العام القابل ، والشجرة المذكورة كانت سمرة هنا لك ثم ذهبت بعد سنين. فمر عمر بن الخطاب بالموضع في خلافته ، فاختلف الصحابة في موضعها (فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) يعني من صدق الإيمان وصدق العزم على ما بايعوا عليه ، وقيل : من كراهة البيعة على الموت وهذا باطل. لأنه ذم للصحابة وقد ذكرنا السكينة (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني : فتح خيبر وقيل : فتح مكة والأول أشهر ، أي جعل الله ذلك ثوابا لهم على بيعة الرضوان ، زيادة على ثواب الآخرة. وأما المغانم المذكورة أوّلا فهي غنائم خيبر ، وهي المعطوفة على الفتح القريب. وأما المغانم الكثيرة التي وعدهم الله وهي المذكورة ثانيا فهي : كل ما يغنم المسلمون إلى يوم القيامة ، والإشارة بقوله فعجل لكم هذه إلى خيبر. وقيل : إن المغانم التي وعدهم هي خيبر والإشارة بهذه إلى صلح الحديبية (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي كف أهل مكة عن قتالكم في الحديبية. وقيل : كف اليهود وغيرهم عن إضرار نسائكم وأولادكم بينما خرجتم إلى الحديبية (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي تكون هذه الفعلة وهي كف أيدي الناس عنكم آية للمؤمنين ، يستدلون بها على النصر ، واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : فعل الله ذلك لتكون آية (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) يعني فتح مكة ، وقيل : فتح بلاد فارس والروم وقيل : مغانم هوازن في حنين ، والمعنى لم تقدروا أنتم عليها ، وقد

__________________

(١). قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) ومن يقول يعذبه عذابا أليما هكذا قرأها القراء ما عدا نافع وابن عامر فقرأ : ندخله ـ نعذبه بالنون بدلا من الياء.

٢٨٩

أحاط الله بها بقدرته ووهبها لكم ، وإعراب أخرى عطف على عجل لكم هذه أو مفعول بفعل مضمر تقديره : أعطاكم أخرى أو مبتدأ (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكة (سُنَّةَ اللهِ) أي عادته والإشارة إلى يوم بدر ، وقيل : الإشارة إلى نصر الأنبياء قديما.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) روي في سببها أن جماعة من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية ، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوما ، وساقوهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأطلقهم ، فكفّ أيدي الكفار هو أن هزموا وأسروا. وكفّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو إطلاقهم من الأسر ، وسلامتهم من القتل ، وقوله (مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) يعني من بعد ما أخذتموهم أسارى (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني أهل مكة (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) يعني أنهم منعوهم عن العمرة بالمسجد الحرام عام الحديبية (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) الهدي ما يهدى إلى البيت من الأنعام ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ساق حينئذ مائة بدنة وقيل : سبعين ليهديها ، والمعكوف المحبوس ، ومحله موضع نحره يعني : مكة والبيت ، وإعراب الهدي عطف على الضمير المفعول في صدّوكم ومعكوفا حال من الهدي ، وأن يبلغ مفعول بالعكف فالمعنى : صدوكم عن المسجد الحرام ، وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله ، والعكف المذكور يعني به منع المشركين للهدي عن بلوغ مكة ، أو حبس المسلمين بالهدي بينما ينظرون في أمورهم.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل ، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم ، فلو سلط الله المسلمين على أهل مكة ، لقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم ، ولكن كفّهم رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لو لا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لسلطناكم عليهم (أَنْ تَطَؤُهُمْ) في موضع بدل من رجال ونساء ، أو بدل من الضمير المفعول في لم تعلموهم والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي تصيبكم من قتلهم مشقة وكراهة ، واختلف هل يعني الإثم في قتلهم أو الدية أو الكفارة أو الملامة ، أو عيب الكفار لهم بأن يقولوا : قتلوا أهل دينهم ، أو تألم نفوسهم من قتل المؤمنين ، وهذا أظهر لأن قتل المؤمن الذي لا يعلم إيمانه وهو بين أهل الحرب لا إثم فيه ولا دية ، ولا ملامة ، ولا عيب ، (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ)

٢٩٠

يعني رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهر الكفار ، بأن كف سيوف المسلمين عن الكفار من أجلهم أو رحمة لمن شاء من الكفار بأن يسلموا بعد ذلك ، واللام تتعلق بمحذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره : كان كف القتل عن أهل مكة ليدخل الله في رحمته من يشاء (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا) معنى تزيلوا تميزوا عن الكفار ، والضمير للمؤمنين المستوري الإيمان ، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذبنا الكفار فقوله : لعذبنا جواب لو الثانية ، وجواب الأولى محذوف كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لعذبنا جواب لو الأولى ، وكررت لو الثانية تأكيدا (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) يعني أنفة الكفر وهي منعهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين عن العمرة ، ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم ، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله ، وقولهم : لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك اسم أبيك ، والعامل في إذ جعل محذوف تقديره : اذكر أو قوله لعذبنا والسكينة هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) قال الجمهور هي : لا إله إلا الله ، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل : لا إله إلا الله والله أكبر ، وهذه كلها متقاربة وقيل : هي بسم الله الرحمن الرحيم التي أبى الكفار أن تكتب (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم ، وقيل : أحق بها من اليهود والنصارى.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة ؛ أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون ، وروي أنه أتاه ملك في النوم فقال له : لتدخلن المسجد الحرام الآية : فأخبر الناس برؤياه : ذلك ، فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام ، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون : أين الرؤيا ، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق أي تلك الرؤيا صادقة ، وسيخرج تأويلها بعد ذلك ، فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العام المقبل ، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا ، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام ، وظهر صدق رؤياه وتلك عمرة القضية [القضاء] ثم فتح مكة بعد ذلك ، ثم حج هو وأصحابه ، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين ، وبالحق يتعلق بصدق ، أو بالرؤيا على أن يكون حالا منها (إِنْ شاءَ اللهُ) لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر ، وذلك محال على الله ، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال : الأول أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام ، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني : أنه تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في

٢٩١

كل أمر مستقبل ، والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته ؛ لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت أو يمرض فلا يتم له ، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد ، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة ، والحلق أفضل من التقصير ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رحم الله المحلقين ثلاثا ثم قال في المرة الأخيرة والمقصرين (١) (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة ، فإنه لما انعقد الصلح ، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة ، وقيل ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) يعني فتح خيبر ، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية ، وهذا هو الأصح لأن عمر قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أفتح هو يا رسول الله؟ قال نعم. وقيل : هو فتح مكة وهذا ضعيف ، لأن معنى قوله : من دون ذلك قبل دخول المسجد الحرام ، وإنما كان فتح مكة بعد ذلك ، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة ، وفتح مكة عام ثمانية (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ذكره في براءة [٣٣] (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي شاهدا بأن محمدا رسول الله ، أو شاهدا بإظهار دينه.

(وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني جميع أصحابه وقيل : من شهد معه الحديبية ، وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع ، وقيل : الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا. والأول عندي أرجح ؛ لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وأما على ما اختاره ابن عطية ؛ فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصا بالصحابة دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [براءة : ١٢٨] ، وقال (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [براءة : ٧٣ ، والتحريم : ٩] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) السيما العلامة وفيه ستة أقوال ، الأول أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلى من كثرة السجود والثاني أنه أثر التراب في الوجه الثالث أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة ، الرابع حسن الوجه لما ورد في الحديث [من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار] (٢) وهذا الحديث غير صحيح ، بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غير مروي عنه ، الخامس أنه الخشوع ، السادس : أن ذلك يكون

__________________

(١). الحديث رواه ابن عمر وأخرجه أحمد في مسنده ج ٢ ص ١٦٠.

(٢). الحديث أعلاه ذكره المناوي في التيسير وعزاه لابن ماجة عن جابر ثم قال : إن موضوع.

٢٩٢

في الآخرة يجعل الله لهم نورا من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله : تراهم ركعا سجدا وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك ، والأول أظهر ، وقد كان بوجه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود (ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) أي وصفهم فيها وتم الكلام هنا ، ثم ابتدأ قوله ومثلهم في الإنجيل ، كزرع ، وقيل : إن مثلهم في الإنجيل عطف على مثلهم في التوراة ثم ابتدأ قوله : كزرع وتقديره هم كزرع ، والأول أظهر ، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان ، وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك ، وعلى هذا يكون مثلهم في الإنجيل بمعنى التشبيه والتمثيل. وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفا ، ثم قوي وظهر. وقيل : الزرع مثل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه بعث وحده وكان كالزرع حبة واحدة ، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء ، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل ، ويقال : بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات (فَآزَرَهُ) أي قوّاه وهو من الموازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع ، والمفعول شطأه أو بالعكس ؛ لأن كل واحد منهما يقوّي الآخر ، وقيل : معناه ساواه طولا فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله وقيل أفعله ، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل (فَاسْتَغْلَظَ) أي صار غليظا (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) جمع ساق أي قام الزرع على سوقه ، وقيل : قوله : كزرع يعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ بن أبي طالب (لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوّة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره : جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار ، وقيل : يتعلق بوعد وهو بعيد (مِنْهُمْ) لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم.

٢٩٣

سورة الحجرات

مدنية وآياتها ١٨ نزلت بعد الجاثية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الحجرات) (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها لا تتكلموا بأمر قبل أن يتكلم هو به ، ولا تقطعوا في أمر إلا بنظره والثاني لا تقدموا الولاة بمحضره فإنه يقدم من شاء ، والثالث لا تتقدموا بين يديه إذا مشى ، وهذا إنما يجري على قراءة يعقوب لا تقدموا بفتح التاء والقاف والدال ، والأول هو الأظهر ؛ لأن عادة العرب الاشتراك في الرأي ، وأن يتكلم كل أحد بما يظهر له ، فربما فعل ذلك قوم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنهاهم الله عن ذلك ، ولذلك قال مجاهد : معناه لا تفتاتوا على الله شيئا حتى يذكره على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما قال : بين يدي الله ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يتكلم بوحي من الله (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) أمر الله المؤمنين أن يتأدبوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الأدب ، كرامة له وتعظيما ، وسببها أن بعض جفاة الأعراب كانوا يرفعون أصواتهم (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) مفعول من أجله تقديره : مخافة أن تحبط أعمالكم إذا رفعتم أصواتكم فوق صوته ، أو جهرتم له بالقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالمفعول من أجله يتعلق بالفعلين معا من طريق المعنى ، وأما من طريق الإعراب فيتعلق عند البصريين بالثاني وهو : (لا تَجْهَرُوا) وعند الكوفيين بالأول وهو (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ) ، وهذا الإحباط ؛ لأن قلة الأدب معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتقصير في توقيره يحبط الحسنات وإن فعله مؤمن ، لعظيم ما وقع فيه من ذلك. وقيل : إن الآية خطاب للمنافقين وهذا ضعيف ، لقوله في أولها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) فإنه لا يصح أن يقال هذا لمنافق ، فإنه يفعله «جرأة» وهو يقصده.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فإنه لما نزلت الآية قبلها قال أبو بكر : والله يا رسول الله لا أكلمنك إلا سرا. وكان عمر يخفي كلامه حين يستفهمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولفظها مع ذلك على

٢٩٤

عمومه ، ومعنى (امْتَحَنَ) : اختبر فوجدها كما يجب ، مثل ما يختبر الذهب بالنار ، فيوجد طيبا ، وقيل معناها : درّبها للتقوى حتى صارت قوية على احتماله بغير تكلف. وقيل : معناه أخلصها الله للتقوى (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) الحجرات : جمع حجرة وهي قطعة من الأرض يحجر عليها بحائط ، وكان لكل واحدة من أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حجرة. ونزلت الآية في وفد بني تميم ، قدموا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخلوا المسجد ودنوا من حجرات أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقفوا خارجها ونادوا : يا محمد أخرج إلينا فكان في فعلهم ذلك جفاء وبداوة وقلة توقير ، فتربص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة ثم خرج إليهم ، فقال له واحد منهم وهو الأقرع بن حابس : يا محمد إنّ مدحي زين وذمّي شين. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ويحك ذلك الله تعالى (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون فيهم قليل ممن يعقل ونفي العقل عن أكثرهم لا عن جميعهم ، والآخر أن يكون جميعهم ممن لا يعقل ، وأوقع القلة موضع النفي والأول أظهر في مقتضى اللفظ. والثاني أبلغ في الذم (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) يعني خيرا في الثواب ، وفي انبساط نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقضائه حوائجهم ، وإنكار فعلهم فيه تأديب لهم ، وتعليم لغيرهم.

(إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) سببها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ، ليأخذ زكاتهم ، فروي أنه كان معاديا لهم ، فأراد إذايتهم فرجع من بعض طريقه فكذب عليهم ، وقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنهم قد منعوني الصدقة وطردوني وارتدوا ، فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهمّ بغزوهم ، ونظر في ذلك فورد وفدهم منكرين لذلك ، وروي أن الوليد بن عقبة لما قرب منهم خرجوا إليه متلقين له [بالسلاح] ، فرآهم على بعد ففزع منهم وظنّ بهم الشر ، فانصرف فقال ما قال. وروي أنه بلغه أنهم قالوا : لا نعطيه صدقة ولا نطيعه فانصرف ، وقال ما قال. فالفاسق المشار إليه في الآية هو الوليد بن عقبة ، ولم يزل بعد ذلك يفعل أفعال الفساق ، حتى صلى بالناس صلاة الصبح أربع ركعات وهو سكران ، ثم قال لهم : أزيدكم إن شئتم ، ثم هي باقية في كل من اتصف بهذه الصفة إلى آخر الدهر ، وقرئ فتبينوا من التبين ، وتثبتوا بالثاء من التثبت ، ويقوي هذه القراءة أنها لما نزلت روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : التثبت من الله والعجلة من الشيطان ، واستدل بهذه الآية القائلون بقبول خبر الواحد ، لأن دليل الخطاب يقتضي أن خبر غير الفاسق مقبول ، قال المنذر بن سعيد البلوطي : وهذه الآية تردّ على من قال : إن المسلمين كلهم عدول ، لأن الله أمر بالتبين قبل القبول ، فالمجهول الحال يخشى أن يكون فاسقا (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) في موضع المفعول من أجله تقديره : مخافة أن تصيبوا قوما بجهالة ، والإشارة إلى قتال بني

٢٩٥

المصطلق لما ذكر عنهم الوليد ما ذكر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) أي لشقيتم ، والعنت المشقة ، وإنما قال : لو يطيعكم ولم يقل لو أطاعكم ، للدلالة على أنهم كانوا يريدون استمرار طاعته عليه الصلاة والسلام لهم ، والحق خلاف ذلك ، وإنما الواجب أن يطيعوه هم لا أن يطيعهم هو ، وذلك أن رأي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير وأصوب من رأي غيره ، ولو أطاع الناس في رأيهم لهلكوا ، فالواجب عليهم الانقياد إليه والرجوع إلى أمره ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) الآية.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) اختلف في سبب نزولها ، فقال الجمهور : هو ما وقع بين المسلمين وبين المتحزبين منهم لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مر به رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه ، فبال حمار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال عبد الله بن أبيّ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد آذاني نتن حمارك ، فردّ عليه عبد الله بن رواحة وتلاحى الناس حتى وقع بين الطائفتين ضرب بالجريد ، وقيل : بالحديد ، وقيل : سببها أن فريقين من الأنصار وقع بينهما قتال ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد جهد ، ثم حكمها باق إلى آخر الدهر. وإنما قال اقتتلوا ولم يقل اقتتلا لأن الطائفة في معنى القوم والناس ، فهي في معنى الجمع (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أمر الله في هذه الآية بقتال الفئة الباغية ، وذلك إذا تبين أنها باغية ، فأما الفتن التي تقع بين المسلمين ؛ فاختلف العلماء فيها على قولين : أحدهما أنه لا يجوز النهوض في شيء منها ولا القتال ، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص وأبي ذر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وحجتهم قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قتال المسلم كفر (١). وأمره عليه الصلاة والسلام بكسر السيوف في الفتن ، والقول الثاني أن النهوض فيها واجب لتكفّ الطائفة الباغية ، وهذا قول علي وعائشة وطلحة والزبير وأكثر الصحابة ، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء ، وحجتهم هذه الآية فإذا فرّعنا على القول الأول ، فإن دخل داخل على من اعتزل الفريقين منزله يريد نفسه أو ماله فليدفعه عن نفسه وإن أدّى ذلك إلى قتله لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قتل دون نفسه أو ماله فهو شهيد (٢) ، وإذا فرّعنا على القول الثاني فاختلف مع من يكون النهوض في الفتن فقيل : مع السواد الأعظم وقيل : مع العلماء وقيل : مع من يرى أن الحق معه ، وحكم القتال في الفتن : أن لا يجهز على جريح ، ولا يطلب هارب ، ولا يقتل أسير ولا يقسم فيء (حَتَّى تَفِيءَ) أي ترجع إلى

__________________

(١). الحديث رواه سعد بن أبي وقاص وأخرجه أحمد ج ١ ص ١٧٨.

(٢). الحديث رواه عبد الله بن عمرو وأخرجه أحمد ج ٢ ص ٢١٧.

٢٩٦

الحق (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) إنما ذكره بلفظ التثنية لأن أقل من يقع بينهم البغي اثنان ، وقيل أراد بالأخوين الأوس والخزرج ، وقرأ ابن عامر بين إخوتكم بالتاء على الجمع ، وقرئ بين إخوانكم بالنون على الجمع أيضا (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) نهى عن السخرية وهي الاستهزاء بالناس (عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) أي لعل المسخور منه خير من الساخر عند الله ، وهذا تعليل للنهي (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) لما كان القوم لا يقع إلا على الذكور عطف النساء عليهم (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا يطعن بعضكم على بعض واللمز : العيب ، سواء كان بقول أو إشارة أو غير ذلك ، وسنذكر الفرق بينه وبين الهمز في سورة الهمزة وأنفسكم هنا بمنزلة قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٢٧] (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) أي لا يدع أحد أحدا بلقب ، والتنابز بالألقاب التداعي بها ، وقد أجاز المحدثون أن يقال الأعمش والأعرج ونحوه إذا دعت إليه الضرورة ولم يقصد النقص والاستخفاف.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) يريد بالاسم أن يسمى الإنسان فاسقا بعد أن سمي مؤمنا ، وفي ذلك ثلاثة أوجه : أحدها استقباح الجمع بين الفسق وبين الإيمان ، فمعنى ذلك أن من فعل شيئا من هذه الأشياء التي نهي عنها فهو فاسق وإن كان مؤمنا ، والآخر بئس ما يقوله الرجل للآخر يا فاسق بعد إيمانه ، كقولهم لمن أسلم من اليهود : يا يهودي ، الثالث أن يجعل من فسق غير مؤمن وهذا على مذهب المعتزلة (اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) يعني ظن السوء بالمسلمين ، وأما ظن الخير فهو حسن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) قيل : في معنى الإثم هنا الكذب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الظن أكذب الحديث (١) لأنه قد لا يكون مطابقا للأمر ، وقيل : إنما يكون إثما إذا تكلم به وأما إذا لم يتكلم به فهو في فسحة لأنه لا يقدر على دفع الخواطر ، واستدل بعضهم بهذه الآية على صحة سد الذرائع في الشرع ، لأنه أمر باجتناب كثير من الظن ، وأخبر أن بعضه إثم باجتناب الأكثر من الإثم احترازا من الوقوع في البعض الذي هو إثم (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تبحثوا عن مخبآت الناس وقرأ الحسن : تحسسوا بالحاء والتجسس بالجيم في الشر وبالحاء في الخير ، وقيل : التجسس ما كان من وراء والتحسس بالحاء الدخول والاستعلام (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) المعنى : لا يذكر أحدكم من أخيه المسلم ما يكره لو سمعه ، والغيبة هي ما يكره الإنسان ذكره من خلقه أو خلقه أو دينه أو أفعاله أو غير ذلك ، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال : الغيبة أن تذكر

__________________

(١). الحديث رواه أبو هريرة وأخرجه أحمد وأوله : إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث. ج ٢ ص ٢٤٥.

٢٩٧

أخاك المؤمن بما يكره ، قيل يا رسول الله وإن كان حقا ، قال إذا قلت باطلا فذلك بهتان (١) وقد رخّص في الغيبة في مواضع منها : في التجريح في الشهادة ، والرواية ، والنكاح ، وشبهه وفي التحذير من أهل الضلال ، (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) وقرأ نافع : ميّتا شبه الله الغيبة بأكل لحم ابن آدم ميتا ، والعرب تشبه الغيبة بأكل اللحم ، ثم زاد في تقبيحه أن جعله ميتا لأن الجيفة مستقذرة ، ويجوز أن يكون ميتا حال من الأخ أو من لحمه ، وقيل : فكرهتموه إخبار عن حالهم بعد التقرير. كأنه لما قررهم قال : هل يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا أجابوا فقالوا : لا نحب ذلك فقال لهم. فكرهتموه وبعد هذا محذوف تقديره : فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي تشبهه ، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه ، وعلى هذا المحذوف يعطف قوله : واتقوا الله ، قاله أبو علي الفارسي ، وقال الرماني : كراهة هذا اللحم يدعو إليها الطبع ، وكراهة الغيبة يدعو إليها العقل ، وهو أحق أن يجاب لأنه بصير عالم ، والطبع أعمى جاهل ، وقال الزمخشري : في هذه الآية مبالغات كثيرة منها الاستفهام الذي معناه التقرير ، ومنها جعل ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة ، ومنها إسناد الفعل إلى أحدكم ، والإشعار بأن أحد من الأحدين لا يحب ذلك ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله ميتا ، ومنها أنه لم يقتصر على تمثيل الغيبة بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا له. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) الذكر والأنثى هنا آدم وزوجه قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الجنس كأنه قال : إنا خلقنا كل واحد منكم من ذكر وأنثى ، والأول أظهر وأصح لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنتم من آدم وآدم من التراب (٢) ومقصود الآية : التسوية بين الناس ، والمنع مما كانت العرب تفعله من التفاخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، فبين الله أن الكرم والشرف عند الله ليس بالحسب والنسب ؛ إنما هو بالتقوى قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله (٣) ، وروي أن سبب الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا كيف نزوج بناتنا لموالينا (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) الشعوب : جمع شعب بفتح الشين ، وهو أعظم من القبيلة ، وتحته القبيلة ثم البطن ثم الفخذ ثم الفصيلة ، وهم القرابة

__________________

(١). الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لأبي داود عن أبي هريرة وأخرجه مسلم عنه بلفظ : أتدرون ما الغيبة؟ إلخ.

(٢). أورد المناوي هذا الحديث بلفظ : كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب وعزاه للبزار عن حذيفة وتوجد رواية للترمذي وأبي داود وأحمد انظر كشف الخفاء ص ٣٢٦ ج ٢.

(٣). لم أعثر عليه بهذا اللفظ ولكن يوجد حديث بمعناه وجوابا على سؤال : من أكرم الناس؟ قال : اتقاهم رواه أحمد ج ٢ ص ٤٣١.

٢٩٨

الأدنون فمضر وربيعة وأمثالها شعوبا ، وقريش قبيلة ، وبني عبد مناف بطن ، وبنو هاشم فخذ ، ويقال بإسكان الخاء فرقا بينه وبين الجارحة ، وبنو عبد المطلب فصيلة. وقيل : الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل ، ومعنى لتعارفوا ليعرف بعضكم بعضا (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) نزلت في بني أسد بن خزيمة ، وهي قبيلة كانت تجاور المدينة أظهروا الإسلام ، وكانوا إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا ، فأكذبهم الله في قولهم آمنا وصدقهم لو قالوا أسلمنا ، وهذا على أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، والإسلام هو الانقياد بالنطق بالشهادتين ، والعمل بالجوارح فالإسلام والإيمان في هذا الموضع متباينان في المعنى ، وقد يكونان متفقان ، وقد يكون الإسلام أعم من الإيمان فيدخل فيه الإيمان حسبما ورد في مواضع أخر (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) معنى لا يلتكم لا ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم ، وفيه لغتان يقال لات وعليه قراءة نافع لا يلتكم بغير همز ، ويقال : ألت وعليه قراءة أبو عمرو لا يألتكم بهمزة قبل اللام ، فإن قيل : كيف يعطيهم أجور أعمالهم وقد قال : إنهم لم يؤمنوا ولا يقبل عمل إلا من مؤمن؟ فالجواب : أن طاعة الله ورسوله تجمع صدق الإيمان وصلاح الأعمال ، فالمعنى إن رجعتم عما أنتم عليه من الإيمان بألسنتكم دون قلوبكم ، وعملتم أعمالا صالحة فإن الله لا ينقصكم منها شيئا (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) أي لم يشكوا في إيمانهم وفي ذلك تعريض بالأعراب المذكورين ؛ بأنهم في شك وكذلك قوله في هؤلاء : أولئك هم الصادقون تعريض أيضا بالأعراب إذ كذبوا في قولهم آمنا. وإنما عطف ثم لم يرتابوا بثم إشعارا بثبوت إيمانهم في الأزمنة المتراخية المتطاولة (وَجاهَدُوا) يريد جهاد الكفار ، لأنه دليل على صحة الإيمان ، ويبعد أن يريد جهاد النفس والشيطان لقوله : بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) نزلت في بني أسد أيضا فإنهم قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنا آمنا بك واتبعناك ولم نحاربك كما فعلت هوازن وغطفان وغيرهم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي هداكم للإيمان على زعمكم ، ولذلك قال : إن كنتم صادقين ، ويمنّ عليكم يحتمل أن يكون بمعنى ينعم عليكم أو بمعنى : يذكر إنعامه ، وهذا أحسن لأنه في مقابلة يمنون عليك.

٢٩٩

سورة ق

مكية إلا آية ٣٨ فمدنية وآياتها ٤٥ نزلت بعد المرسلات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة ق) تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ويختص (ق) بأنه قيل : إنه من اسم الله القاهر ، أو القدير وقيل : هو اسم للقرآن (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) من المجد ، وهو الشرف والكرم وجواب هذا القسم محذوف تقديره : ما ردّوا أمرك بحجة وما كذبوك ببرهان وشبه ذلك ، وعبّر عن هذا المحذوف ، وقع الإضراب ببل وقيل : الجواب ما يلفظ من قول ، وقيل : إن في ذلك لذكرى ، وقيل : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وهذه الأقوال ضعيفة متكلفة (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) الضمير في عجبوا لكفار قريش ، والمنذر هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الضمير لجميع الناس واختاره ابن عطية قال : ولذلك قال تعالى : فقال الكافرون أي الكافرون من الناس ، والصحيح أنه لقريش ، وقوله : قال الكافرون وضع الظاهر موضع المضمر لقصد ذمّهم بالكفر ، كما تقول : جاءني فلان فقال الفاجر كذا ، إذا قصدت ذمه وقوله : منذر منهم إن كان الضمير لقريش فمعنى منهم من قبيلتهم يعرفون صدقه وأمانته وحسبه فيهم ، وإن كان الضمير لجميع الناس فمعنى منهم إنسان مثلهم ، وتعجبهم يحتمل أن يكون من أن بعث الله بشرا أو من الأمر الذي يتضمنه الإنذار وهو الحشر ، ويؤيد هذا ما يأتي بعد (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) العامل في إذا محذوف تقديره : أنبعث إذا متنا (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) الرجع مصدر : رجعته والمراد به : البعث بعد الموت ، ومعنى بعيد أي : بعيد الوقوع عندهم ، وقيل : الرجع : الجواب ، أي جوابهم هذا بعيد عن الحق ، وعلى هذا يكون قوله : ذلك رجع بعيد من كلام الله تعالى ، وأما على الأول فهو حكاية كلام الكفار وهو أظهر.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) هذا رد على الكفار في إنكارهم للبعث معناه : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم من لحومهم وعظامهم فلا يصعب علينا بعثهم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل جسد ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب (١).

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٤٩٩ ولفظه : يبلى كل عظم من ابن آدم إلا عجب الذنب وفيه يركب الخلق يوم القيامة.

٣٠٠