التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

(فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي لا يطلع أحدا على علم الغيب إلا من ارتضى ، وهم الرسل فإنه يطلعهم على ما شاء من ذلك. ومن في قوله : من رسول لبيان الجنس لا للتبعيض ، والرسل هنا يحتمل أن يراد بهم الرسل من الملائكة وعلى هذا حملها ابن عطية ، أو الرسل من بني آدم ، وعلى هذا حملها الزمخشري. واستدل بها على نفي كرامات الأولياء الذين يدعون المكاشفات ، فإن الله خص الاطلاع على الغيب بالرسل دون غيرهم. وفيها أيضا دليل على إبطال الكهانة والتنجيم وسائر الوجوه التي يدعي أهلها الاطلاع على الغيب ؛ لأنهم ليسوا من الرسل (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) المعنى أن الله يسلك من بين يدي الرسل ومن خلفه ملائكة يكونون رصدا يحفظونه من الشياطين ، وقد ذكرنا رصدا في هذه السورة قال بعضهم : ما بعث الله رسولا إلا ومعه ملائكة يحرسونه حتى يبلغ رسالة ربه (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ) في الفاعل بيعلم ثلاثة أقوال : الأول أي ليعلم الله أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم أي يعلمه موجودا وقد كان علم ذلك قبل كونه. الثاني ليعلم محمد أن الملائكة الرصد أبلغوا رسالات ربهم. الثالث ليعلم من كفر أن الرسل قد بلغوا الرسالة والأول أظهر وجمع الضمير في أبلغوا وفي ربهم حملا على المعنى ، لأن من ارتضى من رسول يراد به جماعة (وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ) أي أحاط الله بما عند الرسل من العلوم والشرائع ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : ليعلم لأن معناه أنه قد علم قال ذلك ابن عطية ويحتمل أن تكون هذه الجملة في موضع الحال (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) هذا عموم في جميع الأشياء وعددا منصوب على الحال أو تمييز أو مصدر من معنى أحصى.

__________________

(١). الآية [٢٠] وأوّلها : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) قرأ عاصم وحمزة : قل على الأمر والباقون ، قال على الخبر.

٤٢١

سورة المزمل

مكية إلا الآيات ١٠ و ١١ و ٢٠ فمدنية وآياتها ٢٠ نزلت بعد القلم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) نداء للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووزن المزمل متفعل فأصله متزمل. ثم سكنت التاء وأدغمت في الزاي وفي تسمية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمزمل ثلاثة أقول أحدها أنه كان في وقت نزول الآية متزملا في كساء أو لحاف ، والتزمل الالتفاف في الثياب بضم وتشمير هذا قول عائشة والجمهور ، والثاني أنه كان قد تزمل في ثيابه للصلاة ، الثالث أن معناه المتزمل للنبوّة أي المتشمر ، المجدّ في أمرها والأول هو الصحيح لما ورد في البخاري ومسلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما جاءه الملك وهو في غار حراء في ابتداء الوحي رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خديجة ترعد فرائصه فقال : زملوني زملوني فنزلت يا أيها المدثر ، وعلى هذا نزلت يا أيها المزمل فالمزمل على هذا تزمله من أجل الرعب الذي أصابه أول ما جاءه جبريل. وقال الزمخشري : كان نائما في قطيفة فنودي : يا أيها المزمل ، ليبين الله الحالة التي كان عليها من التزمل في القطيفة ، لأنه سبب للنوم الثقيل المانع من قيام الليل. وهذا القول بعيد غير سديد.

وقال السهيلي في ندائه بالمزمل فائدتان : إحداهما الملاطفة فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب نادوه باسم مشتق من حالته التي هو عليها ، كقول النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم لعلي : قم أبا تراب ، والفائدة الثانية التنبيه لكل متزمل راقد بالليل ليتنبه إلى ذكر الله ، لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه المخاطب وكل من اتصف بتلك الصفة (قُمِ اللَّيْلَ) هذا الأمر بقيام الليل اختلف هل هو واجب أو مندوب ، فعلى القول بالندب فهو ثابت غير منسوخ ، وأما على القول بالوجوب ففيه ثلاثة أقوال : أحدها أنه فرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، ولم يزل فرضا عليه حتى توفي ، الثاني أنه فرض عليه وعلى أمته فقاموا حتى انتفخت أقدامهم ، ثم نسخ بقوله في آخر السورة : إن ربك يعلم أنك تقوم الآية : وصار تطوعا ، هذا قول عائشة رضي الله عنها وهو الصحيح ، واختلف كم بقي فرضا فقالت عائشة عاما وقيل : ثمانية أشهر وقيل : عشرة أعوام فالآية الناسخة على هذا مدنية ، الثالث أنه فرض عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أمته وهو ثابت غير منسوخ ، ولكن ليس الليل كله إلا ما تيسر منه ، وهو مذهب الحسن وابن سيرين (إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ)

٤٢٢

في معنى هذا الكلام أربعة أقوال : الأول وهو الأشهر والأظهر أن الاستثناء من الليل ، وقوله نصفه بدل من الليل أو من قليلا ، وجعل النصف قليلا بالنسبة إلى الجميع والضميران في قوله : أو انقص منه ، أو زد عليه : عائدان على النصف. والمعنى أن الله خيّره بين ثلاثة أحوال : وهو أن يقوم نصف الليل ، أو ينقص من النصف قليلا أو يزد عليه. الثاني : قال الزمخشري : إلا قليلا استثناء من النصف كأنه قال : نصف الليل إلا قليلا. فخيّره على هذا بين حالتين وهما أن يقوم أقل من النصف أو أكثر منه وهذا ضعيف ، لأن قوله أو انقص منه قليلا تضمن معنى النقص من النصف فلا فائدة زائدة في استثناء القليل من النصف ، القول الثالث قاله الزمخشري أيضا : يجوز أن يريد بقوله أو انقص منه قليلا نصف النصف وهو الربع ويكون الضمير في قوله أو زد عليه يعود على ذلك ، أي زد على الربع فيكون ثلثا فيكون التخيير على هذا بين قيام النصف أو الثلث أو الربع ، وهذا أيضا بعيد ، القول الرابع قاله ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى إلا قليلا الليالي التي يمنعه العذر من القيام فيها ، والمراد بالليل على هذا : الليالي ، فهو جنس. وهذا بعيد ، لأنه قد فسر هذا القليل المستثنى بما بعد ذلك من نصف الليل أو النقص منه أو الزيادة عليه ، فدل ذلك على أن المراد بالليل المستثنى بعض أجزاء الليل ، لا بعض الليالي ، إن قيل : لم قيد النقص من النصف بالقلة. فقال : أو انقص منه قليلا وأطلق في الزيادة فقال : أو زد عليه ولم يقل قليلا؟ فالجواب : أن الزيادة تحسن فيها الكثرة فلذلك لم يقيدها بالقلة بخلاف النقص ، فإنه لو أطلقه لاحتمل أن ينقص من النصف كثيرا.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) الترتيل هو التمهل والمد وإشباع الحركات وبيان الحروف ، وذلك معين على التفكر في معاني القرآن ، بخلاف الهذر الذي لا يفقه صاحبه ما يقول ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقطّع قراءته حرفا حرفا ولا يمرّ بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمرّ بآية عذاب إلا وقف وتعوّذ (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) هذه الآية اعتراض بين آية قيام الليل ، والقول الثقيل هو القرآن واختلف في وصفه بالثقل على خمسة أقوال أحدها : أنه سمى ثقيلا لما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلقاه من الشدة عند نزول الوحي عليه ، حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد ، وقد كان يثقل جسمه عليه الصلاة والسلام بذلك حتى إنه إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به ، وأوحي إليه وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض فخذ زيد ، والثقل على هذا حقيقة ، الثاني أنه ثقيل على الكفار بإعجازه ووعيده ، الثالث أنه ثقيل في الميزان ، الرابع أنه كلام له وزن ورجحان ، الخامس أنه ثقيل لما تضمن من التكاليف والأوامر والنواهي ، وهذا اختيار ابن عطية. وعلى هذا يناسب الاعتراض بهذه الآية ، قيام الليل لمشقته.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) في الناشئة سبعة أقوال : الأول أنه النفس الناشئة بالليل ، أي التي

٤٢٣

تنشأ من مضجعها وتقوم للصلاة ، الثاني الجماعات الناشئة الذين يقومون للصلاة ، الثالث العبادة الناشئة بالليل أي تحدث فيه ، الرابع الناشئة القيام بعد النوم فمن قام أول الليل قبل أن ينام فلم يقم ناشئة ، الخامس الناشئة القيام أول الليل بعد العشاء ، السادس الناشئة بعد المغرب والعشاء ، السابع ناشئة الليل ساعاته كلها (هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) يحتمل معنيين أحدهما : أثقل وأصعب على المصلي ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم اشدد وطأتك على مضر (١) ، والأثقل أعظم أجرا ، فالمعنى تحريض على قيام الليل لكثرة الأجر. الثاني أشدّ ثبوتا من أجل الخلوة وحضور الذهن والبعد عن الناس ، ويقرب هذا من معنى أقوم قيلا وقرأ أبو عمرو وابن عامر وطاء بكسر الواو على وزن فعال ومعناه موافقة. أي يوافق القلب اللسان بحضور الذهن (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) السبح هنا عبارة عن التصرف في الاشتغال ، والمعنى : يكفيك النهار للتصرف في أشغالك وتفرغ بالليل لعبادة ربك ، وقيل : المعنى إن فاتك شيء من صلاة الليل فأدّه بالنهار فإنه طويل يسع ذلك (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) قيل : معناه قل : بسم الله الرحمن الرحيم في أول صلاتك. واللفظ أعم من ذلك (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) أي انقطع إليه بالعبادة والتوكل عليه وحده. وقيل : التبتل رفض الدنيا. وتبتيلا مصدر على غير قياس (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) الوكيل هو القائم بالأمور والذي توكل إليه الأشياء ، فهو أمر بالتوكل على الله.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي على ما يقول الكفار. والآية منسوخة بالسيف وقيل : إنما المنسوخ المهادنة التي يقتضيها قوله : اهجرهم هجرا جميلا وأما الصبر فمأمور به في كل وقت (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) هذا تهديد لهم وانتصب المكذبين على أنه مفعول معه أو معطوف (أُولِي النَّعْمَةِ) أي التنعم في الدنيا ، وروي أن الآية نزلت في بني المغيرة وهم قوم من قريش كانوا متنعمين في الدنيا (أَنْكالاً) جمع نكل وهو القيد من الحديد. روي أنها قيود سود من نار (وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) شجرة الزقوم ومعنى ذا غصة : أي يغصّ به آكلوه وقيل : هو شوك يعترض في حلوقهم لا ينزل ولا يخرج ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرأ هذه الآية فصعق (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) أي تهتز وتتزلزل والعامل في يوم معنى الكلام المتقدم وهو («إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً» وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) الكثيب كدس الرمل ، والمهيل اللين الرخو ، الذي تهيله الريح أي تنشره وزنه مفعول ، والمعنى أن الجبال تصير إذا نسفت يوم القيامة مثل الكثيب (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً) خطاب لجميع الناس ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الناس كافة ، وقال الزمخشري : هو خطاب لأهل مكة

__________________

(١). رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير ج ٣ ص ٢٣٤ عن أبي هريرة.

٤٢٤

(شاهِداً عَلَيْكُمْ) أي يشهد على أعمالكم من الكفر والإيمان والطاعة والمعصية ، وإنما يشهد على من أدركه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أقول كما قال أخي عيسى (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) يعني موسى عليه‌السلام وهو المراد بقوله : فعصى فرعون الرسول فاللام للعهد (أَخْذاً وَبِيلاً) أي عظيما شديدا.

(يَوْماً) مفعول به ، وناصبه تتقون أي : كيف تتقون يوم القيامة وأهواله إن كفرتم وقيل : هو مفعول به على أن يكون كفرتم بمعنى جحدتم ، وقيل ، هو ظرف أي كيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره : اذكروا قوله السماء منفطر به (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) الولدان جمع وليد وهو الطفل الصغير ، والشيب بكسر الشين جمع أشيب ووزنه فعل بضم الفاء وكسرت لأجل الياء ، ويجعل يحتمل أن يكون مسندا إلى الله تعالى أو إلى اليوم ، والمعنى أن الأطفال يشيبون يوم القيامة ، فقيل : إن ذلك حقيقة ، وقيل : إنه عبارة عن هول ذلك اليوم ، وقيل : إنه عبارة عن طوله (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) الانفطار : الانشقاق ، والضمير المجرور يعود على اليوم أي : تتفطر السماء لشدة هوله ويحتمل أن يعود على الله أي تنفطر بأمره وقدرته والأول أظهر ، والسماء مؤنثة. وجاء منفطر بالتذكير لأن تأنيثها غير حقيقة أو على الإضافة تقديره : ذات انفطار أو لأنه أراد السقف (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) الضمير في وعده يحتمل أن يعود على اليوم أو على الله والأول أظهر ؛ لأنه ملفوظ به (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى ما تقدم من المواعظ والوعيد (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) يريد سبيل التقرب إلى الله ، ومعنى الكلام حض على ذلك وترغيب فيه.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) هذه الآية نزلت ناسخة لما أمر به في أول السورة من قيام الليل ، ومعناها أن الله يعلم أنك ومن معك من المسلمين تقومون قياما مختلفا ، مرة يكثر ومرة يقل ، لأنكم لا تقدرون على إحصاء أوقات الليل وضبطها ، فإنه لا يقدر على ذلك إلا الله فخفف عنكم وأمركم أن تقرأوا ما تيسر من القرآن (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) من قرأها بالخفض [مثل نافع وابن عامر وأبو عمرو] فهو عطف على ثلثي الليل ، أي تقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وثلثه ، ومن قرأ بالنصب [باقي القراء] فهو عطف على أدنى أي تقوم أدنى من ثلثي الليل وتقوم نصفه تارة وثلثه تارة (وَطائِفَةٌ) يعني المسلمين وهو معطوف على الضمير الفاعل في تقوم (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) الضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام ، أي لن تحصوا تقدير الليل ، وقيل : معناه لن تطيقوه أي : لن تطيقوا

٤٢٥

قيام الليل كله (فَتابَ عَلَيْكُمْ) عبارة عن التخفيف كقوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣] (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي إذا لم تقدروا على قيام الليل كله ، فقوموا بعضه ، واقرءوا في صلاتكم بالليل ما تيسر من القرآن ، وهذا الأمر للندب ، وقال ابن عطية : هو للإباحة عند الجمهور.

وقال قوم منهم الحسن وابن سيرين : هو فرض لا بد منه ولو أقل ما يمكن ، حتى قال بعضهم : من صلى الوتر فقد امتثل هذا الأمر ، وقيل : كان فرضا ثم نسخ بالصلوات الخمس ، وقال بعضهم : هو فرض على أهل القرآن دون غيرهم (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) ذكر الله في هذه الآية الأعذار التي تكون لبني آدم تمنعهم من قيام الليل فمنها المرض ومنها السفر للتجارة وهي الضرب في الأرض لابتغاء فضل الله ومنها الجهاد ثم كرر الأمر بقراءة ما تيسر ، تأكيدا للأمر به أو تأكيدا للتخفيف وهذا أظهر لأنه ذكره بأثر الأعذار (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) يعني المكتوبتين (وَأَقْرِضُوا اللهَ) معناه تصدقوا ، وقد ذكر في البقرة [٢٤٥] (هُوَ خَيْراً) نصب خيرا لأنه مفعول ثان لتجدوه والضمير فصل (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) قال بعض العلماء إن الاستغفار بعد الصلاة مستنبط من هذه الآية وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا.

٤٢٦

سورة المدثر

مكية وآياتها ٥٦ نزلت بعد المزمّل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) وزنه متفعل ومعناه الذي تدثر في كساء أو ثياب وتسميته بذلك كتسميته بالمزمل ، حسبما ذكرنا في موضعه. وقال السهيلي : في ندائه بالمدثر ثلاثة فوائد : الاثنتان اللتان ذكرنا في المزمل وفائدة ثالثة وهي أن العرب يقولون : النذير العريان ، للنذير الذي يكون في غاية الجد والتشمير ، والنذير بالثياب ضد هذا ، فكأنه تنبيه على ما يجب من التشمير ، وقيل : إن هذه أول سورة نزلت من القرآن : والصحيح أن سورة اقرأ نزلت قبلها (قُمْ فَأَنْذِرْ) أي أنذر الناس وهذه بعثة عامة (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه ويحتمل أن يريد قول : الله أكبر ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة أن المسلمين قالوا : بم نفتتح صلاتنا فنزلت : وربك فكبر وقوله : وربك فكبر : من المقلوب الذي يقرأ طردا وعكسا من أوله وآخره (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) فيه ثلاثة أقوال أحدها أنه حقيقة في تطهير الثياب من النجاسة واختلف في هذا هل يحمل على الوجوب ، فتكون إزالة النجاسة واجبة أو على الندب فتكون سنة ، والآخر أنه يراد به الطهارة من الذنوب والعيوب ، فالثياب على هذا مجاز ، الثالث : أن معناه لا تلبس الثياب من مكسب خبيث (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) (١) فيه ثلاثة أقوال ، أحدها : أن الرجز الأوثان ، روي ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو قول عائشة ، والآخر أن الرجز السخط والعذاب وهذا أصله في اللغة ، فمعناه اهجر ما يؤدي إليه ويوجبه ، الثالث : أنه المعاصي والفجور ، قال بعضهم كل معصية رجز (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) يحتمل قوله : (تَمْنُنْ) أن يكون بمعنى العطاء أو بمعنى المنّ وهو ذكر العطاء وشبهه ، أو بمعنى الضعف فإن كان بمعنى العطاء ففيه وجهان ، أحدهما : أن معناه لا تعط شيئا لتأخذ أكثر منه ، قال بعضهم : هذا خاص بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومباح لأمّته ، والآخر : لا تعط الناس عطاء وتستكثره ، لأن الكريم يستقل ما يعطي وإن كثيرا ، وإن كان من المنّ بالشيء ففيه وجهان ،

__________________

(١). قرأ حفص والرّجز بضم الراء والباقون بكسر الراء.

٤٢٧

الأول : لا تمنن على الناس بنبوتك تستكثر بأجر أو مكسب تطلبه ، الثاني : لا تمنن على الله بعملك تستكثر أعمالك وتقع لك بها إعجاب ، وإن كان من الضعف فمعناه لا تضعف عن تبليغ الرسالة وتستكثر ما حملناك من ذلك (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أي اصبر لوجهه وطلب رضاه ، ويحتمل أن يريد الصبر على المكاره والمصائب ، أو على إذاية الكفار له ، أو على العبادة (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) يعني نفخ في الصور ، ويحتمل أن يريد النفخة الأولى والثانية.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) هذا وعيد وتهديد ، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة باتفاق ، وفي معنى (وَحِيداً) ثلاثة أقوال : أحدها : روي أنه كان يلقب الوحيد ، أي لا نظير له في ماله وشرفه ، وكونه وحيدا نعمة عددها الله عليه ، الثاني : أن معناه خلقته منفردا ذليلا ، الثالث : أن معناه خلقته وحدي فوحيدا على هذا من صفة الله تعالى ، وإعرابه على هذا حال من الضمير الفاعل في قوله خلقت وهو على القولين الأولين حال من الضمير المفعول (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أي كثيرا ، واختلف في مقداره فقيل : ألف دينار ، وقيل عشرة آلاف دينار ، وقيل : يعني الأرض لأنها مدت (وَبَنِينَ شُهُوداً) أي حضورا ، وروي أنه كان له عشرة من الأولاد ، وقيل : ثلاث عشرة لا يفارقونه. وأسلم منهم ثلاثة وهم : خالد وهشام وعمار (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي بسطت له في الدنيا بالمال والقوة وطيب العيش (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي يطمع في الزيادة على ما أعطاه الله ، وهذا غاية الحرص (كَلَّا) زجر عما طمع فيه من الزيادة (عَنِيداً) أي معاندا مخالفا ، والآيات هنا يراد بها القرآن لأن الوليد قال فيه : إنه سحر ، ويحتمل أن يريد الدلائل (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) الصعود العقبة الصعبة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها عقبة في جهنم ، كلما صعدها الإنسان ذاب ثم يعود ، فالمعنى سأشق عليه بتكليفه الصعود فيها.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أي فكر فيما يقول ، وقدر في نفسه ما يقول في القرآن أي : هيّأ كلامه ، روي أن الوليد سمع القرآن فأعجبه وكاد يسلم ، ودخل إلى أبي بكر الصديق فعاتبه أبو جهل ، وقال له : إن قريشا قد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في كلام محمد قولا يرضيهم ، فافتتن وقال : أفعل ذلك ثم فكر فيما يقول في القرآن فقال : أقول شعر ما هو شعر ، أقول كهانة ما هو بكهانة ، أقول إنه سحر وإنه قول البشر ليس منزلا من عند الله (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) دعاء عليه وذم ، وكرره تأكيدا لذمه وتقبيح حاله ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مقتضاه استحسان منزعه الأول حين أعجبه القرآن ، فيكون قوله : قتل لا يراد به الدعاء عليه ، وإنما هو كقولهم : قاتل الله فلانا ما أشجعه ، يريدون التعجب من حاله واستعظام وصفه ، وقال الزمخشري : يحتمل أن يكون ثناء عليه

٤٢٨

على طريقة الاستهزاء أو حكاية لقول قريش تهكما بهم (ثُمَّ نَظَرَ) أي نظر في قوله (ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) البسور هو تقطيب الوجه وهو أشد من العبوس ، وفعل ذلك من حسده للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي عبس في وجهه عليه الصلاة والسلام ، أو عبس لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول (ثُمَّ أَدْبَرَ) أي أعرض عن الإسلام (سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي ينقل عمن تقدم (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) تعظيم لها وتهويل (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) مبالغة في وصف عذابها ، أي لا تدع غاية من العذاب إلا أذاقته إياها أو لا تبقي شيئا ألقي فيها إلا أهلكته وإذا أهلك لم تذره هالكا بل يعود للعذاب (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) معنى لوّاحة مغيّرة يقال : لوّحه السفر إذا غيره والبشر جمع بشرة وهي الجلدة ، فالمعنى أنها تحرق الجلود وتسودها وقيل : لواحة من لاح إذا ظهر ، والبشر الناس أي تلوح للناس ، وقال الحسن : تلوح لهم من مسيرة خمسمائة عام.

(تِسْعَةَ عَشَرَ) يعني الزبانية خزنة جهنم فقيل : هم تسعة عشر ملكا وقيل : تسعة عشر صفا من الملائكة والأول أشهر (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) سبب الآية أنه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهل : أيعجز عشرة منكم عن واحد من هؤلاء التسعة عشر أن يبطشوا به ، فنزلت الآية ومعناها أنهم ملائكة لا طاقة لكم بهم وروي أن الواحد منهم يرمي بالجبل على الكفار (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي جعلناهم هذا العدد ليفتتن الكفار بذلك ويطمعوا أن يغلبوهم ويقولون ما قالوا (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي ليعلم أهل التوراة والإنجيل أن ما أخبر به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عدد ملائكة النار حق لأنه موافق لما في كتبهم (وَلا يَرْتابَ) أي لا يشك (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أن ما قاله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حق ، فإن قيل : كيف نفى عنهم الشك بعد أن وصفهم باليقين والمعنى واحد ، وهو تكرار؟ فالجواب أنه لما وصفهم باليقين نفى عنهم أن يشكوا فيما يستقبل بعد يقينهم الحاصل الآن ، فكأنه وصفهم باليقين في الحال والاستقبال ، وقال الزمخشري ذلك مبالغة وتأكيد (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المرض عبارة عن الشك ، وأكثر ما يطلق الذين في قلوبهم مرض على المنافقين. فإن قيل : هذه السورة مكية ولم يكن حينئذ منافقون وإنما حدث المنافقون بالمدينة ، فالجواب من وجهين أحدهما أن معناه يقول المنافقون إذا حدثوا ففيه إخبار بالغيب ، والآخر أن يريد من كان بمكة من أهل الشك. وقولهم : ماذا أراد الله بهذا مثلا : استبعاد لأن يكون هذا من عند الله (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) يحتمل القصد بهذا وجهين أحدهما وصف جنود الله بالكثرة أي : هم من كثرتهم لا يعلمهم إلا الله ، والآخر رفع اعتراض الكفار

٤٢٩

على التسعة عشر أي لا يعلم أعداد جنود الله إلا هو ؛ لأن منهم عددا قليلا ومنهم عددا قليلا ومنهم عددا كثيرا حسبما أراد الله (وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) الضمير لجهنم أو للآيات المتقدمة.

(كَلَّا) ردع للكفار عن كفرهم ، وقال الزمخشري : هي إنكار لأن تكون لهم ذكرى إذ أدبر (١) أي ولى وقرئ دبر بغير ألف والمعنى واحد. وقيل : معناه دبر الليل والنهار أي جاء في دبره (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أضاء ، ومنه الإسفار بصلاة الصبح (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) الضمير لجهنم ، أو للآيات والنذارة أي هي من الأمور العظام ، والكبر جمع كبرى وقال ابن عطية : جمع كبيرة والأول هو الصحيح (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) تمييز أو حال من إحدى الكبر وقيل : النذير هنا الله ، فالعامل فيه على هذا محذوف. وهذا ضعيف وقيل : هو حال من هذه السورة أي قم فأنذر نذيرا وهذا بعيد قال الزمخشري : هو من بدع التفاسير (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) التقديم عبارة عن تقديم سلوك طريق الهدى والتأخر ضده ، ولمن شاء بدل من البشر أي هم متمكنون من التقدم والتأخر وقيل : معناه الوعيد كقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وعلى هذا أعرب الزمخشري أن يتقدم مبتدأ ولمن شاء خبره والأول أظهر (رَهِينَةٌ) قال ابن عطية الهاء في رهينة للمبالغة أو على تأنيث النفس. وقال الزمخشري : ليست بتأنيث رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث ، وإنما هي بمعنى الرهن أي كل نفس رهن عند الله بعملها (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) أي أهل السعادة فإنهم فكوا رقابهم بأعمالهم الصالحة ، كما فكّ الراهن رهنه بأداء الحق وقال علي بن أبي طالب : أصحاب اليمين هم الأطفال لأنهم لا أعمال لهم يرتهنون بها وقال ابن عباس : هم الملائكة (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ) أي يسأل بعضهم بعضا عن حال المجرمين الذين في النار (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي ما أدخلكم النار ، وهذا خطاب للمجرمين يحتمل أن خاطبهم به المسلمون أو الملائكة فأجابوهم بقولهم : لم نك من المصلين وما بعده أي هذا الذي أوجب دخولهم النار ، وإنما أخر التكذيب بيوم الدين تعظيما له لأنه أعظم جرائمهم (نَخُوضُ) الخوض هو كثرة الكلام بما لا ينبغي من الباطل وشبهه (حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) هو الموت عند المفسرين وقال ابن عطية : إنما اليقين الذي أرادوا ما كانوا يكذبون في الدنيا ، فيتيقنونه بعد الموت (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) إنما ذلك لأنهم كفار ، وأجمع العلماء أنه لا يشفع أحد في الكفار ، وجمع الشافعين دليل على

__________________

(١). قرأ نافع وحمزة وحفص : والليل إذ أدبر. وقرأ الباقون : إذا دبر. وهما لغتان.

٤٣٠

كثرتهم كما ورد في الآثار ، تشفع الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) يعني كفار قريش (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) المستنفرة بفتح الفاء (١) التي استنفرها الفزع ، وبالكسر بمعنى النافرة شبه الكفار بالحمر النافرة في جهلهم ونفورهم عن الإسلام ويعني حمر الوحش.

(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) قال ابن عباس : القسورة الرماة وقال أيضا هو : الأسد ، وقيل : أصوات الناس ، وقيل : الرجال الشداد ، وقيل : سواد أول الليل (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) المعنى : يطمع كل إنسان منهم أن ينزل عليه كتابا من الله ، ومعنى منشرة : منشورة غير مطوية أي طرية كما كتبت لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء فيه من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر باتباعك (كَلَّا) ردع عما أرادوه (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي هذه هي العلة والسبب في إعراضهم (كَلَّا) تأكيد للردع الأول أو ردع عن عدم خوفهم الآخرة (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) الضمير لما تقدم من الكلام أو للقرآن بجملته (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) (٢) فاعل شاء ضمير يعود على من ، وفي ذلك حض وترغيب وقيل : الفاعل هو الله ثم قيد فعل العبد بمشيئة الله (هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) أي هو أهل لأن يتّقى لشدة عقابه ، وهو أهل لأن يغفر الذنوب لكرمه وسعة رحمته وفضله.

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر : مستنفرة بفتح الفاء وقرأ الباقون بكسر الفاء.

(٢). وبقية الآية : وما يذكرون قرأ نافع : وما تذكرون بالتاء والباقون بالياء.

٤٣١

سورة القيامة

مكية وآياتها ٤٠ نزلت بعد القارعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ) في الموضعين معناه أقسم. ولا زائدة لتأكيد القسم ، وقيل : هي استفتاح كلام بمنزلة ألا. وقيل : هي نفي لكلام الكفار (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) هي التي تلوم نفسها على فعل الذنوب ، أو التقصير في الطاعات ، فإن النفوس على ثلاثة أنواع فخيرها النفس المطمئنة وشرها النفس الأمارة بالسوء وبينهما النفس اللوامة ، وقيل : اللوامة هي المذمومة الفاجرة ، وهذا بعيد لأن الله لا يقسم إلا بما يعظم من المخلوقات ، ويستقيم إن كان لا أقسم نفيا للقسم (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) الإنسان هنا للجنس ، أو الإشارة به للكفار المنكرين للبعث ، ومعناه أيظن أن لن نجمع عظامه للبعث بعد فنائها في التراب؟ وهذه الجملة هي التي تدل على جواب القسم المتقدم (بَلى) تقديره نجمعها (قادِرِينَ) منصوب على الحال من الضمير في نجمع ، والتقدير : نجمعها ونحن قادرون (عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) البنان الأصابع ، وفي المعنى قولان : أحدهما أنه إخبار بالقدرة على البعث أي قادرين على أن نسوى أصابعه أي نخلقها بعد فنائها مستوية متقنة (١) ، وإنما خص الأصابع دون سائر الأعضاء لدقة عظامها وتفرقها ، والآخر أنه تهديد في الدنيا ، أي قادرين على أن نجعل أصابعه مستوية ، ملتصقة كيد الحمار وخف الجمل ، فلا يمكنه تصريف يديه في منافعه. والأول أليق بسياق الكلام (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) هذه الجملة معطوفة على أيحسب الإنسان ، ويجوز أن يكون استفهاما مثلها أو تكون خبرا ، وليست بل هنا للإضراب عن الكلام الأول بمعنى إبطاله ؛ وإنما هي للخروج منه إلى ما بعده ، وليفجر : معناه ليفعل أفعال الفجور ، وفي معنى أمامه ثلاثة أقوال : أحدها أنه عبارة عما يستقبل من

__________________

(١). رؤوس الأصابع اكتشف حديثا ما في خلقها من أعجاز وهو عدم تشابه الخطوط التي على رأس كل إصبع فالبصمات لكل إنسان تختلف عن غيره

٤٣٢

الزمان ، أي يفجر بقية عمره الثاني أنه عبارة عن اتباع أغراضه وشهواته ، يقال : مشى فلان قدامه إذا لم يرجع عن شيء يريده ، والضمير على هذين القولين يعود على الإنسان ، الثالث أن الضمير يعود على يوم القيامة. والمعنى يريد الإنسان أن يفجر قبل يوم القيامة.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أيان معناها متى وهذا السؤال على يوم القيامة هو على وجه الاستخفاف والاستعداد (بَرِقَ الْبَصَرُ) هذا إخبار عن يوم القيامة ، وقيل : عن حالة الموت وهذا خطأ ؛ لأن القمر لا يخسف عند موت أحد ، ولا يجمع بينه وبين الشمس وبرق (١) بفتح الراء معناه لمع وصار له برق وقرئ بكسر الراء ومعناه تحيّر من الفزع ، وقيل : معناه شخص فيتقارب معنى الفتح والكسر (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) ذهب ضوؤه ، يقال : خسف هو وخسفه الله والخسوف للقمر والكسوف للشمس ، وقيل : الكسوف ذهاب بعض الضوء ، والخسوف : ذهاب جميعه ، وقيل : بمعنى واحد (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) في جمعهما ثلاثة أقوال : أحدها أنهما يجمعان حيث يطلعهما الله من المغرب ، والآخر أنهما يجمعان يوم القيامة ، ثم يقذفان في النار ، وقيل : في البحر ، فتكون النار الكبرى. الثالث أنهما يجمعان فيذهب ضوؤهما (لا وَزَرَ) أي لا ملجأ ولا مغيث (بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي بجميع أعماله ما قدّم منها في أول عمره وما أخر في آخره ، وقيل : ما تقدم في حياته وما أخر من سنة أو وصية بعد مماته ، وقيل : ما قدم لنفسه من ماله وما أخر منه لورثته.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) في معناه قولان : أحدهما : أنه شاهد على نفسه بأعماله ، إذ تشهد عليه جوارحه يوم القيامة ، والآخر : أنه حجة بينة لأن خلقته تدل على خالقه ، فوصف بالبصارة مجازا لأن من نظر فيه أبصر الحق ، والأول أليق بما قبله وما بعده كأنه قال : ينبؤ الإنسان يومئذ بأعماله بل هو يشهد بأعماله وإن لم ينبأ بها ، وكذلك يلتئم مع قوله : (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) ، ويكون هو جواب لو حسبما نذكره (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) فيه قولان ، أحدهما : أن المعاذير الأعذار أي الإنسان يشهد على نفسه بأعماله ولو اعتذر عن قبائحها والآخر أن المعاذير : الستور ، أي الإنسان يشهد على نفسه يوم القيامة ولو سدل الستور على نفسه في الدنيا ، حين يفعل القبائح (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الضمير في به يعود على القرآن دلت على ذلك قرينة الحال وسبب الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يحرك به شفتيه ، مخافة أن ينساه لحينه ، فأمره الله أن ينصت ويستمع ، وقيل : كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب عليه ذلك ، وشق عليه فنزلت

__________________

(١). هي قراءة نافع والباقون : برق بكسر الراء.

٤٣٣

الآية والأول هو الصحيح. لأنه ورد في البخاري وغيره (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) ضمن الله له أن يجمعه في صدره ، فلا يحتاج إلى تحريك شفيته عند نزوله ، ويحتمل قرآنه هنا وجهين ، أحدهما : أن يكون بمعنى القراءة فإن القرآن قد يكون مصدرا من قرأت ، والآخر : أن يكون معناه تأليفه في صدره فهو مصدر من قولك : قرأت الشيء أي جمعته (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أي إذا قرأه جبريل ، فاجعل قراءة جبريل قراءة الله ؛ لأنها من عنده ، ومعنى اتبع قرآنه اسمع قراءته واتبعها بذهنك لتحفظها ، وقيل : اتبع القرآن في الأوامر والنواهي (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) أي علينا أن نبينه لك ونجعلك تحفظه ، وقيل : علينا أن نبين معانيه وأحكامه ، فإن قيل : ما مناسبة قوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) الآية لما قبلها فالجواب أنه لعله نزل معه في حين واحد فجعل على ترتيب النزول.

(بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) (١) أي تحبون الدنيا ، وهذا الخطاب توبيخ للكفار ، ومن كان على مثل حالهم في حب الدنيا ، وكلا ردع عن ذلك (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) بالضاد أي ناعمة ، ومنه (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) هذا من النظر بالعين ، وهو نص في نظر المؤمنين إلى الله تعالى في الآخرة ، وهو مذهب أهل السنة ، وأنكره المعتزلة وتأولوا ناظرة بأن معناه منتظرة ، وهذا باطل ؛ لأن نظر بمعنى انتظر يتعدى بغير حرف جر ، تقول نظرتك أي انتظرتك ، وأما المتعدي بإلى فهو من نظر العين ، ومنه قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٣] وقال بعضهم : إلى هنا ليست بحرف جر وإنما هي واحد الآلاء بمعنى النعم ، وهذا تكلف في غاية البعد ، وتأوله الزمخشري بأن معناه كقول الناس : فلان ناظر إلى فلان إذا كان يرتجيه ويتعلق به ، وهذا بعيد وقد جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النظر إلى الله أحاديث صحيحة مستفيضة صريحة المعنى لا تحتمل التأويل فهي تفسير الآية (٢). (باسِرَةٌ) أي عابسة تظهر عليها الكآبة والبسور أشد من العبوس (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي مصيبة قاصمة الظهر ، والظن هنا يحتمل أن يكون على أصله أو بمعنى اليقين.

(إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) يعني حالة الموت والتراقي جمع ترقوة وهو عظام أعلى الصدر ،

__________________

(١). قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : يحبون العاجلة : ويذرون الآخرة بالياء وقرأ الباقون بالتاء تحبون وتذرون.

(٢). ومنها الحديث المتفق عليه عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : «كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر وقال : إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر ، لا تضامون في رؤيته» صدقت يا رسول الله ، من رياض الصالحين.

٤٣٤

والفاعل لبلغت نفس الإنسان دل على ذلك سياق الكلام ، وهو عبارة عن حال الحشرجة وسياق الموت (وَقِيلَ مَنْ راقٍ) (١) أي قال أهل المريض : من يرقيه عسى أن يشفيه؟ وقيل : معناه أن الملائكة تقول : من يرقى بروحه أي يصعد بها إلى السماء؟ فالأول من الرقية وهو أشهر وأظهر ، والثاني من الرقيّ وهو العلو (وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) أي تيقن المريض أن ذلك الحال فراق الدنيا وفراق أهله وماله (وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) هذا عبارة عن شدة كرب الموت وسكراته ، أي التفت ساقه على الأخرى عند السياق وقيل هو مجاز كقوله كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتدت ، وقيل : معناه ماتت ساقه فلا تحمله وقيل : التفت أي لفها الكافر إذا كفر وفي قوله : الساق والمساق ضرب من ضروب التجنيس (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) هذا جواب إذا بلغت التراقي والمساق مصدر من السوق كقوله : (إِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨] (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) لا هنا نافية وصدّق هنا يحتمل أن يكون من التصديق بالله ورسله أو من الصدقة ، ونزلت هذه الآية وما بعدها في أبي جهل (يَتَمَطَّى) أي يتبختر في مشيته ، وذلك عبارة عن التكبر والخيلاء ، وكانت هذه المشية معروفة في بني مخزوم الذين كان أبو جهل منهم (أَوْلى لَكَ) وعيد وتهديد (فَأَوْلى) وعيد ثان ثم كرر ذلك تأكيدا ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبّب أبا جهل وقال له : إن الله يقول لك : أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى. فنزل القرآن بموافقة ذلك.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) هذا توبيخ ومعناه أيظن أن يترك من غير بعث ولا حساب ولا جزاء ، فهو كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] ، والإنسان هنا جنس ، وقيل نزلت في أبي جهل ولا يبعد أن يكون سببها خاصا ومعناها عام (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) النطفة النقطة وتمنى (٢) من قولك : أمنى الرجل ، ومعنى الآية : الاستدلال بخلقة الإنسان على بعثه ، كقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [ياسين : ٧٩] والعلق : الدم لأن المني يصير في الرحم دما (فَخَلَقَ فَسَوَّى) أي خلقه بشرا فسوى صورته أي أتقنها (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) هذا تقرير واحتجاج ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ آخر هذه السورة قال بلى وفي رواية : سبحانك اللهم بلى.

__________________

(١). قرأ حفص : من راق بإظهار النون وقرأها الباقون بالإدغام.

(٢). يمنى بالياء هي قراءة حفص والباقون : تمنى بالتاء.

٤٣٥

سورة الإنسان

مدنية وآياتها ٣١ نزلت بعد الرحمن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) هل هنا بمعنى التقرير لا لمجرد الاستفهام ، وقيل : هل بمعنى قل ، والإنسان هنا جنس ، والحين الذي أتى عليه حين كان معدوما قبل أن يخلق ، وقيل : الإنسان هنا آدم ، والحين الذي أتى عليه حين كان طينا قبل أن ينفخ فيه الروح وهذا ضعيف لوجهين أحدهما قوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) وهو هنا جنسها باتفاق ؛ إذ لا يصح هنا في آدم ، والآخر أن مقصد الآية تحقير الإنسان (مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) أي أخلاط واحدها مشج بفتح الميم والشين وقيل : مشج بوزن عدل ، وقال الزمخشري : ليس أمشاج بجمع وإنما هو مفرد كقولهم : برمة أعشار ، ولذلك أوقع صفة للمفرد واختلف في معنى الأخلاط هنا فقيل : اختلاط ماء الرجل والمرأة وقيل : معناه ألوان وأطوار ، أي يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة (نَبْتَلِيهِ) أي نختبره وهذه الجملة في موضع الحال أي : خلقناه مبتلين له وقيل : معناه نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) هذا معطوف على خلقنا الإنسان ، ومن جعل نبتليه بمعنى نصرفه في بطن أمه فهذا عطف عليه ، وقيل أن نبتليه مؤخر في المعنى أي جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وهذا تكلف بعيد.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي سبيل الخير والشر ولذلك قسم الإنسان إلى قسمين شاكرا أو كفورا وهما حالان من الضمير في هديناه والهدى هنا بمعنى : بيان الطريقين ، وموهبة العقل الذي يميز به بينهما ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإرشاد ، أي هدى المؤمن للإيمان والكافر للكفر. (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] سلاسلا (١) من قرأه بغير تنوين فهو الأصل إذ هو لا ينصرف ، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد. ومن قرأه بالتنوين فله ثلاث توجيهات :

__________________

(١). قرأ نافع وأبو بكر والكسائي : سلاسلا بالتنوين. وقرأ الباقون : سلاسل بفتحة واحدة لأنه ممنوع من الصرف.

٤٣٦

أحدها أنها لغة لبعض العرب يصرفون كل ما لا ينصرف إلا ما كان على وزن أفعل والآخر أن النون بدل من حرف الإطلاق ، وأجرى الوصل مجرى الوقف والثالث أن يكون صاحب هذه القراءة راوية للشعر ، قد عوّد لسانه صرف ما لا ينصرف فجرى على ذلك (الْأَبْرارَ) جمع بار أو برّ ، ومعناه العاملون بالبر وهو غاية التقوى والعمل الصالح حتى قال بعضهم : الأبرار هم الذين لا يؤذون الذر (مِنْ كَأْسٍ) ذكر في الصافات [٤٥] معنى الكأس ومن هنا يحتمل أن تكون للتبعيض أو لابتداء الغاية (مِزاجُها كافُوراً) أي تمزج الخمر بالكافور وقيل : المعنى أنه كافور في طيب رائحته كما تمدح طعاما فتقول هذا مسك (عَيْناً) بدل من كافورا على القول بأن الخمر تمزج بالكافور ، أو بدل من موضع من كأس على القول الآخر كأنه قال : يشربون خمرا خمر عين وقيل : هو مفعول يشربون وقيل منصوب بإضمار فعل (يَشْرَبُ بِها) قال ابن عطية : الباء زائدة والمعنى يشربها وهذا ضعيف ؛ لأن الباء إنما تزاد في مواضع ليس هذا منها ، وإنما هي كقولك : شربت الماء بالعسل لأن العين المذكورة تمزج بها الكأس من الخمر (عِبادُ اللهِ) وصفهم بالعبودية ، وفيه معنى التشريف والاختصاص. كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يصعب عليهم ، وفي الأثر أن في قصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجنة عينا تفجر إلى قصور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين (مُسْتَطِيراً) أي منتشرا شائعا ومنه ، استطار الفجر : إذا انشق ضوؤه.

(وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ) نزلت هذه الآية وما بعدها في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم (١) فإنهم كانوا صائمين فلما وضعوا فطورهم ليأكلوه جاء مسكين فرفعوه له ، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين ، فلما وضعوا فطورهم جاء يتيم فدفعوه له ، وباتوا طاوين وأصبحوا صائمين فلما وضعوا فطورهم جاء أسير فدفعوه له ، وباتوا طاوين والآية على هذا مدنية لأن عليا إنما تزوج فاطمة بالمدينة وقيل : إنما هي مكية وليست في علي (عَلى حُبِّهِ) الضمير للطعام أي يطعمونه مع حبه والحاجة إليه فهو كقوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران : ٩٢] وقوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ففي قوله على حبه تتميم وهو من أدوات البيان وقيل : الضمير لله وقيل : للإطعام المفهوم من يطعمون والأول أرجح وأظهر (مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) قد ذكرنا المسكين واليتيم وأما الأسير ففيه خمسة أقوال أحدها أن الأسير الكافر بين المسلمين ففي إطعامه أجر لأنه : «في كل ذي كبد رطبة أجر» (٢) وقيل نسخ ذلك

__________________

(١). القصة مشهورة وفيها إيثار المسكين ثم اليتيم ثم الأسير ثلاث ليال متواليات على أنفسهم.

(٢). الحديث في البخاري عن أبي هريرة كتاب الشرب والمساقاة ص ٧٧ ج ٣.

٤٣٧

بالسيف ، والآخر : أنه الأسير المسلم إذا خرج من دار الحرب لطلب الفدية والثالث أنه المملوك الرابع أنه المسجون الخامس أنه المرأة لقوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : استوصوا بالنساء خيرا لأنهن عوان عندكم وهذا بعيد والأول أرجح ؛ لأنه روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يؤتى بالأسير المشرك فيدفعه إلى بعض المسلمين ويقول له : أحسن إليه (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) عبارة عن الإخلاص لله ، ولذلك فسروه وأكدوه بقولهم : لا نريد منكم جزاء ولا شكورا والشكور مصدر كالشكر ويحتمل أنهم قالوا هذا الكلام بألسنتهم ، أو قالوا في نفوسهم ، فهو عبارة عن النية والقصد (يَوْماً عَبُوساً) وصف اليوم بالعبوس مجاز على وجهين : أحدهما أن يوصف اليوم بصفة أهله كقولهم : نهاره صائم وليله قائم. وروي أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل الدم من عينيه مثل القطران والآخر يشبّه في شدّته بالأسد العبوس (قَمْطَرِيراً) قال ابن عباس : معناه طويل وقيل : شديد. (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً) النضرة : التنعم. وهذا في مقابلة عبوس الكافر. وقوله : وقاهم ولقاهم من أدوات البيان (بِما صَبَرُوا) أي بصبرهم على الجوع وإيثار غيرهم على أنفسهم ، حسبما ذكرنا من قصة علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم ، وقد ذكرنا الأرائك (٢) (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) عبارة عن اعتدال هوائها أي ليس فيها حر ولا برد ، والزمهرير هو البرد الشديد ، وقيل : هو القمر بلغة طيء ، والمعنى على هذا أن للجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس ولا قمر (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) معناه أن ظلال الأشجار متدلية عليهم قريبة منهم ، وإعراب دانية معطوف على متكئين ، وقال الزمخشري : هو معطوف على الجملة التي قبلها وهي : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، لأن هذه الجملة في حكم المفرد تقديره : غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا ودانية ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم ، أي جامعين بين البعد عن الحر والبرد وبين دنو الظلال ، وقيل : هو صفة لجنة عطف بالواو كقولك : فلان عالم وصالح. وقيل : هو معطوف عليها أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) القطوف جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ، وشبه ذلك ، وتذليلها هو أن تتدلى إلى الأرض ، وروي أن أهل الجنة يقطعون الفواكه على أي حال كانوا من قيام أو جلوس أو اضطجاع ، لأنها تتدلى لهم كما يريدون ، وهذه الجملة في موضع الحال من دانية ، أي دانية في حال تذليل قطوفها أو معطوفة عليها.

(بِآنِيَةٍ) هي جمع إناء ووزنها أفعلة وقد ذكرنا الأكواب في الواقعة (قَوارِيرَا) القوارير هي الزجاج ، فإن قيل : كيف يتفق أنها زجاج مع قوله من فضة؟ فالجواب : أن

__________________

(١). الحديث متفق عليه عن أبي هريرة والترمذي عن عمرو بن الأحوص ، وهو من خطبة حجة الوداع.

(٢). سبق ورودها في الكهف : ٣١ ويس : ٥٦.

٤٣٨

المراد أنها في أصلها من فضة وهي تشبه الزجاج في صفائها وشفيفها ، وقيل : هي من زجاج ، وجعلها من فضة على وجه التشبيه لشرف الفضة وبياضها ، ومن قرأ قوارير بغير تنوين فهو على الأصل ومن نوّنه (١) فعلى ما ذكرنا في سلاسل (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) هذه صفة للقوارير والمعنى قدّروها على قدر الأكف أو على قدر ما يحتاجون من الشراب ، قال مجاهد : هي لا تغيض ولا تفيض ، وقيل : قدروها على حسب ما يشتهون ، والضمير الفاعل في قدّروها يحتمل أن يكون للشاربين بها أو للطائفين بها (مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) هو كما ذكرنا في مزاجها كافورا (سَلْسَبِيلاً) معناه سلسل منقاد الجرية ، وقيل : سهل الانحدار في الحلق ، يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل بمعنى واحد. وزيدت الباء في التركيب للمبالغة في سلاسته ، فصارت الكلمة خماسية ، وقيل : سل فعل أمر سبيلا مفعول به وهذا في غاية الضعف (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) ذكر في الواقعة (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) شبههم باللؤلؤ في الحسن والبياض ، وبالمنثور منه في كثرتهم وانتشارهم في القصور.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) مفعول رأيت محذوف ليكون الكلام على الإطلاق في كل ما يرى فيها ، وثم ظرف مكان ، وقال الفراء : تقديره إذا رأيت ما ثم فما مفعوله ثم حذفت ، قال الزمخشري : وهذا خطاب لأن ثمّ صلة لما ، ولا يجوز حذف الموصول وترك الصلة (مُلْكاً كَبِيراً) يعني كثرة ما أعطاهم الله ، حتى إن أدنى أهل الجنة منزلة له مثل الدنيا وعشرة أمثاله معه ، حسبما ورد في الحديث (٢) وقيل : أراد أن الملائكة تسلم عليهم ، وتستأذن عليهم ، فهم بذلك كالملوك (عالِيَهُمْ) (٣) بسكون الياء مبتدأ خبره (ثِيابُ سُندُسٍ) أي ما يعلوهم من الثياب ثياب سندس ، وقرئ عاليهم بالنصب على الحال ، من الضمير في يطوف عليهم أو في حسبتهم. وقال ابن عطية : العامل فيه لقّاهم أو جزاهم ، وقال أيضا يجوز أن ينتصب على الظرف لأن معناه فوقاهم ، وقد ذكرنا معنى السندس والإستبرق وقرئ (خُضْرٌ) بالخفض صفة لسندس وبالرفع صفة لثياب (وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع عطف على ثياب ، وبالخفض عطف على سندس (وَحُلُّوا) وزنه فعلوا معناه جعل لهم حلي (أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) ذكرنا الأساور في الكهف ، فإن قيل كيف قال هنا أساور من فضة ، وفي موضع آخر أساور من

__________________

(١). قرأ بالتنوين : قواريرا نافع وأبو بكر والكسائي. وقرأ الباقون : قوارير. لأنها ممنوعة من الصرف ما عدا ابن كثير فإنه قرأ الأولى بالتنوين لأنها رأس آية والثانية بدون تنوين على الأصل.

(٢). الحديث رواه مسلم عن المغيرة بن شعبة وأوله : «إن موسى عليه‌السلام سأل ربه : ما أدنى أهل الجنة ، منزلة؟ فقال : رجل يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة فيقال له : ادخل الجنة». انظر الترغيب والترهيب ج ٤ / ص ٢٤٥.

(٣). قرأ نافع وحمزة : عاليهم بكسر اللام وسكون الياء والباقون : عاليهم بفتح الياء.

٤٣٩

ذهب؟ فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف درجات أهل الجنة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما» (١). فلعل الذهب للمقربين ، والفضة لأهل اليمين ، ويحتمل أن يكون أهل الجنة لهم أساور من فضة ومن ذهب معا (شَراباً طَهُوراً) أي ليس بنجس كخمر الدنيا. وقيل معناه : أنه لم تعصره الأقدام ، وقيل معناه لا يصير بولا (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً) أي يقال لهم هذا يقوله الله تعالى والملائكة (آثِماً أَوْ كَفُوراً) أو هنا للتنويع ، فالمعنى لا تطع النوعين ، فاعلا للإثم ولا كفورا ، وقيل : هي بمعنى الواو أي جامعا للوصفين لأن هذه هي حالة الكفار ، وروي أن الآية نزلت في أبي جهل ، وقيل : أن الآثم عتبة بن ربيعة ، والكفور الوليد بن المغيرة ، والأحسن أنها على العموم ، لأن لفظها عام ، وإن كان سبب نزولها خاصا (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) هذا أمر بذكر الله في كل وقت ، وقيل : إشارة إلى الصلوات الخمس ، فالبكرة صلاة الصبح ، والأصيل الظهر والعصر ، ومن الليل المغرب والعشاء.

(إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي الدنيا والإشارة إلى الكفار واليوم الثقيل يوم القيامة ، ووصفه بالثقل عبارة عن هوله وشدته (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) الأسر الخلقة وقيل : المفاصل والأوصال ، وقيل : القوة (بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي أهلكناهم وأبدلنا منهم غيرهم. وقيل : مسخناهم فبدلنا صورهم وهذا تهديد (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) الإشارة إلى الآية أو السورة أو الشريعة بجملتها (فَمَنْ شاءَ) تحضيض وترغيب ثم قيّد مشيئتهم بمشيئة الله (وَالظَّالِمِينَ) منصوب بفعل مضمر تقديره : ويعذب الظالمين.

__________________

(١). الحديث رواه أحمد في الجزء ٤ ص ٤١٦ ، ٤١١. وأوله : «جنات الفردوس أربع : جنتان من ذهب» عن أبي موسى الأشعري.

٤٤٠