التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

بسبب كفركم لا بسببنا (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره : أتطيرون أن ذكرتم (يَسْعى) أي يسرع بجده ونصيحته ، وقيل : اسمه حبيب النجار (اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان ، فلا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وترجون معهم الاهتداء في دينكم (وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي؟ وهذا توقيف سؤال وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ، ولذلك قال : وإليه ترجعون فخاطبهم (إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ) هذا وصف للآلهة ، والمعنى : كيف أتخذ من دون الله آلهة لا يشفعون ولا ينقذونني من الضر (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) خطاب لقومه أي : اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي ، وقيل : خطاب للرسل ليشهدوا له.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قيل : هنا محذوف يدل عليه الكلام ، وروي في الأثر وهو أن الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له : ادخل الجنة ، واختلف هل دخلها حين موته كالشهداء؟ أو هل ذلك بمعنى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها؟ (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) تمنّى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون ، ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حيا وميتا ، وقيل : أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم معه وينفعهم ذلك (وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل ، ولم يحتج في تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء ، لأنهم أهون من ذلك ، وقيل : المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلا كما قالت قريش : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) [الفرقان : ٧] ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول ، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) ما كنا لننزل جندا من السماء على أحد (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ساكنون لا يتحركون ولا ينطقون.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) نداء للحسرة كأنه قال : يا حسرة احضري فهذا وقتك ، وهذا التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل ، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، أو المؤمنين من الناس ، وقيل : المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم (أَلَمْ يَرَوْا) الضمير لقريش أو للعباد على الإطلاق ، والرؤية هنا بمعنى العلم (وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا

١٨١

 مُحْضَرُونَ) قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على ما المزيدة وإن على هذا مخففة من الثقيلة ، وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا (١) ، وإن على هذا نافية (وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) ما معطوفة على ثمره أي ليأكلوا من الثمر وما عملته أيديهم بالحرث والزراعة والغراسة ، وقيل ما نافية وقرئ ما عملت من غير هاء (٢) وما على هذا معطوفة (الْأَزْواجَ) يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله : مما تنبت الأرض وما بعده ، فمن في المواضع الثلاثة للبيان (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله : (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨].

(نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) أي نجرده منه وهي استعارة (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) أي لحد موقت تنتهي إليه من فلكها ، وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف ، وقيل : مستقرها : وقوفها كل وقت زوال ، بدليل وقوف الظل حينئذ ، وقيل : مستقرها يوم القيامة حين تكوّر ، وفي الحديث : مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها» ، وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر (٣) ، وقرئ لا مستقر لها أي لا تستقر عن جريها (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) قرأ نافع (٤) بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل ، وآخرون بالنصب على إضمار فعل ، ولا بد في قدّرناه من حذف تقديره : قدرنا سيره منازل ، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها من أول الشهر ، ثم يستتر في آخر الشهر ليلة أو ليلتين ، وقال الزمخشري : وهذه المنازل هن مواضع النجوم ؛ وهي السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة الصرفة ، العوى ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد بلع ، سعد الذابح ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، بطن الحوت (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه ، والتشبيه في ثلاثة

__________________

(١). قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي : لمّا بالتشديد وقرأها الباقون بدون تشديد.

(٢). قرأها حمزة والكسائي وأبو بكر : ما عملت ، وقرأ الباقون : وما عملته أيديهم.

(٣). انظر الجامع الصحيح للبخاري كتاب بدء الخلق ج ٤ ص ٧٥.

(٤). نافع وابن كثير وأبو عمرو والباقون : والقمر بالنصب.

١٨٢

أوصاف : وهي الرقة ، والانحناء ، والصفرة ، ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره ، وهكذا قال بعضهم ، ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء ، فإنها تقطع الفلك في سنة وسير القمر سريع ، فإنه يقطع الفلك في شهر ، والبطيء لا يدرك السريع (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتا موقتا واحدا معلوما لا يتعدّاه ، فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار ، كما لا يأتي النهار حتى ينفصل الليل ، ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي الشمس : أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله «لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر» فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ذكر في [الأنبياء : ٣٣].

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) معنى المشحون : المملوء ، والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس السفن ، أو سفينة نوح عليه‌السلام ، وأما الذرية (١) فقيل : إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليه‌السلام ، وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم ، وأنكر ابن عطية ذلك ، وقال : إنه يعني النساء ، وهذا بعيد ، والأظهر أنه أراد بالفلك جنس السفن ، فيعني جنس بن آدم ، وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة ، وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بالذرية من كان في السفينة ، وسماهم ذرية ، لأنهم ذرية آدم ونوح ، فالضمير في ذريتهم على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم (وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله : من مثله سائر السفن التي يركبها سائر الناس ، وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله من مثله الإبل وسائر المركوبات ، فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير ، والأول أظهر ، لقوله وإن نشأ نغرقهم ، ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) أي لا مغيث لهم ولا منقذ لهم من الغرق (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) قال الكسائي : نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال : إلا أن نرحمهم ، وقال الزجاج : نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال : إلا لأجل رحمتنا إياهم (وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) يعني آجالهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ) الضمير لقريش ، وجواب إذا محذوف تقديره : أعرضوا يدل عليه إلا كانوا عنها معرضين ، والمراد بما بين أيديهم وما خلفهم : ذنوبهم المتقدّمة والمتأخرة ، وقيل : ما بين أيديهم عذاب الأمم المتقدمة ، وما

__________________

(١). قرأ ابن عامر ونافع. ذرياتهم بالجمع وقرأ الباقون : ذريتهم.

١٨٣

خلفهم عذاب الآخرة (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم الكفار بهذا الجواب ، وفي معناه قولان : أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم ، ومن حرمهم الله نحن نحرمهم ، وهذا كقولهم : كن مع الله على المدبر ، والآخر أن قولهم رد على المؤمنين ، وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون : إن الأمور كلها بيد الله ، فكأن الكفار يقولون لهم : لو كان كما تزعمون لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا ، ومقصدهم في الوجهين احتجاج لبخلهم ، ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطابا للمؤمنين ، أو يكون من كلام الله خطابا للكافرين (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) يعنون يوم القيامة أو نزول العذاب بهم (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهي النفخة الأولى في الصور وهي نفخة الصعق (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يتكلمون في أمورهم وأصل يخصمون (١) يختصمون ، ثم أدغم ، وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس حركتها (فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً) أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر (وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي لا يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور ، والأجداث هي القبور ، وينسلون يسرعون المشي ، وقيل : يخرجون (قالُوا يا وَيْلَنا) الويل منادى أو مصدر (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان ، قال أبيّ بن كعب ومجاهد : إن البشر ينامون نومة قبل الحشر ، قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في معنى قولهم : من مرقدنا : أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم شبهت بالمضاجع ، لكونهم فيها على هيئة الرقاد ، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة (هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل : إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم ، أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام.

__________________

(١). فيها ثلاث قراءات : قرأ نافع يخصّمون وقرأ ورش : يخصّمون وعاصم : يخصّمون وقرأ حمزة : يخصمون.

١٨٤

(إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ) قرأ نافع وغيره شغل بسكون الغين وقرأ عاصم وآخرون بضم الغين ، عام في الاشتغال باللذات (فاكِهُونَ) قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة ، وبغير ألف وهو من الفكاهة بمعنى الراحة والسرور (فِي ظِلالٍ) جمع ظل ، وبالضم جمع ظلة ، (عَلَى الْأَرائِكِ) جمع أريكة وهي السرير (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) أي ما يتمنون ، وقيل : معناه أن ما يدعون به يأتيهم (سَلامٌ) مبتدأ ، وقيل بدل مما يدعون (قَوْلاً) مصدر مؤكد ، والمعنى : أن السلام عليهم قول من الله بواسطة الملك أو بغير واسطة.

(وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي انفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة (جِبِلًّا كَثِيراً) الجبلّ الأمة العظيمة ، وقال الضحاك : أقلها عشرة آلاف ولا نهاية لأكثرها ، وقرأ عاصم ونافع جبلّا بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وبضمها مع التخفيف ، وبضم الجيم وإسكان الباء ، وهي لغات بمعنى واحد (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ) أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) هذا تهديد لقريش ، والطمس على الأعين هو العمى ، والصراط الطريق وأنى استفهام يراد به النفي. فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن يمشوا على الطريق لم يبصروه ، وقيل : يعني عمى البصائر أي : لو نشاء لختمنا على قلوبهم ، فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ) هذا تهديد بالمسخ ، فقيل : معناه المسخ قردة وخنازير وحجارة ، وقيل : معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفا ، وقيل : إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة ، والأظهر أنه في الدنيا (عَلى مَكانَتِهِمْ) المكانة المكان ، والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخا يقعدهم في مكانهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ) أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) (١) أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف ، ومن الفهم إلى البله (٢) وشبه ذلك كما قال تعالى

__________________

(١). قرأ أبو عمرو وابن عامر : جبلا بضم الجيم وسكون الباء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : جبلا بضمتين.

(٢). ننكسه في الخلق : قرأ عاصم وحمزة : ننكّسه : بتشديد الكاف وقرأ الباقون بدون تشديد. وسكون النون الثانية. وفي بقية الآية : أفلا يعقلون : قرأ نافع وابن عامر : أفلا تعقلون. والباقون بالياء.

١٨٥

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤] وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار ، كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم.

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) الضميران لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وذلك ردّ على الكفار في قولهم : إنه شاعر ، وكان صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لا ينظم الشعر ولا يزنه ، وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه ، فإن قيل : قد روي عنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال : أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب وروي أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل أنت إلا إصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت ، وهذا الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر ، وأنه لم يقصد به الشعر ، وإنما جاء موزونا بالاتفاق لا بالقصد ، فهو كالكلام المنثور ، ومثل هذا يقال في مثل ما جاء في القرآن من الكلام الموزون ، ويقتضي قوله «وما ينبغي له» تنزيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز ، حتى يقال : إن الشعر أطيبه أكذبه ، وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن من الشعر لحكمة» (١) وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه ، وإنما الإنصاف قول الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) الضمير للقرآن يعني أنه ذكر لله أو تذكير للناس أو شرف لهم (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) (٢) أي حيّ القلب والبصيرة (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) أي يجب عليهم العذاب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة ، والأيدي هنا عند أهل التأويل عبارة عن القدرة ، وعند أهل التسليم من المتشابه الذي يجب الإيمان به وعلمه عند الله (فَمِنْها رَكُوبُهُمْ) الركوب بفتح الراء هو المركوب (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ) يعني الأكل منها والحمل عليها ، والانتفاع بالجلود والصوف وغيره (وَمَشارِبُ) يعني الألبان (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) الضمير في يستطيعون للأصنام ، وفي نصرهم للمشركين ، ويحتمل العكس ، ولكنّ الأول أرجح ، فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم : أخبر أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم (وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام ؛ يعني أن المشركين يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند ، وقيل : بالعكس بمعنى أن الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح ، لأنه تقبيح لحال المشركين (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معللة لما بعدها.

__________________

(١). حديث رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس وأوله : إن من البيان لسحرا.

(٢). قرأ نافع وابن عامر : لتنذر من كان حيا. وقرأ الباقون : لينذر.

١٨٦

(أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ) هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم القيامة ، ورد على من أنكر ذلك ، والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها ، ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند البعث ، وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعظم رميم فقال : يا محمد من يحيي هذا؟ وقيل إن الذي جاء بالعظم أمية بن خلف وقيل : أبي بن خلف فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً) إشارة إلى قول الكافرين : من يحيي هذا العظم (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك (وَهِيَ رَمِيمٌ) أي بالية متفتتة (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) استدلال بالخلقة الأولى على البعث (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) أي يعلم كيف يخلق كل شيء ، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد فنائها ، والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدرا أو بمعنى المخلوق (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً) هذا دليل آخر على إمكان البعث ، وذلك أن الذين أنكروه من الكفار والطبائعيين قالوا : طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية؟ فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلئ ماء ، مع مضادة طبع الماء للنار. ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار ، فإنه يقطع من كل واحد منهما غصنا أخضر يقطر منه الماء ، فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما : قال ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب ، ولكنه في المرخ والعفار أكثر.

(أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) هذا دليل آخر على البعث ، بأن الإله الذي قدر على خلق السموات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها ، والضمير في مثلهم يعود على الناس (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) ذكر في هذين الاسمين أيضا استدلال على البعث ، وكذلك في قوله (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) في هذا استدلال على البعث ، وتنزيه لله عما نسبه الكفار إليه من العجز عن البعث ، فإنهم ما قدروا الله حق قدره ، وكل من أنكر البعث فإنما أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى.

١٨٧

سورة الصافات

مكية وآياتها ١٨٢ نزلت بعد الأنعام

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الصافات) (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) تقديره والجماعات الصافات ثم اختلف فيها فقيل : هي الملائكة التي تصف في السماء صفوفا لعبادة الله ، وقيل : هو من يصف من بني آدم في الصلوات والجهاد ، والأول أرجح لقوله حكاية عن الملائكة [الآية : ١٦٥] وإنا لنحن الصافون (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) هي الملائكة تزجر السحاب وغيرها ، وقيل : الزاجرون بالمواعظ من بني آدم ، وقيل : هي آيات القرآن المتضمنة للزجر عن المعاصي (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هي الملائكة تتلو القرآن والذكر ، وقيل : هم التالون للقرآن والذكر من بني آدم ، وهي كلها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد (وَرَبُّ الْمَشارِقِ) يعني مشارق الشمس ، وهي ثلاثمائة وستون مشرقا ، وكذلك المغارب فإنها تشرق كل يوم من أيام السنة في مشرق منها وتغرب في مغرب ، واستغنى بذكر المشارق عن ذكر المغارب لأنها معادلة لها ، فتفهم من ذكرها.

(بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) وقرأ نافع وغيره بإضافة الزينة إلى الكواكب ، والزينة تكون مصدرا واسما لما يزان به ، فإن كان مصدرا فهو مضاف إلى الفاعل تقديره : بأن زينة الكواكب اسما أو مضاف إلى المفعول تقديره : بأن زينا الكواكب ، وإن كانت اسما فالإضافة بيان للزينة ، وقرأ حفص وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على البدل ، ونصب الكواكب على أنها مفعول بزينة أو بدل من موضع زينة (وَحِفْظاً) منصوب على المصدر تقديره : وحفظناها حفظا ، أو مفعول من أجله ، والواو زائدة أو محمول على المعنى ، لأن المعنى إنا جعلنا الكواكب زينة للسماء وحفظا (مارِدٍ) أي شديد الشر (لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى) (١) الضمير في يسمعون للشياطين ، والملأ الأعلى هم الملائكة الذين يسكنون في السماء ،

__________________

(١). قرأ أغلب القراء بالتخفيف يسمعون ما عدا حمزة والكسائي وحفص.

١٨٨

والمعنى أن الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة. وقرأ حفص وعاصم وحمزة يسمعون بتشديد السين والميم ، ووزنه يتفعلون والسمع طلب السماع ، فنفى السماع على القراءة الأولى ، ونفى طلبه على القراءة بالتشديد ، والأول أرجح لقوله (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) [الشعراء : ٢١٢] ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون ، لكنهم لا يسمعون شيئا ، منذ بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنهم يرجمون بالكواكب (وَيُقْذَفُونَ) أي يرجمون يعني بالكواكب (١) وهي التي يراها الناس تنقضّ ، قال النقاش ومكي : ليست الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء ؛ لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا. قال ابن عطية : وفي هذا نظر (دُحُوراً) أي طردا وإبعادا وإهانة ؛ لأن الدحر الدفع بعنف. وإعرابه مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره : مدحورين (عَذابٌ واصِبٌ) أي دائم ، لأنهم يرجمون بالنجوم في الدنيا ، ثم يقذفون في جهنم ، (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ) من في وضع رفع بدل من الضمير في قوله : لا يسمعون والمعنى لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة (شِهابٌ ثاقِبٌ) أي شديد الإضاءة.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا) الضمير لكفار قريش ، والاستفتاء نوع من السؤال ، وكأنه سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة ؛ لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم ومن خلقنا يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب ، وقيل : يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح ؛ لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد الآية : إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول : هذه المخلوقات أشد خلقا منكم ، فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، ووصفه بذلك يراد به ضعف خلقة بني آدم ، (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) أي عجبت يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق ، أو عجبت من قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة ، وقرأ حمزة والكسائي عجبت بضم التاء وأشكل ذلك على من يقول : إن التعجب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى : أنه جعله على حال يتعجب منها الناس وقيل : تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في القرآن والحديث كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يعجب ربك من شاب ليس له صبوة» (٢) وهو صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلا على الله ، لأنهم قالوا إن التعجب استعظام خفي سببه ، والصواب

__________________

(١). المشاهد هو الشهب والنيازك ، وهي أجرام صغيرة متناشرة في الجو ، أما الكواكب فيبعد أن يكون الرجم بها وقد ورد بعد قليل : إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب. والله أعلم.

(٢). أخرج أحمد حديثا بمعناه وأوله : يعجب ربك عزوجل من راعي غنم ج ٤ ، ١٥٧. وعزاه العجلوني للقضاعي عن عقبة بن عامر وفيه ابن لهيعة.

١٨٩

أنه لا يلزم أن يكون خفيّ السبب بل هو لمجرد الاستعظام ؛ فعلى هذا لا يستحيل على الله (وَيَسْخَرُونَ) تقديره وهم يسخرون منك أو من البعث (وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ) الآية هنا العلامة كانشقاق القمر ونحوه ، وروي أنها نزلت في مشرك اسمه ركانة ، أراه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات فلم يؤمن ، ويستسخرون معناه : يسخرون فيكون فعل واستعمل بمعنى واحد وقيل : معناه يستدعى بعضهم بعضا لأن يسخر ، وقيل يبالغون في السخرية.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) الآية : معناها استبعادهم البعث وقد تقدم الكلام على الاستفهامين في الرعد (أَوَآباؤُنَا) بفتح الواو دخلت همزة الإنكار على واو العطف ، وقرئ (١) بالإسكان عطفا بأو (قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ) أي قل : تبعثون. والداخر الصاغر الذليل (زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) هي النفخة في الصور للقيام من القبور (فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ) يحتمل أن يكون من النظر بالأبصار ، أو من الانتظار أي : ينتظرون ما يفعل بهم (هذا يَوْمُ الدِّينِ) يحتمل أن يكون من كلامهم مثل الذي قبله ، أو مما يقال لهم مثل الذي بعده (احْشُرُوا) الآية : خطاب للملائكة خاطبهم به الله تعالى أو خاطب به بعضهم بعضا (وَأَزْواجَهُمْ) يعني نساءهم المشركات وقيل : يعني أصنامهم وقرناءهم من الجنّ والإنس (وَما كانُوا يَعْبُدُونَ) يعني الأصنام والآدميين الذي كانوا يرضون بذلك (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) أي دلوهم على طريق جهنم ليدخلوها (إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) يعني إنهم يسألون عن أعمالهم ، توبيخا لهم وقيل : يسألون عن قول : لا إله إلا الله والأول أرجح ، لأنه أهم ويحتمل أن يسألوا عن عدم تناصرهم ، على وجه التهكم بهم ، فيكون مسؤولون عاملا فيما بعده والتقدير ؛ يقال لهم : ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا وقد كنتم في الدنيا تقولون : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) [القمر : ٤٤] (مُسْتَسْلِمُونَ) أي منقادون عاجزون عن الانتصار (قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ) الضمير في قالوا ، للضعفاء من الكفار خاطبوا الكبراء منهم في جهنم ، أو للإنس خاطبوا الجنّ ، واليمين هنا يحتمل ثلاث معان : الأول أن يراد بها طريق الخير والصواب وجاءت العبارة عن ذلك بلفظ اليمين كما أن العبارة عن الشر بالشمال ، والمعنى أنهم قالوا لهم : إنكم كنتم تأتوننا عن طريق الخير فتصدوننا عنه والثاني أن يراد به القوة ، والمعنى على هذا أنكم كنتم تأتوننا بقوتكم وسلطانكم فتأمروننا بالكفر وتمنعوننا من الإيمان والثالث أن يراد بها اليمين التي يحلف بها أي كنتم تأتوننا بأن تحلفوا لنا أنكم على الحق فنصدقكم في ذلك ونتبعكم.

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر : أو آباؤنا. وقرأ الباقون : أو آباؤنا.

١٩٠

(قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) الضمير في قالوا للكبراء من الكفار ، أو للشياطين والمعنى أنهم قالوا لأتباعهم : ليس الأمر كما ذكرتم ، بل كفرتم باختياركم (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) أي وجب العذاب علينا وعليكم ، وإنا لذائقون : معمول القول وحذف معمول ذائقون تقديره ، وجب القول بأنا ذائقو العذاب (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) أي دعوناكم إلى الغي ، لأنا كنّا على غي (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ) أي إن المتبوعين والأتباع مشتركون في عذاب النار (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) الضمير في يقولون لكفار قريش ، ويعنون بشاعر مجنون : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فردّ الله عليهم بقوله : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِ) أي جاء بالتوحيد والإسلام ، وهو الحق (وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) الذين جاءوا قبله : لأنه جاء بمثل ما جاءوا به ، ويحتمل المعنى أن يكون صدقهم لأنهم أخبروا بنبوّته ، فظهر صدقهم لما بعث عليه الصلاة والسلام.

(إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع بمعنى لكن ، وقرئ مخلصين بفتح اللام وكسرها في كل موضع ، وقد تقدّم تفسيره (عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) السرر جمع سرير ، وتقابلهم في بعض الأحيان للسرور بالأنس ، وفي بعض الأحيان ينفرد كل واحد بقصره (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الذين يطوفون عليهم الولدان ، حسبما ورد في الآية الأخرى ، والكأس الإناء الذي فيه خمر قاله ابن عباس ، وقيل : الكأس إناء واسع الفم ، ليس له مقبض ، سواء كان فيه خمر أم لا ، والمعين : الجاري الكثير ، لأنه فعيل ، والميم فيه أصلية ، وقيل : هو مشتق من العين والميم زائدة ، ووزنه مفعول (لَذَّةٍ) أي ذات لذة ، فوصفها بالمصدر اتساعا (لا فِيها غَوْلٌ) الغول : اسم عام في الأذى والضير ، ومنه يقال : غاله يغوله ؛ إذا أهلكه ، وقيل : الغول وجع في البطن ، وقيل : صداع في الرأس ، وإنما قدم المجرور هنا تعريضا بخمر الدنيا لأن الغول فيها (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) (١) أي لا يسكرون من خمر الجنة ، ومنه النزيف ، وهو السكران ، وعن هنا سببية ، كقولك فعلته عن أمرك ، أي لا ينزفون بسبب شربها (قاصِراتُ الطَّرْفِ) معناه أنهن قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهن (عِينٌ) جميع عيناء ، وهي الكبيرة العينين

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي : ينزفون : بكسر الزاي وقرأ الباقون بفتح الزاي.

١٩١

في جمال (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) قيل شبههن في اللون ببيض النعام ، فإنه بياض خالطه صفرة حسنة ، وكذلك قال امرؤ القيس :

كبكر مقناة البياض بصفرة

وقيل : إنما التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي الرقيق ، وهو المكنون المصون تحت القشرة الأولى ، وقيل : أراد الجوهر المصون.

(فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) هذا إخبار عن تحدّث أهل الجنة. قال الزمخشري : هذه الجملة معطوفة على يطاف عليهم ، والمعنى : أنهم يشربون فيتحدّثون على الشراب ، بما جرى لهم في الدنيا (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) قيل : إن هذا القائل وقرينه من البشر ، مؤمن وكافر ، وقيل : إن قرينه كان من الجن (يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) معناه أنه كان يقول له على وجه الإنكار : أتصدق بالدنيا والآخرة؟ (لَمَدِينُونَ) أي مجازون ومحاسبون على الأعمال ، ووزنه مفعول ، وهو من الدين ، بمعنى الجزاء والحساب (قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ) أي قال ذلك القائل لرفقائه في الجنة ، أو للملائكة أو لخدامه : هل أنتم مطلعون على النار لأريكم ذلك العزيز فيها؟ وروي أن في الجنة كوى ينظرون أهلها منها إلى النار (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) أي في وسطها (قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) أي تهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ، وهذا خطاب خاطب به المؤمن قرينه الذي في النار (مِنَ الْمُحْضَرِينَ) في العذاب (أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ) هذا من كلام المؤمن ، خطاب لقرينه ، أو خطابا لرفقائه في الجنة ولهذا قال نحن فأخبر عن نفسه وعنهم ، ويحتمل أن يكون من كلامه وكلامهم جميعا (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يحتمل أن يكون من كلام المؤمن ، أو من كلامه وكلام رفقائه في الجنة أو من كلام الله تعالى ، وكذلك يحتمل هذه الوجوه في قوله (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) والأول أرجح فيه أن يكون من كلام الله تعالى ، لأن الذي بعده من كلام الله فيكون متصلا به ، ولأن الأمر بالعمل إنما هو حقيقة في الدنيا ففيه تحضيض على العمل الصالح.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الإشارة بذلك إلى نعيم الجنة ، وكل ما ذكر من وصفها ، وقال الزمخشري : الإشارة إلى قوله رزق معلوم ، والنزل الضيافة ، وقيل : الرزق الكثير وجاء التفضيل هنا بين شيئين ، ليس بينهما اشتراك ، لأن الكلام تقرير وتوبيخ (إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) قيل : سببها أن أبا جهل وغيره لما سمعوا ذكر شجرة الزقوم ،

١٩٢

قالوا : كيف يكون في النار شجرة ، والنار تحرق الشجر ، فالفتنة على هذا الابتلاء في الدنيا وقيل : معناه ، عذاب الظالمين في الآخرة والمراد بالظالمين هنا الكفار (إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) أي تنبت في قعر جهنم وترتفع أغصانها إلى دركاتها (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) الطلع ثمر النخل فاستعير لشجرة الزقوم ، وشبه برءوس الشياطين مبالغة في قبحه وكراهته ، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها وإن لم يروها ، ولذلك يقال للقبيح المنظر : وجه شيطان وقيل : رؤوس الشياطين شجرة معروفة باليمن ، وقيل : هو صنف من الحيات (لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) أي مزاجا من ماء حار ، فإن قيل : لم عطف هذه الجملة بثم ، فالجواب من وجهين : أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان ، فالمعنى أنهم يملؤون البطون من شجر الزقوم ، وبعد ذلك يشربون الحميم ، والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب ، فالمعنى أن شربهم للحميم أشدّ مما ذكر قبله (يُهْرَعُونَ) الإهراع الإسراع الشديد.

(وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ) أي دعانا فالمعنى دعاؤه بإهلاك قومه ونصرته عليهم (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) يعني الغرق (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، لأنه لما غرق الناس في الطوفان ونجا نوح ومن كان معه في السفينة ، تناسل الناس من أولاده الثلاثة ، سام وحام ويافث (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) معناه أبقينا عليه ثناء جميلا في الناس إلى يوم القيامة (سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ) هذا التسليم من الله على نوح عليه‌السلام ، وقيل : إن هذه الجملة مفعول تركنا ، وهي محكية أي تركنا هذه الكلمة ، تقال له يعني أن الخلق يسلمون عليه فيبتدأ بالسلام على القول الأول ، لا على الثاني والأول أظهر ، ومعنى في العالمين على القول الأول تخصيصه بالسلام عليه بين العالمين ، كما تقول : أحب فلانا في الناس : أي أحبه خصوصا من بين الناس ومعناه على القول الثاني : أن السلام عليه ثابت في العالمين ، وهذا الخلاف يجرى حيث ما ذكر ذلك في هذه السورة.

(وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) الشيعة الصنف المتفق ، فمعنى من شيعته : من على دينه في التوحيد ، والضمير يعود على نوح وقيل : على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأول أظهر (إِذْ جاءَ رَبَّهُ) عبارة عن إخلاصه وإقباله على الله تعالى ، بكليته وقيل : المراد المجيء بالجسد

١٩٣

(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) أي سليم من الشرك ، والشك وجميع العيوب (أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ) الإفك الباطل وإعرابه هنا مفعول من أجله ، وآلهة مفعول به وقيل : أإفكا مفعول به ، وآلهة بدل منه وقيل : أإفكا مصدر في موضع الحال ، تقديره : آفكين أي كاذبين والأول أحسن (فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم به ، وقد عبدتم غيره؟ أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره كما تقول ما ظنك بفلان؟ إذا قصدت تعظيمه ، فالمقصد على المعنى الأول تهديد وعلى الثاني تعظيم لله وتوبيخ.

لهم (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوه إلى الخروج معهم ، فحينئذ قال : إني سقيم ليمتنع عن الخروج معهم ، فيكسر أصنامهم إذا خرجوا لعيدهم وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال : الأول أنها كانت تأخذه الحمى في وقت معلوم ، فنظر في النجوم ليرى وقت الحمى ، واعتذر عن الخروج لأنه سقيم من الحمى ، والثاني أن قومه كانوا منجمين وكان هو يعلم أحكام النجوم فأوهمهم أنه أستدل بالنظر في علم النجوم أنه يسقم ، فأعتذر بما يخاف من السقم عن الخروج معهم والثالث أن معنى نظر في النجوم أنه نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم فقال : إني سقيم والنجوم على هذا ما ينجم من حاله معهم ، وليست بنجوم السماء ، وهذا بعيد وقوله : إني سقيم على حسب هذه الأقوال يحتمل أن يكون حقا لا كذب فيه ، ولا تجوّز أصلا ، ويعارض هذا ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات ، أحدها : قوله إني سقيم ، ويحتمل إن يكون كذبا صراحا ، وجاز له ذلك لهذا الاحتمال ، لأنه فعل ذلك من أجل الله إذ قصد كسر الأصنام ، ويحتمل أن يكون من المعارضين ، فإن أراد أنه سقيم فيما يستقبل ، لأن كل إنسان لا بدّ له أن يمرض ، أو أراد أنه سقيم النفس من كفرهم وتكذيبهم له ، وهذان التأويلان أولى ، لأن نفي الكذب بالجملة معارض للحديث ، والكذب الصراح لا يجوز على الأنبياء ، عند أهل التحقيق ، أما المعاريض فهي جائزة (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) أي تركوه إعراضا عنه وخرجوا إلى عيدهم ، وقيل : إنه أراد بالسقم الطاعون وهو داء يعدي ، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى (فَراغَ) أي مال (فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ) إنما قال ذلك على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) أي يمين يديه وقيل بالقوة وقيل : بالحلف ، وهو قوله : تالله لأكيدن أصنامكم ، والأول أظهر وأليق بالضرب ، وضربا مصدر في موضع الحال (يزفون) أي يسرعون.

(قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) أى تنجرون والنحت النجارة إشارة إلى صنعهم من الحجارة والخشب (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) ذهب قوم إلى أن ما مصدرية والمعنى : الله

١٩٤

خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد ، وقيل : إنها موصولة بمعنى الذي والمعنى : الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها ، وهذا أليق بسياق الكلام ، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام ، وقيل : إنها نافية ، وقيل : إنها استفهامية ، وكلاهما باطل (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) قيل : البنيان في موضع النار ، وقيل : بل كان للمنجنيق ، الذي رمى عنه (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) يعني حرقه بالنار (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) أي المغلوبين (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) قيل : إنه قال هذا بعد خروجه من النار ، وأراد أنه ذاهب أي : مهاجر إلى الله فهاجر إلى أرض الشام ، وقيل : إنه قال ذلك قبل أن يطرح في النار ، وأراد أنه ذاهب إلى ربه بالموت ، لأنه ظن أن النار تحرقه ، وسيهدين على القول الأول يعني إلى صلاح الدين والدنيا ، وعلى القول الثاني إلى الجنة ، وقالت المتصوفة : معناه إني ذاهب إلى ربي بقلبي ، أي مقبل على الله بكليتي تاركا سواه.

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) يعني ولدا من الصالحين (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) أي عاقل وأختلف الناس في هذا الغلام المبشر به في هذا الموضع وهو الذبيح ، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين هو إسماعيل. وحجتهم من ثلاثة أوجه الأول أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أنا ابن الذبيحين (١) يعني إسماعيل عليه‌السلام ، ووالده عبد الله ، حين نذر والده عبد المطلب أن ينحر [أحد أولاده وأصابت القرعة عبد الله] إن يسر الله له أمر زمزم ، ففداه بمائة من الإبل والثاني أن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح وبشرناه بإسحاق فدل ذلك على أن الذبيح غيره والثالث أنه روي أن إبراهيم جرت له قصة الذبح بمكة ، وإنما كان معه بمكة إسماعيل. وذهب عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق وحجتهم من وجهين الأول أن البشارة المعروفة لإبراهيم بالوادي إنما كانت بإسحاق لقوله : فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، والثاني أنه روي أن يعقوب كان يكتب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) يريد بالسعي هنا العمل والعبادة ، وقيل : المشي وكان حينئذ ابن ثلاثة عشر سنة (قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أن يكون رأى في المنام الذبح وهو الفعل ، أو أمر في المنام أنه يذبحه ، والأول أظهر في اللفظ هنا ، والثاني أظهر في قوله : افعل ما تؤمر ورؤيا الأنبياء حق ، فوجب عليه الامتثال على الوجهين

__________________

(١). أورده العجلوني في كشف الخفاء ذكر اختلاف العلماء حول هذا الحديث والنتيجة أنّه صحيح المعنى وقد صححه الحاكم.

١٩٥

(فَانْظُرْ ما ذا تَرى) إن قيل : لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ فالجواب : أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ، ولكن ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطن نفسه على الصبر ، فأجابه بأحسن جواب (فَلَمَّا أَسْلَما) إي استسلما وانقادا لأمر الله (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) أي صرعه بالأرض على جبينه وللإنسان جبينان حول الجبهة ، وجواب لما محذوف عند البصريين تقديره ، فلما أسلما كان ما كان من الأمر العظيم ، وقال الكوفيون : جوابها تله والواو زائدة ، وقال بعضهم : جوابها : ناديناه والواو زائدة (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) يحتمل أنه يريد بقلبك أى كانت عندك رؤيا صادقة فعملت بحسبها ، ويحتمل أن يريد بعملك أي وفيت حقها من العمل ، فإن قيل : إنه أمر بالذبح ولم يذبح ، فكيف قيل له : صدقت الرؤيا؟ فالجواب أنه قد بذل جهده إذ قد عزم على الذبح ولو لم يفده الله لذبحه ، ولكن الله هو الذي منعه من ذبحه لما فداه ، فامتناع ذبح الولد إنما كان من الله وبأمر الله ، وقد قضى إبراهيم ما عليه (الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الذي يظهر به طاعة الله أو المحنة البينة الصعوبة.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) الذبح اسم لما يذبح ، وأراد به هنا الكبش الذي فدى به ، وروي أنه من كباش الجنة ، وقيل : إنه الكبش الذي قرب به ولد آدم ، ووصفه بعظيم لذلك ، أو لأنه من عند الله أو لأنه متقبل ، وروي في القصص أن الذبيح قال لإبراهيم : أشدد رباطى لئلا أضطرب ، وأصرف بصرك عني لئلا ترحمني ، وأنه أمر الشفرة على حلقه فلم تقطع ، فحينئذ جاءه الكبش من عند الله ، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية وتركناه لعدم صحنه ، (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) إن قيل : لم قال هنا في قصة إبراهيم كذلك دون قوله إنا ، وقال في غيرها إنا ، فالجواب أنه قد تقدم في قصة إبراهيم نفسها : إنا كذلك فأغنى عن تكرار أنا (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) يعني بالنبوة وغير ذلك (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) يعني الغرق أو تعذيب فرعون وإذلاله لهم (وَنَصَرْناهُمْ) الضمير يعود على موسى وهارون وقومها وقيل : على موسى وهارون خاصة ، وعاملهما معاملة الجماعة للتعظيم ، وهذا ضعيف (وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) يعني : التوراة ومعنى المستبين البين ، وفي هذه الآية وما بعدها نوع من أدوات البيان وهو الترصيع.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إلياس من ذرية هارون وقيل إنه إدريس ، وقد أخطأ من

١٩٦

قال : إنه إلياس المذكور في أجداد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) (١) البعل في اللغة الرب بلغة أهل اليمن ، وقيل : بعل اسم صنم يقال له بعلبك (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) آل هنا على هذه القراءة (٢) بمعنى أهل ياسين اسم لإلياس ، وقيل : لأبيه ، وقيل لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرئ إلياسين ، بكسر الهمزة ووصل اللام ساكنة على هذا جمع إلياس ، أو منسوب لإلياس حذفت منه الياء كما حذفت من أعجمين ، وقيل سمى كل واحد من آل ياسين إلياس ثم جمعهم وقيل هو لغة في إلياس (عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) قد ذكر.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) قد ذكرنا قصته في يونس و [الأنبياء : ٨٧] (إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي هرب إلى السفينة والفلك هنا واحد والمشحون المملوء ، وسبب هروبه غضبه على قومه حين لم يؤمنوا ، وقيل : إنه أخبرهم أن العذاب يأتيهم في يوم معين حسبما أعلمه الله ، فلما رأى قومه مخايل العذاب آمنوا ، فرفع الله عنهم العذاب فخاف أن ينسبوه إلى الكذب فهرب (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) معنى ساهم ضارب القرعة والمدحض المغلوب في القرعة والمحاجة ، وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة ، وقفت ولم تجر ، فقالوا : إنما وقفت من حدث أحدثه أحدنا ، فنقترع لنرى على من تخرج القرعة فنطرحه فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فطرحوه في البحر (فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فعل ما يلام عليه ، وذلك خروجه بغير أن يأمره الله بالخروج (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) تسبيحه هو قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، حسبما حكى الله عنه في الأنبياء وقيل : هو قوله سبحان الله وقيل : هو الصلاة ، واختلف على هذا هل يعني صلاته في بطن الحوت أو قبل ذلك ، واختلف في مدة بقائه في بطن الحوت فقيل : ساعة وقيل : ثلاثة أيام وقيل : سبعة أيام وقيل : أربعون يوما (فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ) العراء الأرض الفضاء التي لا شجر فيها ، ولا ظل ، وقيل يعني الساحل (وَهُوَ سَقِيمٌ) روي أنه كان كالطفل المولود بضعة لحم.

__________________

(١). الله ربكم وربّ : قرأ نافع وآخرون بالرفع : الله ربكم وربّ. وحفص قرأ بالفتح.

(٢). قرأ نافع وابن عامر : آل ياسين وقرأ الباقون : إلياسين.

١٩٧

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) أي أنبتناها فوقه لتظله وتقيه حر الشمس ، واليقطين ، القرع وإنما خصه الله به لأنه يجمع برد الظل ولين اللمس وكبر الورق ، وأن الذباب لا يقربه ، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب ، وقيل : اليقطين كل شجرة لا ساق لها كالبقول والقرع والبطيخ ، والأول أشهر (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) يعني رسالته الأولى التي أبق بعدها وقيل : هذه رسالة ثانية بعد خروجه من بطن الحوت والأول أشهر (أَوْ يَزِيدُونَ) قيل : أو هنا بمعنى بل ، وقرأ ابن عباس ، بل يزيدون ، وقيل هي بمعنى الواو وقيل : هي للإبهام وقيل : المعنى أن البشر إذا نظر إليهم يتردد فيقول : هم مائة ألف أو يزيدون واختلف في عددهم فقيل : مائة وعشرون ألفا وقيل : مائة وثلاثون ألفا وقيل : مائة وأربعون ألفا وقيل : مائة وسبعون ألفا (فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم ، وفرقوا بينهم وبين الأمهات ، وناحوا وتضرعوا إلى الله وأخلصوا فرفع الله العذاب عنهم إلى حين : يعني لانقضاء آجالهم وقد ذكر الناس في قصة يونس أشياء كثيرة أسقطناها لضعف صحتها.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ) قال الزمخشري : إن هذا معطوف على قوله (فَاسْتَفْتِهِمْ) الذي في أول السورة وإن تباعد ما بينهما ، والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار أي أسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بنات الله ، فجعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، وتلك قسمة ضيزى ، ثم قررهم على ما زعموا من أن الملائكة إناث وردّ عليهم بقوله : وهم شاهدون ، ويحتمل أن يكون بمعنى الشهادة ، أو بمعنى الحضور أى أنهم لم يحضروا ذلك ولم يعلموه ، ثم أخبر عن كذبهم في قولهم : ولد الله ، ثم قررهم على ما زعموا من أن الله اصطفى لنفسه البنات ؛ وذلك كله ردّ عليهم وتوبيخ لهم ، تعالى الله عن أقوالهم علوا كبيرا (أَصْطَفَى) دخلت همزة التقرير والتوبيخ على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل (مالكم) هذا استفهام معناه التوبيخ ، وهي في موضع رفع بالابتداء والمجرور بعدها خبرها ، فينبغي الوقف على قوله مالكم (أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ) أي برهان بين (فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ) تعجيز لهم لأنهم ليس لهم كتاب يحتجون به (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي معنى الآية قولان : أحدهما أن الجنّة هنا الملائكة وسميت بهذا الاسم لأنه مشتق من الاجتنان وهو الاستتار ، والملائكة مستورين عن أعين بني آدم كالجن ، والنسب الذي جعلوه بينهم وبين الله قولهم : إنهم بنات الله ، والقول الثاني أن الجن هنا الشياطين ، وفي النسب الذي جعلوه بينه وبينهم أن بعض الكفار قالوا : إن الله والشياطين أخوان ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

١٩٨

(وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) من قال : إن الجن الملائكة فالضمير في قوله (إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) يعود على الكفار أي قد علمت الملائكة أن الكفار محضرون في العذاب ومن قال : إن الجن الشياطين فالضمير يعود عليهم أي قد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) استثناء منقطع من المحضرين أو من الفاعل في يصفون والمعنى : لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون في العذاب ، أو لكن عباد الله المخلصين يصفونه بما هو أهله (فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) هذا خطاب للكفار والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها وما تعبدون عطف على الضمير في إنكم ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ومعنى فاتنين مضلين والضمير في عليه يعود على ما تعبدون وعلى سببية معناها التعليل ومن هو مفعول بفاتنين والمعنى : إنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحدا إلا من قضى الله أنه يصلى الجحيم ، أي لا تقدرون على إغواء الناس إلا بقضاء الله وقال الزمخشري : الضمير في عليه يعود على الله تعالى.

(وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) هذا حكاية كلام الملائكة عليهم‌السلام ، تقديره : ما منا ملك إلا وله مقام معلوم ، وحذف الموصوف لفهم الكلام ، والمقام المعلوم : يحتمل أن يراد به المكان الذي يقومون فيه ، لأن منهم من هو في السماء الدنيا ، وفي الثانية ، وفي السموات ، وحيث شاء الله ، ويحتمل أن يراد به المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) أي الواقفون في العبادة صفوفا ، ولذلك أمر المسلمون بتسوية الصفوف في صلاتهم ليقتدوا بالملائكة ، وليس أحد من أهل الملل يصلون صفوفا إلا المسلمون (وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) قيل : معناه المصلون ، لأن الصلاة يقال لها تسبيح ، وقيل : معناه القائلون سبحان الله ، وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة رد على من قال : إنهم بنات الله وشركاء له ، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله والتنزيه له ، ويدل هذا الكلام أيضا على أن المراد بالجن قبل هذا الملائكة ، وقيل : إنه هذا كله من كلام سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام المسلمين ، والأول أشهر (وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) الضمير لكفار قريش وسائر العرب ، والمعنى أنهم كانوا قبل بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : أو أرسل الله إلينا رسولا وأنزل علينا كتابا لكنا عباد الله المخلصين (فَكَفَرُوا بِهِ) الضمير للذكر ، أو لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يتقدم له ذكر (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) تهديد ووعيد لهم على كفرهم.

(وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) المعنى سبق القضاء بأن

١٩٩

المرسلين منصورون على أعدائهم (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) هذا النصر والغلبة بظهور الحجة والبرهان ، وبهزيمة الأعداء في القتال ، وبالسعادة في الآخرة (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ) أي أعرض عنهم ، وذلك موادعة منسوخة بالسيف ، والحين هنا يراد به يوم بدر ، وقيل : حضور آجالهم ، وقيل : يوم القيامة (وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) هذا وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعيد لهم (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) إشارة إلى قولهم متى هذا الوعد؟ وأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ) الساحة : الفناء حول الدار ، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محظور وسوء (فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) الصباح مستعمل في ورود الغارات والرزايا ، ومقصد الآية التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا ، فلم ينفعهم الإنذار ، وذلك تمثيل بقوم أنذرهم ناصح بأن جيشا يحل بهم فلم يقبلوا نصحه ، حتى جاءهم الجيش وأهلكهم (وَأَبْصِرْ) كرر الأمر بالتولي عنهم والوعد والوعيد على وجه التأكيد ، وقيل : أراد بالوعيد الأول عذاب الدنيا ، وبالثاني عذاب الآخرة ، فإن قيل : لم قال أولا أبصرهم ، وقال هنا : أبصر ، فحذف الضمير المفعول؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا فحذفه اقتصارا ، والآخر أنه حذفه ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم كأنه قال : أبصر جميع الكفار بخلاف الأول ، فإنه من قريش خاصة.

(سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به ، فإنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالا كثيرة شنيعة ، والعزة إن أراد بها عزة الله : فمعنى رب العزة ، ذو العزة وأضافها إليه لاختصاصه بها ، وإن أراد بها عزة الأنبياء والمؤمنين : فمعنى رب العزة مالكها وخالقها ، ومن هذا قال محمد بن سحنون : من حلف بعزة الله ، فإن أراد صفة الله فهي يمين ، وإن أراد العزة التي أعطى عباده فليست بيمين ، ثم ختم هذه السورة بالسلام على المرسلين (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فأما السلام على المرسلين فيحتمل أن يريد التحية أو سلامتهم من أعدائهم ، ويكون ذلك تكميلا لقوله : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) ، وأما الحمد لله ، فيحتمل أن يريد به الحمد لله على ما ذكر في هذه السورة من تنزيه الله ونصرة الأنبياء وغير ذلك ، ويحتمل أن يريد الحمد لله على الإطلاق.

٢٠٠