التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

غيرها ، فغلبت بعده على الملك ، والضمير في تملكهم يعود على سبإ ، وهم قومها (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) يعني سرير ملكها ، ووقف بعضهم على عرش ، ثم ابتدأ عظيم وجدتها على تقدير : عظيم أن وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ، وهذا خطأ ، وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) من كلام الهدهد أو من كلام الله ، وقرأ الجمهور ألّا بالتشديد ، وأن في موضع نصب على البدل من أعمالهم ، أو في موضع خفض على البدل من السبيل ، أو يكون التقدير : لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام ، وزيادة لا ، وقرأ الكسائي : ألا يا اسجدوا بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدئ اسجدوا (يُخْرِجُ الْخَبْءَ) في اللغة : الخفي ، وقيل معناه هنا : الغيب ، وقيل : يخرج النبات من الأرض ، واللفظ يعم كل خفيّ ، وبه فسره ابن عباس (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) أي تنح إلى مكان قريب لتسمع ما يقولون ، وروي أنه دخل عليها من كوّة فألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة ، وقيل : إن التقدير انظر ماذا يرجعون ، تول عنهم فهو من المقلوب والأول أحسن (ما ذا يَرْجِعُونَ) من قوله يرجع بعضهم إلى بعض القول.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) قبل هذا الكلام محذوف تقديره : فألقى الهدهد إليها الكتاب فقرأته ، ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم : يا أيها الملأ (كِتابٌ كَرِيمٌ) وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان ، أو لأن فيه اسم الله ، أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث : كرم الكتاب ختمه (١) (مِنْ سُلَيْمانَ) يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان ، وأن يكون من كلامها : أخبرتهم أن الكتاب من سليمان (وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين ، أو يكون من الدخول في الإسلام (أُولُوا قُوَّةٍ) يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) من كلام الله عزوجل تصديقا لقولها

__________________

(١). أورده العجلوني في كشف الخفاء وعزاه للقضاعي عن ابن عباس مرفوعا ، والطبراني في الأوسط.

١٠١

فيوقف على ما قبله ، أو من كلام بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته ، وتعني : كذلك يفعل هؤلاء بنا (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ) قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال ، فإن كان ملكا دنيويا : أرضاه المال ، وإن كان نبيا لم يرضه المال ، وإنما يرضيه دخولنا في دينه ، فبعثت إليه هدية عظيمة وصفها الناس ، واختصرنا وصفها لعدم صحته (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها ، وأنا لست كذلك (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) خطاب للرسول ، وقيل : للهدهد ، والأول أرجح ، لأن قوله : فلما جاء سليمان مسند إلى الرسول (لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) أي لا طاقة لهم بها (قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) القائل : سليمان ، والملأ جماعة من الجن والإنس ، وطلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ، لأنه وصف له بعظمة ، فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم ، فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام ، وقيل : إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوّته ، فمسلمين على هذا بمعنى منقادين.

(قالَ عِفْرِيتٌ) روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت كوزن (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) قبل أن تقوم من موضع الحكم ، وكان يجلس من بكرة إلى الظهر ، وقيل : معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائما (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) هو آصف بن برخيا ، وكان رجلا صالحا من بني إسرائيل كان يعلم اسم الله الأعظم وقيل : هو الخضر ، وقيل هو جبريل ، والأول أشهر ، وقيل سليمان وهذا بعيد (آتِيكَ بِهِ) في الموضعين : يحتمل أن يكون فعلا مستقبلا أو اسم فاعل (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) الطرف العين ، فالمعنى على هذا قبل أن تغض بصرك إذا نظرت إلى شيء وقيل : الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) قيل : هنا محذوف تقديره : فجاءه الذي عنده ، علم من الكتاب بعرشها ، ومعنى مستقرّا عنده حاصلا عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق المجرورات به خلافا لمن فهم ذلك (يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) أي منفعة الشكر لنفسه.

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه ، وقيل : الزيادة فيه والنقص منه ، وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها (أَتَهْتَدِي) يحتمل أن يريد : تهتدي لمعرفة عرشها ،

١٠٢

أو للجواب عنه إذا سئلت أو للإيمان (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) كان عرشها قد وصل قبلها إلى سليمان فأمر بتنكيره ، وأن يقال لها أهكذا عرشك؟ أي أمثل هذا عرشك؟ لئلا تفطن أنه هو ، فأجابته بقولها : كأنه هو. جوابا عن السؤال ، ولم تقل هو تحرزا من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها) هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك ؛ اعترافا بنعمة الله عليهم ، في أن آتاهم العلم قبل بلقيس ، وهداهم للإسلام قبلها ، والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره : قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة النبوّة وأوتينا نحن العلم قبلها (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه ، أو من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون «ما كانت تعبد» فاعلا أو مفعولا ، فإن كان فاعلا ، فالمعنى صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام حتى إلى هذا الوقت ، وإن كان مفعولا : فهو على إسقاط حرف الجر ، والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد من دون الله فدخلت في الإسلام.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) الصرح في اللغة هو القصر ، وقيل : صحن الدار ، روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصرا من زجاج أبيض ، وأجرى الماء من تحته ، وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه فلما رأته حسبته لجة ، واللجة الماء المجتمع كالبحر ، فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت بدخوله ، وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها ، فقالوا له : إن عقلها مجنون ، وإن رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة ، واختبر ساقها بالصرح فلما كشفت عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقا ، فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن ، وكان يأتيها مرة في كل شهر ، وقيل : أسكنها معه بالشام (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال لها سليمان : إنه صرح ممرّد والممرّد الأملس ، وقيل الطويل ، والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) تعني بكفرها فيما تقدم (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) هذا ضرب من ضروب التجنيس (فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الفريقان من آمن ومن كفر ؛ واختصامهم : اختلافهم وجدالهم في الدين (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ) أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة ، أو المعصية قبل الطاعة (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ) أي تشاءمنا بك ، وكانوا قد أصابهم

١٠٣

القحط (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي السبب الذي يحدث عنه خيركم أو شركم : هو عند الله وهو قضاؤه وقدره ، وذلك رد عليهم في تطيرهم ، ونسبتهم ما أصابهم من القحط إلى صالح عليه‌السلام (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) يعني مدينة ثمود (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قيل : إنهم كانوا يقرضون الدنانير والدراهم ولفظ الفساد أعم من ذلك (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أي حلفوا بالله ، وقيل : إنه فعل ماض وذلك ضعيف ، والصحيح أنه فعل أمر قاله بعضهم لبعض ، وتعاقدوا عليه (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) أي لنقتلنه وأهله بالليل ، وهذا هو الفعل الذي تحالفوا عليه (ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) أي نتبرأ من دمه إن طلبنا به وليه ، ومهلك يحتمل أن يكون اسم مصدر أو زمان أو مكان ، فإن قيل : إن قولهم : ما شهدنا مهلك أهله يقتضي التبري من دم أهله ، دون التبري من دمه ، فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنهم أرادوا ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله ، وحذف مهلكه لدلالة قولهم لنبيتنه وأهله ، والثاني أن أهل الإنسان قد يراد به هو وهم لقوله «وأغرقنا آل فرعون» يعني فرعون وقومه ، الثالث : أنهم قالوا مهلك أهله خاصة ليكونوا صادقين ، فإنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا ، وأرادوا التعريض في كلامهم لئلا يكذبوا.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) يحتمل أن يكون قولهم : وإنا لصادقون مغالطة مع اعتقادهم أنهم كاذبون ، ويحتمل أنهم قصدوا وجها من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه في الجواب الثالث عن مهلك أهله ، وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحا وأهله معا ، ثم يقولون : ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معا. وعلى ذلك حمله الزمخشري (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ) روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلا في غار ، قريبا من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل ، فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم ، ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض ، ونجا صالح ومن آمن به (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) قيل : معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل : تبصرون بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض ، وقيل : تبصرون آثار الكفار قبلكم وما نزل بهم من العذاب «يتطهرون» «والغابرين» «وأمطرنا» قد ذكر.

١٠٤

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) أمر الله رسوله أن يتلو الآيات المذكورة بعد هذا ، لأنها براهين على وحدانيته وقدرته ، وأن يستفتح ذلك بحمده ، والسلام على من اصطفاه من عباده ، كما تستفتح الخطب والكتب وغيرها بذلك ، تيمنا بذكر الله ، قال ابن عباس : يعني بعباده الذين اصطفى الصحابة ، واللفظ يعم الملائكة والأنبياء والصحابة والصالحين (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) على وجه الرد على المشركين ، فدخلت خير التي يراد بها التفضيل لتبكيتهم وتعنيفهم ، مع أنه معلوم أنه لا خير فيما أشركوا أصلا ، ثم أقام عليهم الحجة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض ، وبغير ذلك مما ذكره إلى تمام هذه الآيات ، وأعقب كل برهان منها بقوله : أإله مع الله (٢) على وجه التقرير لهم ، على أنه لم يفعل ذلك كله إلا الله وحده ، فقامت عليهم الحجة بذلك وفيها أيضا نعم يجب شكرها فقامت بذلك أيضا ، وأم في قوله خير أما يشركون متصلة عاطفة ، وأم في المواضع التي بعده منقطعة بمعنى بل والهمزة (قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون عن الحق والصواب أو يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلا ومثيلا (رَواسِيَ) يعني الجبال (الْبَحْرَيْنِ) ذكر في [الفرقان : ٥٣].

(يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ) قيل هو المجهود ، وقيل الذي لا حول له ولا قوّة ، واللفظ مشتق من الضرر : أي الذي أصابه الضرّ أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى الدعاء (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) يعني الهداية بالنجوم والطرقات (بُشْراً) ذكر في الأعراف : ٥٧ (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) الرزق من السماء : المطر ومن الأرض : النبات (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) تعجيز للمشركين (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب ، وأنه لا يعلمه سواه ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أن محمدا يعلم الغيب فقد أعظم الفرية على الله ، ثم قرأت هذه الآية ، فإن قيل : فقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). قرأ أبو عمرو وعاصم : يشركون وقرأ الباقون تشركون.

(٢). أإله مع الله قرأها أهل الشام والكوفة هكذا ، ونافع وأبو عمرو : آيله مع الله ، وقرأ ورش وابن كثير : أيله بهمزة واحدة من غير مد. وقرأ هشام عن ابن عامر : ءاإله بهمزتين بينهما مد.

١٠٥

يخبر بالغيوب وذلك معدود في معجزاته ، فالجواب : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إني لا أعلم الغيب إلا ما علمني الله ، فإن قيل : كيف ذلك مع ما ظهر من إخبار الكهان والمنجمين وأشباههم ، بالأمور المغيبة؟ فالجواب : أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف أو عن وهم لا عن علم ، وإنما اقتضت الآية نفي العلم ، وقد قيل : إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة ، لأن سبب نزولها أنهم سألوا عن ذلك ، ولذلك قال : وما يشعرون أيان يبعثون ، فعلى هذا يندفع السؤال الأول ، والثاني لأن علم الساعة انفرد به الله تعالى لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في خمس لا يعلمها إلا الله ، ثم قرأ «إن الله عنده علم الساعة» إلى آخر السورة ، فإن قيل : كيف قال : إلا الله بالرفع على البدل والبدل ، لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلا ، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها والله تعالى ليس ممن في السموات والأرض باتفاق؟ فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون إنه فوق السموات والأرض ، والقائلين بنفي الجهة يقولون : إن الله تعالى ليس بهما ولا فوقهما ، ولا داخلا فيهما ، ولا خارجا عنهما ، فهو على هذا استثناء منقطع ، فكان يجب أن يكون منصوبا؟ فالجواب من أربعة أوجه :

الأول أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل ، وإن كان منقطعا كقولهم ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع ، والحمار ليس من الأحدين وهذا ضعيف ، لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا بلغة بني تميم ، والثاني أن الله في السموات والأرض بعلمه كما قال : «وهو معكم أينما كنتم» يعني بعلمه ، فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف ، لأن قوله : في السموات والأرض وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية ، وهي في حق الله على هذا المعنى للظرفية المجازية ، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين ، الجواب الثالث أن قوله : من في السموات والأرض يراد به كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلا ، فيصح الرفع على البدل ، وإنما قال من في السموات والأرض جريا على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص يراد به ما هو أعم منه : الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلا على أن يتأول من في السموات في حق الله كما يتأول قوله «أأمنتم من في السماء» وحديث الجارية وشبه ذلك (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي لا يشعرون من في السموات والأرض متى يبعثون ، لأنّ علم الساعة مما انفرد به الله ، روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى الساعة؟ (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) وزن ادّارك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت الدال واجتلبت ألف الوصل ، والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها ، أو تناهى إلى أن لا يعلموا وقتها ، وقرئ (١) أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل ، والمعنى على هذا : يدرك علمهم في الآخرة ، أي يعلمون فيها الحق ، لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق ، فقوله : في

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك علمهم. بمعنى هل أدرك. وهل بعني الجحد. وقرأ الباقون : «بل ادّارك» أي ما جهلوا في الدنيا علموه في الآخرة.

١٠٦

الآخرة على هذا ظرف ، وعلى القراءة الأولى بمعنى الباء (عَمُونَ) جمع عم ، وهو من عمى القلوب (رَدِفَ لَكُمْ) أي تبعكم ، واللام زائدة ، أو ضمن معنى قرب وتعدى باللام ، ومعنى الآية : أنهم استعجلوا العذاب بقولهم : متى هذا الوعد ، فقيل لهم : عسى أن يكون قرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون ، وهو قتلهم يوم بدر (غائِبَةٍ) الهاء فيه للمبالغة : أي ما من شيء في غاية الخفاء ، إلا وهو عند الله في كتاب (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) شبه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى ؛ في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء ، ثم شبههم بالصم وبالعمي وإن كانوا صحاح الحواس ، وأكد عدم سماعهم بقوله إذا ولوا مدبرين ، لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي زاد صممه وعدم سماعه بالكلية.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك وهو قضاؤه ، والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض ، وخروج الدابة من أشراط الساعة ، وروي أنها تخرج من المسجد الحرام ، وقيل : من الصفا ، وأن طولها ستون ذراعا ، وقيل : هي الجساسة التي وردت في الحديث (تُكَلِّمُهُمْ) قيل : تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام ، وقيل : تقول لهم : ألا لعنة الله على الظالمين ، وروي أنها تسم الكافر وتخطم أنفه وتسوّد وتبيض وجه المؤمن (أَنَّ النَّاسَ) (١) من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام ، ومن قرأ بالفتح فهو مفعول تكلمهم : أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، أو مفعول من أجله تقديره تكلمهم ، لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام ، ويحتمل قوله : لا يوقنون بخروج الدابة ، ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين ، وهذا أظهر (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي يساقون بعنف (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أم استفهامية ، والمعنى إقامة

__________________

(١). أن : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : أن بفتح الهمزة وقرأ الباقون : إن بكسر الهمزة.

١٠٧

الحجة عليهم ، كأنه قيل لهم إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن القيامة ، وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن (لِيَسْكُنُوا فِيهِ) ذكر في [يونس : ٦] (يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) ذكر في [الكهف : ٩٩] (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل : «هم الشهداء ، وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم‌السلام (داخِرِينَ) صاغرين متذللين (تَحْسَبُها جامِدَةً) أي قائمة ثابتة (وَهِيَ تَمُرُّ) يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة ، ثم ينسفها الله في خلال ذلك فتكون كالعهن ثم تصير هباء منبثا (صُنْعَ اللهِ) مصدر ، والعامل فيه محذوف ، وقيل : هو منصوب على الإغراء : أي انظروا صنع الله.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) قيل : إن الحسنة لا إله إلا الله ، واللفظ أعم ، ومعنى : خير منها أن له بالحسنة الواحدة عشرا (مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ) (١) من نون فزع فتح الميم من يومئذ ومن أسقط التنوين للإضافة قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) السيئة هنا الكفر ، والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها (هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعني مكة (الَّذِي حَرَّمَها) أي جعلها حرما آمنا ، لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها ، ونسب تحريمها هنا إلى الله ؛ لأنه بسبب قضائه وأمره ، ونسبه النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى إبراهيم عليه‌السلام في قوله : إن إبراهيم حرّم مكة. لأن إبراهيم هو الذي أعلم الناس بتحريمها ، فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في حديث آخر (٢) أن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي إنما عليّ الإنذار والتبليغ (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله ، إما في الدنيا أو في الآخرة.

__________________

(١). من فزع يومئذ : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : فزع يومئذ ، قرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وإسماعيل : فزع يومئذ بالإضافة ، وقرأ نافع فزع بدون تنوين ويومئذ. انظر الحجة في القراءات فقد ذكر الحجة لكل واحدة من هذه القراءات ص ٥٤٠.

(٢). حديث حرمة مكة رواه البخاري في كتاب الجنائز ص ٩٥ / ٢ عن ابن عباس وأوله : حرّم الله عزوجل مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي إلخ.

١٠٨

سورة القصص

مكية إلا من آية ٥٢ إلى غاية آية ٥٥ فمدنية وآية ٨٥ فبالجحفة أثناء الهجرة وآياتها ٨٨ نزلت بعد النمل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة القصص) (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي تكبر وطغا (شِيَعاً) أي فرقا مختلفين ، فجعل فرعون القبط ملوكا وبني إسرائيل خداما لهم ، وهم الطائفة الذين استضعفهم ، وأراد الله أن يمنّ عليهم ويجعلهم أئمة : أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه (هامانَ) هو وزير فرعون (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة الملك ، وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون ؛ لأنه كان يذبح أبناء بني إسرائيل ، لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) الالتقاط اللقاء من غير قصد ، روي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت في البحر ، وهو النيل فأمرت أن يساق لها ، ففتحته فوجدت فيه صبيا فأحبته ، وقالت لفرعون : هذا قرّة عين لي ولك (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) اللام لام العاقبة وتسمى أيضا لام الصيرورة (لا تَقْتُلُوهُ) روي أنّ فرعون همّ بذبحه ، إذ توسم أنه من بني إسرائيل ، فقالت امرأته لا تقتلوه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه ، والضمير الفاعل لفرعون وقومه.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) أي ذاهلا لا عقل معها ، وقيل : فارغا من الصبر وقيل :

١٠٩

فارغا من كل شيء إلا من همّ موسى ، وقيل : فارغا من وعد الله : أي نسيت ما أوحى إليها ، وقيل : فارغا من الحزن إذ لم يغرق ، وهذا بعيد لما بعده. وقيل : فارغا من كل شيء إلا من ذكر الله ، وقرئ فزعا بالزاي من الفزع (١) (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) أي تظهر أمره ، وفي الحديث كادت أمّ موسى أن تقول وا ابناه وتخرج صائحة على وجهها (رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) أي رزقناها الصبر (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي من المصدّقين بالوعد الذي وعدها الله (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي اتبعيه ، والقص طلب الأثر ، فخرجت أخته تبحث عنه في خفية (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أي رأته من بعيد ، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته ، وقيل : معنى عن جنب ؛ عن شوق إليه ، وقيل : معناه أنها نظرت إليه ، كأنها لا تريده (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أنها أخته (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) أي منع بأن بغضها الله له ، والمراضع جمع مرضعة ، وهي المرأة التي ترضع ، أو جمع مرضع بفتح الميم والضاد : وهو موضع الرضاع يعني الثدي (مِنْ قَبْلُ) أي من أول مرة (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ) القائلة أخته تخاطب آل فرعون (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ) لما منعه الله من المراضع وقالت أخته : هل أدلكم على أهل بيت الآية : جاءت بأمه فقبل ثديها ، فقال لها فرعون ومن أنت منه فما قبل ثدي امرأة إلا ثديك؟ فقالت : إني امرأة طيبة اللبن ، فذهبت به إلى بيتها ، وقرّت عينها بذلك ، وعلمت أن وعد الله حق في قوله : إنا رادّوه إليك (بَلَغَ أَشُدَّهُ) ذكر في [يوسف : ١٢] (وَاسْتَوى) أي كمل عقله ، وذلك مع الأربعين سنة.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يعني مصر وقيل : قرية حولها ، والأول أشهر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) قيل : في القائلة وقيل بين العشاءين ، وقيل يوم عيد ، وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفيا متخوفا (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) الذي من شيعته من بني إسرائيل ، والذي من عدّوه من القبط (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي ضربه ، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل : بجمع الكف (فَقَضى عَلَيْهِ) أي قتله ، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم وقال : هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان ، ثم اعترف واستغفر فغفر الله له ، فإن قيل : كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافرا؟ فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله ، ولذلك يقول يوم القيامة : إني قتلت نفسا لم أومر بقتله(قالَ رَبِّ بِما ا

__________________

(١). أورد الطبري عن فضالة بن عبيد أن كان يقرأ : (وأصبح فؤاد أم موسى فازعا) من الفزع.

١١٠

 أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) الظهير المعين ، والباء سببية ، والمعنى بسبب إنعامك عليّ : لا أكون ظهيرا للمجرمين ، فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه ، وقيل الباء باء القسم ، وهذا ضعيف لأن قوله : فلن أكون لا يصلح لجواب القسم ، وقيل : جواب القسم محذوف تقديره : وحق نعمتك لأتوبن فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، وقيل الباء للتحليف : أي اعصمني بحق نعمتك عليّ ، فلن أكون ظهيرا للمجرمين ، ويحتج بهذه الآية على المنع من صحبة ولاة الجور (يَتَرَقَّبُ) في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد (يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به ، لقي موسى الإسرائيليّ الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل رجلا آخر من القبط ، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس ، فعظم ذلك على موسى وقال له : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) الضمير في أراد وفي يبطش لموسى ، وفي قال للإسرائيلي ، والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ له وللإسرائيلي : ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له إنك لغوي مبين ، فقال الإسرائيلي لموسى : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ وقيل : الضمير في أراد للإسرائيلي ، والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي ، ولم يفعل موسى ذلك لندامته على قتله الآخر بالأمس ، فنصح الإسرائيلي ، فقال له : أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون (وَجاءَ رَجُلٌ) قيل : إنه مؤمن آل فرعون ، وقيل : غيره (يَسْعى) أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون ، وقيل : يأمر بعضهم بعضا بقتلك كما قتلت القبطي.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليه‌السلام (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي وسط الطريق يعني طريق مدين ، إذ كان قد خرج فارّا بنفسه ، وكان لا يعرف الطريق ، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : أراد سبيل الهدى وهذا أظهر ، ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفا بالله قبل نبوته (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي وصل إليه وكان بئرا (يَسْقُونَ) أي يسقون مواشيهم (امْرَأَتَيْنِ) روي أن اسمهما ليا وصفوريا ، وقيل : صفيرا وصفرا (تَذُودانِ) أي تمنعان الناس عن غنمهما ، وقيل : تذودان غنمهما عن الماء حتى يسقي الناس ، وهذا أظهر لقولهما : لا نسقي حتى يصدر الرعاء : أي كانت عادتهما ألا يسقيا غنمهما إلا بعد الناس لقوة الناس ولضعفهما ، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس (يُصْدِرَ) بضم الياء وكسر الدال فعل متعدّ ، والمفعول

١١١

محذوف تقديره حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر : يصدر بفتح الياء وضم الدال أي ينصرفون عن الماء (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) أي لا يستطيع أن يباشر سقي غنمه ، وهذا الشيخ هو شعيب عليه‌السلام في قول الجمهور ، وقيل : ابن أخيه ، وقيل : رجل صالح ليس من شعيب بنسب (فَسَقى لَهُما) أي أدركته شفقته عليهما فسقى غنمهما وروي أنه كان على فم البئر صخرة لا يرفعها إلا ثلاثون رجلا فرفعها وحده (تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) أي جلس في الظل ، وروي أنه كان ظل سمرة (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتدّ عليه الجوع.

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) قبل هذا كلام محذوف تقديره : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، أخبرتاه بما كان من أمر سقي الرجل لهما ، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته ، واختلف هل التي جاءته الصغرى أو الكبرى (عَلَى اسْتِحْياءٍ) روي أنها سترت وجهها بكم درعها والمجرور يتعلق بما قبله وقيل : بما بعده وهو ضعيف (وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي ذكر له قصته (لا تَخَفْ) أي قد نجوت من فرعون وقومه (اسْتَأْجِرْهُ) أي اجعله أجيرا لك (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) هذا الكلام حكمة جامعة بليغة ، روي أن أباها قال لها من أين عرفت قوته وأمانته ، قالت أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر : وأما أمانته فإنه لم ينظر إليّ (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) زوجته التي دعته ، واختلف هل زوّجه الكبرى أو الصغرى ، واسم التي زوجه صفور ، وقيل : صفوريا ، ومن لفظ شعيب حسن أن يقال في عقود الأنكحة : أنكحه إياها أكثر من أن يقال أنكحها إياه (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) أيّ أزوجك بنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام ، قال مكي : في هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حدّ أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، قلت : فأما التعيين فيحتمل أن يكون عند عقد النكاح بعد هذه المراودة ، وقد قال الزمخشري : إن كلامه معه لم يكن عقد نكاح ، وإنما كان مواعدة وأما ذكر أول الأمد ، فالظاهر أنه من حين العقد ، وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية ، وقد قرره شرعنا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للرجل : «قد زوجتكها على ما معك من القرآن» ؛ أي على أن تعلمها ما عندك من القرآن (١) ، وقد أجاز النكاح بالإجارة الشافعي

__________________

(١). الحديث أخرجه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي في كتاب الوكالة ص ٦٣ ج ٣.

١١٢

وابن حنبل أبو حنيفة للآية والحديث ، ومنعه مالك (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) جعل الأعوام الثمانية شرطا ، ووكل العامين إلى مروءة موسى ، فوفى له العشر ، وقيل : وفي العشرة وعشرا بعدها ، وهذا ضعيف لقوله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) أي الأجل المذكور (وَسارَ بِأَهْلِهِ) الأهل هنا الزوجة مشى بها إلى مصر (جَذْوَةٍ) أي قطعة ، ويجوز كسر الجيم وضمها ، وقد ذكر [سابقا] آنس ، والطور ، وتصطلون (شاطِئِ الْوادِ) جانبه والأيمن صفة للشاطئ اليمين ، ويحتمل أن يكون من اليمن فيكون صفة للوادي (مِنَ الشَّجَرَةِ) روي : أنها كانت عوسجة (جَانٌ) ذكر في النمل (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي أدخلها فيه ، والجيب هو فتح الجبة من حيث يخرج الإنسان رأسه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) الجناح اليد أو الإبط أو العضد ، أمره الله لما خاف من الحية أن يضمه إلى جنبه ليخفّ بذلك خوفه ، فإن من شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يخف خوفه ، وقيل : ذلك على وجه المجاز ، والمعنى أنه أمر بالعزم على ما أمر به : كقوله اشدد حيازيمك واربط جأشك.

(مِنَ الرَّهْبِ) أي من أجل الرّهب ، وهو الخوف ، وفيه ثلاثة لغات : فتح الراء والهاء ، وفتح الراء وإسكان الهاء ، وضم الراء وإسكان الهاء (فَذانِكَ بُرْهانانِ) أي حجتان والإشارة إلى العصا واليد (إِلى فِرْعَوْنَ) يتعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام (رِدْءاً) أي معينا ، وقرئ بالهمز [وقرأ نافع ردّا] وبغير همز على التسهيل من المهموز أو يكون من : أرديت أي زدت (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) استعارة في المعونة (بِآياتِنا) يحتمل أن يتعلق بقوله : نجعل أو يصلون أو بالغالبون (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) أي اصنع الآجر لبنيان

١١٣

الصرح الذي رام أن يصعد منه إلى السماء ، وروي أنه أول من عمل الآجر ، وكان هامان وزير فرعون وانظر ضعف عقولهما وعقول قومهما ، وجهلهم بالله تعالى في كونهم طمعوا أن يصلوا إلى السماء ببنيان الصرح ، وقد روي أنه عمله وصعد عليه ورمى بسهم إلى السماء فرجع مخضوبا بدم ، وذلك فتنة له ولقومه وتهكم بهم ، ثم قال (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) يعني في دعوى الرسالة ، والظن هنا يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) أي كانوا يدعون الناس إلى الكفر الموجب للنار (مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) أي من المطرودين المبعدين ، وقيل : قبحت وجوههم ، وقيل : قبح ما فعل بهم وما يقال لهم.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) خطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به إقامة حجة لإخباره بحال موسى ، وهو لم يحضره والغربي المكان الذي في غربي الطور ، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى ، والأمر المقضي إلى موسى هو النبوة. ومن الشاهدين : معناه من الحاضرين هنالك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) المعنى لم تحضر يا محمد للاطلاع على هذه الغيوب التي تخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك ، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها ، فغابت عقولهم واستحكمت جهالتهم ، فكفروا بك ، وقيل : المعنى لكنا أنشأنا قرونا بعد زمان موسى فتطاول عليهم العمر ، وطالت الفترة فأرسلناك على فترة من الرسل (ثاوِياً) أي مقيما (إِذْ نادَيْنا) يعني تكليم موسى ، والمراد بذلك إقامة حجة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإخباره بهذه الأمور مع أنه لم يكن حاضرا حينئذ (وَلكِنْ رَحْمَةً) انتصب على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله والتقدير : ولكن أرسلناك رحمة منا لك ورحمة للخلق بك (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) لو هنا حرف امتناع ولو لا الثانية عرض وتحضيض ، والمعنى لو لا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل ، وإنما أرسلناهم على وجه الإعذار وإقامة الحجة

١١٤

عليهم ، لئلا يقولوا : ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ) يعني القرآن ونبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) يعنون إنزال الكتاب عليه من السماء جملة واحدة ، وقلب العصا حية وفلق البحر وشبه ذلك (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) هذا ردّ عليهم فيما طلبوه ، والمعنى أنهم كفروا بما أوتي موسى فلو آتينا محمدا مثل ذلك لكفروا به ، ومن قبل على هذا يتعلق بقوله : أوتي موسى ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : أو لم يكفروا ، إن كانت الآية في بني إسرائيل ، والأول أحسن قالوا ساحران تظاهرا (١) يعنون موسى وهارون ، أو موسى ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والضمير في أو لم يكفروا وفي قالوا لكفار قريش وقيل : لآبائهم ، وقيل لليهود والأول أظهر وأصح لأنهم المقصودون بالرد عليهم (فَأْتُوا بِكِتابٍ) أمر على وجه التعجيز لهم (أَهْدى مِنْهُما) الضمير يعود على كتاب موسى وكتاب سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) قد علم أنهم لا يستجيبون للإتيان بكتاب هو أهدى منهما أبدا ، ولكنه ذكره بحرف إن مبالغة في إقامة الحجة عليهم : كقوله : فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ، فاعلم أنما يتبعون أهواهم : المعنى إن لم يأتوا بكتاب فاعلم أن كفرهم عناد واتباع أهوائهم ، لا بحجة وبرهان (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) الضمير لكفار قريش ، وقيل : لليهود والأول أظهر ؛ لأن الكلام من أوله معهم ، والقول هنا القرآن ، ووصّلنا لهم : أبلغناه لهم ، أو جعلناه موصلا بعضه ببعض (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) يعني من أسلم من اليهود ، وقيل : النجاشي وقومه ، وقيل :نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة وهم عشرون رجلا فآمنوا به ، والضمير في قبله للقرآن ، وقولهم إنه الحق : تعليل لإيمانهم ، وقولهم : إنا كنا من قبله مسلمين : بيان لأن إسلامهم قديم ، لأنهم وجدوا ذكر سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتبهم قبل أن يبعث.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب ثم آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورجل مملوك أدى حق الله

__________________

(١). سحران : قراءة عاصم وحمزة والكسائي. وقرأ الباقون : ساحران.

١١٥

وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة فأعتقها وتزوّجها (١) (بِما صَبَرُوا) يعني صبرهم على إذاية قومهم لهم لما أسلموا ، ٧ أو غير ذلك من أنواع الصبر (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي يدفعون ، ويحتمل أن يريد بالسيئة ما يقال لهم من الكلام القبيح ، وبالحسنة ما يجاوبون به من الكلام الحسن ، أو يريد سيئات أعمالهم وحسناتها كقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤] (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) يعني ساقط الكلام (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) هذا على وجه التبري والبعد من القائلين للغو (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) معناه هنا ، المتاركة والمباعدة لا التحية ، أو كأنه سلام الانصراف والبعد (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة في الكلام (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) نزلت في أبي طالب إذ دعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول عند موته : لا إله إلا الله فقال : لو لا أن يعايرني بها قريش لأقررت بها عينك ومات على الكفر ، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) لفظ عام ، وقيل : أراد به العباس بن عبد المطلب.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) القائلون لذلك قريش ، وروي أن الذي قالها منهم : الحارث بن عامر بن نوفل ، والهدى هو الإسلام ، ومعناه الهدى على زعمك ، وقيل : إنهم قالوا قد علمنا أن الذي تقول حق ، ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب : أي أهلكونا بالقتال لمخالفة دينهم (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً) هذا ردّ عليهم فيما اعتذروا به من تخطف الناس لهم ، والمعنى أن الحرم لا تتعرض له العرب بقتال ، ولا يمكن الله أحدا من إهلاك أهله ، فقد كانت العرب يغير بعضهم على بعض ، وأهل الحرم آمنون من ذلك (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي تجلب إليه الأرزاق مع أنه واد غير ذي زرع (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) معنى بطرت طغت وسفهت ، ومعيشتها : نصب على التفسير مثل : سفه نفسه ، أو على إسقاط حرف الجرّ تقديره : بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت : كفرت (إِلَّا قَلِيلاً) يعني : قليلا من السكنى ، أو قليلا من الساكنين : أي لم يسكنها بعد إهلاكها إلا مارّا على الطريق ساعة.

(وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) أم القرى مكة لأنها أول ما

__________________

(١). رواه المناوي في التيسير بألفاظ مقاربة وعزاه للشيخين وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي موسى الأشعري.

١١٦

خلق الله في الأرض ، ولأن فيها بيت الله ، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى ؛ بأن بعث سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أم القرى ، فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم ، وإقامة الحجة عليهم (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية : تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ) الآية : إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة ، والمراد بمن وعدناه للمؤمنين ، وبمن متعناه الكافرين ، وقيل : سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو جهل ، وقيل حمزة وأبو جهل ، والعموم أحسن لفظا ، ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) العامل في الظرف مضمر ، وفاعل ينادي : الله تعالى ، ويحتمل أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة ، والمفعول به المشركون (أَيْنَ شُرَكائِيَ) توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم ، ولذلك قال : الذين كنتم تزعمون ، فحذف المفعول وتقديره : تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم شفعاء لكم.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) معنى حق عليهم القول : وجب عليهم العذاب ، والمراد بذلك رؤساء المشركين وكبراؤهم ، والإشارة بقولهم : هؤلاء الذين أغوينا : إلى أتباعهم من الضعفاء ، فإن قيل : كيف الجمع بين قولهم أغوينا وبين قولهم : تبرأنا إليك ، فإنهم اعترفوا بإغوائهم ، وتبرأوا مع ذلك منهم؟ فالجواب أن إغواءهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك ، والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه ، ولكن لم يكونوا يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا ، من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا ، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء ، وتبرأوا من أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام ، وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو تكلف بعيد (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) فيه أربعة أوجه : الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لم يعبدوا الأصنام ، والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا والثالث لو أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا ، فلو على هذه الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف ، والرابع أن يكون لو للتمني : أي تمنوا لو كانوا مهتدين.

(ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) أي هل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم؟ (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ) عميت عبارة عن حيرتهم ، والأنباء الأخبار أي أظلمت عليهم الأمور ، فلم يعرفوا ما يقولون (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا عن الأنباء لأنهم قد تساووا

١١٧

في الحيرة والعجز عن الجواب (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) قيل : سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوة ، فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء ، ويختار لرسالته من يشاء من عباده ، ولفظها أعم من ذلك ، والأحسن حمله على عمومه : أي يختار ما يشاء من الأمور على الإطلاق ، ويفعل ما يريد (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ما نافية ، والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار ، والإرادة لله وحده. فالوقف على قوله ويختار ، وقيل : إن ما مفعولة بيختار ، ومعنى الخيرة على هذا الخير والمصلحة ، وهذا يجري على قول المعتزلة ، وذلك ضعيف ؛ لرفع الخيرة على أنها اسم كان ، ولو كانت ما مفعولة : لكان اسم كان مضمرا يعود على ما ؛ وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ، وقد اعتذر عن هذا من قال : إن ما مفعولة بأن يقال : تقدير الكلام : يختار ما كان لهم الخيرة فيه ، ثم حذف الجار والمجرور وهذا ضعيف ، وقال ابن عطية : يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة ، ويوقف على قوله ما كان : أي يختار كل كائن ، ويكون «لهم الخيرة» جملة مستأنفة ، وهذا بعيد جدا (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر ، لأنه يحتوي عليه.

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) قيل إن الحمد في الآخرة قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] أو قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] ، وفي ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة (سَرْمَداً) أي دائما ، والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك ، فإن قيل : كيف قال يأتيكم بضياء ، وهلا قال : يأتيكم بنهار في مقابلة قوله يأتيكم بليل؟ فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أي في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) أي في النهار ، ففي الآية لف ونشر (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) أي أخرجنا من كل أمة شهيدا منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيهم ، لأن كل نبي يشهد على أمته (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر ، وذلك إعذار لهم وتوبيخ وتعجيز.

١١٨

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي من بني إسرائيل ، وكان ابن عم موسى وقيل ابن عمته ، وقيل ابن خالته (فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تكبر وطغى ، ومن ذلك كفره بموسى عليه‌السلام (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) المفاتح هي التي يفتح بها ، وقيل : هي الخزائن ، والأول أظهر ، والعصبة جماعة الرجال من العشرة إلى الأربعين ، وتنوء معناه تثقل ، يقال ناء به الحمل : إذا أثقله ، وقيل : معنى تنوء تنهض بتحامل وتكلف ، والوجه على هذا أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح ، لكنه قلب كما جاء قلب الكلام عن العرب كثيرا ، ولا يحتاج إلى قلب على القول الأول (لا تَفْرَحْ) الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطغيان ، ولذلك قال : إن الله لا يحب الفرحين ، وقيل السرور بالدنيا ، لأنه لا يفرح بها إلا من غفل عن الآخرة ويدل على هذا قوله : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) [الحديد : ٢٣] (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي اقصد الآخرة بما أعطاك الله من المال ، وذلك بفعل الحسنات والصدقات (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي لا تضيع حظك من دنياك وتمتع بها مع عملك للآخرة ، وقيل : معناه لا تضيع عمرك بترك الأعمال الصالحات ، فإن حظ الإنسان من الدنيا إنما هو بما يعمل فيها من الخير ، فالكلام على هذا وعظ ، وعلى الأول إباحة للتمتع بالدنيا لئلا ينفر عن قبول الموعظة (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بالغنى قال (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) لما وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الرد عليهم ، والروغان عما ألزموه من الموعظة ، والمعنى : أن هذا المال إنما أعطاه الله لي بالاستحقاق له بسبب علم عندي استوجبته به ، واختلف في هذا العلم فقيل : إنه علم الكيمياء ، وقيل : التجارب للأمور والمعرفة بالمكاسب ، وقيل : حفظه التوراة وهذا بعيد ، لأنه كان كافرا ، قيل : المعنى إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص خصني به ، ثم جعل قوله عندي كما تقول في ظني واعتقادي (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ) هذا ردّ عليه في اغتراره بالدنيا وكثرة جمعه للمال أو جمعه للخدم ، والأول أظهر.

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) في معناه قولان : أحدهما أنه متصل بما قبله ، والضمير في ذنوبهم يعود على القرون المتقدمة ، والمجرمون من بعدهم أي : لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة ؛ لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة ، والثاني : أنه إخبار عن حال المجرمين في الآخرة ؛ وأنهم لا يسألون عن ذنوبهم ؛ لكونهم يدخلون النار من غير حساب ، والصحيح أنهم يحاسبون على ذنوبهم ويسألون عنها

١١٩

لقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢] وأن هذا السؤال المنفي السؤال على وجه الاختبار وطلب التعريف ، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه ؛ لكن يسألون على وجه التوبيخ ، وحيثما ورد في القرآن إثبات السؤال في الآخرة ، فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه الاستخبار والتعريف ، ومنه قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ.) [الرحمن : ٣٩].

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) في ثياب حمر ، وقيل : في عبيده وحاشيته ، واللفظ أعم من ذلك (وَيْلَكُمْ) زجر للذين تمنوا مثل حال قارون (وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) الضمير عائد على الخصال التي دل عليها الكلام المتقدم ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، وقيل : على الكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم : أي لا تصدر الكلمة إلا عن الصابرين ، والصبر هنا إمساك النفس عن الدنيا وزينتها (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روي أن قارون لما بغى على بني إسرائيل وآذى موسى دعا موسى عليه‌السلام عليه ، فأوحى الله إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي أتباعه ، فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب فاستغاثوا بموسى فقال : يا أرض خذيهم حتى تمّ بهم الخسف (مَكانَهُ) أي منزلته في المال والعزة (بِالْأَمْسِ) يحتمل أن يريد به اليوم الذي كان قبل ذلك اليوم أو ما تقدم من الزمان القريب (وَيْكَأَنَ) مذهب سيبويه أن وي حرف تنبيه ، ثم ذكرت بعدها كأن ، والمعنى على هذا أنهم تنبهوا لخطئهم في قولهم : يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون ، ثم قالوا : كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر : أي ما أشبه الحال بهذا ، وقال الكوفيون : ويك هو ويلك حذفت منها اللام لكثرة الاستعمال ، ثم ذكرت بعدها أن ، والمعنى ألم يعلموا أن الله. وقيل : ويكأن كلمة واحدة معناها ألم تعلم.

(عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) أي تكبرا وطغيانا لا رفعة المنزلة ، فإن إرادتها جائزة (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أي أنزله عليك وأثبته ، وقيل المعنى أعطاك القرآن ، والمعنى متقارب ، وقيل فرض عليك أحكام القرآن ، فهي على حذف مضاف (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) المعاد الموضع

١٢٠