التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

موسى ، ومصر هي البلد المعروف وما يرجع إليه ، ومنتهى ذلك من نهر إسكندرية إلى أسوان بطول النيل (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) يعني : الخلجان الكبار الخارجة من النيل كانت تجرى تحت قصره ، وأعظمها أربعة أنهار : نهر الإسكندرية وتنيس ودمياط ، ونهر طولون (أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ) مذهب سيبويه أن أم هنا متصلة معادلة ، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون ، ثم وضع قوله : أنا خير موضع تبصرون لأنهم إذا قالوا له أنت خير فإنهم عنده بصراء ، وهذا من وضع السبب موضع المسبب ، وكان الأصل أن يقول : فلا تبصرون أم تبصرون ، ثم اقتصر على أم وحذف الفعل الذي بعدها واستأنف قوله : أنا خير على وجه الإخبار. ويوقف على هذا القول على أم وهذا ضعيف وقيل أم بمعنى بل فهي منقطعة (مَهِينٌ) أي ضعيف (وَلا يَكادُ يُبِينُ) إشارة إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة ، وذلك أنها كانت قد أحدثت في لسانه عقدة ، فلما دعا أن تحل أجيبت دعوته وبقي منها أثر كان معه لكنة ، وقيل : يعني العيّ في الكلام ، وقوله : ولا يكاد يبين : يقتضي أنه كان يبين ، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإثبات (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) (١) يريد لو لا ألقاها الله إليه كرامة له ودلالة على نبوّته ، والأسورة جمع سوار وأسوار ، وهو ما يجعل في الذراع من الحلي ، وكان الرجال حينئذ يجعلونه (مُقْتَرِنِينَ) أي مقترنين به لا يفارقونه ، أو متقارنين بعضهم مع بعض ليشهدوا له ويقيموا الحجة (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي طلب خفتهم بهذه المقالة واستهوى عقولهم (آسَفُونا) أي أغضبونا (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ) السلف بفتح السين واللام جمع سالف ، وقرأ حمزة والكسائي : سلفا بضمها جمع سليف ومعناه متقدم : أي تقدم قبل الكفار ليكون موعظة لهم ، ومثلا يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك.

(وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) (٢) روي عن ابن عباس وغيره في تفسيره هذه الآية : أنه لما نزل في القرآن ذكر عيسى ابن مريم والثناء عليه ، قالت قريش : ما يريد محمد إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى ؛ فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا ، حكى ذلك ابن عطية والذي ضرب المثل على هذا هو الله في القرآن ، ويصدون بمعنى يعرضون ، وقال الزمخشري : لما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على

__________________

(١). قرأ حفص : أسورة وقرأ الباقون : أساورة.

(٢). يصدون قرأ نافع وابن عامر والكسائي بضم الدال وقرأ الباقون : يصدّون بكسرها.

٢٦١

قريش : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] امتعضوا من ذلك ، وقال عبد الله بن الزبعرى : أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم ، فقال : خصمتك ورب الكعبة ؛ ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا ، وقد علمت أن النصارى عبدوه ، فإن كان عيسى في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، ففرحت قريش بذلك ، وضحكوا وسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) [الأنبياء : ١٠١] ، ونزلت هذه الآية ، فالمعنى على هذا : لما ضرب ابن الزبعرى عيسى مثلا وجادل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبادة النصارى إياه ، إذا قريش من هذا المثل يصدون : أي يضحكون ويصيحون من الفرح ، وهذا المعنى إنما يجري على قراءة يصدون بكسر الصاد بمعنى الضجيج والصياح.

(وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) (١) يعنون بهو عيسى ، والمعنى أنهم قالوا آلهتنا خير أم عيسى ، فإن كان عيسى يدخل النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ، لأنه خير من آلهتنا ، وهذا الكلام من تمام ما قبله على ما ذكره الزمخشري في تفسير الآية التي قبله ، وأما على ما ذكر ابن عطية فهذا ابتداء معنى آخر ، وحكى الزمخشري في معنى هذه الآية قولا آخر : وهو أنهم لما سمعوا ذكر عيسى قالوا : نحن أهدى من النصارى ، لأنهم عبدوا آدميا ونحن عبدنا الملائكة ، وقالوا آلهتنا وهم الملائكة خير أم عيسى ؛ فمقصدهم تفضيل آلهتهم على عيسى. وقيل : إن قولهم أم هو : يعنون به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنهم لما قالوا إنما يريد محمد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. قالوا : أآلهتنا خير أم هو يريدون تفضيل آلهتهم على محمد والأظهر أن المراد بهو عيسى وهو قول الجمهور ، ويدل على ذلك تقدم ذكره (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً) أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل ، وهو أن يقصد الإنسان أن يغلب من يناظره سواء غلبه بحق أو بباطل ، فإن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى : حصب جهنم ، ولكنهم أرادوا المغالطة ، فوصفهم الله بأنهم قوم خصمون (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) يعني عيسى والإنعام عليه بالنبوة والمعجزات ، وغير ذلك (وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) في معناها قولان : أحدهما لو نشاء لجعلنا بدلا منكم ملائكة يسكنون الأرض ويخلفون فيها بني آدم ، فقوله منكم يتعلق ببدل المحذوف أو بيخلفون ، والآخر لو نشاء لجعلنا منكم ، أي لولدنا منكم أولادا ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم ، فإنا قادرون على أن نخلق من أولاد الناس ملائكة فلا تنكروا أن خلقنا عيسى من غير والد ، حكى ذلك الزمخشري.

__________________

(١). قرأ نافع : آلهتنا. وقرأ أهل الكوفة : أآلهتنا.

٢٦٢

(وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) الضمير لعيسى وقيل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل للقرآن ، فأما على القول بأنه لعيسى أو لمحمد فالمعنى أنه شرط من أشراط الساعة ، يوجب العلم بها فسمى الشرط علما لحصول العلم به ، ولذلك قرأ ابن عباس لعلم بفتح العين واللام : أي علامة وأما على القول بأنه للقرآن : فالمعنى أنه يعلمكم بالساعة (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) إنما بيّن البعض دون الكل ، لأن الأنبياء إنما يبينون أمور الدين لا الدنيا ، وقيل : بعض بمعنى كل وهذا ضعيف (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ) ذكر في مريم (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) أي ينتظرون ، والضمير لقريش أو للأحزاب (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) الأخلاء : جمع خليل وهو الصديق ، وإنما يعادي الخليل خليله يوم القيامة ، لأن الضرر دخل عليه من صحبته ، ولذلك استثنى المتقين ، لأن النفع دخل على بعضهم من بعض (يا عِبادِ) (١) الآية. تقديره : يقول الله يوم القيامة للمتقين يا عبادي ، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون (تُحْبَرُونَ) أي تنعمون وتسرون (وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) أي يائسون من الخير (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) المعنى أنهم طلبوا الموت ليستريحوا من العذاب ، وروي أن مالكا يبقى بعد ذلك ألف سنة ، وحينئذ يقول لهم : إنكم ماكثون أي دائمون في النار (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ) الآية من كلام الله تعالى لأهل النار ، أو من كلام الله لقريش في الدنيا (أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ) الضمير لكفار قريش ، والمعنى أنهم إن أحكموا كيد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا محكمون نصره وحمايته (أَمْ يَحْسَبُونَ) الآية : روي أنها نزلت في

__________________

(١). يا عبادي : قرأها أهل المدينة (نافع) والشام بإثبات الياء وصلا ووقفا. وحذفها أهل مكة والكوفة في الحالين.

٢٦٣

الأخنس بن شريق والأسود بن عبد يغوث اجتمعا وقال الأخنس : أترى الله يسمع سرنا ، فقال الآخر : يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا (سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) السرّ ما يحدث الإنسان به نفسه أو غيره في خفية ، والنجوى : ما تكلموا به فيما بينهم (بَلى) أي نسمع ورسلنا مع ذلك تكتب ما يقولون ، والرسل هنا الملائكة الحافظون للأعمال.

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) في تأويل الآية أربعة أقوال : الأول أنها احتجاج وردّ على الكفار ، على تقدير قولهم ، ومعناها لو كان للرحمن ولد كما يقول الكفار لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد ؛ كما يعظم خدم الملك ولد الملك لتعظيم والده ، ولكن ليس للرحمن ولد ، فلست بعابد إلا الله وحده ، وهذا نوع من الأدلة يسمى دليل التلازم ؛ لأنه علق عبادة الولد بوجوده ، ووجوده محال فعبادته محال ، القول الثاني إن كان للرحمن ولد فأنا أول من عبد الله وحده ، وكذبكم في قولكم أن له ولدا ، والعابدين على هذين القولين بمعنى العبادة ، القول الثالث أن العابدين بمعنى المنكرين : يقال عبد الرجل إذا أنف وتكبر وأنكر الشيء ، والمعنى : إن زعمتم أن للرحمن ولدا فأنا أول المنكرين لذلك ، وإن على هذه الأقوال الثلاثة شرطية ، القول الرابع قال قتادة وابن زيد : إن هنا نافية بمعنى ما كان للرحمن ولد وتم الكلام ، ثم ابتدأ قوله فأنا أول العابدين ، والأول هو الصحيح لأنه طريقة معروفة في البراهين والأدلة ، وهو الذي عوّل عليه الزمخشري ، وقال الطبري : هو ملاطفة الخطاب ونحوه قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [سبأ :

٢٤] وقال ابن عطية منه قوله تعالى في مخاطبة الكفار (أَيْنَ شُرَكائِيَ) [النحل : ٢٧] يعني شركائي على قولكم (فَذَرْهُمْ) الآية موادعة منسوخة بالسيف.

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) أي هو الإله لأهل الأرض وأهل السماء ، والمجرور يتعلق بإله ، لأن فيه معنى الوصفية (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي علم زمان وقوعها (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ) أي لا يملك كل من عبد من دون الله أن يشفع عند الله ، لأن الله لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فهو المالك للشفاعة وحده (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) اختلف هل يعني بمن شهد بالحق الشافع أو المشفوع فيه ، فإن أراد المشفوع فيه فالاستثناء منقطع ، والمعنى لا يملك المعبودون شفاعة ؛ لكن من شهد بالحق وهو عالم به فهو الذي يشفع فيه ، ويحتمل على هذا أن يكون من شهد مفعولا بالشفاعة على إسقاط حرف الجر تقديره : الشفاعة فيمن شهد بالحق ، وإن أراد بمن شهد

٢٦٤

بالحق الشافع فيحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا وأن يكون متصلا إلا فيمن عبد عيسى والملائكة ، والمعنى على هذا لا يملك المعبودون شفاعة إلا من شهد بالحق (وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) القيل مصدر كالقول ، والضمير يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرئ قيله بالنصب والخفض (١) وقرئ في غير السبع بالرفع ، فأما النصب فقيل هو معطوف على سرهم ونجواهم ، وقيل : هو معطوف على موضع الساعة ؛ لأنها مفعول أضيف إلى المصدر وقيل : معطوف على مفعول محذوف تقديره : يكتبون أقوالهم وقيله ، وأما الخفض فقيل : إنه معطوف على لفظ الساعة ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله بالحق ، وأما على الرفع فقيل : إنه مبتدأ وخبره ما بعده ، وضعّف الزمخشري ذلك كله وقال : إنه من باب القسم فالنصب والخفض على إضمار حرف القسم كقولك : الله لأضربنّ زيدا والرفع كقولهم : أيمن الله ولعمرك ، وجواب القسم قوله : إن هؤلاء قوم لا يؤمنون كأنه قال : أقسم بقيله أن هؤلاء قوم لا يؤمنون (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ) منسوخ بالسيف (وَقُلْ سَلامٌ) تقديره أمري سلام : أي مسالمة ، وقيل سلام عليكم على جهة الموادعة وهو منسوخ على الوجهين (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٢) تهديد.

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة : وقيله : بكسر اللام ، وقرأ الباقون : وقيله بالنصب.

(٢). قرأ نافع وابن عامر : تعلمون بالتاء وقرأ الباقون : يعلمون بالياء.

٢٦٥

سورة الدخان

مكية وآياتها ٥٩ نزلت بعد الزخرف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الدخان) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) ذكر في الزخرف وهو قسم جوابه إنا أنزلناه ، وقيل إنا كنا منذرين وهو بعيد (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) يعني ليلة القدر من رمضان ، وكيفية إنزاله فيها أنه أنزل إلى السماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا بعد شيء ، وقيل : معناه أنه ابتدأ إنزاله في ليلة القدر ، وقيل : يعني بالليلة المباركة ليلة النصف من شعبان وذلك باطل ، لقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) مع قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) معنى يفرق يفصل ويخلص ، والأمر الحكيم أرزاق العباد وآجالهم ، وجميع أمورهم في ذلك العام نسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر ، ليتمثل الملائكة ذلك بطول السنة القابلة ، وقيل : إن هذا يكون ليلة النصف من شعبان وهذا باطل لما قدمنا (أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) مفعول بفعل مضمر على الاختصاص قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية نصب على المصدر ، وقيل : على الحال (مُرْسِلِينَ) إرسال الرسل عليهم‌السلام ، وقيل من إرسال الرحمة والأول أظهر (١).

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) في هذا قولان أحدهما قول علي بن أبي طالب وابن عباس أن الدخان يكون قبل يوم القيامة يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس الكافرين والمنافقين وهو من أشراط الساعة ، وروى حذيفة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن أول أشراط الساعة الدخان ، والثاني : قول ابن مسعود ؛ إن الدخان عبارة عما أصاب قريشا حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجدب ، فكان الرجل يرى دخانا بينه وبين السماء من

__________________

(١). الآية [٧] : ربّ السموات والأرض : قرأ عاصم وحمزة والكسائي : ربّ بالكسر والباقون : بالضم.

٢٦٦

شدّة الجوع. قال ابن مسعود : خمس قد مضين ؛ الدخان واللزام والبطشة والقمر والردم (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى ، أو من قول الناس لما أصابهم الدخان ، وهذا أظهر لأن ما بعده من كلامهم باتفاق فيكون الكلام متناسقا (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) هذا من كلام الله تعالى ، ومعناه استبعاد تذكير الكفار مع تكذيبهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والواو في قوله : وقد جاءهم واو الحال (رَسُولٌ مُبِينٌ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقالُوا مُعَلَّمٌ) أي يعلمه بشر (الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) قال ابن عباس : هي يوم القيامة ، وقال ابن مسعود : هي يوم بدر.

(رَسُولٌ كَرِيمٌ) يعني موسى عليه‌السلام (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أن هنا مفسرة نائب مناب القول ، وأدّوا فعل أمر من الأداء وعباد الله مفعول به وهم بنو إسرائيل ، والمعنى أرسلوا بني إسرائيل كما قال في طه «أرسل معنا بني إسرائيل» وقيل : عباد الله منادى ، والمعنى أدّوا إليّ الطاعة والإيمان يا عباد الله ، والأول أظهر (وَأَنْ لا تَعْلُوا) أي لا تتكبروا (بِسُلْطانٍ) أي حجة وبرهان (أَنْ تَرْجُمُونِ) اختلف هل معناه الرجم بالحجارة أو السب والأول أظهر (فَاعْتَزِلُونِ) أي اتركون وخلوا سبيلي (فَأَسْرِ بِعِبادِي) هذا أمر من الله لموسى عليه‌السلام ، والعباد هنا بنو إسرائيل أي أخرج بهم بالليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إخبار أن فرعون وجنوده يتبعونهم (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) أي ساكنا على هيئته وقيل : يابسا وروي أن موسى لما جاوز البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق ، فقال الله له : اتركه كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه ، وقيل : معنى رهوا سهلا ، وقيل : منفرجا (وَعُيُونٍ) يحتمل أن يريد الخلجان الخارجة من النيل ، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان ، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) فيه قولان المنابر والمساكن الحسان (وَنَعْمَةٍ) من التنعم بالأرزاق وغيرها (فاكِهِينَ) أي متنعمين ، وقيل : فرحين وقيل :

أصحاب فاكهة (كَذلِكَ) في موضع نصب أي مثل ذلك الإخراج أخرجناهم ، أو في موضع رفع تقديره : الأمر كذلك (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) يعني بني إسرائيل حكاه الزمخشري والماوردي ، وضعفه ابن عطية قال : لأنه لم يرو في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا

٢٦٧

إلى مصر في ذلك الزمان (١) ، وقد قال الحسن إنهم رجعوا إليها ، ويدل على أن المراد بنو إسرائيل قوله في الشعراء : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٥٩] (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) فيه ثلاثة أقوال : الأول أنه عبارة عن تحقيرهم ، وذلك أنه إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيمه : بكت عليه السماء والأرض على وجه المجاز والمبالغة ، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم أحقر من أن يبالى بهم. الثاني قيل : إذا مات المؤمن بكى عليه من الأرض موضع عبادته ، ومن السماء موضع صعود عمله ، فالمعنى أن هؤلاء ليسوا كذلك لأنهم كفار ، أو ليس لهم عمل صالح : الثالث أن المعنى ما بكى عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض ، والأوّل أفصح وهو منزع معروف في كلام العرب (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي مؤخرين (مِنْ فِرْعَوْنَ) بدل من العذاب (عالِياً) أي متكبرا (اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) أي كنا عالمين بأنهم مستحقون لذلك (عَلَى الْعالَمِينَ) أي على أهل زمانهم (بَلؤُا مُبِينٌ) أي اختبار.

(إِنَّ هؤُلاءِ) يعني كفار قريش (فَأْتُوا بِآبائِنا) خاطبت قريش بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه على وجه التعجيز ، روي أنهم طلبوا أن يحيي لهم قصي بن كلاب يسألوه عن أحوال الآخرة (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) كان تبع ملك من حمير وكان مؤمنا وقومه كفارا ، فذم قومه ولم يذمه ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبيّ ، ومعنى الآية : أقريش أشدّ وأقوى أم قوم تبع والذين من قبلهم من الكفار ، وقد أهلكنا قوم تبع وغيرهم لما كفروا فكذلك نهلك هؤلاء ، فمقصود الكلام تهديد (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) عطف على قوم تبع : وقيل هو مبتدأ فيوقف على ما قبله والأول أصح (لاعِبِينَ) حال منفية ذكرت في الأنبياء (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى) المولى هنا يعم الولي والقريب وغير ذلك من الموالي (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) استثناء منقطع إن أراد بقوله ولا هم ينصرون الكفار ، ومتصل إن أراد بذلك جميع الناس (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي الفاجر وهو من الإثم ، وقيل : يعني أبا جهل

__________________

(١). قلت : الثابت أن موسى ومن معه ظلوا في التيه ٤٠ سنة ثم من بقي منهم دخلوا الأرض المقدسة وأما قوم فرعون فقد قام في مصر سلالة أخرى. والله أعلم.

٢٦٨

فالألف واللام للعهد ، والأظهر أنها للجنس فتعم أبا جهل وغيره (كَالْمُهْلِ) (١) هو درديّ الزيت ، وقيل ما يذاب من الرصاص وغيره (فَاعْتِلُوهُ) أي سوقوه بتعنيف (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) المصبوب في الحقيقة إنما هو الحميم وهو الماء الحار ، ولكن جعل المصبوب هنا العذاب المضاف إلى الحميم مجازا لأن ذلك أبلغ وأشد تهويلا ، وقد جاء الأصل في قوله في الحج [١٩] (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ)(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) يقال هذا للكافر على وجه التوبيخ والتهكم به ، أي كنت العزيز الكريم عند نفسك ، وروي أن أبا جهل قال : ما بين جبليها أعز مني ولا أكرم. فنزلت الآية (تَمْتَرُونَ) تفتعلون من المرية وهو الشك.

(فِي مَقامٍ أَمِينٍ) قرأ نافع وابن عامر بضم الميم أي موضع إقامة ، والباقون بفتحها أي موضع قيام والمراد به الجنة ، والأمين من الأمن أي مأمون فيه ، وقيل : من الأمنة وصف به المكان مجازا (مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) السندس الرقيق من الديباج والإستبرق الغليظ منه (كَذلِكَ) في موضع رفع أي الأمر كذلك ، أو في موضع نصب أي مثل ذلك زوّجناهم (يَدْعُونَ فِيها) أي يدعون خدامهم (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) استثناء منقطع ، والمعنى لا يذوقون فيها الموت : قد ذاقوا الموتة الأولى خاصة قبل ذلك ، ولو لا قوله فيها لكان متصلا لعموم لفظ الموت ، وقيل : إلا هنا بمعنى بعد وذلك ضعيف (يَسَّرْناهُ) أي سهلناه والضمير للقرآن (بِلِسانِكَ) أي بلغتك وهي لسان العرب (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) أي ارتقب نصرنا لك وإهلاكهم ، فإنهم مرتقبون ضدّ ذلك ، ففيه وعد له ووعيد لهم.

__________________

(١). كالمهل يغلي : قرأ ابن كثير وحفص بالياء والباقون : تغلي بالتاء.

٢٦٩

سورة الجاثية

مكية إلا آية ١٤ فمدنية وآياتها ٣٧ نزلت بعد الدخان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الجاثية) (تَنْزِيلُ) ذكر في الزمر ، وما بعد ذلك تنبيه على الاعتبار بالموجودات ، وقد ذكر معناه في مواضع (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) الأفاك مبالغة من الإفك وهو الكذب ، والأثيم من الإثم ، وقيل : إنها نزلت في النضر بن الحارث ولفظها على العموم (يُصِرُّ) أي يدوم على حاله من الكفر ، وإنما عطفه بثم لاستعظام الإصرار على الكفر ، بعد سماعه آيات الله ، واستبعاد ذلك في العقل والطبع (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا) أي إذا بلغه منها شيء ، ولم يرد العلم الحقيقي (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) كقوله (مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) ، وقد ذكر في إبراهيم : ١٧ (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يعني الشمس والقمر والملائكة وبني آدم والحيوانات والنبات وغير ذلك (جَمِيعاً مِنْهُ) أي كل نعمة فمن الله تعالى ، والمجرور في موضع الحال أو خبر ابتداء مضمر ، وقرأ ابن عباس : منه (١) (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) أمر الله المؤمنين أن يتجاوزوا عن الكفار ، ولا يؤاخذوهم إذا آذوهم ، وكان ذلك في صدر الإسلام ، قيل : إنها منسوخة بالسيف ، (٢)

__________________

(١). قراءة ابن عباس : منه وبمراجعتها في الطبري لم يتضح المراد ولعلّها : منّه أي عطاؤه.

(٢). رجز أليم : قرأ ابن كثير وحفص : رجز أليم وقرأ الباقون : رجز أليم كما في سورة [سبأ : ٥].

٢٧٠

وقيل : ليست بمنسوخة ، لأن احتمال الأذى مندوب إليه على كل حال ، وأما القتال على الإسلام فليس من ذلك ، وروي : أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب شتمه رجل من الكفار فأراد عمر أن يبطش به ، وأيام الله هي نعمه ، فالرجاء على أصله ، وقيل : أيام الله عبارة عن عقابه ، فالرجاء بمعنى الخوف ويغفروا مجزوم في جواب شرط مقدر دل عليه قل ، قال الزمخشري حذف معمول القول ، والمعنى : قل لهم اغفروا يغفروا (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فاعل يجزي ضمير يعود على الله ، وقرئ (١) بنون المتكلم ، وقال ابن عطية إن الآية وعيد ، فالقوم على هذا هم الذين لا يرجون أيام الله ويكسبون يعني السيئات ، وقال الزمخشري : القوم هم الذين آمنوا وجزاؤهم الثواب بما كانوا يكسبون بكظم الغيظ واحتمال المكروه (عَلَى الْعالَمِينَ) ذكر في البقرة : ٤٧ (بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي معجزات من أمر الدين (جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) أي ملة ودين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا) أم هنا للإنكار ، واجترحوا اكتسبوا ، والمراد بالذين اجترحوا السيئات الكفار لمقابلته بالذين آمنوا ، ولأن الآية مكية : وقد يتناول لفظها المذنبين من المؤمنين ، ولذلك يذكر أن الفضيل بن عياض قرأها بالليل فما زال يردّدها ويبكي طول الليل ، ويقول لنفسه : من أي الفريقين أنت؟ ومعناها : إنكار ما حسبه الكفار من أن يكونوا هم والمؤمنون سواء في المحيا والممات ، وفي تأويلها مع ذلك قولان : أحدهما أن المراد ليس المؤمنون سواء مع الكفار ، لا في المحيا ولا في الممات ، فإن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة ، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية وكذلك ملتهم ليست سواء ، والقول الآخر أنهم استووا في المحيا في أمور الدنيا من الصحة والرزق فلا يستوون في الممات ، بل يسعد المؤمنون ويشقى الكافرون ، فالمراد بها إثبات الجزاء في الآخرة ، وتفضيل المؤمنين على الكافرين في الآخرة ، وهذا المعنى هو الأظهر والأرجح فيكون معنى الآية كقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥] وكقوله : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٨] (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) هذه الجملة بدل من الكاف في قوله : (كَالَّذِينَ آمَنُوا) وهي مفسرة للتشبيه ، وهي داخلة فيما أنكره الله مما حسبه الكفار ، وقيل :

__________________

(١). قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي : لنجزي قوما وقرأ الباقون : ليجزي.

٢٧١

هي كلام مستأنف ؛ والمعنى على هذا أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء وأن محيا الكفار ومماتهم سواء لأن كل واحد يموت على ما عاش عليه ، وهذا المعنى بعيد ، والصحيح أنها من تمام ما قبلها على المعنى الذي اخترناه ، وأما إعرابها فمن قرأ سواء بالرفع فهو مبتدأ وخبره محياهم ومماتهم ، والجملة بدل من الجار والمجرور الواقع مفعولا ثانيا لنجعل ، ومن قرأ سواء (١) بالنصب فهو حال أو مفعول ثان لنجعل ، ومحياهم فاعل بسواء ، لأنه في معنى مستوى (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين (لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) معطوف على قوله بالحق ، لأن فيه معنى التعليل ، أو على تعليل محذوف تقديره : خلق الله السموات والأرض ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس بما كسبت.

(اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي أطاعه حتى صار له كالإله (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) أي علم من الله سابق ، وقيل : على علم من هذا الضال بأنه على ضلال ، ولكنه يتبع الضلال معاندة (خَتَمَ) ذكر في البقرة [٧] (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : من بعد إضلال الله إياه ، ويحتمل أن يريد ؛ فمن يهديه غير الله (وَقالُوا) الضمير لمن اتخذ إلهه هواه أو لقريش (نَمُوتُ وَنَحْيا) فيه أربع تأويلات : أحدها أنهم أرادوا يموت قوم ويحيا قوم ، والآخر نموت نحن ويحيا أولادنا ، الثالث نموت حين كنا عدما أو نطفا ، ونحيا في الدنيا ، والرابع نموت الموت المعروف ، ونحيا قبله في الدنيا فوقع في اللفظ تقديم وتأخير ، ومقصودهم على كل وجه إنكار الآخرة ، ويظهر أنهم كانوا على مذهب الدهرية [الملاحدة] لقولهم : وما يهلكنا إلا الدهر (٢) ، فردّ الله عليهم بقوله : وما لهم بذلك من علم الآية (قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) ذكر في الدخان [٣٦] (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ) الآية : ردّ على المنكرين للحشر والاستدلال على وقوعه بقدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) أي تجثو على الركب ، وتلك هيئة الخائف الذليل

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي وحفص بالنصب والباقون بالرفع.

(٢). الدهر : باصطلاح الفلاسفة هو الزمان. وأما شرعا فقد ورد الحديث : لا تسبّوا الدهر فإن الله هو الدهر. رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص : ٣٩٥ ويكون معنى الحديث : الله سبحانه هو خالق الزمان وكل ما يجري فيه.

٢٧٢

(كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي إلى صحائف أعمالها ، وقيل : الكتاب المنزل عليها ، والأول أرجح لقوله (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) الآية : فإن قيل : كيف أضاف الكتاب تارة إليهم وتارة إلى الله تعالى؟ فالجواب : أنه أضافه إليهم لأن أعمالهم ثابتة فيه ، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه ، وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نأمر الملائكة الحافظين بكتب أعمالكم ، وقيل : إن الله يأمر الحفظة أن تنسخ أعمال العباد من اللوح المحفوظ ، ثم يمسكونه عندهم فتأتي أفعال العباد على ذلك فتكتبها الملائكة ، فذلك هو الاستنساخ وكان ابن عباس يحتج على ذلك بأن يقول : لا يكون الاستنساخ إلا من أصل (أَفَلَمْ تَكُنْ) تقديره : يقال لهم ذلك (وَحاقَ) ذكر مرارا (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) النسيان هنا بمعنى الترك ، وأما في قوله : كما نسيتم فيحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الذهول (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) من العتبى وهي الرضا.

٢٧٣

سورة الأحقاف

مكية إلا الآيات ١٠ ، ١٥ ، ٣٥ فمدنية وآياتها ٣٥ نزلت بعد الجاثية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الأحقاف) (تَنْزِيلُ) ذكر في الزمر (إِلَّا بِالْحَقِ) ذكر مرارا (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا) احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين ، فالأمر بمعنى التعجيز (شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) أي نصيب (ائْتُونِي بِكِتابٍ) تعجيز لأنهم ليس لهم كتاب يدل على الإشراك بالله ، بل الكتب كلها ناطقة بالتوحيد (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقية من علم قديم يدل على ما يقولون ، وقيل : معناه من علم تثيرونه أي تستخرجونه ، وقيل : هو الإسناد ، وقيل : هو الخط في الرمل ، وكانت العرب تتكهن به ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كان نبي من الأنبياء يخط في الرمل فمن وافق خطه فذاك (١) (وَمَنْ أَضَلُ) الآية. معناها لا أحد أضل ممن يدعو إلها لا يستجيب له ، وهي الأصنام فإنها لا تسمع ولا تعقل ، ولذلك وصفها بالغفلة عن دعائهم ، لأنها لا تسمعه (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) أي كان الأصنام أعداء للذين عبدوها (وَكانُوا) (بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) الضمير في كانوا للأصنام : أي تتبرأ الأصنام من الذين عبدوها ، وإنما ذكر الأصنام بضمائر مثل ضمائر العقلاء لأنه أسند إليهم ما يسند إلى العقلاء ، من الاستجابة والغفلة والعداوة (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لو افتريته لعاقبني الله على الافتراء عقوبة لا تقدرون على دفعها ، ولا تملكون شيئا من ردّها عليه ، فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب الله (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) أي بما تتكلمون به ، يقال : أفاض الرجل في الحديث إذا خاض فيه واستمر (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ومعاوية بن الحكم السلمي ج ٥ ص ٤٤٧.

٢٧٤

البدع والبديع من الأشياء : ما لم ير مثله أي ما كنت أول رسول ، ولا جئت بأمر لم يجيء به أحد قبلي ، بل جئت بما جاء به ناس كثيرون قبلي ، فلأي شيء تنكرون ذلك (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) فيها أربعة أقوال : الأوّل أنها في أمر الآخرة وكان ذلك قبل أن يعلم أنه في الجنة ، وقبل أن يعلم أن المؤمنين في الجنة وأن الكفار في النار ، وهذا بعيد ، لأنه لم يزل يعلم ذلك من أول ما بعثه الله والثاني أنها في أمر الدنيا : أي لا أدري بما يقضي الله عليّ وعليكم ، فإن مقادير الله مغيبة وهذا هو الأظهر. الثالث ما أدري ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما تلزمه الشريعة. الرابع أن هذا كان في الهجرة إذ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض بها نخل ، فقلق المسلمون لتأخير ذلك فنزلت هذه الآية (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ) معنى الآية : أرأيتم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ثم حذف قوله ألستم ظالمين وهو الجواب ، لأنه دل على أن الله لا يهدي القوم الظالمين (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ) هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها ، فالمعنى : أرأيتم إن اجتمع كون القرآن من عند الله ، مع شهادة شاهد من بني إسرائيل على مثله ، ثم آمن به هذا الشاهد وكفرتم أنتم ، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ واختلف في الشاهد المذكور على ثلاثة أقوال : أحدها أنه عبد الله بن سلام ، فقيل على هذا إن الآية مدنية ، لأنه إنما أسلم بالمدينة ، وقيل إنها مكية وأخبر بشهادته قبل وقوعها ثم وقعت على حسب ما أخبر ، وكان عبد الله بن سلام يقول فيّ نزلت الآية ، الثاني أنه رجل من بني إسرائيل كان بمكة : الثالث أنه موسى عليه‌السلام ورجّح ذلك الطبري. والضمير في مثله للقرآن أي يشهد على مثله فيما جاء به من التوحيد والوعد والوعيد ، والضمير في آمن للشاهد فإن كان عبد الله بن سلام أو الرجل الآخر فإيمانه بيّن ، وإن كان موسى عليه‌السلام ، فإيمانه هو تصديقه بأمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبشيره به.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) أي لو كان الإسلام خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء ، والقائلون لهذه المقالة هم أكابر قريش لما أسلم الضعفاء ؛ كبلال وعمار وصهيب وقيل بل قالها كنانة وقبائل من العرب لما أسلمت غفار ومزينة وجهينة ، وقيل : بل قالها اليهود لما أسلم عبد الله بن سلام ، والأول أرجح لأن الآية مكية ، وكانت مقالة قريش بمكة. وأما مقالة الآخرين فإنما كانت بعد الهجرة ، ومعنى الذين آمنوا من أجل الذين آمنوا : أي قالوا ذلك عنهم في غيبتهم ، وليس المعنى أنهم خاطبوهم بهذا الكلام ، لأنه لو كان خطابا لقالوا ما سبقتمونا (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي لما لم يهتدوا قالوا هذا إفك قديم ونحو هذا ما جاء في المثل : من جهل شيئا عاداه ، ووصفه

٢٧٥

بالقدم لأنه قد قيل قديما ، فإن قيل : كيف تعمل فسيقولون في إذ وهي للماضي والعامل مستقبل؟ فالجواب : أن العامل في إذ محذوف تقديره إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون ، قال ذلك الزمخشري ، ويظهر لي أن إذ هنا بمعنى التعليل لا ظرفية بمعنى الماضي فلا يلزم السؤال ، والمعنى أنهم قالوا : هذا إفك بسبب أنهم لم يهتدوا به ، وقد جاءت إذ بمعنى التعليل في القرآن وفي كلام العرب ، ومنه (وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ) [الزخرف : ٣٩] أي بسبب ظلمكم (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) الضمير في قبله للقرآن وكتاب موسى هو التوراة ، وإماما حال ، ومعناه : يقتدى به (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا) (١) الإشارة بهذا إلى القرآن ، ومعنى مصدق مصدق بما قبله من الكتب ، وقد ذكرنا ذلك في البقرة [٨٩] ولسان حال من الضمير في مصدق ، وقيل : مفعول بمصدق أي صدق ذا لسان عربي وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار هذا ابن عطية (اسْتَقامُوا) ذكر في حم [السجدة :

٣٠] (إِحْساناً) (٢) ذكر في العنكبوت [٨].

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) أي حملته بمشقة ووضعته بمشقة ، ويقال كره بفتح الكاف وضمها بمعنى واحد (٣) (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) أي مدة حمله ورضاعه ثلاثون شهرا ، وهذا لا يكون إلا بأن ينقص من أحد الطرفين ، وذلك إما أن يكون مدة الحمل ستة أشهر ومدة الرضاع حولين كاملين ، أو تكون مدة الحمل تسعة أشهر ومدة الرضاع حولين غير ثلاثة أشهر ، ومن هذا أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه والعلماء أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وإنما عبّر عن مدة الرضاع بالفصال وهو الفطام لأنه منتهى الرضاع (بَلَغَ أَشُدَّهُ) ذكر في يوسف [٢٢] (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) هذا حدّ كمال العقل والقوة ، ويقال : إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقيل : إنها عامة (فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) (٤) أي في جملة

__________________

(١). بقية الآية : لتنذر الذي ظلموا هكذا قرأها نافع وابن عامر بالتاء ، والباقون : لينذر بالياء.

(٢). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : إحسانا وقرأ الباقون : حسنا.

(٣). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : كرها بفتح الكاف وقرأ الباقون : كرها بضمها.

(٤). الآية [١٦] قوله سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ)... (وَنَتَجاوَزُ عَنْ). هكذا قرأها حمزة والكسائي وحفص وقرأها الباقون أولئك الذين يتقبل... ويتجاوز عن بالياء.

٢٧٦

أصحاب الجنة كما تقول : رأيت فلانا في الناس ، أي مع الناس.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما) هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق لوالديه ، ويدل على أنها عامة قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بصيغة الجمع ، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه القول ، وقد ذكرنا معنى أف في الإسراء [٢٣] (أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) أي أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث (وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) أي وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد (وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) الضمير لوالديه أي يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول منهما ثم يقولان له : ويلك ثم يأمرانه بالإيمان : فيقول : ما هذا إلا أساطير الأولين : أي قد سطره الأولون في كتبهم ، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) (١) أي للمحسنين والمسيئين درجات في الآخرة بسبب أعمالهم ، فدرجات أهل الجنة إلى علو ، ودرجات أهل النار إلى سفل ، وليوفيهم تعليل بفعل محذوف وبه يتعلق تقديره : جعل جزاءهم درجات ليوفيهم أعمالهم (وَيَوْمَ يُعْرَضُ) العامل فيه محذوف تقديره اذكر (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ) تقديره يقال لهم : أذهبتم طيباتكم ؛ والطيبات هنا الملاذ من المآكل وغيرها ؛ وقرأ أكثر القراء أذهبتم بهمزة واحدة على الخبر ، وابن عامر بهمزتين على التوبيخ ، والآية في الكفار بدليل قوله : يعرض الذين كفروا وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين ، ولذلك قال عمر لجابر بن عبد الله وقد رآه اشترى لحما أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية (عَذابَ الْهُونِ) أي العذاب الذي يقترن به هوان.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) يعني هودا عليه‌السلام (بِالْأَحْقافِ) جمع حقف وهو الكدس من الرمل ، واختلف أين كانت فقيل بالشام ، وقيل : بين عمان ومهرة وقيل : بين عمان وحضرموت ، والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) أي تقدمت من قبله ومن بعده ، والنذر جمع نذير ، فإن قيل : كيف يتصور تقدمها من بعده؟ فالجواب أن هذه الجملة اعتراض ، وهي إخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلا متقدمين قبل هود وبعده ،

__________________

(١). قوله : وليوفيهم أعمالهم : قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم. وقرأها الباقون : لنوفيهم بالنون.

٢٧٧

وقيل : معنى من خلفه في زمانه (قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي قل : إن العذاب الذي قلتم ائتنا به ليس لي علم متى يكون ، وإنما يعلمه الله ، وما عليّ إلا أن أبلغكم ما أرسلت به (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) العارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء ، والضمير في رأوه يعود على ما تعدنا أو على المرئي المبهم الذي فسره قوله عارضا قال الزمخشري : وهذا أعرب وأفصح ، وروي أنهم كانوا قد قحطوا مدّة ، فلما رأوا هذا العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به فقال لهم هود عليه‌السلام : بل هو ما استعجلتم به من العذاب وقوله : ريح بدل من ما استعجلتم أو خبر ابتداء مضمر (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها) (١) عموم يراد به الخصوص (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) هذا خطاب لقريش على وجه التهديد أي مكنا عادا فيما لم نمكنكم فيه من القوة والأموال وغير ذلك ، ثم أهلكنا لما كفروا وإن هنا نافية بمعنى ما ، وعدل عن ما كراهية لاجتماعها مع التي قبلها ، وقيل : إن شرطية ، وجوابها محذوف تقديره : إن مكنّاكم فيه طغيتم ، قال ابن عطية : وهذا تنطع في التأويل (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) يعني بلاد عاد وثمود وسبأ وغيرها ، والمراد إهلاك أهلها (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ) الآية عرض معناه النفي أي لم تنصرهم آلهتهم التي عبدوا من دون الله (قُرْباناً) أي تقربوا بهم إلى الله وقالوا هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وانتصاب قربانا على الحال ، ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا لاتخذوا وآلهة بدل منه لفساد المعنى ، قاله الزمخشري ، وقد أجازه ابن عطية (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي تلفوا لهم (٢) وغابوا عن نصرهم حين احتاجوا إليهم.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي أملناهم نحوك ، والنفر دون العشرة ، وروي أن الجن كانوا سبعة وكانوا كلهم ذكرانا ، لأن النفر الرجال دون النساء ، وكانوا من أهل نصيبين ، وقيل من أهل الجزيرة (٣) ، واختلف هل رآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قيل : إنه لم يرهم ، ولم

__________________

(١). قوله فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. هكذا قرأها عاصم وحمزة وقرأها الباقون : لا ترى إلا مساكنهم.

(٢). كذا في المطبوعة ولعل ثمة خطأ وصحته : خذلوهم. أو ما أشبه والله أعلم.

(٣). هي الجزيرة الفراتية وتقع في الزاوية الشرقية الشمالية من بلاد الشام على الحدود التركية الحالية.

٢٧٨

يعلم باستماعهم حتى أعلمه الله بذلك ، وقيل : بل علم بهم واستعد لهم واجتمع معهم ، وقد ورد في ذلك عن عبد الله بن مسعود أحاديث مضطربة ، وسبب استماع الجن أنهم لما طردوا من استراق السمع من السماء برجم النجوم قالوا : ما هذا إلا لأمر حدث ، فطافوا بالأرض ينظرون ما أوجب ذلك ، حتى سمعوا قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاة الفجر في سوق عكاظ ، فاستمعوا إليه وآمنوا به (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) في هذا دلالة على أنهم كانوا على دين اليهود ، وقيل : كانوا لم يعلموا ببعث عيسى (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ذكر في البقرة [٨٩] (داعِيَ اللهِ) هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) من هنا للتبعيض على الأصح ، أي يغفر لكم الذنوب التي فعلتم قبل الإسلام ، وأما التي بعد الإسلام فهي في مشيئة الله ، وقيل : معنى التبعيض أن المظالم لا تغفر وقيل : إن من زائدة (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي من النار ، واختلف الناس هل للجن ثواب زائد على النجاة من النار ، أم ليس لهم ثواب إلا النجاة خاصة (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) الآية : يحتمل أن يكون من كلام الجن ، أو من كلام الله تعالى ، ومعنى ليس بمعجز أي لا يفوت (أَوَلَمْ يَرَوْا) الآية : احتجاج على بعث الأجساد بخلق السموات والأرض (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرفه ، فالمعنى أنه تعالى علم كيف خلق السموات والأرض ، وأحكم خلقتها ، فلا شك أنه قادر على إحياء الموتى (بِقادِرٍ) في موضع رفع لأنه خبر أن ، وإنما دخلت الباء لاشتمال النفي في أول الآية على أن وخبرها (بَلى) جواب لما تقدم ، أي هو قادر على أن يحي الموتى (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أي اصبر على تكذيب قومك وأولوا العزم هم ، نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ، وقيل : هم الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام لقوله : فبهداهم اقتده ، وقيل : كل من لقي من أمته شدة ، وقيل : الرسل كلهم أولوا عزم ، فمن الرسل على هذا لبيان الجنس وعلى الأقوال المتقدمة للتبعيض (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي لا تستعجل نزول العذاب بهم ، فإنهم صائرون إليه فإنهم إذا هلكوا كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار لاستقصار أعمارهم (بَلاغٌ) خبر ابتداء مضمر تقديره : هذا الذي وعظتم به بلاغ بمعنى : كفاية في الموعظة ، أو بلاغ من الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي بلغ هذه المواعظ والبراهين.

٢٧٩

سورة محمد

مدنية الآية ١٣ فنزلتفي الطريق أثناء الهجرة وآياتها ٣٨ نزلت بعد الهجرة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وتسمى سورة القتال] (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني كفار قريش ، وعموم اللفظ يعم كل كافر ، كما أن قوله بعد هذا : والذين آمنوا يعني الصحابة ، وعموم اللفظ يصلح لكل مؤمن (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يحتمل أن يكون صدّوا بمعنى : أعرضوا فيكون غير متعد أو يكون بمعنى صدوا الناس فيكون متعديا ، وسبيل الله : الإسلام والطاعة (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها وأحبطها ، وقيل : المراد بأعمالهم هنا ما أنفقوا في غزوة بدر ؛ فإن هذه الآية نزلت بعد بدر ، واللفظ أعم من ذلك (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) هذا تجريد للاختصاص والاعتناء ، بعد عموم قوله : آمنوا وعملوا الصالحات ولذلك أكده بالجملة الاعتراضية ، وهو قوله : وهو الحق من ربهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) قيل : معناه أصلح حالهم وشأنهم ، وحقيقة البال الخاطر الذي في القلب ، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله ، فالمعنى : إصلاح دينهم بالإيمان والإخلاص والتقوى.

(فَضَرْبَ الرِّقابِ) أصله فاضربوا الرقاب ضربا ، ثم حذف الفعل وأقام المصدر مقامه ، والمراد ، اقتلوهم. ولكن عبّر عنه بضرب الرقاب ، لأنه الغالب في صفة القتل (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي هزمتموهم ، والإثخان أن يكثر فيهم القتل والأسر (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) عبارة عن الأسر (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) المن : العتق ، والفداء : فك الأسير بمال ، وهما جائزان. فإن مذهب مالك أن الإمام مخيّر في الأسارى بين خمسة أشياء : وهي : المن والفداء والقتل والاسترقاق وضرب الجزية. وقيل : لا يجوز المنّ ولا الفداء لأن الآية منسوخة بقوله : اقتلوا المشركين فلا يجوز على هذا إلا قتلهم. والصحيح أنها محكمة وانتصب منّا وفداء على المصدرية ، والعامل فيهما فعلان مضمران (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) الأوزار في اللغة :

٢٨٠