التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

من الهدايا ، فعبر عن هذا المعنى بلفظ : ينال مبالغة وتأكيدا ، لأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله ، وإنما تصل بالتقوى منكم ، فإن ذلك هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل لكم الثواب ، وقيل : كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) كرر للتأكيد (لِتُكَبِّرُوا اللهَ) قيل : يعني قول الذابح : بسم الله والله أكبر ، واللفظ أعم من ذلك.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة ، فوعدهم الله أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم ، وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم «وقرئ يدافع بالألف ، ويدفع بسكون الدال من غير الألف (١) ، وهما بمعنى واحد ، أجريت فاعل مجرى فعل من قولك عاقبة الأمر ، وقال الزمخشري : يدافع : معناه يبالغ في الدفع عنهم ، لأنه للمبالغة ، وفعل المغالبة أقوى (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) الخوّان مبالغة في خائن ، والكفور مبالغة في كافر ، قال الزمخشري : هذه الآية علة لما قبلها (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال ، ونسخت الموادعة مع الكفار ، وكان نزولها عند الهجرة ، وقرئ أذن (٢) بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله ، وبالفتح على البناء للفاعل وهو الله تعالى ، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه ، وقرئ يقاتلون بفتح التاء (٣) وكسرها (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) أي بسبب أنهم ظلموا (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) يعني الصحابة ، فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة ، فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ، ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار ؛ لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب ووصفهم بالظلم (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه ، وقال الزمخشري : أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه ، كأنه يقول لو لا القتال والجهاد لاستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين ، وقيل : المعنى ؛ لو لا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة ، والأول أليق بسياق الآية ، وقرأ نافع : دفاع بالألف مصدر دافع ، والباقون بغير ألف مصدر دفع (لَهُدِّمَتْ) قرأ نافع وابن كثير بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة (صَوامِعُ) جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : يدفع بدون ألف وقرأ الباقون بالألف : يدافع.

(٢). قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم بالضم وقرأ الباقون بالفتح.

(٣). قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء والباقون بكسرها.

٤١

العبادة ، وكانت للصابئين ولرهبان النصارى ، ثم سمى بها في الإسلام موضع الأذان ، والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى ، والصلوات كنائس اليهود ، وقيل : هي مشتركة لكل أمة ، والمراد بها مواضع الصلوات ، والمساجد للمسلمين ، فالمعنى : لو لا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم ، ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ) الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات ، وقيل : للمساجد خاصة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي من ينصر دينه وأولياءه ، وهو وعد تضمن الحض على القتال (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) الآية ؛ قيل : يعني أمة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : الصحابة ، وقيل : الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) الآية ضمير الفاعل لقريش ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم (نَكِيرِ) مصدر بمعنى الإنكار (عَلى عُرُوشِها) العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية : فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها ، وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال : فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها (بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) أي لا يستقى الماء منها لهلاك أهلها ، وروي أن هذه البئر هي الرس ، وكانت بعدن لأمة من بقايا ثمود ، والأظهر أنه لم يرد التعيين ، لقوله : «كأين من قرية» وهذا اللفظ يراد به التكثير (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي مبنى بالشيد وهو الجص ، وقيل : المشيد المرفوع البنيان (قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ) دليل على أن العقل في القلب ، خلافا للفلاسفة في قولهم : العقل في الدماغ (١) (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به ، وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب ، وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم ، فالمعنى الأول لقصد المبالغة ، والثاني خاص بهؤلاء القوم (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) مبالغة كقوله : يقولون بأفواههم.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) الضمير لكفار قريش (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب ، وسماه وعدا ؛ لأن المراد به مفهوم (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)

__________________

(١). القلب هو مركز العواطف وأما الدماغ فمركز الإدارة العامة لجميع وظائف الأعضاء.

٤٢

المعنى أن يوما من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا ، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف (١) يوم. وذلك خمسمائة سنة ، وقيل : المعنى إن يوما واحدا من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب ، فإن أيام البؤس طويلة ، وإن كانت في الحقيقة قصيرة ، وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب ، إلا أن الأول أرجح ، لأن الألف سنة فيه حقيقة ، وقيل : إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) ذكر أولا القرى التي أهلكها بغير إملاء ، وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء ، والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد ، وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو ، وقال في الأولى فكأين لأنه بدل من قوله : فكيف كان نكير (سَعَوْا فِي آياتِنا) أي سعوا فيها بالطعن عليها ، وهو من قولك : سعى في الأمر إذا جد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده (مُعاجِزِينَ) بالألف : أي مغالبين ، لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات ، والآيات تقتضي عجزهم ، فصارت مفاعلة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد [معجّزين] من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) النبيّ أعم من الرسول ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولا ، فقدم الرسول لمناسبة لقوله أرسلنا وأخر النبي لتحصيل العموم ، لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبيا غير رسول (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) سبب هذه الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا : محمد يذكر آلهتنا بما نريد.

واختلف في كيفية إلقاء الشيطان ، فقيل : إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك ، وظن الناس أن النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم هو المتكلم به ؛ لأنه قرّب صوته من صوت النبيّ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، حتى التبس الأمر على المشركين ، وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو ؛ لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه ، حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد ، والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة ، والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله تعالى

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٥١٣.

٤٣

عليه وعلى آله وسلم معصوم في التبليغ ، فمعنى الآية : أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان ، واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل : تمنى بمعنى تلا ، والأمنية : التلاوة : أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته ، وقيل : هو من التمني بمعنى حب الشيء ، وهذا المعنى أشهر في اللفظ : أي تمنى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقاربة قومه واستئلافهم ، وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي يبطله كقولك : نسخت الشمس الظل

(لِيَجْعَلَ) متعلق بقوله ينسخ ويحكم (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي أهل الشك (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) المكذبون ، وقيل : الذين في قلوبهم مرض عامة الكفار ، والقاسية قلوبهم أشدّ كفرا وعتّوا كأبي جهل (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يعني بالظالمين المذكورين قبل ، ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر ، ليقضي عليهم بالظلم ، والشقاق : العداوة ، ووصفه ببعيد ، لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) قيل : يعني الصحابة ، واللفظ أعم من ذلك.

(أَنَّهُ الْحَقُ) الضمير عائد على القرآن ، وقال الزمخشري : هو لتمكين الشيطان من الإلقاء (فَتُخْبِتَ) أي تخشع (فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) الضمير للقرآن ، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أو للإلقاء (يَوْمٍ عَقِيمٍ) يعني يوم بدر ، ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم ، لأنهم يقتلون فيه ، وقيل : هو يوم القيامة ، والساعة مقدّماته ، ويقوي ذلك قوله : الملك يومئذ لله ، ثم قسم الناس إلى قسمين : أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم (قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) روى أن قوما قالوا : يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات ، فما لمن مات معك؟ فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معا ، ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت (رِزْقاً حَسَناً) يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة ، أو رزق الشهداء في البرزخ ، والأول أرجح ، لأنه يعم الشهداء والموتى (مُدْخَلاً) يعني الجنة (ذلِكَ) تقديره هنا : الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر.

(وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوّزا كما تسمى العقوبة أيضا باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إن قيل

٤٤

ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة ، فكأنه حض على العفو ، والثاني أن في ذكرهما إعلاما بعفو الله عن المعاقب حين عاقب ، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ) أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر ، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا ، ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا ، وقيل : الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو بسبب أنه الحق (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) تصبح هنا بمعنى تصير ، وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر ، فقال : لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة ، والبلاد الحارة ، وأما على معنى تصير ، فذلك عام في كل بلد ، والفاء للعطف ، وليست بجواب ، ولو كانت جوابا لقوله : ألم تر لنصبت الفعل ، وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود ، وإنما قال تصبح بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة (سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك (أَنْ تَقَعَ) في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع ، وقال الزمخشري : كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله (إِلَّا بِإِذْنِهِ) يحتمل أن يريد يوم القيامة ، فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء (أَحْياكُمْ) أي أوجدكم بعد العدم ، وعبّر عن ذلك بالحياة ؛ لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح ، ثم أحياه بنفخ الروح (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) يعني الموت المعروف (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) يعني البعث (لَكَفُورٌ) أي جحود للنعمة (مَنْسَكاً) هو اسم مصدر لقوله : ناسكوه ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه (فَلا يُنازِعُنَّكَ) ضمير الفاعل للكفار ، والمعنى : أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه ، فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي ، وقيل : إن المعنى لا تنازعهم فينازعوك ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، ويحتمل أن يكون نهيا لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ (فِي الْأَمْرِ) أي في الدين والشريعة أو في الذبائح (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي ادع الناس إلى عبادة ربك.

٤٥

(وَإِنْ جادَلُوكَ) الآية : تقتضي موادعة منسوخة بالقتال (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) يعني اللوح المحفوظ ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب ، أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يعني الأصنام ؛ والسلطان هنا : الحجة والبرهان ، وما ليس لهم به علم : قيل : إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري ، فنفى أولا البرهان النظري ، ثم العلم الضروري ، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى ، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معا (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر : كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها (يَسْطُونَ) من السطوة وهي سرعة البطش (النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ) يحتمل أن تكون النار مبتدأ ، ووعدها الله خبرا أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلا قال : ما هو ، فقيل : هو النار ، ويكون وعدها الله استئنافا وهذا أظهر (ضُرِبَ مَثَلٌ) أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى ، والمعنى : أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره ، فكيف تعبد من دون الله الذي خلق كل شيء ، ثم أوضح عجزهم بقوله (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) بيان أيضا لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئا لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه ، وقد قيل : إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب ، لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها. وقيل : الطالب الكفار والمطلوب الأصنام. لأن الكفار يطلبون الخير منهم.

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق تعظيمه (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) في

٤٦

هذه الآية سجدة عند الشافعي وغيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافا للمالكية (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) عموم في العبادة بعد ذكر الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود ، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قيل : المراد صلة الرحم ، وقال ابن عطية : هي في الندب فيما عدا الواجبات ، واللفظ أعم من ذلك كله (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) يحتمل أن يريد جهاد الكفار ، أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى ، أو العموم في ذلك (حَقَّ جِهادِهِ) قيل : إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله : ما استطعتم وفي ذلك نظر ، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله (اجْتَباكُمْ) أي اختاركم من بين الأمم (مِنْ حَرَجٍ) أي مشقة ، وأصل الحرج الضيق (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) انتصب ملة بفعل مضمر تقديره : أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كملة ، وقال الزمخشري : انتصب بمضمون ما تقدم : كأنه قال : وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ، ثم خذف المضاف ، فإن قيل : لم يكن إبراهيم أبا للمسلمين كلهم ، فالجواب : أنه كان أبا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أبا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده ، ولذلك قرئ (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] ، وهو أب لهم ، وأيضا فإن قريشا وأكثر العرب من ذرية إبراهيم ، وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم (هُوَ سَمَّاكُمُ) الضمير لله تعالى ، ومعنى من قبل في الكتب المتقدمة. وفي هذا أي في القرآن ، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، ومعنى من قبل على هذا : من قبل وجودكم ، وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله «وفي هذا» مستأنفا : أي وفي هذا البلاغ ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفا ، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب : الله سماكم المسلمين (شَهِيداً عَلَيْكُمْ) تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة (هُوَ مَوْلاكُمْ) معناه هنا : وليكم وناصركم ؛ بدلالة ما بعد ذلك.

٤٧

سورة المؤمنون

مكية وآياتها ١١٨ نزلت بعد الأنبياء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة المؤمنون

(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة المولى جل جلاله ، ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع ، وقد عدّ بعض الفقهاء [الأوزاعي] الخشوع في فرائض الصلاة ، لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها ، وقد جاء في الحديث : لا يكتب للعبد في صلاته إلا ما عقل منها (١) ، والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب ، فقد يحضر القلب ولا يخشع (عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) اللغو هنا : الساقط من الكلام كالسب واللهو ، والكلام بما لا يعني ، وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعا ، ومعنى الإعراض عنه : عدم الاستماع إليه والدخول فيه ، ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى (لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) أي مؤدّون ، فإن قيل : لم قال فاعلون ولم يقل مؤدّون؟ فالجواب ؛ أن الزكاة لها معنيان أحدهما : الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال ، والآخر المقدار المخرج من المال كقولك : هذه زكاة مالي ، والمراد هنا الفعل لقوله «فاعلون» ويصح المعنى الآخر على حذف تقديره : هم لأداء الزكاة فاعلون (عَلى أَزْواجِهِمْ) هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله غير ملومين أي لا يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله حافظون على أن يكون على بمعنى عن (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) يعني النساء المملوكات ، (وَراءَ ذلِكَ) يعني ما سوى الزوجات والمملوكات (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في دينه أو العموم ، والأمانة أعم من العهد ، لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد

__________________

(١). قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء : لم أجده مرفوعا وقال : روى الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي بن كعب : لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه ج ١ / ١٥٩.

٤٨

متقدم (راعُونَ) أي حافظون لها قائمون بها (عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ) المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها ، فإن قيل : كيف كرر ذكر الصلوات أولا وآخرا؟ فالجواب : أنه ليس بتكرار ، لأنه قد ذكر أولا الخشوع فيها وذكر هنا المحافظة عليها ، فهما مختلفان ، وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة على ثبوت فعلهم لها (الْوارِثُونَ) أي المستحقون للجنة ، فالميراث استعارة ، وقيل : إن الله جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار ، فيرث المؤمنون مساكن الكفار في الجنة (الْفِرْدَوْسَ) مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، وأعاد الضمير عليها مؤنثا على معنى الجنة.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) اختلف هل يعني آدم ، أو جنس بني آدم (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) السلالة : هي ما يسل من الشيء : أي ما يستخرج منه ، ولذلك قيل إنها الخلاصة ، والمراد بها هنا : القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم ، فإن أراد بالإنسان آدم :

فالمعنى أنه خلق من تلك السلالة المأخوذة من الطين ، ولكن قوله بعد هذا (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) لا بدّ أن يراد به بنو آدم ، فيكون الضمير يعود على غير من ذكر أولا ، ولكن يفسره سياق الكلام ، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود الضمير عليه ، ويكون معنى خلقه من سلالة من طين : أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته ، فأجمل ذكر الإنسان أولا ثم فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم : وهي من طين ، وإلى الخلقة المختصة بذريته. وهي النطفة ، فإن قيل : ما الفرق بين من ومن؟ فالجواب على ما قال الزمخشري : أن الأولى للابتداء ، والثانية للبيان. كقوله من الأوثان (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني رحم الأمّ ، ومعنى مكين : متمكن وذلك في الحقيقة من صفة النطفة المستقرّة ، لا من صفة المحل المستقرّ فيه ، ولكنه كقولك طريق سائر : أي يسير الناس فيه ، وقد تقدّم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج (خَلْقاً آخَرَ) قيل : هو نفخ الروح فيه ، وقيل : خروجه إلى الدنيا ، وقيل : استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته (فَتَبارَكَ اللهُ) هو مشتق من البركة ، وقيل : معناه تقدس (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أي أحسن الخالقين خلقا ، فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه ، وفسر بعضهم الخالقين بالمقدّرين ، فرارا من وصف المخلوق بأنه خالق ، ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله : «وإذ تخلق من الطين» وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع ، والإيجاد من العدم ، فهذا هو الذي انفرد الله به (سَبْعَ طَرائِقَ) يعني السموات ، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل ، وقيل : يعني السموات ، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل ، وقيل : يعني الأفلاك لأنها

٤٩

طرق للكواكب (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين ، أو المصدر (ماءً بِقَدَرٍ) يعني المطر الذي ينزل من السماء ، فتكون منه العيون والأنهار في الأرض ، وقيل : يعني أربعة أنهار وهي النيل ، والفرات ، ودجلة ، وسيحان ، ولا دليل على هذا التخصيص ، ومعنى بقدر : بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) (١) يعني الزيتون ، وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر : لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع ، وطور سيناء : جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل أضافه إليه كقوله : جبل أحد ، وقرأ الباقون : بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم ، وقرئ بالكسر ، ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف ، لأن فعلاء بالكسر لا تكون ألفه للتأنيث ، وقيل : معناه مبارك ، وقيل ذو شجرة ، ويلزم على ذلك صرفه (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) يعني الزيت ، وقرئ تنبت بفتح التاء ، فالمجرور على هذا في موضع الحال. كقولك جاء زيد بسلاحه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تنبت بضم التاء وكسر الباء ، وفيه ثلاثة أوجه : الأول أن أنبت بمعنى نبت ، والثاني حذف المفعول تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) الصبغ الغمس في الإدام (فِي الْأَنْعامِ) هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل ، لقوله : وعليها وعلى الفلك تحملون وقد تقدم في [النحل : ٨٠] ذكر المنافع التي فيها وتذكيرها وتأنيثها.

(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ) استبعدوا أن تكون النبوّة لبشر ؛ فيا عجبا منهم إذ أثبتوا الربوبية لحجر! (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ) أي يطلب الفضل والرياسة عليكم (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله ، أو بمثل الكلام الذي قال لهم ، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة (بِهِ جِنَّةٌ) أي جنون. فانظر اختلاف قولهم فيه : فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة ، وتارة إلى الجنون (حَتَّى حِينٍ) أي إلى وقت لم يعينوه ، ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على قولهم ، أو وقت موته (انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) تضمن هذا دعاء عليهم ، لأن نصرته إنما هي

__________________

(١). سيناء بكسر السين وهي قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو.

٥٠

بإهلاكهم وقد تقدم في [هود : ٣٧] تفسير بأعيننا ووحينا ، وفار التنور ، ولا تخاطبني (فَاسْلُكْ فِيها) أي أدخل فيها ، وقد تقدم تفسير زوجين اثنين (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) إن مخففة من الثقيلة ، ومبتلين : اسم فاعل من ابتلى ، ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار ، أو إنزال البلاء (قَرْناً آخَرِينَ) قيل : إنهم عاد ورسولهم هود ، لأنهم الذين يلون قوم نوح ، وقيل : إنهم ثمود ورسولهم صالح ، وهذا أصح لقوله : فأخذتهم الصيحة ، وثمود هم الذين أهلكوا بالصيحة ، وأما عاد فأهلكوا بالريح (مِنْ قَوْمِهِ) قدم هذا المجرور على قوله الذين كفروا لئلا يوهم أنه متصل بقوله الحياة الدنيا بخلاف قوله : قال الملأ الذين كفروا من قومه في غير هذا الموضع (أَتْرَفْناهُمْ) أي نعمناهم (بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبيّ من البشر ، أو قالوه أنفة من اتباع بشر مثلهم ، وكذلك قال قوم نوح (أَيَعِدُكُمْ) استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) كرر أن تأكيدا للأولى ؛ ومخرجون خبر عن الأولى.

(هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) هذا من حكاية كلامهم ، وهيهات : اسم فعل بمعنى بعد ، وقال الغزنوي : هي للتأسف والتأوّه ، ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان ، وتارة يجيء فاعله دون لام كقوله : «فهيهات هيهات العقيق وأهله» ، وتارة يجيء باللام كهذه الآية ، قال الزجاج في تفسيره : البعد لما توعدون ، فنزّله منزلة المصدر ، قال الزمخشري : وفيه وجه آخر : وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك لبيان المهيت به (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فوضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها (نَمُوتُ وَنَحْيا) أي يموت بعض ويولد بعض ، فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم : إنكار البعث (عَمَّا قَلِيلٍ) ما زائدة ، وقيل صفة للزمان والتقدير : عن زمان قليل يندمون (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) يعني هالكين كالغثاء ، والغثاء ما يحمله السيل من الورق وغيره مما يبلى ويسود ، فشبه به الهالكين (فَبُعْداً) مصدر وضع موضع الفعل بمعنى بعدوا : أي هلكوا ، والعامل فيه مضمر لا يظهر

٥١

(تَتْرا) مصدر ووزنه فعلى ، ومعناه التواتر والتتابع ، وهو موضوع موضع الحال : أي متواترين واحدا بعد واحد ، فمن قرأه بالتنوين (١) : فألفه للإلحاق ، ومن قرأه بغير تنوين : فألفه للتأنيث فلم ينصرف ، وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي يتحدث الناس بما جرى عليهم ، ويحتمل أن يكون جمع حديث أو جمع أحدوثة ، وهذا أليق لأنها تقال في الشر (قَوْماً عالِينَ) أي متكبرين (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي حامدون متذللون (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون ، لأنهم هلكوا قبل إنزال التوراة (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) الربوة : الموضع المرتفع من الأرض ، ويجوز فيها فتح الراء وضمها وكسرها ، واختلف في موضع هذه الربوة ، فقيل : بيت المقدس ، وقيل : بغوطة دمشق ، وقيل : بفلسطين (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) القرار : المستوي من الأرض ؛ فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها الحرث والغراسة ، وقيل : إن القرار هنا الثمار والحبوب ، والمعين الماء الجاري ، فقيل : إنه مشتق من قولك : معن الماء إذا كثر ، فالميم على هذا أصلية ، ووزنه فعيل ، وقيل : إنه مشتق من العين ، فالميم زائدة ، ووزنه مفعول.

(يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) هذا النداء ليس على ظاهره ، لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة ، وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك ، وقيل : الخطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) أي من الحلال ، فالأمر على هذا للوجوب ، أو من المستلذات فالأمر للإباحة (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) قرئ إن بالكسر على الاستئناف وهي قراءة أهل الكوفة وبالفتح (٢) على معنى لأن ، وهي متعلقة بقوله آخرا «فاتقون» وقيل : تتعلق بفعل مضمر تقديره : واعلموا ، والأمة هنا الدين ، وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي افترقوا واختلفوا ، والضمير لأمم الرسل المذكورين من اليهود والنصارى وغيرهم (زُبُراً) جمع زبور : وهو الكتاب ، والمعنى أنهم افترقوا في اتباع الكتب ، فاتبعت طائفة التوراة ، وطائفة الإنجيل ،

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتنوين ، والباقون بدون تنوين.

(٢). قرأ بالفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو.

٥٢

وغير ذلك ، ووضعوا كتابا من عند أنفسهم (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) الضمير لقريش ، والغمرة الجهل والضلال ، وأصلها من غمرة الماء (حَتَّى حِينٍ) هنا يوم بدر أو يوم موتهم.

(أَيَحْسَبُونَ) الآية : ردّ عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم (نُسارِعُ لَهُمْ) هذا خبر أن ، والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم ، ففيه معنى التهديد.

(يُؤْتُونَ ما آتَوْا) قيل : معناه يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات وقيل : إنه عام في جميع أفعال البرّ أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم ، وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنها قرأت : يؤتون ما أتوا بالقصر ، فيحتمل أن يكون الحديث تفسيرا لهذه القراءة ، وقيل : إنه عام في الحسنات والسيئات : أي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) أن في موضع المفعول من أجله ، أو في موضع المفعول بوجلت ، إذ هي في معنى خائفة (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) فيه معنيان : أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات ، والآخر أنهم يتعجلون ثواب الخيرات ، وهذا مطابق للآية المتقدّمة ، لأنه أثبت فيهم ما نفى عن الكفار من المسارعة (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات ، وقيل : معناه سبقت لهم السعادة في الأزل (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع والطاقة ، وقد تقدّم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة (وَلَدَيْنا كِتابٌ) يعني صحائف الأعمال ، ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم والحيف (فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي في غفلة من الدين بجملته ومن القرآن ، وقيل : من الكتاب المذكور ، وقيل : من الأعمال التي وصف بها المؤمنون (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها ، فالمعنى أنهم يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال ، والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة ، وإنما أشار إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر ، وقيل : الإشارة إلى قوله من هذا : أي لهم أعمال سيئة غير المشار إليه حسبما اختلف فيه (هُمْ لَها عامِلُونَ) قيل : هي إخبار عن أعمالهم في الحال ، وقيل : عن الاستقبال ، وقيل : المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل. «حتى إذا أخذنا مترفيهم» غاية لقوله عاملون (مُتْرَفِيهِمْ) أي أغنياؤهم وكبراؤهم (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد بالعذاب قتل المترفين يوم

٥٣

بدر : فالضمير في يجأرون لسائر قريش : أي صاحوا وناحوا على القتلى ، وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة : فالضمير لجميعهم (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) تقديره : يقال لهم يوم العذاب : لا تجأروا ويحتمل أن يكون هذا القول حقيقة ، وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي ، ومعناه : أن الجؤار لا ينفعهم (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) قيل : إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل : إنه على الحرم وإن لم يذكر ؛ ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته ، وقيل : إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات ، والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتوّا وتكبرا ، وقيل : إنه يعود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو على هذا متعلق بسامرا (سامِراً) مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث ، وكانت قريش تجتمع بالليل في المسجد ، فيتحدّثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسامرا مفرد بمعنى الجمع ، وهو منصوب على الحال فمن جعل الضمير في به للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه (تَهْجُرُونَ) من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش من الكلام وهي قراءة نافع ، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، أو من قولك : هجر المريض إذا هذى أي : تقولون اللغو من القول.

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) يعني القرآن ، وهذا توبيخ لهم (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) معناه أن النبوّة ليست ببدع فينكرونها ، بل قد جاءت آباؤهم الأولين فقد كانت النبوة لنوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) المعنى أم لم يعرفوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويعلموا أنه أشرفهم حسبا وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلا ، فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون ، أو غير ذلك من النقائص؟ مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم ، وأنه عين الصواب (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) الاتباع هنا استعارة ، والحق هنا يراد به الصواب والأمر المستقيم ، فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواؤهم من الشرك بالله واتباع الباطل لفسدت السموات والأرض كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقيل : إن الحق في الآية هو الله تعالى ، وهذا بعيد في المعنى ، وإنما حمله عليه أن جعل الاتباع حقيقة ولم يفهم فيه الاستعارة ، وإنما الحق هنا هو المذكور في قوله ، «بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون» (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم

٥٤

أو بفخرهم وشرفهم وهذا أظهر (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) الخرج (١) هو الأجرة ويقال فيه : خراج والمعنى واحد ، وقرئ بالوجهين في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجرا فيثقل عليهم اتباعك (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي عادلون ومعرضون عن الصراط المستقيم.

(وَلَوْ رَحِمْناهُمْ) الآية : قال الأكثرون : نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها ، فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضرّ الجوع والقحط : لتمادوا على طغيانهم ، وفي هذا عندي نظر ، فإن الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش (٢) بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث ، وقيل : المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، وهذا القول لا يلزم عليه ما لزم على الآخر ، ولكنه خرج عن معنى الآية (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) قيل : إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط ، وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر ، وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر ، وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر ، والباب المتوعد به هو القحط ، وقيل : الباب ذو العذاب الشديد : عذاب الآخرة ، وهذا أرجح ، ولذلك وصفه بالشدّة لأنه أشد من عذاب الدنيا ، وقال : إذا هم فيه مبلسون : أي يائسون من الخير ، وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) [الروم : ١٢].

(فَمَا اسْتَكانُوا) أي ما تذللوا لله عزوجل ، وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر [آل عمران : ١٤٦] (وَما يَتَضَرَّعُونَ) إن قيل : هلا قال : فما استكانوا وما تضرعوا ، أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ فالجواب : أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم ، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى ، ونفى التضرع في الحال والاستقبال (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ما زائدة ، وقليلا صفة لمصدر محذوف تقديره : شكرا قليلا تشكرون ، وذكر السمع ، والبصر والأفئدة ـ وهي القلوب ـ لعظم المنافع التي فيها ، فيجب شكر خالقها ؛ ومن شكره : توحيده واتباع رسوله عليه الصلاة والسلام ، ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة (ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي نشركم فيها.

__________________

(١). خراج قرأ حمزة والكسائي : خراج مرتين وقرأ ابن عامر : خرجا بدون ألف مرتين وقرأ الباقون خرجا ثم خراجا.

(٢). انظر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح مسلم كتاب الجهاد ج ٢ / اللهم عليك بقريش ثلاث مرات.

٥٥

(وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص ، وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة ، ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث ، وإليه الإشارة بقولهم : لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا ، وقد ذكر الاستفهامان في الرعد ، وأساطير الأولين في الأنعام (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها) هذه الآيات توقيف [أي سؤال] لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها ، وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (١) قرئ في الأول لله باللام بإجماع ، جوابا لقوله : لمن الأرض ، وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث ، وذلك على المعنى لأن قوله : من رب السموات في معنى لمن هي ، وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ (مَلَكُوتُ) مصدر وفي بنائه مبالغة (يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) الإجارة المنع من الإهانة ، يقال : أجرت فلانا على فلان ، إذا منعته من مضرته وإهانته ، فالمعنى أن الله تعالى يغيث من شاء ممن شاء ، ولا يغيث أحد منه أحدا (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان ، وذلك تشبيه بالسحر في التخليط والوقوع في الباطل ، ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولا : أفلا تذكرون ، ثم قال ثانيا : أفلا تتقون ، وذلك أبلغ ، لأن فيه زيادة تخويف ، ثم قال ثالثا : فأنى تسحرون وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد ، ولذلك ردّ عليهم بنفي ذلك (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) هذا برهان على الوحدانية ، وبيانه أن يقال : لو كان مع الله إلها آخر لانفرد كل واحد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر ، واستبدّ كل واحد منهما بملكه ، وطلب غلبة الآخر والعلوّ عليه كما ترى حال ملوك الدنيا ، ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة : علمنا أن مالكه ومدبره واحد ، لا إله غيره. وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره ، بل هو دليل آخر ، فإن قيل : إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، فكيف

__________________

(١). وردت : سيقولون لله ثلاث مرات فلا خلاف في الأولى : لله وأما في الثانية والثالثة فقرأ أبو عمرو : الله. وقرأ الباقون : لله.

٥٦

دخلت هنا ولم يتقدّم قبلها شرط ولا سؤال سائل؟ فالجواب : أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله : وما كان معه من إله ، وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم (عالِمِ الْغَيْبِ) بالرفع خبر ابتداء ، وبالخفض صفة لله (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) الآية : معناه أن الله أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضى أن يرى ذلك ، وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار ، وإن شرطية وما زائدة ، وجواب الشرط فلا تجعلني ، وكرر قوله رب مبالغة في الدعاء والتضرع.

(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك ، والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ ، وإنما نسخ ما يقتضيه من مسالمة الكفار (مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) يعني نزغاته ووساوسه ، وقيل : يعني الجنون ، واللفظ أعم من ذلك (أَنْ يَحْضُرُونِ) معناه أن يكونوا معه ، وقيل : يعني حضورهم عند الموت (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) قال ابن عطية : حتى هنا حرف ابتداء : أي ليست غاية لما قبلها ، وقال الزمخشري : حتى تتعلق بيصفون : أي لا يزالون كذلك حتى يأتيهم الموت (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) يعني الرجوع إلى الدنيا ، وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم ، قال ذلك الزمخشري وغيره ، ومثله قول الشاعر :

ألا فارحمون يا آل محمد

وقيل إنه نادى ربه ثم خاطب الملائكة (فِيما تَرَكْتُ) قيل : يعني فيما تركت من المال ، وقيل : فيما تركت من الإيمان فهو كقوله : (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨] ، والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحا في الإيمان الذي تركه أول مرة (كَلَّا) ردع له عما طلب (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) يعني قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال : أحدها أن يقول هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله ، والثاني أن المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئا ، والثالث أن يكون المعنى أنه يقولها كاذبا فيها ، ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحا (وَمِنْ وَرائِهِمْ) أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في قوله جاء أحدهم (بَرْزَخٌ) يعني المدة التي بين الموت والقيامة ، وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة ؛ لاشتغال كل أحد بنفسه كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) [عبس : ٣٤] فتكون الأنساب كأنها معدومة (وَلا

٥٧

يَتَساءَلُونَ) أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل أحد بنفسه ، فإن قيل : كيف الجمع بين هذا وبين قوله (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الطور : ٢٥] فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك ، فإن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف كثيرة (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تصيبهم بالإحراق (كالِحُونَ) الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ، وكثيرا ما يجري ذلك للكلاب ، وقد يجرى للكباش إذا شويت رؤوسها ، وفي الحديث : إن شفة الكافر ترتفع في النار حتى تبلغ وسط رأسه (١) ، وفي ذلك عذاب وتشويه (غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) أي ما قدر عليهم من الشقاء ، وقرئ شقاوتنا ، والمعنى واحد (قالَ اخْسَؤُا) كلمة تستعمل في زجر الكلاب ، ففيها إهانة وإبعاد (وَلا تُكَلِّمُونِ) أي لا تكلمون في رفع العذاب ، فحينئذ ييأسون من ذلك ، أعاذنا الله من ذلك برحمته (سِخْرِيًّا) بضم السين من السخرة بمعنى التخديم ، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء ، وقد يقال هذا بالضم ، وقرئ هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين ، على أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله «وكنتم منهم تضحكون» (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) يعني في جوف الأرض أمواتا ، وقيل : أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأنهم لبثوا يوما أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب بحيث لا يعدون شيئا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي اسأل من يقدر على أن يعدّ ، وهو من عوفي مما ابتلوا به أو يعنون الملائكة (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) معناه أنه قليل بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبدا (عَبَثاً) أي باطلا ، والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) أي لا حجة ولا دليل ، والجملة صفة لقوله : إلها آخر ، وجواب الشرط (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) الضمير للأمر والشأن ، وانظر كيف افتتح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكافرين ، ليبين البون بين الفريقين والله أعلم.

__________________

(١). أورده المنذري ج ٤ ص ٢٣٩ وعزاه لأحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري.

٥٨

سورة النور

مدنية وآياتها ٦٤ نزلت بعد الحشر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة النور

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) السورة خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة ، وأنزلناها صفة للسورة ، وفرضناها : أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : [فرّضناها] بالتشديد للمبالغة (آياتٍ بَيِّناتٍ) يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال ، وقيل : معنى بينات هنا ليس فيها مشكل (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) الزانية والزاني يراد بهما الجنس ، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر ، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك ، وإعراب الزاني والزانية كإعراب : السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقد ذكر في [المائدة : ٣٨] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [النساء : ١٤] من الإمساك في البيوت ، في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه ، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين ، فيخرج منها الكفار ، فيردّون إلى أهل دينهم ، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة ، فأما العبد والأمة : فحدّهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين ، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك.

وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب ، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين ، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن ، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق ، ومنها باختلاف ، فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا : أخذا بعموم الآية ، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا ، والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية ، وبرجم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليهودي واليهودية إذا زنيا ، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى : في سورة النساء «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم» فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه. ولكن بقيت في محلها ، وأما العبد والأمة : فرأى أهل

٥٩

الظاهر أن حدّ الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) وأن حدّ العبد الجلد مائة لعموم الآية ، وقال غيرهم : يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة ، إذ لا فرق بينهما ، وأما المحصن فقال الجمهور : حدّه الرجم فهو مخصوص في هذه الآية ، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخا ، ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ ، فقيل : الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» وقيل : الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم ، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب : يجلد المحصن بالآية ، ثم يرجم بالسنة فجمعوا عليه الحدّين ، ولم يجعلوا الآية منسوخة ، ولا مخصصة ، وقال الخوارج : لا رجم أصلا فإن الرجم ليس في كتاب الله ، ولا يعتد بقولهم ، وظاهر الآية الجلد دون تغريب ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وقال مالك : الجلد والتغريب سنة للحديث ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب (١) عام» ، ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك ، وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي : يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم ، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ، ويجرّد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) قيل : يعني في إسقاط الحدّ : أي أقيموه ولا بد ، وقيل : في خفيف الضرب ، وقيل : في الوجهين. فعلى القول الأول : يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وعلى القول الثاني والثالث : يكون الضرب في الزنا أشد ، واختلف : هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟ فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه‌السلام ، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث.

(وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم ، واختلف في أقل ما يجزئ من الطائفة فقيل : أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد ، وقيل : عشرة ، وقيل : اثنين وهو مشهور مذهب مالك ، وقيل : واحد (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) الآية : معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا ، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة ، وينكح على هذا بمعنى يجامع ، وقيل : معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا ، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا ، والأول هو الصحيح (٢) (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل : الإشارة

__________________

(١). رواه أحمد ج ٣ ص ٤٧٦ عن سلمة بن المحبق بلفظ قريب منه.

(٢). الأقرب إلى هذه الآية أن تكون بمعنى الآية التالية : ٢٦ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.

٦٠