التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

سورة ص

مكية وآياتها ٨٨ نزلت بعد القمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة داود عليه‌السلام) (ص) تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة ، ويختص بهذا أنه قال فيه : معناه صدق محمد ، وقيل : هو حرف من اسم الله الصمد أو صادق الوعد ، أو صانع المصنوعات (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) هذا قسم جوابه محذوف تقديره : إن القرآن من عند الله ، وإن محمدا لصادق وشبه ذلك. وقيل : جوابه في قوله ص إذ هو بمعنى صدق محمد ، وقيل : جوابه [الآتي] (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) [ص : ١٤] وهذا بعيد ، وقيل : جوابه (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤] وهذا أبعد ، ومعنى ذي الذكر : الشرف ، والذكر بمعنى الموعظة ، أو ذكر الله وما يحتاج إليه من الشريعة (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ) الذين كفروا يعني قريشا ، وبل للإضراب عن كلام محذوف ، وهو جواب القسم أي : إن كفرهم ليس ببرهان بل هو بسبب العزة والشقاق ، والعزة التكبر ، والشقاق : العداوة وقصد المخالفة ، وتنكيرهما للدلالة على شدتهما ، وتفاخم الكفار فيهما (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) إخبار يتضمن تهديدا لقريش (فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك ، ولات بمعنى : ليس وهي لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث ، كما زيدت في ربّت وثمة ، ولا تدخل لات إلا على زمان ، واسمها مضمر ، وحين مناص خبرها ، والتقدير : ليس الحين الذين دعوا فيه حين مناص ، والمناص المفرّ والنجاة من قولك : ناص ينوص إذا فرّ.

(وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) الضمير لقريش ، والمنذر سيدنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي استبعدوا أن يبعث الله رسولا منهم ، ويحتمل أن يريد من قبيلتهم ، أو يريد من البشر مثلهم (وَقالَ الْكافِرُونَ) كان الأصل وقالوا ؛ ولكن وضع الظاهر موضع المضمر قصدا لوصفهم بالكفر (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) هذا إنكار منهم للتوحيد ، وسبب نزول هذه الآيات أن قريشا اجتمعوا وقالوا لأبي طالب : كفّ ابن أخيك عنا ، فإنه يعيب ديننا ويذم

٢٠١

آلهتنا ويسفه أحلامنا. فكلمه أبو طالب في ذلك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أريد منهم كلمة واحدة يملكون بها العجم ، وتدين لهم بها العرب ، فقالوا : نعم وعشر كلمات معها. فقال : قولوا لا إله إلا الله (١) ، فقاموا وأنكروا ذلك وقالوا : أجعل الآلهة إلها واحدا (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا) انطلاق الملأ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وقيل : عبارة عن تفرّقهم في طرق مكة وإشاعتهم للكفر ، وأن امشوا : معناه يقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم ، ولا تطيعوا محمدا فيما يدعو إليه من عبادة الله وحده (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) هذا أيضا مما حكى الله من كلام قريش ، وفي معناه وجهان : أحدهما إن الإشارة إلى الإسلام والتوحيد ، أي إن هذا التوحيد شيء يراد منا الانقياد إليه ، والآخر أن الإشارة إلى الشرك والصبر على آلهتهم ، أي إن هذا لشيء ينبغي أن يراد ويتمسك به ، أو أن هذا شيء يريده الله منا لما قضى علينا به والأول أرجح ، لأن الإشارة فيما بعد ذلك إليه فيكون الكلام على نسق واحد (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) هذا أيضا مما حكى الله عنهم من كلامهم ، أي ما سمعنا بالتوحيد في الملة الآخرة ، والمراد بالملة الآخرة ملة النصارى ، لأنها بعد ملة موسى وغيره وهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد ، وقيل : المراد ملة قريش أي ما سمعنا بهذا في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، وقيل : المراد الملة المنتظرة إذ كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولا يبعث يكون آخر الأنبياء (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) هذا أيضا مما حكى من كلامهم ، والإشارة إلى التوحيد والإسلام ، ومعنى الاختلاق الكذب (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا) (٢) الهمزة للإنكار ، والمعنى أنهم أنكروا أن يخص الله محمدا صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بإنزال القرآن عليه دونهم (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) هذا ردّ عليهم ، والمعنى أنهم ليست لهم حجة ولا برهان ، بل هم في شك من معرفة الله وتوحيده ، فلذلك كفروا ، ويحتمل أن يريد بالذكر القرآن (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) هذا وعيد لهم وتهديد ، والمعنى أنهم إنما حملهم على الكفر كونهم لم يذوقوا العذاب ، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك وأذعنوا للحق.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) هذا ردّ عليهم فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنبوة ، والمعنى أنهم ليس عندهم خزائن رحمة الله ؛ حتى يعطوا النبوة من شاءوا ، ويمنعوا من شاؤوا ، بل يعطيها الله لمن يشاء ، ثم وصف نفسه بالعزيز الوهاب ، لأن العزيز يفعل ما يشاء ، والوهاب ينعم على من يشاء ، فلا حجة لهم فيما أنكروا (أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) هذا أيضا ردّ عليهم ، والمعنى : أم لهم الملك فيتصرفون

__________________

(١). روى الطبري القصة بسنده. إلى ابن عباس.

(٢). قرأ نافع وغيره بهمزة واحدة : أنزل وقرأ الباقون : أأنزل.

٢٠٢

فيه كيف شاءوا ، بل مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، وأم الأولى منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار ، وأما أم الثانية فيحتمل أن تكون كذلك ، أو تكون عاطفة معادلة لما قبلها (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) هذا تعجيز لهم ، وتهكم بهم ، ومعنى يرتقوا يصعدوا ، والأسباب هنا السلالم والطرق ، وشبه ذلك مما يوصل به إلى العلو ، وقيل : هي أبواب السماء ، والمعنى إن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبروا الملك (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) هذا وعيد بهزيمتهم في القتال ، وقد هزموا يوم بدر وغيره ، وما هنالك صفة لجند ، وفيها معنى التحقير لهم ، والإشارة بهنالك إلى حيث وصفوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء ، وقيل : الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب وهذا بعيد ؛ وقيل الإشارة إلى موضع بدر ، ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصبوا للباطل فهلكوا.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) قال ابن عباس : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها ، وقيل : كانت له أوتاد يسمرها في الناس لقتلهم ، وقيل : أراد المباني العظام الثابتة ، ورجحه ابن عطية ، وقال الزمخشري : إن ذلك استعارة في ثبات الملك كقول القائل : في ظل ملك ثابت الأوتاد (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قد ذكر [الحجر : ٧٨ ، والشعراء : ١٧٦] (وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) ينظر هنا بمعنى ينتظر ، وهؤلاء يعني قريشا ، والصيحة الواحدة النفخة في الصور وهي نفخة الصعق ، وقيل : الصيحة عبارة عما أصابهم من قتل أو شدة ، والأول أظهر ، وقد روي تفسيرها بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما لَها مِنْ فَواقٍ) فيه ثلاثة أقوال : الأول مالها رجوع أي لا يرجعون بعدها إلى الدنيا ، وهو على هذا مشتق من الإفاقة ، الثاني مالها من ترداد : أي إنما هي واحدة لا ثانية لها : الثالث مالها من تأخير ولا توقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين حلبتي اللبن ، وهذا القول الثالث إنما يجرى على قراءة فواق بالضم لأن فواق الناقة بالضم ، والقولان الأولان على الفتح والضم (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) القط في اللغة له معنيان : أحدها الكتاب ، والآخر النصيب ، وفي معناه هنا ثلاثة أقوال : أحدها نصيبنا من الخير : أي دعوا أن يعجله الله لهم في الدنيا والآخر : نصيبهم من العذاب ، فهو كقولهم : أمطر علينا حجارة من السماء. الثالث صحائف أعمالنا.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الأيد القوة ، وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك والجنود ، والأواب : الرجاع إلى الله ، فإن قيل : ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود؟ فالجواب عندي أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه

٢٠٣

تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعد له بالنصر وتفريج الكرب ، وإعانة له على ما أمر به من الصبر ، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال ، وشدّة ملكه ، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب ، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب ، فكأنه يقول : يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعم كذلك ننعم عليك ، فاصبر ولا تحزن على ما يقولون ، ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم ، وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب ، ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء. والمقصد : ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيضا فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرّجها الله عنهم ، وأعقبها بالخير العظيم ، فأمر سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذكرهم ، ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه ، ويعقبها بالنصر والظهور عليهم ، فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية : المعنى : اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأسّ به وتأيد كما تأيد ، وأجاب الزمخشري عن السؤال فإنه قال : كأن الله قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر المعصية في أعين الكفار بذكر قصة داود ، وذلك أنه نبي كريم عند الله ثم زلّ زلة فوبخه الله عليها فاستغفر وأناب ، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم ؛ وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء الأدب مع داود عليه‌السلام حيث جعله مثالا يهدد الله به الكفار ، وصرح بأنه زل وأن الله وبخه على زلته ، ومعاذ الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا (وَالْإِشْراقِ) يعني : وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس : أي تضيء ويصفر شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها (مَحْشُورَةً) أي مجموعة (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي كل مسبح لأجل تسبيح داود ، ويحتمل أن يكون أوّاب هنا بمعنى رجاع أي ليرجع إلى أمره.

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) قيل : يعني النبوة ، وقيل : العلم والفهم وقيل : الزبور (وَفَصْلَ الْخِطابِ) قال ابن عباس : هو فصل القضاء بين الناس بالحق ، وقال عليّ بن أبي طالب : هو إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعى ، وقيل : أراد قول : أما بعد فإنه أول من قالها ، وقال الزمخشري : معنى فصل الخطاب : البيّن من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به ، وهذا المعنى اختاره ابن عطية ، وجعله من قوله تعالى : «إنه لقول فصل» [الطارق : ١٣] (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام ؛ تنبيها للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة ، التي ينبغي أن يلقى البال لها ، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، كقولك : عدل وزور. واتفق الناس على أن هؤلاء الخصم كانوا ملائكة ، وروي أنهما جبريل وميكائيل بعثهما الله ، ليضرب بهما المثل لداود في نازلة وقع هو في مثلها ، فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد أناب

٢٠٤

واستغفر ، وسنذكر القصة بعد هذا ، ومعنى تسوّروا المحراب علوا على سوره ودخلوه ، والمحراب : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد ، ويحتمل أن يكون المتسوّر المحراب اثنين فقط ، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين فقط ، فتجيء الضمائر في تسوّروا ، ودخلوا ، وفزع منهم : على وجه التجوز ، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجماعة ، وذلك جائز على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان ، ويحتمل أنه جامع كل واحد من الخصمين جماعة فيقع على تجميعهم خصم ، وتجيء الضمائر المجموعة حقيقة ، وعلى هذا عوّل الزمخشري.

(إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ) العامل في إذ هنا تسوروا ، وقيل : هي بدل من الأولى ، وأما إذ الأولى فالعامل فيها أتاك أو تسوروا وردّ الزمخشري ذلك ، وقال : إن العامل فيها محذوف تقديره : هل أتاك نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا ، وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن ، ودخلوا من غير الباب ، وقيل : إن ذلك كان ليلا (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) تقديره نحن خصمان ، ومعنى بغى تعدى (وَلا تُشْطِطْ) أي لا تجر علينا في الحكم ، يقال : أشط الحاكم إذا جار ، وقرئ في الشاذ : لا تشطط بفتح التاء : أي لا تبعد عن الحق ، يقال : شط إذا بعد (سَواءِ الصِّراطِ) أي وسط الطريق ، ويعني القصد والحق الواضح (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) هذه حكاية كلام أحد الخصمين ، والأخوة هنا أخوة الدين ، والنعجة في اللغة تقع على أنثى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن ، وهي هنا عبارة عن المرأة ، ومعنى أكفلنيها : أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي ، وقيل : اجعلها كفلي أي نصيبي ، ومعنى عزّني في الخطاب أي : غلبني في الكلام والمحاورة يقال : عز فلان فلانا إذا غلبه ، وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها. وقد اختلف الناس فيها وأكثروا القول فيها قديما وحديثا حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه‌السلام جلدته حدّين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ، ونحن نذكر من ذلك ما هو أشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه‌السلام : روي أن أهل زمان داود عليه‌السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها ، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك ، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته ، فسأله النزول عنها ففعل ، وتزوّجها داود عليه‌السلام فولد له منها سليمان عليه‌السلام ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، فبعث الله إليه ملائكة مثالا لقصته ، فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة ، فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن

٢٠٥

امرأته فأجابه داود عليه‌السلام بقوله : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فقامت الحجة عليه بذلك ، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما ، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله له على ما وقع فيه.

(فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه‌السلام وقع فيما لا يجوز شرعا ، وإنما عوتب على أمر جائز ، كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه ، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأيضا فإنه كان له تسع وتسعون امرأة ، فكان غنيا عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء ، وإن كان جائزا ، وروي هذا الخبر على وجه آخر ، وهو أن داود انفرد يوما في محرابه للتعبد ، فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه ، فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه ، فرأى من الكوة امرأة تغتسل عريانة فأعجبته ، ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده ، وأنه خرج للجهاد مع الجند ، فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت ، وهو موضع قل ما تخلص أحد منه ، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيدا ، فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل ، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها ، وقيل : إنّ داود همّ بذلك كله ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك ، وروي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه ، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة ، وروي أيضا أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة؟ (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) سؤال مصدر مضاف إلى المفعول ، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال : بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه ، فإن قيل : كيف قال له داود : لقد ظلمك قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه روي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصارا ، ويحتمل أن يكون قوله : لقد ظلمك على تقدير صحة قوله ، وقد قيل : إن قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) الخلطاء هم الشركاء في الأموال ، ولكن الخلطة أعم من الشركة ، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها ، وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بغى ، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بغي عليه (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ما زائدة للتأكيد.

(وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ظن هنا بمعنى شعر بالأمر ، وقيل : بمعنى أيقن ، وفتناه معناه اختبرناه (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) معنى خرّ : ألقى بنفسه إلى الأرض ، وإنما حقيقة ذلك في

٢٠٦

السجود ، فقيل : إن الركوع هنا بمعنى السجود ، وقيل : خرّ من ركوعه ساجدا بعد أن ركع ، ومعنى أناب : تاب ، وروي أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكي حتى نبت البقل من دموعه ، وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافا للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله : وأناب ، أو عند قوله : وحسن مآب (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) الزلفى القربة والمكانة الرفيعة ، والمآب المرجع في الآخرة (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) تقديره قال الله يا داود ، وخلافة داود بالنبوة والملك ، قال ابن عطية : لا يقال خليفة الله إلا لنبيّ ، وأما الملوك والخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وقول الناس فيهم خليفة الله تجوّز (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) أي عبثا بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة السموات والأرض عندهم باطلا بغير الحكمة ، فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار : أي أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار ، بل يجازي كل واحد بعلمه لتظهر حكمة الله في الجزاء ، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء ، وفيه أيضا وعد ووعيد.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ) الصافنات جمع صافن ، وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى ، وقيل : الصافن هو الذي يسوّي يديه ، والصفن علامة على فراهة الفرس ، والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية ، فقال الجمهور : إن سليمان عليه‌السلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل : أخرجتها له الشياطين من البحر ، وكانت ذوات أجنحة ، وكانت ألف فرس ، وقيل : أكثر فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشي «العصر» ، فأسف لذلك ، وقال : ردوا عليّ الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها ؛ لما كانت سبب فوات الصلاة ، ولم يترك منها إلا اليسير ، فأبدله الله أسرع منها وهي الريح ، وأنكر بعض العلماء هذه الرواية ؛ وقال : تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخيل لغير فائدة لا يجوز ، فكيف يفعله سليمان عليه‌السلام؟ وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم :

٢٠٧

إنما عقرها ليأكلها الناس ، وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقربا إلى الله ، وقال بعضهم ، لم تفته الصلاة ولا عقر الخيل ، بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردّوها عليّ فطفق يمسح عليها بيده كرامة لها ومحبة ، وقيل إن المسح عليها كان وسما في سوقها وأعناقها بوسم حبس في سبيل الله.

(فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة ، فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال : أحدها أن الخير هنا يراد به الخيل ، وزعموا أن الخيل يقال لها خير ، وأحببت بمعنى : آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بمن كأنه قال : آثرت حب الخيل فشغلني عن ذكر ربي ، والآخر : أن الخير هنا يراد به المال ، لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) أي مالا ، والثالث : أن المفعول محذوف ، وحب الخير مصدر والتقدير : أحببت هذه الخيل مثل حب الخير ، فشغلني عن ذكر ربي ، وأما الذين قالوا : كان يصلى فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها ؛ فالمعنى أنه قال : إني أحببت حب الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها ، ولكنها تفهم من سياق الكلام وذكر العشي يقتضيها ، والمعنى حتى غابت الشمس ، وقيل : إن الضمير للخيل ، ومعنى توارت بالحجاب دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر (رُدُّوها عَلَيَ) أي قال سليمان : ردوا الخيل عليّ (فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) السوق جمع ساق يعني سوق الخيل وأعناقهم : أي جعل يمسحها مسحا ، وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم ، هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد محبة لها ، أو وسمها للتحبيس.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها ، وفي ذلك أربعة أقوال : الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله ، فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيرا لاسم الله تعالى ، فنزعه يوما ودفعه إلى جارية فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له ، روي أن اسمه صخر ، فقعد على كرسيّ سليمان يأمر وينهى والناس يظنون أنه سليمان ، وخرج سليمان فارّا بنفسه فأصابه الجوع فطلب حوتا ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه ، وكان الجني قد رماه في البحر فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه ، ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب ملكه ، والجسد الذي ألقي على كرسيه هو الجنيّ الذي قعد عليه وسماه جسدا ، لأنه تصور في صورة إنسان ، ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء ، أو رجع إلى ملكه ، والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكا كافرا قد قتله سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها جواريها ، وصار

٢٠٨

صنما معبودا في داره ، وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يوما ، فلما علم به كسره فالفتنة على هذا عمل الصورة ، والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حبا شديدا ، فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبدا فلم يشعر إلا وولده ميت على كرسيه ، فالفتنة على هذا حبه الولد ، والجسد هو الولد لما مات وسمي جسدا لأنه جسد بلا روح ، القول الرابع أنه قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فلم تحمل إلا واحدة بشق إنسان ، فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله ، والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له ، فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه ، وأما القول الثاني فضعيف أيضا مع أنه يبعد أنه يعبد صنم في بيت نبي ، أو يأمر نبي بعمل صنم ، وأما القول الثالث فضعيف أيضا ، وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنه لم يذكر في الحديث أن ذلك تفسير الآية.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) قدم الاستغفار على طلب الملك ، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والأهمّ ، فإن قيل : لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي ، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج إنه كان حسودا؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجرى عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه ، فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره ، والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة ، دلالة على نبوته (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) معنى رخاء لينة طيبة ، وقيل : طائعة له ، وقد ذكرنا الجمع بين هذا وبين قوله (عاصِفَةً) في الأنبياء : ٨١ ، وحيث أصاب : أي حيث قصد وأراد (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) الشياطين معطوف على الريح ، وكل بناء بدل من الشياطين أي سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي آخرين من الجنّ موثقون في القيود والأغلال (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ) الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له ، والمعنى أن الله قال له : أعط من شئت وامنع من شئت ، وقيل : المعنى امنن على من شئت من الجنّ بالإطلاق من القيود ، وأمسك من شئت منهم في القيود ، والأوّل أحسن وهو قول ابن عباس (بِغَيْرِ حِسابٍ) يحتمل ثلاثة معان : أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما فعل ، والآخر بغير تضييق عليك في الملك ، والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن الحصر (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) قد ذكر في قصة داود.

__________________

(١). رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير من حديث أبي هريرة باب ٢٣ ص ٢٠٩ / ٣.

٢٠٩

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) قد ذكرنا قصة أيوب عليه‌السلام في [الأنبياء : ٨٣] والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد : وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما ، ومعناه واحد وهو المشقة ، فإن قيل : لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان؟ فالجواب من أربعة أوجه : أحدها أن سبب ذلك كان من الشيطان ، فإنه روي أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكرا فلم يغيره ، وقيل : إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها ، وكان له جار جائع فلم يعط جاره منها شيئا ، والثاني أنه أراد ما وسوس له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء ، فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك ، والثالث أنه روي أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه المرض الشديد فصبر فنسب ذلك إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه ، والرابع : روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها : قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب ، فقال لها : ذلك عدوّ الله الشيطان وحينئذ دعا (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) التقدير قلنا له : اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له عين ماء صافية باردة ، فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده ، واغتسل منها فذهب ما كان في ظاهر جسده ، وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان ، فشرب من أحدهما واغتسل من الأخرى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) ذكر في الأنبياء (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) الضغث القبضة من القضبان ، وكان أيوب عليه‌السلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برىء من مرضه ، وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان ، وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض ، فأمره أن يأخذ ضغثا فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة فيبرّ في يمينه ، وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حدّ رجل زنى وكان مريضا فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر ذلك أبو داود (١) والنسائي ، وأخذ به بعض العلماء ، ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه.

(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) الأيدي جمع يد وذلك عبارة عن قوتهم في الأعمال الصالحات ، وإنما عبر عن ذلك بالأيدي ، لأن الأعمال أكثر ما تعمل بالأيدي ، وأما الأبصار فعبارة عن قوة فهمهم وكثرة علمهم من قولك : أبصر الرجل إذا تبينت له الأمور ، وقيل : الأيدي جمع يد بمعنى النعمة ، ومعناه أولوا النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والفضيلة ، وهذا ضعيف ، لأن اليد بمعنى النعمة أكثر ما يجمع على أيادي ، وقرأ ابن مسعود : أولوا الأيدي بغير ياء ، فيحتمل أن تكون الأيدي محذوفة الياء أو يكون الأيد

__________________

(١). رواه في كتاب الحدود ج ٤ ص ٦١٥ عن أبي أمامة بن سهل بن ضيف.

٢١٠

بمعنى القوة : كقوله «داود ذا الأيد» (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) معنى أخلصناهم جعلناهم خالصين لنا ، أو أخلصناهم دون غيرهم ، وخالصة صفة حذف موصوفها تقديره : بخصلة خالصة ، وأما الباء في قوله بخالصة فإن كان أخلصناهم بمعنى خالصين ، فالباء سببية للتعليل ، وإن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خصصناهم فالباء لتعدية الفعل ، وقرأ نافع بإضافة خالصة إلى ذكرى من الباقون تنوين ، وقرأ غيره بالتنوين على أن تكون ذكرى بدلا من خالصة على وجه البيان والتفسير لها ، والدار يحتمل أن يريد به الآخرة أو الدنيا ، فإن أراد به الآخرة ففي المعنى ثلاثة أقوال : أحدها أن ذكرى الدار : يعني ذكرهم للآخرة وجهنم فيها ، والآخر أن معناه تذكيرهم للناس بالآخرة ، وترغيبهم للناس فيما عند الله ، والثالث أن معناه ثواب الآخرة : أي أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة ، والأول أظهر ، وإن أراد بالدار الدنيا فالمعنى حسن الثناء والذكر الجميل في الدنيا ، كقوله : لسان صدق (الْأَخْيارِ) جمع خير بتشديد الياء أو خير المخفف من خير كميت مخفف من ميت (وَذَا الْكِفْلِ) ذكر في الأنبياء : ٨٥.

(هذا ذِكْرٌ) الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذكر الأنبياء ، وقيل الإشارة إلى القرآن بجملته ، والأول أظهر وكأن قوله : هذا ذكر ختام للكلام المتقدم ، ثم شرع بعده في كلام آخر كما يتم المؤلف بابا ثم يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ذكر في الصافات : ٤٨ (أَتْرابٌ) يعني أسنانهم سواء يقال : فلان ترب فلان إذا كان مثله في السن ، وقيل : إن أسنانهم وأسنان أزواجهم سواء (ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي ماله من فناء ولا انقضاء.

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) تقديره الأمر هذا : لما تم ذكر أهل الجنة ختمه بقوله هذا ثم ابتدأ وصف أهل النار ، ويعني بالطاغين الكفار (هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) هذا مبتدأ وخبره حميم فليذوقوه : اعترافا بينهما (١) والحميم الماء الحار والغساق قرأه بالتشديد حفص وحمزة والكسائي والباقي بالتخفيف : غساق بتخفيف السين وتشديدها وهو صديد أهل النار ، وقيل : ما يسيل من عيونهم ، وقيل : هو عذاب لا يعلمه إلا الله (وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) آخر معطوف على حميم وغساق تقديره : وعذاب آخر ، قيل : يعني الزمهرير ، ومعنى من شكله من مثله ونوعه أي من مثل العذاب المذكور ، وأزواج معناه أصناف وهو صفة للحميم والغساق والعذاب الآخر والمعنى أنهما أصناف من العذاب ، وقال ابن عطية : آخر مبتدأ ، واختلف في خبره ، فقيل : تقديره ولهم عذاب آخر وقيل : أزواج مبتدأ ومن شكله خبر أزواج ، والجملة خبر آخر ، وقيل : أزواج

__________________

(١). كذا في الأصل ، وفي الطبري جاء تفسير : فليذوقوه : معناه التأخير ، والله أعلم.

٢١١

خبر الآخر ، ومن شكله في موضع الصفة وقرئ أخر بالجمع وهو أليق أن يكون أزواج خبره لأنه جمع مثله (هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) الفوج جماعة من الناس ، والمقتحم الداخل في زحام وشدة ، وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولا ، ثم دخل بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه ، وقيل : هو كلام أهل النار بعضهم لبعض ، والأول أظهر (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا يلقون رحبا ولا خيرا ، وهو دعاء من كلام رؤساء الكفار : أي لا مرحبا بالفوج الذين هم أتباع لهم (قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) هذا حكاية كلام الأتباع للرؤساء لما قالوا لهم : لا مرحبا بهم ، أجابوهم بقولهم (بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) هذا أيضا من كلام الأتباع خطابا للرؤساء ، وهو تعليل لقولهم : بل أنتم لا مرحبا بكم ، والضمير في قدمتموه للعذاب ، ومعنى قدمتموه أوجبتموه لنا بما قدمتم في الدنيا من إغوائنا ، وأمركم لنا بالكفر (قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ) هذا أيضا من كلام الأتباع دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم ، الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) والضعف زيادة المثل.

(وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) الضمير في وقالوا لرؤساء الكفار ، وقيل : للطاغين والرجال هم ضعفاء المؤمنين ، وقيل : إن القائلين لذلك أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم وأن الرجال المذكورين هم عمّار وبلال وصهيب وأمثالهم ، واللفظ أعم من ذلك والمعنى أنهم قالوا في جهنم : مالنا لا نرى في النار رجالا كنا في الدنيا نعدّهم من الأشرار (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ أتخذناهم بهمزة قطع ومعناه : توبيخ أنفسهم على اتخاذهم المؤمنين سخريا ، وقرئ بألف وصل على أن يكون الجملة صفة لرجال (١) وقرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالرفع والباقون بالكسر سخريا بضم السين من التسخير بمعنى الخدمة وبالكسر بمعنى الاستهزاء (أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) هذا يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون معادلا لقولهم : ما لنا لا نرى رجالا ، والمعنى مالنا لا نراهم في جهنم فهم ليسوا فيها أم هم فيها ولكن زاغت عنهم أبصارنا ، ومعنى زاغت عنهم مالت فلم نرهم. الثاني أن يكون معادلا لقولهم : أتخذناهم سخريا والمعنى أتخذناهم سخريا. وأم زاغت الأبصار على هذا : مالت عن النظر إليهم احتقارا لهم. الثالث أن تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فلا تعادل شيئا مما قبلها (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) الإشارة إلى ما تقدم من حكاية أقوال أهل النار ثم فسره بقوله (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) وإعراب تخاصم بدل من

__________________

(١). قرأ نافع وحمزة والكسائي سخريا بالرفع والباقون بالكسر.

٢١٢

حق أو خبر مبتدأ مضمر (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ) النبأ : الخبر ، ويعني به ما تضمنته الشريعة من التوحيد والرسالة والدار الآخرة ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو يوم القيامة والأول أعم وأرجح (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) الملأ الأعلى هم الملائكة ومقصد الآية الإحتجاج على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك ، والضمير في يختصمون للملأ الأعلى ، واختصامهم هو في قصة آدم حين قال لهم : إني جاعل في الأرض خليفة حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ربه فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقال : لا أدري قال في الكفارات وهي إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد الحديث (١) بطوله ، وقيل : الضمير في يختصمون للكفار : أي يختصمون في الملأ الأعلى فيقول بعضهم هم بنات الله ، ويقول آخرون : هم آلهة تعبد ، وهذا بعيد.

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) إذ بدل من إذ يختصمون ، وقد ذكرنا في البقرة معنى سجود الملائكة لآدم ، ومعنى كفر إبليس وذكرنا في [الحجر : ٢٩] معنى قوله تعالى (مِنْ رُوحِي)(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) الضمير في قال لله عزوجل ، وبيديّ من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به ، وتسليم علم حقيقته إلى الله ، وقال المتأوّلون : هو عبارة عن القدرة ، وقال القاضي أبو بكر بن الطيب [الباقلاني] : إن اليد والعين والوجه صفات زائدة على الصفات المتقرّرة ، قال ابن عطية : وهذا قول مرغوب عنه ، وحكى الزمخشري : أن معنى خلقت بيدي خلقت بغير واسطة (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) دخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل ، وأم هنا معادلة ، والمعنى أستكبرت الآن أم كنت قديما ممن يعلو ويستكبر ، وهذا على وجه التوبيخ له (رَجِيمٌ) أي لعين مطرود (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) يعني القيامة ، وقد تقدم الكلام

__________________

(١). روى مسلم آخر الحديث عن أبي هريرة وأوله : ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال : إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط. وانظر رياض الصالحين.

٢١٣

على ذلك في الحجر (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) الباء للقسم ، أقسم إبليس بعزة الله أن يغوي بني آدم (قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) الضمير في قال هنا : لله تعالى ، والحق الأوّل مقسم به وهو منصوب بفعل مضمر كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : لأملأن جهنم (١) ، بالرفع وهو مبتدأ ، أو خبر مبتدأ مضمر تقديره : الحق يميني ، وأما الحق الثاني فهو مفعول بأقول ، وقوله : والحق أقول جملة اعتراض بين القسم وجوابه على وجه التأكيد للقسم (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي الذين يتصنعون ويتحيلون بما ليسوا من أهله (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) هذا وعيد أي لتعلمن صدق خبره بعد حين ، والحين يوم القيامة أو موتهم أو ظهور الإسلام يوم بدر وغيره.

__________________

(١). وقرأ عاصم قال فالحق بالرفع والحق أقول بالنصب وقرأ الباقون بنصب الحق فيهما.

٢١٤

سورة الزمر

مكية إلا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ فمدنية وآياتها ٧٥ نزلت بعد سبإ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الزمر) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) تنزيل مبتدأ وخبره : من الله أو خبره ابتداء مضمر تقديره : هذا تنزيل ، ومن الله على هذا الوجه يتعلق بتنزيل ، أو يكون خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ آخر محذوف ، والكتاب هنا القرآن أو السورة واختار ابن عطية أن يراد به جنس الكتب المنزلة وأما الكتاب الثاني فهو القرآن باتفاق (بِالْحَقِ) يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه متضمنا الحق ، والثاني أن يكون معناه بالاستحقاق والوجوب (مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي لا يكون فيه شرك أكبر ولا أصغر وهو الرياء (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) قيل : معناه من حقه ومن واجبه أن يكون له الدين الخالص ، ويحتمل أن يكون معناه : إن الدين الخالص هو دين الله وهو الإسلام ، الذي شرعه لعباده ولا يقبل غيره ، ومعنى الخالص : الصافي من شوائب الشرك ، وقال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال الحسن : هو الإسلام وهذا أرجح لعمومه.

(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) يريد بالأولياء الشركاء المعبودين ، ويحتمل أن يريد بالذين اتخذوا الكفار العابدين لهم ، أو الشركاء المعبودين ، والأول أظهر ؛ لأنه يحتاج على الثاني إلى حذف الضمير العائد على الذين تقديره : الذين اتخذوهم ، ويكون ضمير الفاعل في اتخذوا عائدا على غير مذكور ، وارتفاع الذين على الوجهين بالابتداء وخبره إما قوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أو المحذوف المقدر قبل قوله ما نعبدهم لأن تقديره : يقولون ما نعبدهم. والأول أرجح ؛ لأن المعنى به أكمل (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف ، والقول في موضع الحال أو في موضع بدل من صلة الذين ، وقرأ ابن مسعود : قالوا ما نعبدهم بإظهار القول أي يقول الكفار : ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده ، ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة ، أو الذين عبدوا الأصنام ، أو الذين عبدوا عيسى أو عزير ، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة. ومعنى زلفى :

٢١٥

قربى فهو مصدر من يقربونا (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) إشارة إلى كذبهم في قولهم : ليقربونا إلى الله وقوله : (لا يَهْدِي) في تأويله وجهان : أحدهما لا يهديه في حال كفره والثاني أن ذلك مختصّ بمن قضي عليه بالموت على الكفر ، أعاذنا الله من ذلك. وهذا تأويل : لا يهدي القوم الظالمين والكافرين حيثما وقع (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) الولد يكون على وجهين : أحدهما بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله ؛ تعالى لا يجوز في العقل والثاني التبني بمعنى الإختصاص والتقريب ، كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولدا لإفراط محبته له ، وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) يعم نفي الوجهين ، فمعنى الآية على ما أشار إليه ابن عطية : لو أراد الله أن يتخذ ولدا على وجه التبني لاصطفى لذلك مما يخلق من موجوداته ومخلوقاته ، ولكنه لم يرد ذلك ولا فعله ، وقال الزمخشري : معناه لو أراد الله اتخاذ الولد لامتنع ذلك ، ولكنه يصطفي من عباده من يشاء على وجه الإختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولدا ، فاصطفى الملائكة وشرفهم بالتقريب ، فحسب الكفار أنهم أولاده ، ثم زادوا على ذلك أن جعلوهم إناثا ، فأفرطوا في الكفر والكذب على الله وملائكته.

(سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) نزه تعالى نفسه من اتخاذ الولد ، ثم وصف نفسه بالواحد ؛ لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد لأنه لو كان له ولد لكان من جنسه ، ولا جنس له لأنه واحد ، ووصف نفسه بالقهار ؛ ليدل على نفي الشركاء والأنداد ، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى ، فكيف يكون شريكا له؟ ثم أتبع ذلك بما ذكره من خلقة السموات والأرض وما بينهما ، ليدل على وحدانيته وقدرته وعظمته (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ) التكوير اللف والليّ ، ومنه : كوّر العمامة التي يلتوي بعضها على بعض وهو هنا استعارة ، ومعناه على ما قال ابن عطية : يعيد من هذا على هذا ، فكأن الذي يطيل من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزءا فيستره ، وكأن الذي ينقص يدخل في الذي يطول فيستتر فيه. ويحتمل أن يكون المعنى أن كل واحد منهما يغلب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في ستره له بثوب يلف على الآخر (لِأَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) يعني آدم عليه‌السلام (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) يعني حواء خلقها من ضلع آدم ، فإن قيل : كيف عطف قوله : ثم جعل على خلقكم بثم التي تقتضي الترتيب والمهلة ، ولا شك أن خلقة حواء كانت قبل خلقة بني آدم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول وهو المختار أن العطف إنما هو على معنى قوله : واحدة لا على خلقكم كأنه قال : خلقكم من نفس كانت واحدة ثم خلق

٢١٦

منها زوجها بعد وحدتها الثاني : أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوجود. الثالث : أنه يعني بقوله : خلقكم إخراج بني آدم من صلب أبيهم كالذر وذلك كان قبل خلقه حواء.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) يعني المذكورة في الأنعام من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين وسماها أزواجا لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر. وأما أنزل ففيه ثلاثة أوجه : الأول أن الله خلق أول هذه الأزواج في السماء ثم أنزلها. الثاني أن معنى أنزل قضى وقسم ، فالإنزال عبارة عن نزول أمره وقضائه. الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات الذي تعيش منه هذه الأنعام فعبّر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) يعني أن الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يتم خلقه ، ثم ينفخ فيه الروح (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) هي البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : صلب الأب والرحم والمشيمة ، والأول أرجح لقوله : بطون أمهاتكم ولم يذكر الصلب (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي لا يضره كفركم.

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) تأول الأشعرية هذه الآية على وجهين : أحدها أن الرضا بمعنى الإرادة ، ويعني بعباده من قضى الله له بالإيمان والوفاة عليه. فهو كقوله : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ، والآخر أن الرضا غير الإرادة ، والعباد على هذا العموم أي لا يرضى الكفر لأحد من البشر ، وإن كان قد أراد أن يقع من بعضهم فهو لم يرضه دينا ولا شرعا. وأراده وقوعا ووجودا أما المعتزلة فإن الرضا عندهم بمعنى الإرادة والعباد على هذا على العموم جريا على قاعدتهم في القدر وأفعال العباد (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) هذا عموم ، والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان (١) (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) ذكر في الإسراء (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ) الآية : يراد بالإنسان هنا الكافر بدليل قوله : وجعل له أندادا ، والقصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة ، فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله ، وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله ، في الشدائد ، فإن قيل : لم قال هنا وإذا مسّ بالواو وقال بعدها فإذا مس بالفاء؟ فالجواب : أن الذي بالفاء مسبب عن قوله : اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة فجاء بفاء السببية قاله الزمخشري وهو بعيد (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) خوله أعطاه والنعمة هنا يحتمل أن يريد بها كشف الضر المذكور ، أو أي نعمة كانت (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يحتمل أن تكون ما مصدرية

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي : يرضهو لكم. وقرأ الباقون يرضه.

٢١٧

أي نسي دعاءه ، أو تكون بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى.

أمن هو قانت (١) بتخفيف الميم على إدخال همزة الاستفهام على من وقيل : هي همزة النداء والأول أظهر ، وقرئ بتشديدها على إدخال أم على من ومن مبتدأ وخبره محذوف وهو المعادل وتقديره أم من هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو ما ذكر قبله وما ذكر بعده ، وهو قوله (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) والقنوت هنا بمعنى الطاعة والصلاة بالليل ، وآناء الليل ساعاته (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، ومعناها التأنيس لهم والتنشيط على الهجرة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) يحتمل أن يتعلق في هذه الدنيا بأحسنوا ، والمعنى الذين أحسنوا في الدنيا لهم الآخرة ، أو يتعلق بحسنة ، والحسنة على هذا حسن الحال والعافية في الدنيا والأول أرجح (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) يراد البلاد المجاورة للأرض التي هاجروا منها ، والمقصود من ذلك الحض على الهجرة.

(إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) هذا يحتمل وجهين أحدهما أن الصابر يوفى أجره ولا يحاسب على أعماله ، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب الثاني أن أجر الصابرين بغير حصر بل أكثر من أن يحصر بعدد أو وزن وهذا قول الجمهور (وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول على هذا محذوف ، فإن قيل : كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد؟ فالجواب أن الأول أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنيان وكذلك قوله : قل الله أعبد ليس تكرارا لقوله أمرت أن أعبد الله ، لأن الأول إخبار بأنه مأمور بالعبادة الثاني إخبار بأنه يفعل العبادة. وقدم اسم الله تعالى للحصر واختصاص العبادة به وحده (فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ) هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه (ظُلَلٌ) جمع ظلة بالضم ، وهو ما غشي من فوق كالسقف ، فقوله من فوقهم بيّن وأما من تحتهم فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم ؛ فإن جهنم طبقات وقيل : سماه ظلة لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم.

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وحمزة : أمن بالتخفيف وقرأ الباقون : بالتشديد : أمّن.

٢١٨

(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير ، إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا ، وقيل : نزلت في أبي ذر وسلمان ، وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر أنها عامة ، والطاغوت كل ما عبد من دون الله ، وقيل : الشياطين (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) قيل : يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن ، لأنه أحسن الكلام وقيل : يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن من الإنتصار ، وشبه ذلك وقيل : هو الذي يستمع حديثا فيه حسن وقبيح فيتحدّث بالحسن ويكف عما سواه ، وهذا قول ابن عباس ، وهو الأظهر وقال ابن عطية : هو علم في جميع الأقوال ؛ والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ ، فيتبعون الأحسن من ذلك ، وقال الزمخشري مثل هذا المعنى (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) فيها وجهان : أحدهما أن يكون الكلام جملة واحدة تقديره : أفمن حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه ، فموضع من في النار موضع المضمر ، والهمزة في قوله أفأنت هي الهمزة التي في قوله أفمن. وهي همزة الإنكار كرّرت للتأكد ، والثاني أن يكون التقدير أفمن حق عليه العذاب تتأسف عليه ، فحذف الخبر ثم استأنف قوله أفأنت تنقذ من في النار؟ وعلى هذا يوقف على العذاب ، والأول أرجح لعدم الإضمار (فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) معنى سلكه أدخله وأجراه ، والينابيع : جمع ينبوع وهو العين ، وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك ، وقيل : ألوانه الخضرة والحمرة وشبه ذلك ، وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار ورد على أهل الطبائع [الملحدين].

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) تقديره : أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه ، وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام عليّ بن أبي طالب وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده ، واللفظ أعم من ذلك (مِنْ ذِكْرِ اللهِ) قال الزمخشري : من هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله ، وهذا المعنى بعيد ، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية ، فلذلك تعدى بمن ، والمعنى : أن قلوبهم خالية من ذكر الله.

٢١٩

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) يعني القرآن (كِتاباً) بدل من أحسن أو حال منه (مُتَشابِهاً) معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضا في الفصاحة والنطق بالحق وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف (مَثانِيَ) جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر ، ويحتمل أن يكون مشتقا من الثناء ، لأنه يثنى فيه على الله ، فإن قيل : مثاني جمع فكيف وصف به المفرد؟ فالجواب : أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الإعتبار ، ويجوز أن يكون كقولهم : برمة أعشار ، وثوب أخلاق ، أو يكون تمييزا من متشابها كقولك : حسن شمائل (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) إن قيل : كيف تعدّي تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمن معنى فعل تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله. فإن قيل : لم ذكرت الجلود أولا وحدها ثم ذكرت القلوب بعد ذلك معها؟ فالجواب : أنه لما قال أولا تقشعر ذكر الجلود وحدها ، لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها ، ولما قال ثانيا تلين ذكر الجلود والقلوب ، لأن اللين توصف به الجلود والقلوب : أما لين القلوب فهو ضدّ قسوتها ، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولا من الخوف ، ثم لانت بالرجاء (ذلِكَ هُدَى اللهِ) يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار الجلود (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ) الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه ، وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئا من المخاوف استقبله بيديه ، وأيدي هؤلاء مغلولة ، فاتقوا النار بوجوههم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان.

(قُرْآناً عَرَبِيًّا) نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) أي ليس فيه تضادّ ولا اختلاف ، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر ، وقيل معناه : غير مخلوق وقيل : غير ذي لحن ، فإن قيل : لم قال غير ذي عوج ولم يقل غير معوج؟ فالجواب : أن قوله غير ذي عوج أبلغ في نفي العوج عنه كأنه قال : ليس فيه شيء من العوج أصلا (رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) أي متنازعون متظالمون ، وقيل : متشاجرون وأصله من قولك : رجل شكس إذا كان ضيق الصدر ، والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده ، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه ،

٢٢٠