التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

والمملوك بينهم في أسوإ حال ، وشبه من يوحد الله بمملوك لرجل واحد ، فمعنى قوله سالما لرجل (١) أي خالصا له وقرئ سلما بغير ألف والمعنى واحد.

(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) في هذا وعد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ووعيد للكفار ، فإنهم إذا ماتوا جميعا وصاروا إلى الله فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل ، وفيه أيضا إخبار بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيموت ، لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في غيره. وقد جاء أنه لما مات صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها (تَخْتَصِمُونَ) قيل : يعني الاختصام في الدماء ، وقيل : في الحقوق والأظهر أنه اختصام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الكفار في تكذيبهم له ، فيكون من تمام ما قبله. ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ) المعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ويريد بالكذب على الله هنا ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) أي كذب بالإسلام والشريعة.

(وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) قيل : الذي جاء بالصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والذي صدّق به أبو بكر. وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : الذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به المؤمنون ، واختار ابن عطية أن يكون على العموم ، وجعل الذي للجنس كأنه قال : الفريق الذي لأنه في مقابلة من كذب على الله وكذب بالصدق والمراد به العموم (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) (٢) تقوية لقلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ) الآية (٣) رد على المشركين وبرهان على الوحدانية ، روي أن سببها أن المشركين خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من آلهتهم ، فنزلت الآية

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : سالما. وقرأ الباقون : سلما.

(٢). قرأ حمزة والكسائي : بكاف عباده وقرأ الباقون : عبده.

(٣). قرأ أبو عمرو وحده : كاشفات ضرّه وممسكات رحمته بالتنوين وقرأ الباقون بالإضافة.

٢٢١

مبينة أنهم لا يقدرون على شيء ، فإن قيل كاشفات وممسكات بالتأنيث؟ فالجواب أنها لا تعقل فعاملها معاملة المؤنثة ، وأيضا ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عبدها (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) تهديد ومسالمة منسوخة بالسيف (بِالْحَقِ) ذكر في أول السورة (١).

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) هذه الآية اعتبار ، ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين : أحدهما : وفاة كاملة حقيقية وهي الموت ، والآخر : وفاة النوم ، لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع ومنه قوله (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الإنعام : ٦٠] وتقديرها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) أي يمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي ، ومعنى إمساكها أنه لا يردها إلى الدنيا (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يرسل الأنفس النائمة ، وإرسالها هو ردّها إلى الدنيا ، والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي ، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق ، والصحيح أن هذا مما استأثر بعلمه الله لقوله (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ) أم هنا بمعنى بل وهمزة الإنكار والشفعاء هم الأصنام وغيرها ، لقولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله [يونس : ١٨] (قُلْ أَوَلَوْ كانُوا) دخلت همزة الاستفهام على واو الحال تقديره : يشفعون وهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) أي هو مالكها ، فلا يشفع أحد إليه إلا بإذنه ، وفي هذا ردّ على الكفار في قولهم : إن الأصنام تشفع لهم (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ) الآية : معناها أن الكفار يكرهون توحيد الله ويحبون الإشراك به ، ومعنى إشمأزت انقبضت من شدة الكراهية ، وروي أن هذه الآية نزلت حين قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة النجم ، فألقى الشيطان في أمنيته حسبما ذكرنا في الحج ، فاستبشر الكفار بما ألقى الشيطان من تعظيم اللات والعزى ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمأزوا.

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي : قضي عليها الموت. وقرأ الباقون : قضى عليها الموت.

٢٢٢

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) أي ظهر لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يظنون لأنهم كانوا يظنون ظنونا كاذبة. قال الزمخشري : المراد بذلك تعظيم العذاب الذي يصيبهم ، أي ظهر لهم من عذاب الله ما لم يكن في حسابهم فهو كقوله في الوعد (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [السجدة : ١٧] وقيل : معناها عملوا أعمالا حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات وقال الحسن : ويل لأهل الربا من هذه الآية وهذا على أنها في المسلمين والظاهر أنها في الكفار (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) معنى حاق حل ونزل وقال ابن عطية وغيره : إن هذا على حذف مضاف تقديره : حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون ، ويحتمل أن يكون الكلام دون حذف وهو أحسن ، ومعناه حاق بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون لأنهم كانوا في الدنيا يستهزئون ، إذا خوفوا بعذاب الله ، ويقولون متى هذا الوعد (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ) يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر : أن يريد على علم مني بالمكاسب والمنافع ، والآخر : على علم الله باستحقاقي لذلك ، وإنما هنا تحتمل وجهين : أحدهما وهو الأظهر : أن تكون ما كافة وعلى علم في موضع الحال ، والآخر أن تكون ما اسم إن وعلى علم خبرها وإنما قال : أوتيته بالضمير المذكر وهو عائد على النعمة للحمل على المعنى (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ) ردّ على الذي قال إنما أوتيته على علم (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني قارون وغيره.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) قال علي بن أبي طالب وابن مسعود : هذه أرجى آية في القرآن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه آله وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية ، واختلف في سببها فقيل : في وحشي قاتل حمزة ، لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة ، وقيل : نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ، ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم ، وهذا قول عمر بن الخطاب : وقد كتب بها إلى هشام بن العاصي ، لما جرى له ذلك وقيل : نزلت في قوم من أهل الجاهلية ، قالوا : ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زنينا ، وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم ، ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة على تفصيل نذكره ،

٢٢٣

وذلك أن الذين أسرفوا على أنفسهم ، إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر لهم كفرهم وجميع ذنوبهم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإسلام يجبّ ما قبله (١) ، وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم ، بل يخلدهم في النار ، وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له ذنوبه ، وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فالمغفرة المذكورة في هذه الآية ، يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أو للعصاة إذا تابوا ، أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة ، والظاهر أنها نزلت في الكفار ، وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا ، والدليل على أنها في الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله وقد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض ، لأنه حسن كله. إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر. ويجتنبوا ما فيه من النواهي ، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الإتباع ، قيل : يعني اتبعوا الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ) في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهية أن تقول نفس وإنما ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في حق الله وقيل : في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى الجانب ثم استعير لهذا المعنى (السَّاخِرِينَ) أي المستهزئين (بَلى) جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي هنا جواب لقوله : لو أن الله هداني لكنت من المتقين ؛ لأنه في معنى النفي ، لأن لو حرف امتناع. وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب. وقال ابن عطية : هي جواب لقوله : لو أن لي كرة فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع للنظر فقيل له بلى على وجه الرد عليه ، والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله : قد جاءتك آياتي تفسير لما تضمنته بلى (وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة الكرب (بِمَفازَتِهِمْ) (٢) أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم ، وقيل معناه : بفضائلهم (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) أي قائم بتدبير كل شيء.

__________________

(١). قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لعمرو بن العاص حينما أراد أن يسلم ويشترط العفو عما سبق منه سيرة ابن هشام ج ٢ ص ٢٧٨.

(٢). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : بمفازاتهم. بالجمع وقرأ الباقون بمفازتهم.

٢٢٤

(مَقالِيدُ) مفاتيح وقيل خزائن واحدها إقليد ، وقيل لا واحد لها من لفظها وأصلها كلمة فارسية ، وقال عثمان بن عفان : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن مقاليد السموات والأرض فقال : هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير فإن صح هذا الحديث فمعناه أن من قال هذه الكلمات صادقا مخلصا نال الخيرات والبركات من السموات والأرض لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك فكأنها مفاتيح له (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية قال الزمخشري إنها متصلة بقوله وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم وما بينهما من الكلام اعتراض (أَفَغَيْرَ اللهِ) منصوب بأعبد (تَأْمُرُونِّي) حذفت إحدى النونين تخفيفا (١) وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) دليل على إحباط عمل المرتد مطلقا خلافا للشافعي في قوله : لا يحبط عمله إلا إذا مات على الكفر ، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة والخطاب بقوله : لئن أشركت لواحد : فالجواب أنه أوحى إلى كل واحد منهم على حدته ، فإن قيل : كيف خوطب الأنبياء بذلك وهم معصومون من الشرك ، فالجواب أن ذلك على وجه الفرض والتقدير : أي لو وقع منهم شرك لحبطت أعمالهم ، لكنهم لم يقع منهم شرك بسبب العصمة ، ويحتمل أن يكون الخطاب لغيرهم وخوطبوا هم ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه بما يجب له ولا نزهوه عما لا يليق به ، والضمير في قدروا لقريش وقيل : اليهود (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) المقصود بهذا تعظيم جلال الله والردّ على الكفار الذين ما قدروا الله حق قدره ، ثم اختلف الناس فيها كاختلافهم في غيرها من المشكلات ، فقالت المتأولة : إن القبضة واليمين عبارة عن القدرة وقال ابن الطيب إنها صفة زائدة على صفات الذات ، وأما السلف الصالح فسلموا علم ذلك إلى الله ، ورأوا أن هذا من المتشابه الذي لا يعلم علم حقيقته إلا الله ، وقد قال ابن عباس ما معناه : إن الأرض في قبضته والسموات مطويات كل ذلك بيمينه ، وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في قبضة اليد الواحدة ، والسموات مطويات باليمين الأخرى لأن كلتا يديه يمين (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل ، وهذه النفخة نفخة الصعق وهو الموت ، وقد قيل : إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل : يعني جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت ، ثم

__________________

(١). قرأ نافع بالتخفيف : تأمروني. وقرأ ابن عامر : تأمرونني وقرأ الباقون : تأمرونّي بتشديد النون.

٢٢٥

يميتهم الله بعد ذلك وقيل : استثناء الأنبياء وقيل الشهداء (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) هي نفخة القيام (قِيامٌ يَنْظُرُونَ) إنه من النظر ، وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم (وَوُضِعَ الْكِتابُ) يعني صحائف الأعمال وإنما وحّدها لأنه أراد الجنس وقيل : هو اللوح المحفوظ (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليشهدوا على قومهم (وَالشُّهَداءِ) يحتمل أن يكون جمع شاهد أو جمع شهيد في سبيل الله ، والأول أرجح لأن فيه معنى الوعيد ، ولأنه أليق بذكر الأنبياء الشاهدين ، والمراد على هذا أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنهم يشهدون على الناس وقيل : يعني الملائكة الحفظة (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الضمير لجميع الخلق (زُمَراً) في الموضعين جمع زمرة وهي الجماعة من الناس وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر ، والزمرة الثانية على مثل أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل (١) (خَزَنَتُها) جمع خازن حيث وقع (كَلِمَةُ الْعَذابِ) يعني القضاء السابق بعذابهم (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) (٢) إنما قال في الجنة وفتحت أبوابها بالواو وقال في النار فتحت بغير واو لأن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل مجيء أهلها ، والمعنى حتى إذا جاؤها وأبوابها مفتحة ، فالواو واو الحال وجواب إذا على هذا محذوف ، وأما أبواب النار فإنها فتحت حين جاءوها ، فوقع قوله : فتحت جواب الشرط فكأنه بغير واو وقال الكوفيون : الواو في أبواب الجنة واو الثمانية ، لأن أبواب الجنة ثمانية وقيل : الواو زائدة وفتحت هو الجواب (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) يعني أرض الجنة والوراثة هنا استعارة كأنهم ورثوا موضع من لم يدخل الجنة (نَتَبَوَّأُ) أي ننزل من الجنة حيث نشاء ونتخذه مسكنا (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي محدقين به دائرين حوله (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) الضمير لجميع الخلق كالموضع الأول ، ويحتمل هنا أن يكون للملائكة والقضاء بينهم توفية أجورهم على حسب منازلهم (وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يحتمل أن يكون القائل لذلك الملائكة أو جميع الخلق أو أهل الجنة : لقوله (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

__________________

(١). الحديث رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٢٥٣.

(٢). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : فتحت وفتحت بالتخفيف وقرأ الباقون : فتّحت وفتّحت بالتشديد.

٢٢٦

سورة غافر

مكية إلا آيتي ٥٦ و ٥٧ فمدنيتان وآياتها ٨٥ نزلت بعد الزمر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة غافر (المؤمن)) (حم) تقدم الكلام على حروف الهجاء ، وتختص حم بأن معناها : حمّ الأمر ، أي قضي ، وقال ابن عباس : «الر» و «حم» و «ن» هي حروف الرحمن (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ذكر في الزمر (ذِي الطَّوْلِ) أي ذي الفضل والإنعام ، وقيل : الطول : الغنى والسعة (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) جعل لا يغررك بمعنى لا يحزنك ففيه تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعيد للكفار (وَالْأَحْزابُ) يراد بهم عاد وثمود وغيرهم (لِيَأْخُذُوهُ) أي ليقتلوه (لِيُدْحِضُوا) أي ليبطلوا به الحق (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) (١) أي وجب قضاؤه (وَمَنْ حَوْلَهُ) عطف على الذين يحملون (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إن قيل : ما فائدة قوله ويؤمنون به ، ومعلوم أن حملة العرش ومن حوله يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإيمان وشرفه ، قال ذلك الزمخشري ، وقال : إن فيه فائدة أخرى وهي : أن معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال ، كسائر الخلق لا بالرؤية ، وهذه نزعته إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤية الله.

(وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أصل الكلام وسعت رحمتك وعلمك كل شيء ، فالسعة في المعنى مسندة إلى الرحمة والعلم ، وإنما أسندتا إلى الله تعالى في اللفظ لقصد

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر : حقت كلمات ربك وقرأ الباقون : كلمة.

٢٢٧

المبالغة في وصف الله تعالى بهما كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) يحتمل أن يكون المعنى قهم السيئات نفسها ، بحيث لا يفعلونها ، أو يكون المعنى : قهم جزاء السيئات ، فلا تؤاخذهم بها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) المقت البغض الذي يوجبه ذنب أو عيب ، وهذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار ؛ فإنهم إذا دخلوها مقتوا أنفسهم ، أي مقت بعضهم بعضا ، ويحتمل أن يمقت كل واحد منهم نفسه فتناديهم الملائكة وتقول لهم : مقت الله لكم في الدنيا على كفركم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم. فقوله : لمقت الله مصدر مضاف إلى الفاعل ، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه وقوله : إذ تدعون ظرف العامل فيه مقت الله عاما من طريق المعنى ، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو ، لأن مقت الله مصدر فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته ، فيحتاج أن يقدر للظرف عامل ، وعلى هذا أجاز بعضهم الوقف على قوله أنفسكم ، والابتداء بالظرف وهذا ضعيف ، لأن المراعى المعنى. وقد جعل الزمخشري مقت الله عاما في الظرف ولم يعتبر الفصل (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) هذه الآية كقوله : وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدما ، أو كونهم في الأصلاب ، أو في الأرحام ، والموتة الثانية الموت المعروف ، والحياة الأولى حياة الدنيا ، والحياة الثانية حياة البعث في القيامة. وقيل : الحياة الأولى حياة الدنيا ، والثانية : الحياة في القبر ، والموتة الأولى الموت المعروف ، والموتة الثانية بعد حياة القبر ، وهذا قول فاسد لأنه لا بدّ من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاث مرات.

فإن قيل : كيف اتصال قولهم أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله؟ فالجواب : أنهم كانوا في الدنيا يكفرون بالبعث ، فلما دخلوا النار مقتوا أنفسهم على ذلك ، فأقروا به حينئذ ليرضوا الله بإقرارهم ، حينئذ فقولهم : أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين إقرار بالبعث على أكمل الوجوه ، طمعا منه أن يخرجوا عن المقت الذي مقتهم الله ؛ إذ كانوا يدعون إلى الإسلام فيكفرون (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) الفاء هنا رابطة معناها التسبب ، فإن قيل : كيف يكون قولهم أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين سببا لاعترافهم بالذنوب؟ فالجواب أنهم كانوا كافرين بالبعث ، فلمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم ، علموا أن الله قادر على البعث فاعترفوا بذنوبهم ، وهي إنكار البعث ، وما أوجب لهم إنكاره من المعاصي ، فإن من لم يؤمن بالآخرة لا يبالي بالوقوع في المعاصي. (ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ) الباء سببية للتعليل ، والإشارة بذلكم يحتمل أن تكون للعذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقت الله لهم أو مقتهم لأنفسهم ،

٢٢٨

والأحسن أن تكون إشارة إلى ما يقتضيه سياق الكلام وذلك أنهم لما قالوا : فهل إلى خروج من سبيل ، كأنهم قيل لهم : لا سبيل إلى الخروج ، فالإشارة بقوله ذلكم إلى عدم خروجهم من النار (يُرِيكُمْ آياتِهِ) يعني : العلامات الدالة عليه من مخلوقاته ومعجزات رسله (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) يعني المطر.

(رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) يحتمل أن يكون المعنى مرتفع الدرجات ، فيكون بمعنى العالي أو رافع درجات عباده في الجنة وفي الدنيا (يُلْقِي الرُّوحَ) يعني الوحي (مِنْ أَمْرِهِ) يحتمل أن يريد الأمر الذي هو واحد الأمور ، أو الأمر بالخبر ، فعلى الأول تكون من للتبعيض أو لابتداء الغاية ، وعلى الثاني تكون لابتداء الغاية أو بمعنى الباء (يَوْمَ التَّلاقِ) (١) يعني يوم القيامة ، وسمي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه ، وقيل : لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض وقيل : لأنه يلتقي الخلق مع ربهم ، والفاعل في ينذر ضمير يعود على من يشاء أو على الروح أو على الله (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) هذا من كلام الله تعالى تقريرا للخلق يوم القيامة ؛ فيجيبونه ويقولون : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل : بل هو الذي يجيب نفسه ؛ لأن الخلق يسكتون هيبة له ، وقيل : إن القائل (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ملك (يَوْمَ الْآزِفَةِ) يعني القيامة ومعناه القريبة (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ) معناه أن القلوب قد صعدت من الصدور ، لشدّة الخوف حتى بلغت الحناجر ، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجاز عبّر به عن شدّة الخوف. والحناجر جمع حنجرة وهي الحلق (كاظِمِينَ) أي محزونين حزنا شديدا كقوله : (فَهُوَ كَظِيمٌ) [يوسف : ٨٤] وقيل : معناه يكظمون حزنهم أي يطمعون أن يخفوه ، والحال تغلبهم ، وانتصابه على الحال من أصحاب القلوب ، لأن معناه قلوب الناس ، أو من المفعول في أنذرهم أو من القلوب. وجمعها جمع المذكر لمّا وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ) أي صديق مشفق (وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) يحتمل أن يكون نفى الشفاعة وطاعة الشفيع أو نفى طاعة خاصة. كقولك : ما جاءني رجل صالح فنفيت الصلاح ، وإن كان قد جاءك رجل غير صالح ، والأول أحسن لأن الكفار ليس لهم من يشفع فيهم (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) أي استراق النظر ، والخائنة مصدر بمعنى الخيانة ، أو وصف للنظرة وهذا الكلام

__________________

(١). قرأ ابن كثير وورش : لينذر يوم التلاقي ويوم التنادي (٣٢) بإثبات الياء في الوصل وأثبتهما ابن كثير في الوقف أيضا. وحذفهما الباقون وصلا ووقفا.

٢٢٩

متصل بما تقدم من ذكر الله ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله لينذر يوم التلاق (١) (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) حجة ظاهرة وهي المعجزات (قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) هذا القتل غير القتل الذي كانوا يقتلون أولا قبل ميلاد موسى.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) المعنى : أنه لا يبالى بدعاء موسى لربه ، ولا يخاف من ذلك إن قتله ، ويظهر من قوله : ذروني أنه كان في الناس من ينازعه في قتل موسى ، وذلك يدل على أن فرعون كان قد اضطرب أمره بظهور معجزات موسى (أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) يعني فساد أحوالهم في الدنيا ، وقرأ [عاصم وحمزة والكسائي] : أو أن يظهر وقرأ [الباقون] بالواو فقط ويظهر بفتح الياء ورفع الفساد على الفاعلية وبضم الياء ونصب الفساد على المفعولية (وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ) الآية لما سمع موسى ما همّ به فرعون من قتله ، استعاذ بالله فعصمه الله منه ، وقال : من كل متكبر ليشمل فرعون وغيره ، وليكون فيه وصف لغير فرعون بذلك الوصف القبيح.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) قيل : اسم هذا الرجل حبيب وقيل : حزقيل ، وقيل : شمعون بالشين المعجمة ، وروي أن هذا الرجل المؤمن كان ابن عم فرعون ، فقوله : من آل فرعون صفة للمؤمن ، وقيل : كان من بني إسرائيل ، فقوله : من آل فرعون على هذا يتعلق بقوله يكتم إيمانه ، والأول أرجح ؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير ، ولقوله : «فمن ينصرنا من بأس الله» لأن هذا كلام قريب شفيق ، ولأن بني إسرائيل حينئذ كانوا أذلاء ، بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام ، و (أَنْ يَقُولَ) في موضع المفعول من أجله تقديره : أتقتلونه من أجل أن يقول ربي الله (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) أي إن كان

__________________

(١). الآية : [٢٠] قوله : والذين يدعون قرأها نافع : تدعون.

٢٣٠

موسى كاذبا في دعوى الرسالة فلا يضركم كذبه ، فلأي شيء تقتلونه ، فإن قيل : كيف قال :وإن يك كاذبا بعد أن كان قد آمن به؟ فالجواب أنه لم يقل ذلك على وجه التكذيب له ، وإنما قاله على وجه الفرض والتقدير ، وقصد بذلك المحاجّة لقومه ، فقسم أمر موسى إلى قسمين ، ليقيم عليهم الحجة في ترك قتله على كل وجه من القسمين (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) قيل : إن بعض هنا بمعنى كل وذلك بعيد ، وإنما قال بعض ولم يقل كل مع أن الذي يصيبهم هو كل ما يعدهم ليلاطفهم في الكلام ، ويبعد عن التعصب لموسى ، ويظهر النصيحة لفرعون وقومه ، فيرتجى إجابتهم للحق (وَقالَ الَّذِي آمَنَ) هو المؤمن المذكور أولا ، وقيل : هو موسى عليه‌السلام وهذا بعيد ، وإنما توهموا ذلك لأنه صرح هنا بالإيمان ، وكان كلام المؤمن أولا غير صريح ؛ بل كان فيه تورية وملاطفة لقومه ، إذ كان يكتم إيمانه ، والجواب : أنه كتم إيمانه أول الأمر ، ثم صرح به بعد ذلك ، وجاهرهم مجاهرة ظاهرة ، لما وثق بالله حسبما حكى الله من كلامه إلى قوله (فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ)(يَوْمَ التَّنادِ) التنادي يعني : يوم القيامة وسمي بذلك لأن المنادي ينادي الناس ، وذلك قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ) وقيل : لأن بعضهم ينادي بعضا ، أي ينادي أهل الجنة (أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) [الأعراف :

٤٤] وينادي أهل النار : (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] (يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) أي منطلقين إلى النار ، وقيل : هاربين من النار.

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ) قيل : هو يوسف بن يعقوب ، وقيل : هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب ، والبينات التي جاء بها يوسف لم تعيّن لنا ، واختلف هل أدركه فرعون موسى أو فرعون آخر قبله لأن كل من ملك مصر يقال له فرعون (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) كلامهم هذا لا يدل على أنهم مؤمنون برسالة يوسف ، وإنما مرادهم : لم يأت أحد يدّعي الرسالة بعد يوسف ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : إنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) بدل من مسرف مرتاب وإنما جاز إبدال الجمع من المفرد ، لأنه في معنى الجمع ، كأنه قال : كل مسرف (كَبُرَ مَقْتاً) فاعل كبر مصدر يجادلون ، وقال الزمخشري : الفاعل ضمير من هو

٢٣١

مسرف (الْأَسْبابَ) هنا الطرق وقيل : الأبواب ، وكررها للتفخيم وللبيان (فَأَطَّلِعَ) بالرفع (١) عطف على أبلغ وبالنصب بإضمار أن في جواب لعل ، لأن الترجّي غير واجب ، فهو كالتمني في انتصاب جوابه ، ولا نقول : إن لعل أشربت معنى ليت كما قال بعض النحاة (تباب) أي خسران (متاع) أي يتمتع به قليلا ، فإن قيل : لم كرر المؤمن نداء قومه مرارا؟ فالجواب : أن ذلك لقصد التنبيه لهم ، وإظهار الملاطفة والنصيحة ، فإن قيل : لم جاء بالواو في قوله ويا قوم في الثالث دون الثاني؟ فالجواب : أن الثاني بيان للأول وتفسير ، فلم يصح عطفه عليه بخلاف الثالث ، فإنه كلام آخر فصح عطفه عليه (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) أي ليس لي علم بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله ، وإذا لم يكن إلها لم يصح علم ربوبيته (لا جَرَمَ) أي لا بد ولا شك (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ) قال ابن عطية ليس له قدر ولا حق ، يجب أن يدعى إليه كأنه قال : أتدعونني إلى عبادة ما لا خطر له في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه : ليس له دعوة قائمة ، أي لا يدعى أحد إلى عبادته (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) دليل على أن من فوض أمره إلى الله عزوجل كان الله معه (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) النار بدل من سوء العذاب ، أو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر ، وعرضهم عليها من حين موتهم إلى يوم القيامة ، وذلك مدّة البرزخ بدليل قوله : ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ، واستدل أهل السنة بذلك على صحة ما ورد من عذاب القبر ، وروي أن أرواحهم في أجواف طيور سود تروح بهم وتغدو إلى النار (غُدُوًّا وَعَشِيًّا) قيل : معناه في كل غدوة وعشية من أيام الدنيا ، وقيل : المعنى على تقدير : ما بين

__________________

(١). قرأ حفص فأطلع بالنصب والباقون : بالرفع.

٢٣٢

الغدوة والعشية ، لأن الآخرة لا غدوة فيها ولا عشية (لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) إن قيل : هلا قال الذين في النار لخزنتها فلم صرح باسمها؟ فالجواب أن في ذكر جهنم تهويلا ليس في ذكر الضمير (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) يحتمل أن يكون من كلام خزنة جهنّم فيكون متّصلا بقوله : (فَادْعُوا) أو يكون من كلام الله تعالى استئنافا.

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) قيل : إن هذا خاص فيمن أظهره الله على الكفار ، وليس بعام ؛ لأن من الأنبياء من قتله قومه كزكريا ويحي ، والصحيح أنه عام ، والجواب عما ذكروه أن زكريا ويحيى لم يكونا من الرسل ، إنما كانا من الأنبياء الذين ليسوا بمرسلين ، وإنما ضمن الله نصر الرسل خاصة ، لا نصر الأنبياء كلهم (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) يعني يوم القيامة. والأشهاد جمع شاهد أو شهيد ، ويحتمل أن يكون بمعنى الحضور. أو الشهادة على الناس أو الشهادة في سبيل الله ، والأظهر أنه بمعنى الشهادة على الناس لقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) [النساء : ٤١] (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) يحتمل أنهم لا يعتذرون أو يعتذرون ، ولكن لا تنفعهم معذرتهم ، والأول أرجح لقوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٦] فنفى الاعتذار والانتفاع به (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يعني وعده لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر والظهور على أعدائه الكفار (بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) قيل. العشي صلاة العصر والإبكار صلاة الصبح ، وقيل : العشي بعد العصر إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ) يعني كفار قريش (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) أي تكبر وتعاظم ، يمنعهم من أن يتبعوك أن ينقادوا إليك وقيل : كبرهم أنهم أرادوا النبوة لأنفسهم ، ورأوا أنهم أحق بها ، والأول أظهر لأن إرادتهم النبوة لأنفسهم حسد ، والأول هو الكبر (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك ، ومن نيل النبوة (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) أي استعذ من شرهم لأنهم أعداء لك ، واستعذ من مثل حالهم في الكبر والحسد ، واستعذ بالله في جميع أمورك على الإطلاق.

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) الخلق هنا مصدر مضاف إلى

٢٣٣

المفعول ، والمراد به الاستدلال على البعث ، لأن الإله الذي خلق السموات الأرض على كبرها ، قادر على إعادة الأجسام بعد فنائها ، وقيل : المراد توبيخ الكفار المتكبرين ، كأنه قال : خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، فما بال هؤلاء يتكبرون على خالقهم ، وهم من أصغر مخلوقاته وأحقرهم ، والأول أرجح لوروده في مواضع من القرآن لأنه قال بعده : إن الساعة لآتية لا ريب فيها فقدم الدليل ، ثم ذكر المدلول.

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الدعاء هنا هو الطلب والرغبة ، وهذا وعد مقيّد بالمشيئة ، وهي موافقة القدر لمن أراد أن يستجيب له ، وقيل : ادعوني هنا : اعبدوني بدليل قوله بعده : إن الذين يستكبرون عن عبادتي وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الدعاء هو العبادة (١) ثم تلا الآية (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) على هذا القول بمعنى أغفر لكم أو أعطيكم أجوركم. والأول أظهر ، ويكون قوله : (يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي) بمعنى يستكبرون عن الرغبة إليّ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه (٢) وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدعاء هو العبادة فمعناه أن الدعاء والرغبة إلى الله هي العبادة ، لأن الدعاء يظهر فيه افتقار العبد وتضرعه إلى الله (داخِرِينَ) أي صاغرين (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) ذكر في [يونس : ٦٧] (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) يعني المستلذات ، لأنه إذا جاء ذكر الطيبات في معرض الإنعام فيراد به المستلذات ، وإذا جاء في معرض التحليل والتحريم فيراد به الحلال والحرام (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هذا متصل بما قبله ، قال ذلك ابن عطية والزمخشري وتقديره : ادعوه مخلصين قائلين (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ولذلك قال ابن عباس : من قال لا إله إلا الله فليقل الحمد لله رب العالمين ، ويحتمل أن يكون الحمد لله استئنافا (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً)

__________________

(١). حديث رواه أحمد عن النعمان بن بشير ج ٤ ص ٢٧١.

(٢). لم أعثر عليه ومعناه صحيح والله أعلم.

٢٣٤

أراد الجنس ولذلك أفرد لفظه مع أن الخطاب لجماعة (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ذكر الأشد في سورة يوسف عليه‌السلام : [يوسف : ٢٢] واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك ليكونوا أو أما لتبلغوا أجلا مسمى فمتعلق بمحذوف آخر تقديره : فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى وهو الموت أو يوم القيامة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ) يعني كفار قريش ، وقيل : هم أهل الأهواء كالقدرية وغيرهم ، وهذا مردود بقوله : الذين كذبوا بالكتاب إلا إن جعلته منقطعا مما قبله وذلك بعيد (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) العامل في إذ يعملون وجعل الظرف الماضي من الموضع المستقبل لتحقيق الأمر (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي يجرون والحميم الماء الشديد الحرارة (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) هذا من قولك : سجرت التنور إذا ملأته بالنار ، فالمعنى أنهم يدخلون فيها كما يدخل الحطب في التنور ، ولذلك قال مجاهد في تفسيره : توقد بهم النار (تمرحون) من المرح وهو الأشر والبطر. وقيل : الفخر والخيلاء (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) إن قيل : قياس النظم أن يقول بئس مدخل الكافرين لأنه تقدم قبله ادخلوا. فالجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثوى (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) أصل إما إن نريك ودخلت ما الزائدة بعد إن الشرطية ، وجواب الشرط محذوف تقديره : إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب قرّت عينك بذلك ، وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا يرجعون ، فننتقم منهم أشد الانتقام.

(مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول وفي حديث آخر أربعة آلاف ، وفي حديث أبي ذر إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر (١) ؛ فذكر الله بعضهم في القرآن ، فهم الذين قص عليه ولم يذكر سائرهم فهم الذين لم يقصص عليه (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِ) قال الزمخشري :

__________________

(١). حديث أبو ذر رواه أحمد بطوله ج ٥ ص ٢٦٥.

٢٣٥

أمر الله : القيامة ، وقال ابن عطية : المعنى إذا أراد الله إرسال رسول قضي ذلك ، ويحتمل أن يريد بأمر الله إهلاك المكذبين للرسل لقوله (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) هنالك في الموضعين يراد به الوقت والزمان ، وأصله ظرف مكان ثم وضع موضع ظرف الزمان (الأنعام) هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، فقوله (لِتَرْكَبُوا مِنْها) يعني الإبل ، ومنها تأكلون يعني اللحوم والمنافع منها اللبن والصوف وغير ذلك (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً) يعني قطع المسافة البعيدة ، وحمل الأثقال على الإبل ، وتحملون يريد الركوب عليها وإنما كرره بعد قوله : لتركبوا منها لأنه أراد الركوب الأول المتعارف في القرى والبلدان وبالحمل عليها ، الأسفار البعيدة ، قاله ابن عطية (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة ولذلك وبخهم بقوله : (فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) الضمير يعود على الأمم المكذبين وفي تفسير علمهم وجوه : أحدها أنه ما كانوا يعتقدون من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ، والثاني أنه علمهم بمنافع الدنيا ووجوه كسبها ، والثالث أنه علم الفلاسفة الذين يحتقرون علوم الشرائع وقيل : الضمير يعود على الرسل ، أي فرحوا بما أعطاهم الله من العلم بالله وشرائعه أو بما عندهم من العلم بأن الله ينصرهم على من يكذبهم ، وأما الضمير في : وحاق بهم فيعود على الكفار باتفاق ، ولذلك ترجح أن يكون الضمير في فرحوا يعود عليهم ليتسق الكلام (سنة الله) انتصب على المصدرية والله سبحانه أعلم.

٢٣٦

سورة فصلت

مكية وآياتها ٥٤ نزلت بعد غافر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة حم السجدة) (فُصِّلَتْ) أي بينت وقيل قطعت إلى سور وآيات (قُرْآناً عَرَبِيًّا) منصوب بفعل مضمر على التخصيص أو حال أو مصدر (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل إذا نظروا فيها ، وذلك هو العلم الذي يوجب التكليف وقيل : معناه يعلمون الحق والإيمان فالأول عام وهذا خاص ، والأول أولى لقوله : (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) لأن الإعراض ليس من صفة المؤمنين ، وقيل : يعلمون لسان العرب فيفهمون القرآن إذ هو بلغتهم ، وقوله : لقوم يتعلق بتنزيل أو فصلت والأحسن أن يكون صفة لكتاب (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يقبلون ولا يطيعون ، وعبّر عن ذلك بعدم السماع على وجه المبالغة (فِي أَكِنَّةٍ) جمع كنان وهو الغطاء ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) عبارة عن بعدهم عن الإسلام (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) قيل : معناه اعمل على دينك ، وإننا عاملون على ديننا فهي متاركة ، وقيل : اعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، فهو تهديد (الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) هي زكاة المال ، وإنما خصها بالذكر لصعوبتها على الناس ، ولأنها من أركان الإسلام ، وقيل : يعني بالزكاة التوحيد ، وهذا بعيد. وإنما حمله على ذلك لأن الآيات مكية. لم تفرض الزكاة إلا بالمدينة ، والجواب أن المراد النفقة في طاعة الله مطلقا ، وقد كانت مأمورا بها بمكة (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع من قولك ، مننت الحبل إذا قطعته وقيل : غير منقوص وقيل : غير محصور ، وقيل : لا يمن عليهم به لأن المن يكدر الإحسان (أَنْداداً) أي أمثالا وأشباها من الأصنام وغيرها (رَواسِيَ) يعني الجبال (وَبارَكَ فِيها) أكثر خيرها (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها)

٢٣٧

أي أرزاق أهلها ومعاشهم وقيل : يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض ، والأول أظهر (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) يريد أن الأربعة كملت باليومين الأولين ، فخلق الأرض في يومين وجعل فيها ما ذكر في يومين ، فتلك أربعة أيام وخلق السموات في يومين فتلك ستة أيام حسبما ذكر في مواضع كثيرة ، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زيادة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثمانية أيام ، بخلاف ما ذكر في المواضع الكثيرة (سَواءً) بالنصب مصدر تقديره : استوت استواء قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية انتصب على الحال للسائلين قيل : معناه لمن سأل عن أمرها ، وقيل : معناه للطالبين لها ، ويعني بالطلب على هذا حاجة الخلق إليها ، وحرف الجر يتعلق بمحذوف على القول الأول تقديره : يبين ذلك لمن سأل عنه ويتعلق بقدّر على القول الثاني.

(ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أي قصد إليها ، ويقتضي هذا الترتيب : أن الأرض خلقت قبل السماء ، فإن قيل : كيف الجمع بين ذلك وبين قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] فالجواب لأنها خلقت قبل السماء ، ثم دحيت بعد ذلك (وَهِيَ دُخانٌ) روي أنه كان العرش على الماء ، فأخرج إليه من الماء دخان فارتفع فوق الماء فأيبس الماء فصار أرضا ، ثم خلق السموات من الدخان المرتفع (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) هذه عبارة عن لزوم طاعتها ، كما يقول الملك لمن تحت يده : افعل كذا شئت أو أبيت ، أي : لا بد لك من فعله ، وقيل : تقديره ائتيا طوعا وإلا أتيتما كرها ، ومعنى هذا الإتيان تصويرهما على الكيفية التي أرادها الله ، وقوله لهما ائتيا مجاز ، وهو عبارة عن تكوينه لهما وكذلك قولهما : أتينا طائعين عبارة عن أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما ، وقيل : بل ذلك حقيقة وأنطق الله الأرض والسماء بقولهما : أتينا طائعين وإنما جمع طائعين جمع العقلاء لوصفهما بأوصاف العقلاء (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) أي صنعهنّ والضمير للسموات السبع ، وانتصابها على التمييز تفسيرا للضمير ، وأعاد عليها ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل ، فهو كقولك : الجذوع انكسرت ، وجمعهما جمع المفكر العاقل في قوله طائعين ، لأنه وصفهما بالطوع ، وهو فعل العقلاء فعاملهما معاملتهم فهو كقوله في [سورة يوسف : ٤] : رأيتهم لي ساجدين وأعاد ضمير التثنية في قوله : قالتا أتينا لأنه جعل الأرض فرقة والسماء أخرى (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) أي أوحى إلى سكانها من الملائكة ، وإليها نفسها ما شاء من الأمور ، التي بها قوامها وصلاحها ، وأضاف الأمر إليها لأنه فيها (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) يعني الشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة للسماء الدنيا سواء كانت فيها أو فيما فوقها من السموات (وَحِفْظاً) تقديره : وحفظناها حفظا ويجوز أن يكون مفعولا من أجله ، على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظا.

٢٣٨

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) الضمير لقريش (صاعِقَةً) يعني واقعة واحدة شديدة ، وهي مستعارة من صاعقة النار ، وقرئ صعقة بإسكان العين وهي الواقعة من قولك صعق الرجل (إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) معنى ما بين الأيدي المتقدم ، ومعنى ما خلف المتأخر ، فمعنى الآية : أن الرسل جاءوهم في الزمان المتقدم ، واتصلت نذارتهم إلى زمان عاد وثمود ، حتى قامت عليهم الحجة بذلك من بين أيديهم ، ثم جاءتهم رسل آخرون عند اكتمال أعمارهم ، فذلك من خلفهم ، قاله ابن عطية وقال الزمخشري : معناه أتوهم من كل جانب ، فهو عبارة عن اجتهادهم في التبليغ إليهم ، وقيل : أخبروهم بما أصاب من قبلهم ، فذلك ما بين أيديهم ، وأنذروهم ما يجري عليهم في الزمان المستقبل وفي الآخرة فذلك من خلفهم (أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أن حرف عبارة وتفسير أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا إلا الله (فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) ليس فيه اعتراف الكفار بالرسالة ، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودعواكم ، وفيه تهكم (رِيحاً صَرْصَراً) قيل : إنه من الصرّ وهو شدة البرد فمعناه باردة وقيل : إنه من قولك : صرصر إذا صوت فمعناه لها صوت هائل في أيام نحسات معناه من النحس وهو ضد السعد وقيل شديدة البرد وقيل : متتابعة والأول أرجح ، وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وقرئ (١) نحسات بإسكان الحاء وكسرها فأما الكسر فهو جمع نحس وهو صفة وأما الإسكان فتخفيف من الكسر على وزن فعل أو وصف بالمصدر.

(وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) أي بينا لهم فهو بمعنى البيان ، لا بمعنى الإرشاد (فَهُمْ يُوزَعُونَ) (٢) أي يدفعون بعنف (وَجُلُودُهُمْ) يعني الجلود المعروفة ، وقيل : هو كناية عن الفروج والأول أظهر (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) الآيات يحتمل أن تكون من كلام الجلود ، أو

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : نحسات بسكون الحاء وقرأ الباقون : نحسات بكسرها.

(٢). في الآية [١٩] قرأ نافع : ويوم نحشر أعداء الله وقرأ الباقون : يحشر أعداء.

٢٣٩

من كلام الله تعالى أو الملائكة ، وفي معناه وجهان : أحدهما لم تقدروا أن تستتروا من سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنها ملازمة لكم ، فلم يمكنكم احتراس من ذلك فشهدت عليكم ، والآخر لم تتحفظوا من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنكم لم تبالوا بشهادتها ، ولم تظنوا أنها تشهد عليكم ، وإنما استترتم لأنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون ، وهذا أرجح لاتّساق ما بعده معه ، ولما جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود : أنه قال اجتمع ثلاثة نفر قرشيان وثقفي ، قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ، فتحدثوا بحديث فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا : قال الآخر إنه يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا فقال الآخر : إن كان يسمع منا شيئا فإنه يسمعه كله فنزلت الآية (أَرْداكُمْ) أي أهلككم ؛ من الردى بمعنى الهلاك (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) هو من العتب بمعنى الرضا أي : إن طلبوا العتبى ليس فيهم من يعطاها (وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ) أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس (فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ما بين أيديهم ما تقدم من أعمالهم ، وما خلفهم ما هم عازمون عليه ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة ، والتكذيب بها (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي سبق عليهم القضاء بعذابهم (فِي أُمَمٍ) أي في جملة أمم ، وقيل : في بمعنى مع.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) روي أن قائل هذه المقالة أبو جهل بن هشام لعنه الله (وَالْغَوْا فِيهِ) المعنى لا تسمعوا إليه ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات وإنشاد الشعر ، وشبه ذلك حتى لا يسمعه أحد ، وقيل : معناه قعوا فيه وعيبوه (أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا) يقولون هذا إذا دخلوا جهنم ، فقولهم مستقبل ذكر بلفظ الماضي ، ومعنى اللذين أضلانا : كل من أغوانا من الجن والإنس ، وقيل : المراد ولد آدم الذي سن القتل وإبليس الذي أمر بالكفر والعصيان ، وهذا باطل لأن ولد آدم مؤمن عاصي ، وإنما طلب هؤلاء من أضلهم بالكفر (تَحْتَ أَقْدامِنا) أي في أسفل طبقة من النار (ثُمَّ اسْتَقامُوا) قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، استقاموا على قولهم : ربنا الله ، فصح إيمانهم ودام توحيدهم وقال عمر بن الخطاب : المعنى استقاموا على الطاعة وترك المعاصي ، وقول عمر أكمل وأحوط ،

٢٤٠