التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قسم هذه القرى على المهاجرين دون الأنصار قال للأنصار : إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم ، وشاركتموهم في هذه الغنيمة. وإن شئتم أمسكتم أموالكم وتركتم لهم هذه فقالوا : بل نقسم لهم من أموالنا ونترك لهم هذه الغنيمة (١) ، وروي أيضا أن سببها أن رجلا من الأنصار أضاف رجلا من المهاجرين فذهب الأنصاري بالضيف إلى منزله فقالت له امرأته : والله ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال لها : نوّمي صبيانك وأطفئي السراج ، وقدمي ما عندك للضيف ، ونوهمه نحن أنا نأكل ولا نأكل. ففعلا ذلك ، فلما غدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : عجب الله من فعلكما البارحة ونزلت الآية (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) شحّ النفس : هو البخل والطمع وفي هذا إشارة إلى أن الأنصار وقاهم الله شح أنفسهم فمدحهم الله بذلك ، وبأنهم يؤثرون على أنفسهم وبأنهم لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتي المهاجرون وأنهم يحبون المهاجرين.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) هذا معطوف على المهاجرين والأنصار المذكورين قبل ، فالمعنى أن الفيء للمهاجرين والأنصار ولهؤلاء الذين جاءوا من بعدهم ، ويعني بهم الفرقة الثالثة من الصحابة وهم من عدا المهاجرين والأنصار كالذين أسلموا يوم فتح مكة. وقيل : يعني من جاء بعد الصحابة وهم التابعون ومن تبعهم إلى يوم القيامة ، وعلى هذا حملها مالك فقال : إن من قال في أحد من الصحابة قول سوء فلا حظ له في الغنيمة والفيء ، لأن الله وصف الذين جاءوا بعد الصحابة بأنهم : يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فمن قال ضدّ ذلك فقد خرج عن الذين وصفهم الله.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا) الآية : نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول وقوم من المنافقين بعثوا إلى بني النضير ، وقالوا لهم : اثبتوا في حصونكم فإنا معكم كيف ما تقلبت حالكم (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي لا نسمع فيكم قول قائل ، ولا نطيع من يأمرنا بخذلانكم ، ثم كذبهم الله في هذه المواعيد التي وعدوا بها ، فإن قيل : كيف قال لئن نصروهم ليولنّ الأدبار بعد قوله لا ينصرونهم؟ فالجواب : أن المعنى على الفرض والتقدير أي لو فرضنا أن ينصروهم لولوا الأدبار (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) الرهبة هي

__________________

(١). هذا معنى : ويؤثرون على أنفسهم. وقد مدحهم الله بالإيثار ولو كان بهم خصاصة.

٣٦١

الخوف ، والمعنى أن المنافقين واليهود يخافون الناس أكثر مما يخافون الله (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي لا يقدرون على قتالكم مجتمعين إلا وهم في قرى محصنة ؛ بالأسوار والخنادق أو من وراء الحيطان دون أن يخرجوا إليكم (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) يعني عداوة بعضهم لبعض (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي تظن أنهم مجتمعون بالألفة والمودة وقلوبهم متفرقة بالمخالفة والشحناء (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) أي هؤلاء اليهود كمثل الذين من قبلهم يعني : يهود بني قينقاع فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير ، فكانوا أمثالهم. وقيل : يعني أهل بدر الكفار ، فإنهم قبلهم ومثلا لهم في أن غلبوا وقهروا. والأول أرجح : لأن قوله : قريبا يقتضي أنهم كانوا قبلهم بمدة يسيرة ، وذلك أوقع على بني قينقاع وأيضا فإن تمثيل بني النضير ببني قينقاع أليق لأنهم يهود مثلهم ، وأخرجوا من ديارهم كما فعل بهم وذلك هو المراد بقوله : (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) وقريبا ظرف زمان.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) مثّل الله المنافقين الذين أغووا يهود بني النضير ثم خذلوهم بعد ذلك بالشيطان فإنه يغوي ابن آدم ثم يتبرأ منه ، والمراد بالشيطان والإنسان هنا الجنس ، وقيل : أراد الشيطان الذي أغوى قريشا يوم بدر وقال لهم : إني جار لكم ، (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) الضميران يعودان على الشيطان والإنسان ، وفي ذلك تمثيل للمنافقين واليهود.

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) هذا أمر بأن تنظر كل نفس ما قدمت من أعمالها ليوم القيامة ، ومعنى ذلك محاسبة النفس لتكف عن السيئات وتزيد من الحسنات ، وإنما عبّر عن يوم القيامة بغد تقريبا له ، لأن كل ما هو آت قريب ، فإن قيل : لم كرر الأمر بالتقوى؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه تأكيد ، والآخر وهو الأحسن أنه أمر أولا بالتقوى استعدادا ليوم القيامة ، ثم أمر به ثانيا لأن الله خبير بما يعلمون ، فلما اختلف الموجبات كرره مع كل واحد منهما (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) يعني الكفار ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الترك أو الغفلة ، أي نسوا حقّ الله فأنساهم حقوق أنفسهم والنظر لها.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) الآية : توبيخ لابن آدم على قسوة قلبه ، وقلة

٣٦٢

خشوعه عند تلاوة القرآن فإنه إذا كان الجبل يخشع ويتصدع لو سمع القرآن فما ظنك بابن آدم (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي يعلم ما غاب عن المخلوقين وما شاهدوه ، وقيل : الغيب الآخرة والشهادة الدنيا ، والعموم أحسن (الْقُدُّوسُ) مشتق من التقديس ، وهو التنزه عن صفات المخلوقين ، وعن كل نقص وعيب وصيغة فعول للمبالغة كالسبوح (السَّلامُ) في معناه قولان : أحدهما الذي سلّم عباده من الجور ، والآخر السليم من النقائص ، وأصله مصدر بمعنى السلامة ، وصف به مبالغة أو على حذف مضاف تقديره ذو السلام (الْمُؤْمِنُ) فيه قولان : أحدهما أنه من الأمن أي الذي أمّن عباده ، والآخر أنه من الإيمان أي المصدق لعباده في إيمانهم ، أو في شهادتهم على الناس يوم القيامة ، أو المصدق نفسه في أقواله (الْمُهَيْمِنُ) في معناه ثلاثة أقوال الرقيب والشاهد والأمين ، قال الزمخشري أصله مؤيمن بالهمزة ثم أبدلت هاء (الْجَبَّارُ) في معناه قولان : أحدهما أنه من الإجبار بمعنى القهر ، والآخر أنه من الجبر أن يجبر عباده برحمته ، والأول أظهر (الْمُتَكَبِّرُ) أي الذي له التكبر حقا (الْبارِئُ) أي الخالق يقال : أبرأ الله الخلق أي خلقهم ولكن البارئ والفاطر يراد بهما الذي برأ الخلق واخترعه (الْمُصَوِّرُ) أي خالق الصور (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة (١) ، قال المؤلف قرأت القرآن على الأستاذ الصالح أبي عبد الله بن الكماد فلما بلغت إلى آخر سورة الحشر قال لي : ضع يدك على رأسك فقلت له ولم ذلك؟ قال لأني قرأت على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي ، ضع يدك على رأسك وأسند الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال : قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر قال لي : ضع يدك على رأسك قلت ولم ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال : أقرأني جبريل القرآن فلما انتهيت إلى خاتمة الحشر ، قال لي ضع يدك على رأسك يا محمد قلت : ولم ذاك قال : إن الله تبارك وتعالى افتتح القرآن فضرب فيه فلما انتهى إلى خاتمة سورة الحشر أمر الملائكة أن تضع أيديها على رؤوسها. فقالت : يا ربنا ولم ذاك قال إنه شفاء من كل داء إلا السام ، والسام الموت.

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٢٥٨.

٣٦٣

سورة الممتحنة

مدنية وآياتها ١٣ نزلت بعد الأحزاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) العدو يطلق على الواحد والجماعة ، والمراد به هنا كفار قريش ، وهذه الآية نزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد الخروج إلى مكة عام الحديبية ، فورّى عن ذلك بخيبر. فشاع في الناس أنه خارج إلى خيبر ، وأخبر هو جماعة من كبار أصحابه بقصده إلى مكة. منهم حاطب فكتب بذلك حاطب إلى قوم من أهل مكة ، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السماء. فبعث علي بن أبي طالب والزبير والمقداد وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة (١) معها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فانطلقوا حتى وجدوا المرأة فقالوا لها : أخرجي الكتاب. فقالت : ما معي كتاب ، ففتشوا جميع رحلها فما وجدوا شيئا فقال بعضهم : ما معها كتاب. فقال عليّ بن أبي طالب : ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كذب الله ، والله لتخرجنّ الكتاب أو لنجردنك قالت : أعرضوا عني ، فأخرجته من قرون رأسها وضفائرها وقيل : أخرجته من حجزتها فجاؤوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لحاطب : من كتب هذا؟ قال : أنا يا رسول الله. ولكن لا تعجل عليّ ، فو الله ما فعلت ذلك ارتدادا عن ديني ، ولا رغبة في الكفر ، ولكني كنت أمرأ ملصقا في قريش ، ولم أكن من أنفسها ، فأحببت أن تكون لي عندهم يد يرعونني بها في قرابتي ، فقال عمر بن الخطاب : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صدق حاطب إنه من أهل بدر ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. لا تقولوا لحاطب إلا خيرا (٢). فنزلت الآية عتابا لحاطب وزجرا عن أن يفعل أحد مثل فعله ، وفيها مع ذلك تشريف له ، لأن الله شهد له بالإيمان في قوله يا أيها الذين آمنوا.

(تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) عبارة عن إيصال المودّة إليهم ، وألقى يتعدى بحرف جر

__________________

(١). المرأة التي تسافر على الجمل ضمن الهودج.

(٢). انظر لمزيد تفصيل ما جاء في الطبري.

٣٦٤

وبغير حرف جر كقوله (أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) وهذه الجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : لا تتخذوا أو في موضع الصفة لأولياء أو استئناف (وَقَدْ كَفَرُوا) حال من الضمير في لا تتخذوا أو في تلقون (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) أي يخرجون الرسول ويخرجونكم : يعني إخراجهم من مكة ، فإنهم ضيقوا عليهم وآذوهم حتى خرجوا منها مهاجرين إلى المدينة ، ومنهم من خرج إلى أرض الحبشة (أَنْ تُؤْمِنُوا) مفعول من أجله أي يخرجونكم من أجل إيمانكم (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي) جواب هذا الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وهو : لا تتخذوا ، والتقدير إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي فلا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء ، وجهادا مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله وكذلك ابتغاء (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) معناه إن يظفروا بكم (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي تمنوا أن تكفروا فتكونون مثلهم ، قال الزمخشري : وإنما قال : ودّوا بلفظ الماضي بعد أن ذكر جواب الشرط بلفظ المضارع لأنهم أرادوا كفركم قبل كل شيء (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) إشارة إلى ما قصد حاطب من رعي قرابته (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) (١) يحتمل أن يكون من الفصل بالحكم بينهم أو من الفصل بمعنى التفريق ، أي يفرق بينكم وبين قرابتكم يوم القيامة ، وقيل : إن العامل في يوم القيامة ما قبله وذلك بعيد.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) الأسوة هو الذي يقتدى به ، فأمر الله المسلمين أن يقتدوا بإبراهيم الخليل عليه‌السلام وبالذين معه في عداوة الكفار والتبري منهم ، ومعنى : والذين معه من آمن به من الناس ، وقيل : الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره ، ورجح ابن عطية هذا القول بما ورد في الحديث أن إبراهيم عليه‌السلام قال لزوجته : ما على الأرض مؤمن بالله غيري وغيرك (بَراءٌ) جمع بريء (كَفَرْنا بِكُمْ) أي كذبناكم في أقوالكم ، ويحتمل أن يكون عبارة عن إفراط البغض والمقاطعة لهم (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) هذا استثناء من قوله أسوة حسنة ، فالمعنى اقتدوا بهم في عداوتهم للكفار ، ولا تقتدوا بهم في هذا ، لأن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له ، فلما

__________________

(١). قوله : يفصل بينكم : قرأها عاصم : يفصل بينكم وقرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو : يفصل. وقرأ حمزة والكسائي : يفصّل بالتشديد والكسر ، وقرأ ابن عامر : يفصّل بالتشديد والفتح.

٣٦٥

تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، وقيل : الاستثناء من التبري والقطيعة ، والمعنى تبرأ إبراهيم والذين معه من الكفار ، إلا أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) هذا من كلام سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، والذين معه وهو متصل بما قبل الاستثناء ، فهو من جملة ما أمروا أن يقتدوا به (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) في معناه قولان : أحدهما لا تنصرهم علينا فيكون ذلك لهم فتنة وسبب ضلالهم ؛ لأنهم يقولون : غلبناهم فيكون ذلك لهم ، لأنا على الحق وهم على الباطل. والآخر : لا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا ، ورجح ابن عطية هذا ، لأنه دعاء لأنفسهم وأما على القول الأول فهو دعاء للكفار ، ولكن مقصدهم ليس الدعاء للكفار ، وإنما هو دعاء لأنفسهم بالنصر بحيث لا يفتتن الكفار بذلك.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) لما أمر الله المسلمين بعداوة الكفار ومقاطعتهم فامتثلوا ذلك على ما كان بينهم وبين الكفار من القرابة ، فعلم الله صدقهم فآنسهم بهذه الآية ، ووعدهم بأن يجعل بينهم مودة ، وهذه المودة كملت في فتح مكة فإنه أسلم حينئذ سائر قريش ، وقيل : المودّة تزوّج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب سيد قريش ، ورد ابن عطية هذا القول بأن تزوج أم حبيبة كان قبل نزول هذه الآية (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) رخص الله للمسلمين في مبرة من لم يقاتلهم من الكفار ، واختلف فيهم على أربعة أقوال ، الأول أنهم قبائل من العرب منهم خزاعة وبنو الحارث بن كعب ؛ كانوا قد صالحوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على أن لا يقاتلوا ، ولا يعينوا عليه. الثاني أنهم كانوا من كفار قريش لم يقاتلوا المسلمين ولا أخرجوهم من مكة ، والآية على هذين القولين منسوخة بالقتال : الثالث أنهم النساء والصبيان ، وفي هذا ورد أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت : يا رسول الله إن أمي قدمت عليّ وهي مشركة أفأصلها قال نعم صلي أمك (١). الرابع أنه أراد من كان بمكة من المؤمنين الذين لم يهاجروا ، وأما الذين نهى الله عن مودتهم لأنهم قاتلوا المسلمين وظاهروا على إخراجهم فهم كفار قريش.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) أي اختبروهن

__________________

(١). الحديث متفق عليه وأورده النووي في رياض الصالحين باب بر الوالدين.

٣٦٦

لتعلموا صدق إيمانهن ، وإنما سماهن مؤمنات لظاهر حالهن ، وقد اختلف في هذا الامتحان على ثلاثة أقوال : أحدها أن تستحلف المرأة أنها ما هاجرت لبغضها في زوجها ، ولا لخوف وغير ذلك من أعراض الدنيا سوى حب الله ورسوله والدار الآخرة ، والثاني أن يعرض عليها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، والثالث أن تعرض عليها الشروط المذكورة بعد هذا من ترك الإشراك والسرقة ، وقتل أولادهن وترك الزنا والبهتان ، والعصيان ، فإذا أقرت بذلك فهو امتحانها قالته عائشة رضي الله تعالى عنها (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) نزلت هذه الآية أثر صلح الحديبية ، وكان ذلك الصلح قد تضمن أن يردّ المسلمون إلى الكفار كل من جاءهم مسلما من الرجال والنساء ، فنسخ الله أمر النساء بهذه الآية ، ومنع من رد المؤمنة إلى الكفار إذا هاجرت إلى المسلمين ، وكانت المرأة التي هاجرت حينئذ أميمة بنت بشر امرأة حسان بن الدحداحة ، وقيل : سبيعة الأسلمية ، ولما هاجرت جاء زوجها فقال يا محمد ردها علينا ، فإن ذلك في الشرط الذي لنا عليك فنزلت الآية : فامتحنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يردها ، وأعطى مهرها لزوجها ، وقيل : نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، هربت من زوجها إلى المسلمين ، واختلف في الرجال هل حكمهم في ذلك كالنساء فلا تجوز المهادنة على ردّ من أسلم منهم ، أو يجوز حتى الآن على قولين : والأظهر الجواز لأنه إنما نسخ ذلك في النساء (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) هذا تعليل للمنع من ردّ المرأة إلى الكفار ، وفيه دليل على ارتفاع النكاح بين المشركين والمسلمات.

(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) يعني أعطوا الكفار ما أعطوا نساءهم من الصدقات إذا هاجرن ، ثم أباح للمسلمين تزوجهن بالصداق (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) (١) العصم جمع عصمة أي النكاح ، فأمر الله المسلمين أن يفارقوا نساءهم الكوافر ، يعني المشركات من عبدة الأوثان ، فالآية على هذا محكمة ، وقيل : يعني كل كافرة. فعلى هذا نسخ منها جواز تزوج الكتابيات لقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] ، وروي أن الآية نزلت في امرأة لعمر بن الخطاب كانت كافرة فطلقها (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) أي اطلبوا من الكفار ما أنفقتم من الصدقات على أزواجكم ، اللاتي فررن إلى الكفار وليطلب الكفار منكم ما أنفقوا على أزواجهم ، اللاتي هاجرن إلى المسلمين (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا)

__________________

(١). قوله تمسكوا. قرأ أبو عمرو : تمسّكوا بالتشديد والباقون : بالتخفيف.

٣٦٧

معنى فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار : هروب نساء المسلمين إلى الكفار ، والخطاب في قوله (فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) للمسلمين وقوله : عاقبتم ليس من العقاب على الذنب ، وإنما هو من العقبى أي أصبتم عقبى ، وهي الغنيمة أو من التعاقب على الشيء ، كما يتعاقب الرجلان على الدابة إذا ركبها هذا مرة وهذا مرة أخرى ، فلما كان بعض نساء المسلمين يهربون إلى الكفار وبعض نساء الكفار يهربون إلى المسلمين جعل ذلك كالتعاقب على النساء ، وسبب الآية أنه لما قال الله : واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا : قال الكفار : لا نرضى بهذا الحكم ، ولا نعطي صداق من هربت زوجته إلينا من المسلمين ، فأنزل الله هذه الآية الأخرى وأمر الله المسلمين أن يدفعوا الصداق لمن هربت زوجته إلينا من المسلمين إلى الكفار (١) ، ويكون هذا المدفوع من مال الغنائم على قول من قال : إن معنى فعاقبتم غنمتم ، وقيل : من مال الفيء ، وقيل : من الصدقات التي كانت تدفع للكفار إذا فر أزواجهم إلى المسلمين فأزال الله دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه.

وهذه الأحكام التي تضمنتها هذه الآية ، قد ارتفعت [أي لا يعمل بها] لأنها نزلت في قضايا معينة ، وهي مهادنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع مشركي العرب ثم زالت هذه الأحكام بارتفاع الهدنة فلا تجوز مهادنة المشركين من العرب ، إنما هو في حقهم الإسلام أو السيف ، وإنما تجوز مهادنة أهل الكتاب والمجوس لأن الله قال في المشركين : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ، وقال في أهل الكتاب : حتى يعطوا الجزية ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : في المجوس : سنّوا بهم سنة أهل الكتاب (٢).

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) هذه البيعة بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايعهن بالكلام ، ولا تمس يده يد امرأة ورد هذا في الحديث الصحيح عن عائشة (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) معناه عند الجمهور أن تنسب المرأة إلى زوجها ولدا ليس له ، واختار ابن عطية أن يكون البهتان هنا على العموم ، بأن ينسب للرجل غير ولده ، أو تفتري على أحد بالقول ، أو تكذب فيما ائتمنها الله عليه من الحيض والحمل وغير ذلك ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) أي لا يعصينك فيما جاءت به الشريعة من الأوامر والنواهي ، ومن ذلك النهي عن النياحة وشق الجيوب ، ووصل الشعر وغير ذلك مما كان

__________________

(١). تبدو العبارة مضطربة وصوابها : أمر الله المسلمين بدفع الصداق للزوج المسلم الذي هربت زوجته إلى الكفار. والله أعلم.

(٢). أي عاملوهم كأهل الكتاب ما عدا أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم والحديث رواه مالك بن أنس في الموطأ عن عبد الرحمن بن عوف ج أول ص ٢٧٨.

٣٦٨

نساء الجاهلية يفعلنه ، وورد في الحديث أن النساء لما بايعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه المبايعة ، فقررهنّ على أن لا يسرقن قالت هند بنت عتبة : وهي امرأة أبي سفيان بن حرب يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح ، فهل عليّ إن أخذت من ماله بغير إذنه ، فقال لها خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (١) فلما قررهن على أن لا يزنين ، قالت هند يا رسول الله أتزني الحرة؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا تزني الحرة يعني في غالب المرأة ، وذلك أن الزنا في قريش إنما كان في الإماء فلما قال : ولا يقتلن أولادهن فقالت : نحن ربيناهم صغارا وقتلتهم أنت ببدر كبارا ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما وقفهن على أن لا يعصينه في معروف ، قالت : ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك.

وهذه المبايعة للنساء غير معمول بها اليوم ، لأنه أجمع العلماء على أنه ليس للإمام أن يشترط عليهن هذا فإما أن تكون منسوخة ولم يذكر الناسخ ، أو يكون ترك هذه الشروط لأنها قد تقررت وعلمت من الشرع بالضرورة فلا حاجة إلى اشتراطها (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) يعني اليهود ، وكان بعض فقراء المسلمين يتودّد إليهم ليصيبوا من أموالهم ، وقيل : يعني كفار قريش ، والأول أظهر لأن الغضب قد صار عرفا لليهود كقوله (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) من قال : إن القوم الذين غضب الله عليهم هو اليهود ، فمعنى يئسوا من الآخرة يئسوا من خير الآخرة والسعادة فيها ، ومن قال : إن القوم الذين غضب الله عليهم هم كفار قريش ، فالمعنى يئسوا من وجود الآخرة ، وصحتها لأنهم مكذبون بها تكذيبا جزما وقوله (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) يحتمل وجهين : أحدهما أن يريد كما يئس الكفار المكذبون بالبعث من بعث أصحاب القبور ، فقوله : من أصحاب يتعلق بيئس ، وهو على حذف مضاف ، والآخر أن يكون من أصحاب القبور لبيان الجنس أي كما يئس الذين في القبور من سعادة الآخرة ، لأنهم تيقنوا أنهم يعذبون فيها.

__________________

(١). انظر الحديث في البخاري ج ٣ ص ١٠١ عن عائشة.

٣٦٩

سورة الصف

مدنية وآياتها ١٤ نزلت بعد التغابن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) في سببها ثلاثة أقوال : أحدها قول ابن عباس أن جماعة قالوا : وددنا أن نعرف أحب الأعمال إلى الله فنعمله ، ففرض الله الجهاد فكرهه قوم فنزلت الآية والآخر أن قوما من شبان المسلمين كانوا يتحدثون عن أنفسهم في الغزو بما لم يفعلوا ، ويقولون فعلنا وصنعنا وذلك كذب ، فنزلت الآية زجرا لهم والثالث أنها نزلت في المنافقين ، لأنهم كانوا يقولون للمؤمنين : نحن معكم ومنكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك وهذا ضعيف ، لأنه خاطبهم بقوله : يا أيها الذين آمنوا إلا أن يريد أنهم آمنوا بزعمهم ، وفيما يظهرون. ومع ذلك فحكم الآية على العموم في زجر من يقول ما لا يفعل (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) كان بعض السلف يستحي أن يعظ الناس لأجل هذه الآية ويقول : أخاف من مقت الله ، والمقت هو البغض لريبة أو نحوها ، وانتصب مقتا على التمييز وأن تقولوا فاعل وقيل : فاعل كبر محذوف تقديره : كبر فعلكم مقتا وأن تقولوا بدل من الفاعل المحذوف أو خبر ابتداء مضمر (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال ، وقال بعض الناس : قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان ، لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان. قاله ابن عطية وهذا ضعيف ، خفي على قائله مقصد الآية ، وليس المراد نفس التراص ، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض. وقيل : هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) كانوا يؤذونه بسوء الكلام وبعصيانه وتنقيصه وانظر في الأحزاب (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى) [٦٩] (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي

٣٧٠

رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) هذا إقامة حجة عليهم وتوبيخ لهم ، وتقبيح لإذايته مع علمهم بأنه رسول الله ، ولذلك أدخل قد الدالة على التحقيق (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) هذه عقوبة على الذنب بذنب ، وزيغ القلب هو ميله عن الحق (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) إنما قال موسى يا قوم ، وقال عيسى يا بني إسرائيل ، لأنه لم يكن له فيهم أب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) معناه مذكور في [البقرة : ٤١] في قوله مصدقا لما معكم و (مُبَشِّراً بِرَسُولٍ) عن كعب أن الحواريين قالوا لعيسى : يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال نعم أمة أحمد حكماء علماء أتقياء أبرار (اسْمُهُ أَحْمَدُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لي خمسة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي وأنا العاقب فلا نبي بعدي (١) وأحمد مشتق من الحمد ، ويحتمل أن يكون فعلا سمي به ، أو يكون صفة سمي بها كأحمد ، ويحتمل أن يكون بمعنى حامد أو بمعنى محمود كمحمد (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (٢) يحتمل أن يريد عيسى أو محمدا عليهما الصلاة والسلام ويؤيد الأول اتصاله بما قبله ، ويؤيد الثاني قوله وهو يدعى إلى الإسلام لأن الداعي إلى الإسلام هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) (٣) ذكر في براءة [٣٢] (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) الآية تفسير للتجارة المذكورة ، قال الأخفش : هو عطف بيان عليها (يَغْفِرْ لَكُمْ) جزم في جواب تؤمنون لأنه بمعنى الأمر ، وقد قرأه ابن مسعود آمنوا وجاهدوا على الأمر ؛ لأنه يقتضي التحضيض (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) ارتفع أخرى على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره : ولكم نعمة أخرى ، أو انتصب على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره : ويمنحكم أخرى (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) تفسير لأخرى فهو بدل منها (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) قال الزمخشري عطف على تؤمنون

__________________

(١). رواه البخاري في كتاب المناقب ص ١٦٢ ج ٤ عن جبير بن مطعم.

(٢). بقية الآية : سحر مبين : قرأها حمزة والكسائي : ساحر مبين.

(٣). بقية الآية : متم نوره ، قرأ نافع وأبو عمرو وغيرهما : والله متمّ نوره بالتنوين.

٣٧١

بالله ؛ لأنه في معنى الأمر كونوا أنصارا لله (١) جمع ناصر وقد غلب اسم الأنصار على الأوس والخزرج ، سماهم الله به وليس ذلك المراد هنا (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) هذا التشبيه محمول على المعنى لأن ظاهره : كونوا أنصار الله كقول عيسى والمعنى : كونوا أنصار الله كما قال الحواريون حين قال لهم عيسى : من أنصاري إلى الله وقد ذكر في آل عمران [٥٢] معنى الحواريين وأنصاري إلى الله (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) قيل : إنهم ظهروا بالحجة ، وقيل : إنهم غلبوا الكفار بالقتال بعد رفع عيسى عليه‌السلام ، وقيل : إن ظهور المؤمنين منهم هو بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١). كونوا أنصار الله : قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو كونوا أنصارا لله.

٣٧٢

سورة الجمعة

مدنية وآياتها ١١ نزلت بعد الصف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْقُدُّوسِ) ذكر في الحشر [٢٤] (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) يعني سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأميين : هم العرب ، وقد ذكر معنى الأمي في الأعراف [١٥٧] (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ) عطفا على الأميين ، وأراد بهؤلاء فارس وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من هؤلاء الآخرون فأخذ بيد سلمان الفارسي ، وقال لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء (١) يعني فارس ، وقيل : هم الروم ومنهم على هذين القولين يريد به في البشرية وفي الدين ، لا في النسب وقيل : هم أهل اليمن وقيل : التابعون ، وقيل : هم سائر المسلمين ، والأول أرجح لوروده في الحديث الصحيح (لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي لما يلحقوا بهم بالنفي وسيلحقون ، وذلك أن لما لذكر الماضي القريب من الحال (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) إشارة إلى نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهداية الناس به (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) يعني اليهود ومعنى حملوا التوراة كلفوا العمل بها والقيام بأوامرها ونواهيها (لَمْ يَحْمِلُوها) لم يطيعوا أمرها ولم يعملوا بها ، شبههم الله بالحمار الذي يحمل الأسفار على ظهره ، ولم يدر ما فيها (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) يعني اليهود الذين كذبوا سيدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين حملوا التوراة ولم يحملوها ؛ لأن التوراة تنطق بنبوته صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، فكل من قرأها ولم يؤمن به فقد خالف التوراة (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) ذكر في البقرة [٩٤].

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي هريرة ج ٢ ص ٢٩٧ وله عدة ألفاظ : لو كان الإيمان ، لو كان الدين.

٣٧٣

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) النداء للصلاة هو الأذان لها ، ومن في قوله من يوم الجمعة لبيان إذا ، وتفسير له وذكر الله : يراد به الخطبة والصلاة ، ويتعلق بهذه الآية ثمان مسائل الأولى اختلف في الأذان للجمعة هل هو سنة كالأذان لسائر الصلوات؟ أو واجب لظاهر الآية لأنه شرط في السعي لها أن يكون عند الأذان والسعي واجب فالأذان واجب. الثانية كان الأذان للجمعة على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جدار المسجد وقيل : على باب المسجد وقيل : كان بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على المنبر ، وقد كان بنو أمية يأخذون بهذا ، وبقي بقرطبة زمانا وهو باق في المشرق إلى الآن. قال أبو محمد بن الفرس. قال مالك في المجموعة إن هشام بن عبد الملك هو الذي أحدث الأذان بين يديه قال : وهذا دليل على أن الحديث في ذلك ضعيف. الثالث كان الأذان للجمعة واحدا ثم زاد عثمان رضي الله عنه النداء على الزوراء [مكان وسط السوق] ليسمع الناس. واختلف الفقهاء هل المستحب أن يؤذن فيها اثنان أو ثلاثة : الرابعة ، السعي في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري ، وقرأ عمر بن الخطاب : فامضوا إلى ذكر الله وهذا تفسير للسعي ، فهو بخلاف السعي في قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : إذا نودي للصلاة فلا تأتونها وأنتم تسعون. الخامسة ، حضور الجمعة واجب ، لحمل الأمر الذي في الآية على الوجوب باتفاق ، إلا أنها لا تجب على المرأة ولا على الصبي ولا على المريض باتفاق ، ولا على العبد والمسافر عند مالك والجمهور ؛ خلافا للظاهرية. وتعلقوا بعموم الآية وحجة الجمهور قول رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : الجمعة واجبة على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض (١) وحجتهم في المسافر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يقيم الجمعة في السفر ، واختلف هل تسقط الجمعة بسبب المطر أم لا؟ وهل يجوز للعروس (٢) التخلف عنها أم لا ، والمشهور أنها لا تسقط عنه لعموم الآية ، السادسة اختلف متى يتعين الإقبال إلى الصلاة؟ فقيل : إذا زالت الشمس ، وقيل : إذا أذن المؤذن وهو ظاهر الآية ، السابعة اختلف في الموضع الذي يجب منه السعي إلى الجمعة. فقيل : ثلاثة أميال وهو مذهب مالك ، وقيل : ستة أميال وقيل : على من كان داخل المصر ، وقيل : على من سمع النداء ، وقيل : على من آواه الليل إلى أهله ، الثامنة اختلف في الوالي (٣) هل هو من شرط الجمعة أم لا على قولين ، والمشهور سقوطه لأن الله لم يشترطه في الآية.

__________________

(١). حديث وجوب الجمعة رواه الإمام الشافعي في الأمّ ونصه : تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا.

(٢). العروس : كلمة تطلق على الرجل والمرأة لغة وهو الحديث عهد بعرس.

(٣). الوالي يراد به الحاكم أو الحكومة باصطلاح : زماننا.

٣٧٤

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) أمر بترك البيع يوم الجمعة إذا أخذ المؤذنون في الأذان ، وذلك على الوجوب ، فيقتضي تحريم البيع. واختلف في البيع الذي يعقد في ذلك الوقت هل يفسخ أم لا؟ واختلف في بيع من لا تلزمهم الجمعة من النساء والعبد هل يجوز في ذلك الوقت أم لا؟ والأظهر جوازه ؛ لأنه إنما منع منه من يدعى إلى الجمعة (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) هذا الأمر للإباحة باتفاق ، وحكى الإجماع على ذلك ابن عطية وابن الفرس (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) قيل : معناه طلب المعاش ، فالأمر على هذا للإباحة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : الفضل المبتغى عيادة مريض أو صلة صديق أو اتباع جنازة وقيل : هو طلب العلم وإن صح الحديث لم يعدل إلى سواه.

(وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) سبب الآية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قائما على المنبر يخطب يوم الجمعة ، فأقبلت عير [قافلة] من الشام بطعام ، وصاحب أمرها دحية بن خليفة الكلبي ، وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورا بها ، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر ، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا. قال جابر بن عبد الله : أنا أحدهم. وذكر بعضهم أن منهم العشرة المشهود لهم بالجنة واختلف في الثاني عشر فقيل : عبد الله بن مسعود وقيل : عمار بن ياسر وقيل : إنما بقي معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهؤلاء : لقد كانت الحجارة سوّمت في السماء على المنفضين. وظاهر الآية يقتضي أن الجماعة شرط في الجمعة وهو مذهب مالك والجمهور ، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الجماعة الذين تنعقد بهم الجمعة؟ فقال مالك ليس في ذلك عدد محدود ، وإنما هم جماعة تقوم بهم قرية. وروى ابن الماجشون عن مالك ثلاثون. وقال الشافعي : أربعون وقال أبو حنيفة : ثلاثة مع الإمام وقيل : اثنا عشر عدد الذين بقوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن قيل : لم قال انفضوا إليها بضمير المفرد وقد ذكر التجارة واللهو؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد انفضوا إلى اللهو وانفضوا إلى التجارة ، ثم حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه. قاله الزمخشري. والآخر أنه قال ذلك مهتما بالتجارة إذ كانت أهم ، وكانت هي سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها قاله ابن عطية.

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) اختلفوا في القيام في الخطبة هل هو واجب أم لا؟ وإذا قلنا بوجوبه فهل هو شرط فيها أم لا فمن أوجبه واشترطه أخذ بظاهر الآية من ذكر القيام. ومن لم يوجبه رأى أن ما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك لم يكن على الوجوب. ومذهب مالك أن من سنة الخطبة الجلوس قبلها والجلوس بين الخطبتين وقال أبو حنيفة : لا يجلس بين الخطبتين

٣٧٥

لظاهر الآية وذكر القيام فيها دون الجلوس (١) ، وحجة مالك فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) إن قيل : لم قدم اللهو هنا على التجارة وقدم التجارة قبل هذا على اللهو؟ فالجواب أن كل واحد من الموضعين جاء على ما ينبغي فيه ؛ وذلك أن العرب تارة يبتدئون بالأكثر ثم ينزلون إلى الأقل كقولك : فلان يخون في الكثير والقليل فبدأت بالكثير ثم أردفت عليه الخيانة فيما دونه ، وتارة يبتدئون بالأقل ثم يرتقون إلى الأكثر كقولك : فلان أمين على القليل والكثير فبدأت بالقليل ثم أردفت عليه الأمانة فيما هو أكثر منه ، ولو عكست في كل واحد من المثالين لم يكن حسنا ؛ فإنك لو قدمت في الخيانة القليل لعلم أنه يخون في الكثير. من باب أولى وأحرى ، ولو قدمت في الأمانة ذكر الكثير لعلم أنه أمين في القليل من باب أولى وأحرى ، فلم يكن لذكره بعد ذلك فائدة وكذلك قوله إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها. قدم التجارة هنا ليبين أنهم ينفضون إليها ، وأنهم مع ذلك ينفضون إلى اللهو الذي هو دونها وقوله : خير من اللهو ومن التجارة قدم اللهو ليبين أن ما عند الله خير من اللهو ، وأنه أيضا خير من التجارة التي هي أعظم منه ، ولو عكس كل واحد من الموضعين لم يحسن.

__________________

(١). هنا غير صحيح فقد ورد في كتاب الهداية للمرغيناني : (ويخطب خطبتين يفصل بينهما بقعدة) به جرى التوارث.

٣٧٦

سورة المنافقون

مدنية وآياتها ١١ نزلت بعد الحج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) كانوا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم فلذلك كذبهم الله بقوله : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أي كذبوا في دعواهم الشهادة بالرسالة ، وأما قوله : والله يعلم إنك لرسوله فليس من كلام المنافقين ، وإنما هو من كلام الله تعالى ، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله : والله يشهد إن المنافقين لكاذبون إبطال للرسالة ، فوسطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ، وعلى هذا ينبغي أن يوقف على قوله : لرسول الله (جُنَّةً) ذكر في المجادلة [١٦] (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الإشارة إلى سوء عملهم وفضيحتهم وتوبيخهم ، وأما قوله : آمنوا ثم كفروا فيحتمل وجهين : أحدهما أن يكون فيمن آمن منهم إيمانا صحيحا ثم نافق بعد ذلك ، والآخر أن يريد آمنوا في الظاهر كقوله : إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا [البقرة : ١٤].

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) يعني أنهم حسان الصور (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) يعني أنهم فصحاء الخطاب ، والضمير في قوله : وإذا رأيتهم تعجبك وفي قوله : تسمع لقولهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكل مخاطب (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) (١) شبههم بالخشب في قلة أفهامهم ، فكان لهم منظر بلا مخبر ، وقال الزمخشري : إنما شبههم بالخشب المسندة إلى حائط ، لأن الخشب إذا كانت كذلك لم يكن فيها منفعة ، بخلاف الخشب التي في سقف أو مغروسة في جدار ؛ فإن فيها حينئذ منفعة. فالتشبيه على هذا في عدم المنفعة ، وقيل : كانوا يستندون في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشبههم في استنادهم بالخشب المسندة إلى الحائط

__________________

(١). خشب : قرأها أبو عمرو والكسائي بتسكين الشين : خشب والباقون بالضم.

٣٧٧

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) عبارة عن شدّة خوفهم من المسلمين ، وذلك أنهم كانوا إذا سمعوا صياحا ظنوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر بقتلهم (قاتَلَهُمُ اللهُ) الدعاء عليهم يتضمن ذمّهم وتقبيح أحوالهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الإيمان مع ظهوره.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) (١) أي أمالوها إعراضا واستكبارا. وقصص هذه الآية وما بعدها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في غزوة بني المصطلق ، فبلغ الناس إلى ماء ازدحموا عليه ، فكان ممن ازدحم عليه جهجاه بن سعيد أجير لعمر بن الخطاب وسنان الجهني حليف لعبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين ، فلطم الجهجاه سنانا ، فغضب سنان ودعا بالأنصار ودعا جهجاه بالمهاجرين ، فقال عبد الله بن أبيّ : والله ما مثلنا ومثل هؤلاء يعني المهاجرين إلا كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك. ثم قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني : بالأعز نفسه وأتباعه ، ويعني بالأذل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه ، ثم قال لقومه : إنما يقيم هؤلاء المهاجرون بالمدينة بسبب معونتكم وإنفاقكم عليهم ، ولو قطعتم ذلك عنهم لفرّوا عن مدينتكم. فسمعه زيد بن أرقم فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول. فحلف أنه ما قال من ذلك شيئا. وكذّب زيدا فنزلت السورة عند ذلك. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زيد ، وقال : لقد صدّقك الله يا زيد ، فخزي عبد الله بن أبي بن سلول ومقته الناس ، فقيل له : امض إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لك ، فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال : أمرتموني بالإسلام فأسلمت ، وأمرتموني بأداء زكاة مالي ففعلت ، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني أن أسجد لمحمد. ثم مات عبد الله بن أبيّ بعد ذلك بقليل. وأسندت هذه الأقوال التي قالها عبد لله بن أبيّ إلى ضمير الجماعة ، لأنه كان له أتباع من المنافقين يوافقونه عليها.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) روي أنه لما نزلت (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨] قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأزيدن على السبعين. فلما فعل عبد لله بن أبيّ وأصحابه ما فعلوا شدّد الله عليهم في هذه

__________________

(١). لوّوا : قرأها بالتشديد عامة القراء وقرأ نافع لووا بدون تشديد.

٣٧٨

السورة ، وأخبر أنه لا يغفر لهم بوجه. وفي هذا نظر ؛ لأن هذه السورة نزلت في غزوة بني المصطلق قبل الآية الأخرى بمدّة (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا تشغلكم. وذكر الله هنا على العموم في الصلاة والدعاء والعبادة ، وقيل : يعني الصلاة المكتوبة والعموم أولى (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) عموم في الزكاة وصدقة التطوع والنفقة في الجهاد وغير ذلك ، وقيل : يعني الزكاة المفروضة والعموم أولى (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بالجزم عطف على موضع جواب الشرط ، وقرأ أبو عمرو فأكون بالنصب عطف على فأصدق (١).

__________________

(١). قوله : في آخر آية : [والله خبير بما تعملون] قرأها الجميع. تعملون بالتاء ما عدا أبي بكر فقد قرأها ، [بالياء يعملون].

٣٧٩

سورة التغابن

مدنية وآياتها ١٨ نزلت بعد التحريم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) في تأويل الآية وجهان : أحدهما الذي خلقكم فكان يجب على كل واحد منكم الإيمان به ، لكن منكم من كفر ومنكم من آمن ، فالكفر والإيمان على هذا هو من اكتساب العبد. والآخر أن المعنى هو الذي خلقكم على صنفين : فمنكم من خلقه مؤمنا ومنكم من خلقه كافرا ، فالإيمان والكفر على هذا هو ما قضى الله على كل واحد ، والأول أظهر ، لأنه عطفه على خلقكم بالفاء يقتضي أنّ الكفر والإيمان واقعان بعد الخلقة لا في أصل الخلقة (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ذكر معناه في مواضع (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) تعديد نعمة في حسن خلقة بني آدم ؛ لأنهم أحسن صورة من جميع أنواع الحيوان وإن وجد بعض الناس قبيح المنظر ، فلا يخرجه ذلك عن حسن الصورة الإنسانية ، وإنما هو قبيح بالنظر إلى من هو أحسن منه من الناس. وقيل : يعني العقل والإدراك الذي خصّ به الإنسان. والأول أرجح لأن الصورة إنما تطلق على الشكل (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) خطاب لقريش وسائر الكفار (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) معناه أنهم استبعدوا أن يرسل الله بشرا أو تكبروا عن اتباع بشر ، والبشر يقع على الواحد والجماعة (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) قال عبد الله بن عمر : زعم كناية عن كذب.

٣٨٠