التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر هو الترغيب فيه ، ومن لا يحض غيره على أمر فلا يفعله هو ، كأنه ذم لترك طعام المسكين ، والطعام هنا بمعنى الإطعام ، وقيل : هو على حذف مضاف تقديره : لا تحضون على بذل طعام المسكين ، وقرئ تحاضون بفتح الحاء وألف بعدها بمعنى لا يحض بعضكم بعضا (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (١) التراث هو ما يورث عن الميت من المال ، والتاء فيه بدل من الواو ، واللم : الجمع واللف ، والتقدير : أكلا ذا لمّ وهو أن يأخذ في الميراث نصيبه ونصيب غيره ، لأن العرب كانوا لا يعطون من الميراث أنثى ولا صغيرا بل ينفرد به الرجال (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (١) أي شديدا كثيرا وهذا ذم للحرص على المال وشدة الرغبة فيه.

(دُكَّتِ الْأَرْضُ) أي سوّيت جبالها (دَكًّا دَكًّا) أي دكا بعد دكّ كما تقول : تعلمت العلم بابا بابا (وَجاءَ رَبُّكَ) تأويله عند المتأولين : جاء أمره وسلطانه وقال المنذر بن سعيد : معناه ظهوره للخلق هنالك. وهذه الآية وأمثالها من المشكلات التي يجب الإيمان بها من غير تكييف ولا تمثيل (وَالْمَلَكُ) هو اسم فإنه روي أن الملائكة كلهم يكونون صفوفا حول الأرض (صَفًّا صَفًّا) أي صفا بعد صف قد أحدقوا بالجن والإنس (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم : يؤتي يومئذ بجهنم معها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها (٢) (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) يومئذ بدل من إذا دكت ويتذكر هو العامل وهو جواب إذا دكت ، والمعنى : أن الإنسان يتذكر يوم القيامة أعماله في الدنيا ، ويندم على تفريطه وعصيانه ، والإنسان هنا جنس ، وقيل : يعني عتبة بن ربيعة ، وقيل : أمية بن خلف (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) هذا على حذف تقديره أنى له الانتفاع بالذكرى كما تقول ندم حين لم تنفعه الندامة (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) فيه وجهان : أحدهما أنه يريد الحياة في الآخرة فالمعنى : يا ليتني قدّمت عملا صالحا للآخرة ، والآخر أنه يريد الحياة الدنيا فالمعنى : يا ليتني قدمت عملا صالحا وقت حياتي ، فاللام على هذا كقوله كتبت لعشر من الشهر (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) من قرأ بكسر الذال من يعذب ، والثاء من يوثق فالضمير في عذابه ووثاقه لله تعالى والمعنى : أن الله

__________________

(١). الكلمات : تكرمون ، تحاضون ، تأكلون ، تحبون : قرأها أبو عمرو : يكرمون يحضّون ، يأكلون ، يحبون وقوله : تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي : تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون : تحضّون.

(٢). هذا الحديث رواه المنذري موقوفا على ابن عباس وعزاه لتفسير آدم بن أبي إياس ورواه مسلم والترمذي عن ابن مسعود بلفظ قريب.

٤٨١

يتولى عذاب الكفار ولا يكله إلى أحد ، ومن قرأ بالفتح فالضمير للإنسان أي لا يعذّب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق أحد مثل وثاقه ، وهذه قراءة الكسائي وروي أن أبا عمرو رجع إليها وهي قراءة حسنة ، وقد رويت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي الموقنة يقينا قد اطمأنت به بحيث لا يتطرق إليها شك في الإيمان ، وقيل : المطمئنة التي لا تخاف حينئذ. ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) هذا الخطاب والنداء يكون عند الموت ، وقيل : عند البعث وقيل : عند انصراف الناس إلى الجنة أو النار ، والأول أرجح ، لما روي أن أبا بكر سأل عن ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فقال له : يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك عند موتك (راضِيَةً) معناه راضية بما أعطاها ، أو راضية عن الله ، ومعنى المرضية مرضية عند الله ، أو أرضاها الله بما أعطاها (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي أدخلي في جملة عبادي الصالحين. وقرئ فادخلي في عبدي بالتوحيد [الإفراد] معناه ادخلي في جسده وهو خطاب للنفس ، ونزلت هذه الآية في حمزة. وقيل : في خبيب بن عدي الذي صلبه الكفار بمكة ، ولفظها يعم كل نفس مطمئنة.

٤٨٢

سورة البلد

مكية وآياتها ٢٠ نزلت بعد ق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أراد مكة باتفاق ، وأقسم بها تشريفا لها ولا زائدة (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) هذه جملة اعتراض بين القسم وما بعده وفي معناها ثلاثة أقوال : أحدها أن المعنى أنت حالّ بهذا البلد أي ساكن ، لأن السورة نزلت والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، والآخر أن معنى حلّ تستحل حرمتك ويؤذيك الكفار مع أن مكة لا يحل فيها قتل صيد ولا بشر ولا قطع شجر ، وعلى هذا قيل : لا أقسم يعني لا أقسم بهذا البلد وأنت تلحقك فيه إذاية. الثالث أن معنى حل حلال يجوز لك في هذا البلد ما شئت من قتالك الكفار وغير ذلك مما لا يجوز لغيرك ، وهذا هو الأظهر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن هذا البلد حرام حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، لم يحل لأحد قبلي ولا يحل لأحد بعدي ، وإنما أحل لي ساعة من نهار (١) يعني يوم فتح مكة ، وفي ذلك اليوم أمر عليه الصلاة والسلام بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ، فإن قيل : إن السورة مكية وفتح مكة كان عام ثمانية من الهجرة؟ فالجواب أن هذا وعد بفتح مكة كما تقول لمن تعده بالكرامة : أنت مكرم يعني فيما يستقبل وقيل : إن السورة على هذا مدنية نزلت يوم الفتح ، وهذا ضعيف (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) فيه خمسة أقوال : أحدها : أنه أراد آدم وجميع ولده ، الثاني نوح وولده ، الثالث إبراهيم وولده ، الرابع سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وولده ، الخامس جنس كل والد ومولود وإنما قال : وما ولد ولم يقل ومن ولد : إشارة إلى تعظيم المولود كقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] قاله الزمخشري (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي يكابد المشقات من هموم الدنيا والآخرة قال بعضهم : لا يكابد أحد من المخلوقات ما يكابد ابن آدم ، وأصل الكبد من قولك كبد الرجل فهو أكبد إذا وجعت كبده وقيل : معنى في كبد واقفا منتصب القامة. وهذا ضعيف. والإنسان على هذين القولين جنس ، وقيل :

__________________

(١). رواه أحمد عن ابن عباس ج ١ ص ٣١٥.

٤٨٣

الإنسان آدم عليه‌السلام ، ومعنى في كبد على هذا في السماء وهذا ضعيف والأول هو الصحيح.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فيه قولان : أحدهما أن معناه أيظن أن لن يقدر أحد على بعثه وجزائه ، والآخر : أيظن أن لن يقدر أحد أن يغلبه ، فعلى الأول : نزلت في جنس الإنسان الكافر ، وعلى الثاني : نزلت في رجل معين وهو أبو الأشد رجل من قريش ، كان شديد القوة ، وقيل : عمرو بن عبد ودّ وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي كثيرا ، وقرئ لبدا بضم اللام وكسرها ، وهو جمع لبدة بالضم والكسر بمعنى الكثرة : ونزلت الآية عند قوم في الوليد بن المغيرة ، فإنه أنفق مالا في إفساد أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : في الحرث بن عامر بن نوفل وكان قد أسلم وأنفق في الصدقات والكفارات ، فقال لقد أهلكت مالي منذ تبعت محمدا (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) يحتمل أن يكون هذا تكذيبا له في قوله : أهلكت مالا لبدا أو إشارة إلى أنه أنفقه رياء.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي طريقي الخير والشر فهو كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، ليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد وقيل : يعني ثديي الأم (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) الاقتحام الدخول بشدّة ومشقة ، والعقبة عبارة عن الأعمال ، الصالحة المذكورة بعد ، وجعلها عقبة استعارة من عقبة الجبل لأنها تصعب ويشق صعودها على النفوس ، وقيل : هو جبل في جهنم له عقبة لا يجاوزها إلا من عمل هذه الأعمال ولا هنا تخصيص بمعنى هلا وقيل : هي دعاء ، وقيل : هي نافية واعترض هذا القول بأن لا النافية إذا دخلت على الفعل الماضي لزم تكرارها ، وأجاب الزمخشري بأنها مكررة في المعنى ، والتقدير ؛ فلا اقتحم العقبة ولا فك رقبة ولا أطعم مسكينا وقال الزجاج قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على التكرار لأن التقدير فلا اقتحم العقبة ولا آمن (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) تعظيم للعقبة ثم فسرها بفك الرقبة وهو إعتاقها بالإطعام وقرئ فك رقبة بضم الكاف وخفض الرقبة ، وهو على هذا تفسير للعقبة وبفتح الكاف ونصب الرقبة وهو تفسير لاقتحم وفك الرقبة : هو عتقها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار (١) وقال أعرابي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دلني على عمل أنجو به فقال : فك الرقبة وأعتق النسمة فقال الأعرابي : أليس هذا واحدا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا إعتاق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها ، وأما فك أسارى المسلمين من أيدي

__________________

(١). الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة عن التيسير للمناوي.

٤٨٤

الكافرين فإنه أعظم أجرا من العتق لأنه واجب ، ولو استغرقت فيه أموال المسلمين ولكنه لا يجري في الكفارات عن عتق رقبة (أَوْ إِطْعامٌ) من قرأ فك بالرفع قرأ إطعام بالعطف مصدر على مصدر ومن قرأ فك بالفتح قرأ أطعم بفتح الهمزة والميم فعطف فعلا على فعل (فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة يقال سغب الرجل إذا جاع (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي ذا قرابة ففيه أجر إطعام اليتيم وصلة الرحم (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي ذا حاجة ، يقال ؛ ترب الرجل إذا افتقر ، وهو مأخوذ من الصدقة بالتراب وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه الذي مأواه المزابل.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) ثم هنا للتراخي في الرتبة لا في الزمان ، وفيها إشارة إلى أن الإيمان أعلى من العتق والإطعام ، ولا يصح أن يكون للترتيب في الزمان لأنه لا يلزم أن يكون الإيمان بعد العتق. والإطعام ولا يقبل عمل إلا من مؤمن (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وصّى بعضهم بعضا بالصبر على قضاء الله ، وكأن هذا إشارة إلى صبر المسلمين بمكة على إذاية الكفار (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي وصى بعضهم بعضا برحمة المساكين وغيرهم ، وقيل : الرحمة كل ما يؤدي إلى رحمة الله (الْمَيْمَنَةِ) جهة اليمين و (الْمَشْأَمَةِ) جهة الشمال ، وروي أن الميمنة عن يمين العرش ويحتمل أن يكونا من اليمن والشؤم (نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة مغلقة يقال : أوصدت الباب إذا أغلقته وفيه لغتان الهمزة وترك الهمزة [يعني : مؤصده وبها قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص وقرأ الباقون : موصدة].

٤٨٥

سورة الشمس

مكية وآياتها ١٥ نزلت بعد القدر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) الضحى ارتفاع الضوء وكماله ، والضحاء بالفتح والمد بعد ذلك إلى الزوال وقيل : الضحى النهار كله ، والأول هو المعروف في اللغة (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي تبعها وفي اتباعه لها ثلاثة أقوال : أحدها أنه يتبعها في كثرة الضوء ، لأنه أضوء الكواكب بعد الشمس (١) ، ولا سيما ليلة البدر والآخر أنه يتبعها في طلوعه لأنه يطلع بعد غروبها ، وذلك في النصف الأول من الشهر والضمير الفاعل للنهار ، لأن الشمس تنجلي بالنهار فكأنه هو الذي جلّاها وقيل : الضمير الفاعل لله وقيل : الضمير المفعول للظلمة أو الأرض أو الدنيا ، وهذا كله بعيد لأنه لم يتقدم ما يعود الضمير عليه (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي يغطيها وضمير المفعول للشمس وضمير الفاعل لليل على الأصح (وَالسَّماءِ وَما بَناها) قيل : إن ما في قوله وما بناها وما طحاها وما سوّاها موصولة بمعنى من والمراد الله تعالى وقيل : إنها مصدرية كأنه قال : والسماء وبنيانها ، وضعف الزمخشري ذلك بقوله : فألهمها فإن المراد الله باتفاق ، وهذا القول يؤدي إلى فساد النظم ، وضعّف بعضهم كونها موصولة بتقديم ذكر المخلوقات على الخالق فإن قيل : لم عدل عن من إلى قوله ما في قول من جعلها موصولة؟ فالجواب أنه فعل ذلك لإرادة الوصفية كأنه قال والقادر الذي بناها (طَحاها) أي مدها (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) تسوية النفس إكمال عقلها وفهمها ، فإن قيل : لم نكّر النفس؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد الجنس كقوله (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) التكوير : [١٤] والآخر أنه أراد نفس آدم والأول هو المختار (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي عرّفها طريق الفجور والتقوى ، وجعل لها قوة يصح معها اكتساب أحد الأمرين ، ويحتمل أن تكون الواو بمعنى أو ، كقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا

__________________

(١). القمر تابع للأرض وليس كوكبا. وقوة نوره بسبب قربه من الأرض.

٤٨٦

كَفُوراً) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) هذا جواب القسم عند الجمهور ، وقال الزمخشري : الجواب محذوف تقديره : ليدمدمنّ الله على أهل مكة لتكذيبهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما دمدم على قوم ثمود لتكذيبهم صالحا عليه الصلاة والسلام ، قال : وأما قد أفلح فكلام تابع لقوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وهذا بعيد ، والفاعل بزكاها ضمير يعود على من ، والمعنى : قد أفلح من زكى نفسه أي طهّرها من الذنوب والعيوب ، وقيل : الفاعل ضمير الله تعالى ، والأول أظهر ، (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي حقرها بالكفر والمعاصي ، وأصله دسس بمعنى : أخفى فكأنه أخفى نفسه لما حقرها وأبدل من السين الأخيرة حرف علة كقولهم : قصّيت أظفاري وأصله قصصت (بِطَغْواها) هو مصدر بمعنى الطغيان قلبت فيه الياء واوا على لغة من يقول : طغيت والباء الخافضة كقولك كتبت بالقلم أو سببية ، والمعنى بسبب طغيانها وقال ابن عباس معناها ثمود بعذابها ويؤيده قوله : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) العامل في إذ كذبت أو طغواها ومعنى انبعث : خرج لعقر الناقة بسرعة ونشاط ، وأشقاها : هو الذي عقر الناقة وهو أحيمر ثمود واسمه قدار بن سالف ، ويحتمل أن يكون أشقاها واقعا على جماعة ، لأن أفعل التي للتفضيل إذا أضفته يستوي فيه الواحد والجمع والأول أظهر وأشهر.

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) يعني صالحا عليه‌السلام (ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) منصوب بفعل مضمر تقديره احفظوا ناقة الله ، أو احذروا ناقة الله وسقياها ، شربها من الماء (فَعَقَرُوها) نسب العقر إلى جماعة لأنهم اتفقوا عليه وباشره واحد منهم (فَدَمْدَمَ) عبارة عن إنزال العذاب بهم وفيه تهويل (بِذَنْبِهِمْ) أي بسبب ذنبهم وهو التكذيب أو عقر الناقة (فَسَوَّاها) قال ابن عطية ؛ معناه فسوّى القبيلة في الهلاك لم يفلت أحد منهم وقال الزمخشري : الضمير للدمدمة أي سواها بينهم (وَلا يَخافُ عُقْباها) ضمير الفاعل لله تعالى والضمير في عقباها للدمدمة والتسوية وهو الهلاك : أي لا يخاف عاقبة إهلاكهم ، ولا درك [مسؤولية] عليه في ذلك كما يخاف الملوك من عاقبة أعمالهم ، وفي ذلك احتقار لهم وقيل : إن ضمير الفاعل لصالح وهذا بعيد وقرأ أشقاها فلا يخاف بالفاء وبالواو وقيل : في القراءة بالواو الفاعل أشقاها. والجملة في موضع الحال أي انبعث ولم يخف عقبى فعلته وهذا بعيد.

٤٨٧

سورة الليل

مكية وآياتها ٢١ نزلت بعد الأعلى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي يغطي وحذف المفعول وهو الشمس لقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أو النهار لقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) [الأعراف : ٥٣] أو كل شيء يستره الليل (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي ظهر وتبين والنهار من طلوع الشمس واليوم من طلوع الفجر (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ما بمعنى من والمراد بها الله تعالى وعدل عن من لقصد الوصف كأنه قال : والقادر الذي خلق الذكر والأنثى وقيل : هي مصدرية وروى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ والذكر والأنثى (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) هذا جواب القسم ومعناه إن عملكم مختلف فمنه حسنات ومنه سيئات ، وشتى جمع شتيت (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) أي أعطى ماله في الزكاة والصدقة وشبه ذلك ، أو أعطى حقوق الله من طاعته في جميع الأشياء واتقى الله (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي بالخصلة الحسنة وهي الإسلام ، ولذلك عبّر عنها بعضهم بأنها لا إله إلا الله ، أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، وقيل : يعني الأجر والثواب على الإطلاق وقيل : يعني الخلف على المنفق (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي نهيئه للطريقة اليسرى ، وهي فعل الخيرات وترك السيئات وضد ذلك تيسيره للعسرى ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» (١) أي يهيؤه الله لما قدر له ويسهل عليه فعل الخير أو الشر (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي بخل بماله أو بطاعة الله على الإطلاق فيحتمل الوجهين ؛ لأنه في مقابلة أعطى كما أن استغنى في مقابلة اتقى ، وكذلك كذب بالحسنى في مقابلة صدق بالحسنى ، ونيسره للعسرى في مقابلة نيسره لليسرى ، ومعنى استغنى : استغنى عن الله فلم يطعه واستغنى بالدنيا عن الآخرة ، ونزلت آية المدح في أبي بكر الصديق ، لأنه أنفق ماله في مرضات الله ، وكان يشتري من أسلم من العبيد فيعتقهم ، وقيل نزلت في أبي الدحداح وهذا ضعيف ،

__________________

(١). رواه أحمد ج ١ ص ١٥٧ عن عدد من الصحابة منهم علي وجابر وابن مسعود وذو اللحية الكلابي.

٤٨٨

لأنها مكية وإنما أسلم أبو الدحداح بالمدينة ، وقيل إن آية الذم نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وهذا ضعيف لقوله : فسنيسره للعسرى وقد أسلم أبو سفيان بعد ذلك

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) هذا نفي ، أو استفهام بمعنى الإنكار.

واختلف في معنى تردّى على أربعة أقوال : الأول تردّى أي هلك ، فهو مشتق من الردى وهو الموت ، أو تردّى أي سقط في القبر ، أو سقط في جهنم ، أو تردى بأكفانه من الرداء (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي بيان الخير والشر ، وليس المراد الإرشاد عند الأشعرية خلافا للمعتزلة (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) خطاب من الله أو من النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على تقدير : قل (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى) استدل المرجئة بهذه الآية على أن النار لا يدخلها إلا الكفار لقوله : الذي كذب وتولى.

وتأولها الناس بثلاثة أوجه أحدها أن المعنى لا يصلاها صلي خلود إلا الأشقى ، والآخر أنه أراد نارا مخصوصة الثالث. أنه أراد بالأشقى كافرا معينا وهو أبو جهل وأمية بن خلف ، وقابل به الأتقى وهو أبو بكر الصديق ؛ فخرج الكلام مخرج المدح والذم على الخصوص ، لا مخرج الإخبار على العموم (يَتَزَكَّى) من أداء الزكاة أو من الزكاة ، أي يصير زكيا عند الله ، أو يتطهر من ذنوبه ، وهذا الفعل بدل من يؤتى ماله أو حال من الضمير (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي لا يفعل الخير جزاء على نعمة أنعم بها عليه أحد فيما تقدم ، بل يفعله ابتداء خالصا لوجه الله ، وقيل : المعنى لا يقصد جزاء من أحد في المستقبل على ما يفعل ، والأول أظهر ويؤيده ما روي أن سبب الآية أن أبا بكر الصديق لما أعتق بلالا قالت قريش : كان لبلال عنده يد متقدمة فنفى الله قولهم (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ) استثناء منقطع (وَلَسَوْفَ يَرْضى) وعد بأن يرضيه في الآخرة.

٤٨٩

سورة الضحى

مكية وآياتها ١١ نزلت بعد الفجر

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالضُّحى) ذكر في الشمس وضحاها (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) فيه أربعة أقوال : إذا أقبل ، وإذا أدبر ، وإذا أظلم ، وإذا سكن أي استقر واستوى ، أو سكن فيه الناس والأصوات ومنه : ليلة ساجية إذا كانت ساكنة الريح ، وطرف ساج أو ساكن غير مضطرب النظر. وهذا أقرب في الاشتقاق وهو اختيار ابن عطية (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) بتشديد الدال من الوداع وقرئ بتخفيفها بمعنى : ما تركك والوداع مبالغة في الترك (وَما قَلى) أي ما أبغضك ، وحذف ضمير المفعول من قلى وآوى وهدى وأغنى اختصارا ، لظهور المعنى ولموافقة رؤوس الآي. وسبب الآية أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أبطأ عليه الوحي ، فقالت قريش : إن محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت الآية : تكذيبا لهم وقيل : رمي عليه الصلاة والسلام بحجر في إصبعه فدميت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم : فقالت امرأة : ما أرى شيطان محمد إلا قد تركه فنزلت الآية : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي الدار الآخرة خير لك من الدنيا ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بالآخرة حاله بعد نزول هذه السورة ، ويريد بالأولى حاله نزولها ، وهذا بعيد والأول أظهر وأشهر.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لما نزلت إذا لا أرضى أن يبقى واحد من أمتي في النار ، قال بعضهم : هذه أرجى آية في القرآن ، وقال ابن عباس : رضاه أن الله وعده بألف قصر في الجنة بما يحتاج إليه من النعم والخدم وقيل : رضاه في الدنيا بفتح مكة وغيره والصحيح أنه وعد يعمّ كل ما أعطاه الله في الآخرة ، وكل ما أعطاه في الدنيا من النصر والفتوح وكثرة المسلمين وغير ذلك (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) عدد الله نعمه عليه فيما مضى من عمره ، ليقيس عليه ما يستقبل فتطيب نفسه ، ويقوي رجاؤه ووجد في هذه المواضع تتعدى إلى مفعولين وهي بمعنى علم ؛ فالمعنى ألم تكن يتيما فآواك. وذلك أن والده عليه‌السلام توفي وتركه في بطن أمه ، ثم ماتت أمه وهو ابن خمسة أعوام ، وقيل : ثمانية فكفله جدّه عبد المطلب ، ثم مات وتركه ابن اثني عشر عاما فكفله عمه أبو طالب ، وقيل لجعفر الصادق : لم نشأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتيما فقال : لئلا يكون عليه حق لمخلوق.

٤٩٠

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فيه ستة أقوال : أحدها : وجدك ضالا عن معرفة الشريعة فهداك إليها ، فالضلال عبارة عن التوقيف [السؤال] في أمر الدين حتى جاءه الحق من عند الله ، فهو كقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] وهذا هو الأظهر وهو الذي اختاره ابن عطية وغيره ومعناه أنه لم يكون يعرف تفصيل الشريعة وفروعها حتى بعثه الله ، ولكنه ما كفر بالله ولا أشرك به لأنه كان معصوما من ذلك قبل النبوة وبعدها. والثاني وجدك في قوم ضلّال ، فكأنك واحد منهم ، وإن لم تكن تعبد ما يعبدون ، وهذا قريب من الأول. والثالث وجدك ضالا عن الهجرة فهداك إليها ، وهذا ضعيف ، لأن السورة نزلت قبل الهجرة. الرابع وجدك خامل الذكر لا تعرف ، فهدى الناس إليك وهداهم بك ، وهذا بعيد عن المعنى المقصود. الخامس أنه من الضلال عن الطريق ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضلّ في بعض شعب مكة ، وهو صغير فردّه الله إلى جده ، وقيل : بل ضلّ من مرضعته حليمة فرده الله إليها ، وقيل : بل ضل في طريق الشام حين خرج إليها مع أبي طالب. السادس أنه بمعنى الضلال من المحبة أي وجدك محبا لله فهداك إليه ومنه قول إخوة يوسف لأبيهم ، (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ) [٩٥] أي محبتك ليوسف ، وبهذا كان يقول شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) العائل : الفقير يقال : عال الرجل فهو عائل إذا كان محتاجا ، وأعال فهو معيل إذا كثر عياله وهذا الفقر والغنى هو في المال ، وغناؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أن أعطاه الله الكفاف ، وقيل : هو رضاه بما أعطاه الله ، وقيل : المعنى وجدك فقيرا إليه فأغناك به (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تغلبه على ماله وحقه لأجل ضعفه أو لا تقهره بالمنع من مصالحه ووجوه القهر كثيرة والنهي يعمّ جميعها (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) النهر هو الانتهار والزجر ، والنهي عنه أمر بالقول الحسن والدعاء للسائل كما قال تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ويحتمل السائل أن يريد به سائل الطعام والمال ، وهذا هو الأظهر والسائل عن العلم والدين. وفي قوله تقهر وتنهر لزوم مالا يلزم من التزام الهاء قبل الراء.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قيل : معناه بثّ القرآن وبلغ الرسالة والصحيح أنه عموم جميع النعم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «التحدث بالنعم شكر» (١) ولذلك كان بعض السلف يقول ، لقد أعطاني الله كذا ولقد صليت البارحة كذا وهذا إنما يجوز إذا كان على وجه الشكر أو ليقتدى به ، فأما على وجه الفخر والرياء فلا يجوز ، وانظر كيف ذكر الله في هذه السورة ثلاث نعم ، ثم ذكر في مقابلتها ثلاث وصايا فقابل قوله : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) بقوله : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) ، وقابل قوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) بقوله ، (أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) ، على قول من قال إنه السائل عن العلم وقابله بقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) على القول الآخر ، وقابل : قوله : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) بقوله : (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) على القول الأظهر ، وقابله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) على القول الآخر.

__________________

(١). رواه أحمد عن النعمان بن بشير ج ٤ ص ٢٧٨ ، ٣٧٥.

٤٩١

سورة الشرح

مكية وآياتها ٨ نزلت بعد الضحى

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) هذا لصدره توقيف معناه إثبات شرح صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعديد ما ذكر بعده من النعم ، وشرح صدره صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو اتساعه لتحصيل العلم ، وتنويره بالحكمة والمعرفة ، وقيل هو شق جبريل لصدره في صغره ، أو في وقت الإسراء حين أخرج قلبه وغسله (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) فيه ثلاثة أقوال : الأول قول الجمهور أن الوزر الذنوب. ووضعها هو غفرانها فهو كقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] ، وهذا على قول من جوّز صغائر الذنوب على الأنبياء ، أو على أن ذنوبه كانت قبل النبوّة الثاني أن الوزر هو أثقال النبوة وتكاليفها ، ووضعها على هذا هو إعانته عليها ، وتمهيد عذره بعد ما بلغ الرسالة الثالث أن الوزر هو تحيره قبل النبوة ، إذ كان يرى أن قومه على ضلال ، ولم يأته من الله أمر واضح فوضعه على هذا هو بالنبوّة والهدى للشريعة (الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) عبارة عن ثقل الوزر المذكور وشدته عليه ، قال الحارث المحاسبي : إنما وصفت ذنوب الأنبياء بالثقل ، وهي صغائر مغفورة لهم لهمّهم بها وتحسرهم عليها ، فهي ثقيلة عندهم لشدة خوفهم من الله ، وهي خفيفة عند الله ، وهذا كما جاء في الأثر : إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل يقع عليه ، والمنافق يرى ذنوبه تطير كالذبابة فوق أنفه (١). واشتقاق أنقض ظهرك من نقض البنيان وغيره ، أو من النقيض وهو الصوت فكأنه يسمع لظهره نقيض كنقيض ما يحمل عليه شيء ثقيل.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي نوّهنا باسمك وجعلناه شهيرا في المشارق والمغارب ، وقيل : معناه اقتران ذكره بذكر الله في الأذان والخطبة والتشهد. وفي مواضع من القرآن ، وقد روي في هذا حديث أن الله قال له ؛ إذا ذكرت ذكرت معي (٢). فإن قيل : لم قال لك

__________________

(١). رواه أحمد عن ابن مسعود ج ١ ، ص ٣٨٣.

(٢). رواه الإمام الطبري بسنده إلى أبي سعيد الخدري وقال في التفسير رواه ابن حبان وأبي يعلى والطبراني كلهم عن أبي سعيد الخدري.

٤٩٢

ذكرك ولك صدرك مع أن المعنى مستقل دون ذلك؟ فالجواب أن قوله : لك يدل على الاعتناء به والاهتمام بأمره (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) هذا وعد لما يسّر بعد العسر ، وإنما ذكره بلفظ مع التي تقتضي المقاربة ليدل على قرب اليسر من العسر فإن قيل : ما وجه ارتباط هذا مع ما قبله؟ فالجواب أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بمكة هو وأصحابه في عسر من إذاية الكفار ومن ضيق الحال ووعده الله باليسر ، وقد تقدم تعديد النعم تسلية وتأنيسا ، لتطيب نفسه ويقوى رجاؤه كأنه يقول : إن الذي أنعم عليك بهذه النعم سينصرك ويظهرك ويبدّل لك هذا العسر بيسر قريب ، ولذلك كرر إن مع العسر يسرا مبالغة وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن يغلب عسر يسرين وقد روي ذلك عن عمر وابن مسعود (١) وتأويله أن العسر المذكور في هذه السورة واحد ، لأن الألف واللام للعهد كقولك : جاءني رجل فأكرمت الرجل. واليسر اثنان لتنكيره وقيل : إن اليسر الأول في الدنيا والثاني في الآخرة (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) هو من النصب بمعنى التعب ، والمعنى إذا فرغت من أمر فاجتهد في آخر ثم اختلف في تعيين الأمرين فقيل : إذا فرغت من الفرائض فانصب في النوافل وقيل : إذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء. وقيل : إذا فرغت من شغل دنياك فانصب في عبادة ربك (وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) قدم الجار والمجرور ليدل على الحصر أي لا ترغب إلا إلى ربك وحده.

__________________

(١). رواه الطبري أيضا في تفسيره موقوفا على الحسن البصري وموصولا إلى ابن مسعود.

٤٩٣

سورة التين

مكية وآياتها ٨ نزلت بعد البروج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) فيها قولان : الأول أنه التين الذين يؤكل والزيتون الذي يعصر أقسم الله بهما لفضيلتهما على سائر الثمار. روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكل مع أصحابه تينا فقال : لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه : لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم السواك الزيتون فإنه من الشجرة المباركة هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي (١). القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي (١). القول الثاني أنهما موضعان ثم اختلف فيهما فقيل هما جبلان بالشام أحدهما بدمشق ينبت فيه التين والآخر بإيلياء ينبت فيه الزيتون فكأنه قال ومنابت التين والزيتون وقيل التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس ، وقيل التين مسجد نوح والزيتون مسجد ابراهيم ، والأظهر أنهما الموضعان من الشام وهما اللذان كان فيهما مولد عيسى ومسكنه ، وذلك أن الله ذكر بعد هذا الطور الذي كلم عليه موسى والبلد الذي بعث منه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتكون الآية نظير ما في التوراة : «أن الله تعالى جاء من طور سيناء وطلع من ساعد وهو موضع عيسى وظهر من جبال باران» وهي مكة وأقسم الله بهذه المواضع التي ذكر في التوراة لشرفها بالأنبياء المذكورين (وَطُورِ سِينِينَ) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى هو بالشام ، وأضافه الله إلى سينين ومعنى سينين مبارك فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة ، وقيل : معناه ذو الشجر واحدها سينه ، قاله الأخفش وقال الزمخشري : ويجوز أن يعرب إعراب الجمع المذكر بالواو والياء وأن يلزم الياء وتحريك النون بحركات الإعراب (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) هو مكة باتفاق والأمين من الأمانة أو من الأمن لقوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة : ١٢٦].

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) فيه قولان : أحدهما أن أحسن التقويم هو

__________________

(١). هذان الحديثان لم أعثر عليهما وإنما في الزيتون ورد قوله : كلوا الزيت وادّهنوا به فإنه ينبت من شجرة مباركة. رواه أحمد عن أبي أسيد الساعدي ج ٣ ص ٤٩٧.

٤٩٤

حسن الصورة وكمال العقل والشباب والقوة وأسفل سافلين الضعف والهرم والخرف فهو كقوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] وقوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤] وقوله إلا الذين آمنوا بعد هذا غير متصل بما قبله ، والاستثناء على هذا القول منقطع بمعنى لكن لأنه خارج عن معنى الكلام الأول. والآخر أن حسن التقويم : الفطرة على الإيمان وأسفل سافلين الكفر أو تشويه الصورة في النار ، والاستثناء على هذا متصل ، لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يردوا أسفل سافلين (غَيْرُ مَمْنُونٍ) قد ذكر (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) فيه قولان : أحدهما : أنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدين شريعته ، والمعنى المعنى أي شيء يكذبك بالدين بعد هذه الدلائل التي تشهد بصحة نبوّتك؟ والآخر أنه خطاب للإنسان الكافر ، والدين على هذا الشريعة أو الجزاء الأخروي ومعنى يكذبك على هذا يجعلك كاذبا ، لأن من أنكر الحق فهو كاذب والمعنى أي شيء يجعلك كاذبا بسبب كفرك بالدين بعد أن علمت أن الله خلقك في أحسن تقويم ، ثم ردّك أسفل سافلين ، ولا شك أنه يقدر على بعثك كما قدر على هذا ، فلأي شيء تكذب بالبعث والجزاء؟ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ)؟ تقرير ووعيد للكفار بأن يحكم عليهم بما يستحقون وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأها قال : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

٤٩٥

سورة العلق

مكية وآياتها ١٩ وهي أول ما نزل من القرآن

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

نزل صدرها بغار حراء ، وهو أول ما نزل من القرآن حسبما ورد عن عائشة في الحديث الذي ذكرناه في أول الكتاب (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) فيه وجهان : أحدهما أن معناه اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك ، أو متبركا باسم ربك وموضع باسم ربك نصب على الحال ولذا كان تقديره : مفتتحا ، فيحتمل أن يريد ابتداء القراءة بقول : بسم الله الرحمن الرحيم أو يريد الابتداء باسم الله مطلقا والوجه الثاني أن معناه اقرأ هذا اللفظ وهو باسم ربك الذي خلق فيكون باسم ربك مفعولا وهو المقروء (الَّذِي خَلَقَ) حذف المفعول لقصد العموم كأنه قال : الذي خلق كل شيء ، ثم خصص خلقة الإنسان لما فيه من العجائب والعبر ، ويحتمل أنه أراد الذي خلق الإنسان كما قال (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثم فسره بقوله (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) والعلق جمع علقة ، وهي النطفة من الدم والمراد بالإنسان هنا جنس بني آدم ، ولذلك جمع العلق لما أراد الجماعة بخلاف قوله (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥] لأنه أراد كل واحد على حدته ، ولم يدخل آدم في الإنسان هنا لأنه لم يخلق من علقة وإنما خلق من طين (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) كرر الأمر بالقراءة تأكيدا والواو للحال والمقصود تأنيس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأنه يقول : افعل ما أمرت به فإن ربك كريم. وصيغة أفعل للمبالغة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) هذا تفسير للأكرم فدل على أن نعمة التعليم أكبر نعمة ، وخص من التعليمات الكتابة بالقلم لما فيها من تخليد العلوم ومصالح الدين والدنيا ، وقرأ ابن الزبير : علم الخط بالقلم (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) يحتمل أن يريد بهذا التعليم الكتابة ، لأن الإنسان لم يكن يعلمها في أول أمره أو يريد التعليم لكل شيء على الإطلاق ، وقيل : إن الإنسان هنا سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأظهر أنه جنس الإنسان على العموم.

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى) نزل هذا وما بعده إلى آخر السورة في أبي جهل بعد نزول صدرها بمدة ، وذلك أنه كان يطغى بكثرة ماله ويبالغ في عداوة النبي صلى الله عليه وعلى

٤٩٦

آله وسلم ، وكلا هنا يحتمل أن تكون زجرا لأبي جهل أو بمعنى حقا أو استفتاحا (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) في موضع المفعول من أجله ، أي يطغى من أجل غناه. والرؤية هنا بمعنى العلم ، بدليل إعمال الفعل في الضمير. ولا يكون ذلك إلا في أفعال القلوب ، والمعنى رأى نفسه استغنى واستغنى هو المفعول الثاني (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) هذا تهديد لأبي جهل وأمثاله (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) اتفق المفسرون أن العبد الذي صلى هو سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الذي نهاه أبو جهل لعنه الله وسبب الآية أن أبا جهل جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي في المسجد الحرام فهم بأن يصل إليه ويمنعه من الصلاة ، وروي أنه قال : لئن رأيته يصلي ، لأطأنّ عنقه فجاءه وهو يصلي ثم انصرف عنه مرعوبا فقيل له ما هذا؟ فقال لقد اعترض بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أرأيت في الموضوع الذي قبله والذي بعده بمعنى : أخبرني ؛ فكأنه سؤال يفتقر إلى جواب وفيها معنى التعجيب والتوقيف والخطاب فيها يحتمل أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل مخاطب من غير تعيين ، وهي تتعدى إلى مفعولين وجاءت بعدها إن الشرطية في موضعين وهما قوله : (إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) وقوله : (إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) فيحتاج إلى كلام في مفعولي أرأيت في المواضع الثلاثة ، وفي جواب الشرطين وفي الضمائر المتصلة بهذه الأفعال ، وهي إن كان على الهدى ، وأمر بالتقوى وكذب وتولى ، على من تعود هذه الضمائر؟ فقال الزمخشري : إن قوله الذي ينهى هو المفعول الأول لقوله : أرأيت الأولى وأن الجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني ، وكررت أرأيت بعد ذلك للتأكيد فهي زائدة لا تحتاج إلى مفعول وإن قوله : ألم يعلم بأن الله يرى هو جواب قوله إن كذب وتولى فهو في المعنى جواب للشرطين معا ، وأن الضمير في قوله : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للذي نهى عن الصلاة وهو أبو جهل ، وكذلك الضمير في قوله إن كذب وتولى وتقدير الكلام على هذا : أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى ، إن كان هذا الناهي على الهدى أو كذب وتولى؟ ألم يعلم بأن الله يرى جميع أحواله من هداه وضلاله وتكذيبه ونهيه عن الصلاة وغير ذلك؟ فمقصود الآية تهديد له وزجر وإعلام بأن الله يراه.

وخالفه ابن عطية في الضمائر فقال : إن الضمير في قوله : إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى للعبد الذي صلى ، وأن الضمير في قوله : إن كذب وتولى للذي نهى عن الصلاة ، وخالفه أيضا في جعله أرأيت الثانية مكررة للتأكيد وقال : إنها في المواضع الثلاثة توقيف [سؤال] وأن جوابه في المواضع الثلاثة قوله : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) فإنه

٤٩٧

يصلح مع كل مع واحد منها ، ولكنه جاء في آخر الكلام اختصارا.

وخالفهما أيضا الغزنوي في الجواب فقال : إن جواب قوله : إن كان على الهدى محذوف فقال : إن تقديره إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أليس هو على الحق واتباعه واجب ، والضمير على هذا يعود على العبد الذي صلى وفاقا لابن عطية (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أوعد أبا جهل إن لم ينته عن كفره وطغيانه أن يؤخذ بناصيته فيلقى في النار ، والناصية مقدم الرأس فهو كقوله : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] والسفع هنا الجذب والقبض على الشيء ، وقيل : هو الإحراق من قولك سفعته النار وأكد لنسفعن باللام والنون الخفيفة ، وكتبت في المصحف بالألف مراعاة للوقف ، ويظهر لي أن هذا الوعيد نفذ عليه يوم بدر حين قتل وأخذ بناصيته فجرّ إلى القليب (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أبدل ناصية من الناصية ، ووصفها بالكذب والخطيئة تجوزا ، والكاذب الخاطئ في الحقيقة صاحبها ، والخاطئ الذي يفعل الذنب متعمدا ، والمخطئ الذي يفعله بغير قصد (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) النادي والنّدي المجلس الذي يجتمع فيه الناس ، وكان أبو جهل قد قال : أيتوعدني محمد فو الله ما بالوادي أعظم ناديا مني فنزلت الآية تهديدا وتعجيزا له ، والمعنى : فليدع أهل ناديه لنصرته إن قدروا على ذلك ، ثم أوعده بأن يدعو له زبانية جهنم ، وهم الملائكة الموكلون بالعذاب ، الزبانية في اللغة الشرط واحدهم زبنية : وقيل : زبني وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي تقرب إلى الله بالسجود كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد (١) فاجتهدوا في الدعاء وهذا موضع سجدة عند الشافعي وليست عند مالك من عزائم السجود

__________________

(١). الحديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد عن أبي هريرة.

٤٩٨

سورة القدر

مكية وآياتها ٥ نزلت بعد عبس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اختلف الناس في ليلة القدر على ستة عشر قولا وهي أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان ، وليلة ثلاث وعشرين ، وليلة خمس وعشرين ، وليلة سبع وعشرين ، وليلة تسع وعشرين ، فهذه خمسة أقوال في ليالي الأوتار من العشر الأواخر من رمضان ، على قول من ابتدأ عدّتها من أول العشر. وقد ابتدأ بعضهم عدتها من آخر الشهر ، فجعل ليالي الأوتار ليلة ثلاثين ، لأنها الأولى وليلة ثمان وعشرين لأنها الثانية ، وليلة ستة وعشرين لأنها الخامسة ، وليلة أربع وعشرين ، لأنها السابعة وليلة اثنين وعشرين لأنها التاسعة فهذه خمسة أقوال أخر. فتلك عشرة أقوال والقول الحادي عشر أنها تدور في العشر الأواخر ، ولا تثبت في ليلة واحدة منه. الثاني عشر أنها مخفية في رمضان كله وهذا ضعيف لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : التمسوها في العشر الأواخر (١). الثالث عشر : أنها مخفية في العام كله. الرابع عشر أنها ليلة النصف من شعبان وهذان القولان باطلان لأن الله تعالى قال : إنا أنزلناه في ليلة القدر وقال شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ، فدل ذلك على أن ليلة القدر في رمضان. القول الخامس عشر أنها رفعت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا ضعيف. القول السادس عشر أنها ليلة سبعة عشر من رمضان لأن وقعة بدر كانت صبيحة هذه الليلة.

وأرجح الأقوال أنها ليلة إحدى وعشرين من رمضان أو ليلة ثلاث وعشرين أو ليلة سبع وعشرين فقد جاءت في هذه الليالي الثلاث أحاديث صحيحة خرجها مسلم وغيره والأشهر أنها ليلة سبع وعشرين (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) الضمير في أنزلناه للقرآن ، دل على ذلك سياق الكلام ، وفي ذلك تعظيم للقرآن من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ذكر ضميره دون اسمه الظاهر دلالة على شهرته والاستغناء عن تسميته ، الثاني أنه اختار لإنزاله أفضل الأوقات والثالث أن الله أسند إنزاله إلى نفسه وفي كيفية إنزاله في ليلة القدر قولان : أحدهما أنه ابتدأ إنزاله فيها والآخر أنه أنزل القرآن فيها جملة واحدة إلى السماء ثم نزل به جبريل إلى الأرض بطول عشرين سنة وقيل : المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وذكرها وهذا ضعيف

__________________

(١). رواه أحمد عن جابر بن سمرة ج ٥ ص ٨٦.

٤٩٩

وسميت ليلة القدر من تقدير الأمور فيها أو من القدر بمعنى الشرف ، ويترجح الأول بقوله فيها يفرق كل أمر حكيم (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) هذا تعظيم لها ، قال بعضهم : كل ما قال فيه ما أدراك فقد علمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما قال فيه ما يدريك فإنه لا يعلمه (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) معناه أن من قامها كتب الله له أجر العبادة في ألف شهر ، قال بعضهم يعني في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (١) وسبب الآية أن رسول الله تعالى عليه وسلم ذكر رجلا ممن تقدم عبد الله ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك ورأوا أن أعمارهم تنقص عن ذلك ، فأعطاهم الله ليلة القدر وجعلها خيرا من العبادة في تلك المدة الطويلة.

وروي أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عوتب حين بايع معاوية فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى في المنام بني أمية ينزون على منبره نزو القردة ، وأعلمه أنهم يملكون أمر الناس ألف شهر ، فاهتم لذلك ، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ملك بني أمية ألف شهر ، ثم كشف الغيب أنه كان من بيعة الحسن لمعاوية إلى قتل مروان الجعدي آخر ملوك بني أمية بالمشرق ألف شهر (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) الروح هنا جبريل عليه‌السلام ، وقيل : صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة وتنزّلهم هو إلى الأرض ، وقيل : إلى السماء الدنيا وهو تعظيم لليلة القدر ورحمة للمؤمنين القائمين فيها (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) هذا متعلق بما قبله ، والمعنى أن الملائكة ينزلون ليلة القدر من أجل كل أمر ، يقضي الله في ذلك العام. فإنه روي أن الله يعلم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام من الآجال والأرزاق وغير ذلك ، ليمتثلوا ذلك في العام كله ، وقيل : على هذا المعنى أن من بمعنى الباء أي ينزلون بكل أمر وهذا ضعيف وقيل : إن المجرور يتعلق بعده والمعنى أنها سلام من كل أمر أي سلامة من الآفات ، قال مجاهد : لا يصيب أحد فيها داء.

والأظهر أن الكلام تمّ عند قوله : من كل أمر. ثم ابتدأ قوله : سلام هي واختلف في معنى سلام فقيل ؛ إنه من السلامة وقيل : إنه من التحية ، لأن الملائكة يسلمون على المؤمنين القائمين فيها ، وكذلك اختلف في إعرابه فقيل : سلام هي مبتدأ وخبر وهذا يصح سواء جعلناه متصلا مع ما قبله أو منقطعا عنه ، وقيل : سلام. خبر مبتدأ مضمر تقديره : أمرها سلام أو : القول فيها سلام. وهي مبتدأ خبره حتى مطلع (٢) الفجر أي هي دائمة إلي طلوع الفجر ، ويختلف الوقف باختلاف الإعراب وقال ابن عباس : إن قوله هي إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين ، لأن هذه الكلمة هي السابعة والعشرين من كلمات السورة.

__________________

(١). رواه أحمد ج ٢ ص ٤٠٨ عن أبي هريرة وهو في الصحيحين أيضا.

(٢). قرأ الكسائي : مطلع بكسر اللام والباقون بفتحها.

٥٠٠