التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

وكالوهم أو وزنوهم معناه : دفعوا لهم. فقابل القبض بالدفع. وأما على هذا الوجه الضعيف فهو خروج عن المقصود ، قال ابن عطية : ظاهر الآية أن الكيل والوزن على البائعين وليس ذلك بالجلي. قال : صدر الآية في المشترين ، فهم الذين يستوفون أو يشاحّون ويطلبون الزيادة. وقوله : وإذا كالوهم أو وزنوهم في البائعين فهم الذين يخسرون المشتري.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) يعني يوم القيامة ، وهذا تهديد للمطففين وإنكار لفعلهم ، وكان عبد الله بن عمر إذا مر بالبائع يقول له : اتق الله وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) الظرف منصوب بقوله : مبعوثون وقيل : بفعل مضمر أو بدل من يوم عظيم ، وقيام الناس يوم القيامة على حسب اختلافهم ، فمنهم من يقوم خمسين ألف سنة وأقل من ذلك حتى أن المؤمن يقوم على قدر الصلاة مكتوبة (كَلَّا) ردع عن التطفيف أو افتتاح كلام (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) كتاب الفجار هو ما يكتب من أعمالهم ، والفجار هنا يحتمل أن يريد به الكفار أو المطففين وإن كانوا مسلمين ، والأول أظهر لقوله بعد هذا : ويل يومئذ للمكذبين. وسجين اسم علم منقول من صفة على وزن فعيل للمبالغة ، وقد عظم أمره بقوله : (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) ، ثم فسره بأنه (كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي مسطور بين الكتابين وهو كتاب جامع يكتب فيه أعمال الشياطين والكفار ، والفجار وهو مشتق من السجن بمعنى الحبس ، لأنه سبب الحبس والتضييق ، في جهنم ولأنه في مكان الهوان والعذاب كالسجن ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه في الأرض السفلى ، وروي عنه أنه في بئر هناك ، وحكى كعب عن التوراة أنه في شجرة سوداء هنالك ، وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون معنى الآية أن عدد الفجار في سجين أي كتبوا هنالك في الأزل (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) قد ذكر (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) أي غطى على قلوبهم ما كسبوا من الذنوب ، فطمس بصائرهم فصاروا لا يعرفون الرشد من الغي وفي الحديث (٢) : أن العبد إذا أذنب ذنبا صارت نكتة سوداء في قلبه فإذا زاد ذنب آخر زاد السواد فلا يزال كذلك حتى يتغطى وهو الرين (لَمَحْجُوبُونَ) حجب

__________________

(١). بل ران : قرأها حفص بإظهار اللام وقرأ الباقون بالإدغام ، كما أنّ الألف في ران قرأها بالإمالة حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأها الباقون بغير إمالة.

(٢). الحديث مشهور وقد رواه الإمام الطبري بعدة ألفاظ قريبة بسنده إلى أبي هريرة لدى تفسيره للآية.

وذكره المناوي وعزاه لأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة بأسانيد صحيحة.

٤٦١

الكفار عن الله ، على أن المؤمنين لا يحجبون وقد استدل بها مالك والشافعي على صحة رؤية المؤمن لله في الآخرة ، وتأولها المعتزلة أن معناها محجوبون عن رحمته (١) (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) عليّون اسم علم للكتاب الذي تكتب فيه الحسنات ، وهذا جمع منقول من صفة علي ، على وزن فعيل للمبالغة وقد عظمه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) ثم فسره بقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) وهو مشتق من العلوّ لأنه سبب في ارتفاع الدرجات في الجنة ، أو لأنه مرفوع في مكان علي ، فقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه تحت العرش ، وقال ابن عباس : هو الجنة وارتفع كتاب مرقوم في الموضعين على أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره هو كتاب ، وقال ابن عطية : كتاب مرقوم خبر إن والظرف ملغى وهذا تكلف يفسد به المعنى ، وقد روى في الأثر ما روي في الآية وهو أن الملائكة تصعد بصحيفة فيها عمل العبد فإن رضيه الله قال اجعلوه في عليين ، وإن لم يرضه قال اجعلوه في سجين (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) يعني الملائكة المقربين (الْأَرائِكِ) قد ذكر (يَنْظُرُونَ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ينظرون إلى أعدائهم في النار وقيل : ينظرون إلى الجنة وما أعطاهم الله فيها (نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي بهجته ورونقه ، كما يرى في وجوه أهل الرفاهية العافية والخطاب في تعرف للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لكل مخاطب من غير تعيين.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) الرحيق الخمر الصافية ، والمختوم فسره الله بأن ختامه مسك ، وقرئ ختامه بألف بعد التاء ، وخاتمه بألف بعد الخاء وبفتح التاء وكسرها وفي معناه ثلاثة أقوال : أحدها أنه من الختم على الشيء ، بمعنى جعل الطابع عليه فالمعنى أنه ختم على فم الإناء الذي هو فيه بالمسك ، كما يختم على أفواه آنية الدنيا بالطين إذا قصد حفظها ، وصيانتها الثاني أنه من ختم الشيء أي تمامه فمعناه : خاتم شربه مسك أي يجد الشارب عند آخر شربه رائحة المسك ولذته الثالث أن معناه مزاجه مسك أي مزج الشراب بالمسك ، وهذا خارج عن اشتقاق اللفظ (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) التنافس في الشيء هو الرغبة فيه ، والمغالاة في طلبه والتزاحم عليه (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) تسنيم اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفا ، ويمزج منه الرحيق الذي يشرب منه الأبرار ، فدل ذلك على أن درجة المقربين فوق درجة الأبرار ، فالمقربون هم السابقون والأبرار هم أصحاب اليمين (عَيْناً) منصوب على المدح بفعل مضمر ، أو على الحال من تسنيم (يَشْرَبُ بِهَا) بمعنى يشربها فالباء زائدة ويحتمل أن يكون بمعنى يشرب منها أو كقولك شربت الماء بالعسل.

__________________

(١). قول المعتزلة صادق بالنسبة إليهم ، فهم محجوبون عن رحمة الله لأنهم حكموا عقولهم في النصوص.

٤٦٢

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) نزلت هذه الآية في صناديد قريش ، كأبي جهل وغيره مر بهم عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وجماعة من المؤمنين ، فضحكوا منهم واستخفوا بهم (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي يغمز بعضهم إلى بعض ويشير بعينيه ، والضمير في مروا يحتمل أن يكون للمؤمنين أو للكفار ، والضمير في يتغامزون للكفار لا غير فاكهين (١) من الفكاهة وهي اللهو ، أي يتفكرون بذكر المؤمنين ، والاستخفاف بهم قاله الزمخشري. ويحتمل أن يريد يتفكهون بنعيم الدنيا (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي إذا رأى الكفار المؤمنين نسبوهم إلى الضلال ، وقيل : إذا رأى المؤمنون الكفار نسبوهم إلى الضلال والأول أظهر وأشهر (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي ما أرسل الكفار حافظين على المؤمنين ، يحفظون أعمالهم ويشهدون برشدهم أو ضلالهم ، وكأنه قال كلامهم بالمؤمنين فضول منهم (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) يعني باليوم يوم القيامة إذ قد تقدم ذكره ، فيضحك المؤمنون فيه من الكفار ، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) معنى ثوب جوزي يقال : ثوبه وأثابه إذا جازاه. وهذه الجملة يحتمل أن تكون متصلة بما قبلها في موضع مفعول ينظرون ، فتوصل مع ما قبلها أو تكون توقيفا [سؤالا] فيوقف قبلها ويكون معمول ينظرون محذوفا حسبما ذكرنا في ينظرون الذي قبل هذا وهذا أرجح لاتفاق الموضعين.

__________________

(١). قرأ حفص وحده : فكهين بدون ألف ، والمعنى واحد.

٤٦٣

سورة الانشقاق

مكية وآياتها ٢٥ نزلت بعد الانفطار

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) اختلف في هذا الانشقاق هل هو تشققها بالغمام ؛ أو انفتاحها أبوابا ، وجواب إذا محذوف ليكون أبلغ في التهويل ، إذ يقدّر السامع أقصى ما يتصوره ، وحذف للعلم به ، اكتفاء بما في سورة التكوير والانفطار من الجواب. وقيل : الجواب ما دل عليه فملاقيه : أي إذا السماء انشقت لقي الإنسان ربه ، وقيل : الجواب أذنت على زيادة الواو وهذا ضعيف (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) معنى أذنت في اللغة : استمعت ، وهو عبارة عن طاعتها لربها ، وأنها انقادت لله حين أراد انشقاقها ، وكذلك طاعة الأرض لما أراد مدّها وإلقاء ما فيها (وَحُقَّتْ) أي حق لها أن تسمع وتطيع لربها ، أو حق لها أن تنشق من أهوال القيامة ، وهذه الكلمة من قولهم : هو حقيق بكذا ، أو محقوق به. أي : عليه أن يفعله فالمعنى : يحق على السماء أن تسمع وتطيع لربها ، أو يحق عليها أن تتشقق ، ويحتمل أن يكون أصله حققت بفتح الحاء وضم القاف على معنى التعجب ، ثم أدغمت القاف في القاف التي بعدها ونقلت حركتها إلى الحاء (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي زال ما عليها من الجبال حتى صارت مستوية (وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) أي ألقت ما في جوفها من الموتى للحشر ، وقيل : ألقت ما فيها من الكنوز. وهذا ضعيف ؛ لأن ذلك يكون وقت خروج الدجال قبل القيامة ، والمقصود ذكر يوم القيامة ، وتخلت أي بقيت خالية مما كان فيها.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خطاب للجنس (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) الكدح في اللغة هو : الجد والاجتهاد والسرعة ، فالمعنى أنك في غاية الاجتهاد في السير إلى ربك ، لأن الزمان يطير ، وأنت في كل لحظة تقطع حظا من عمرك القصير ، فكأنك سائر مسرع إلى الموت ، ثم تلاقي ربك ، وقيل : المعنى إنك ذو جد فيما تعمل من خير أو شر ، ثم تلقى ربك فيجازيك به والأول أظهر ، لأن كادح تعدى بإلى لما تضمن معنى السير ، ولو كان بمعنى العمل لقال : لربك (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) ذكر في الحاقة (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً)

٤٦٤

يحتمل أن يكون اليسير بمعنى قليل ، أو بمعنى هيّن سهل ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من نوقش الحساب عذّب. فقالت عائشة ألم يقل الله فسوف يحاسب حسابا يسيرا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ذلك العرض وأما من نوقش الحساب فيهلك (١). وفي الحديث أيضا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يدني العبد يوم القيامة حتى يضع كنفه عليه فيقول : فعلت كذا وكذا ويعدد عليه ذنوبه ثم يقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم (٢) ، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : «من حاسب نفسه في الدنيا هون الله عليه حسابه يوم القيامة» (٣) (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي يرجع إلى أهله في الجنة مسرورا بما أعطاه الله ، والأهل : زوجاته في الجنة من نساء الدنيا أو من الحور العين ، ويحتمل أن يريد قرابته من المؤمنين ، وبذلك فسره الزمخشري.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) يعني : الكافر. وروي أن هاتين الآيتين نزلتا في أبي سلمة بن عبد الأسد ، وكان من فضلاء المؤمنين وفي أخيه أسود ، وكان من عتاة الكافرين ، ولفظها أعم من ذلك فإن قيل : كيف قال في الكافر هنا أن يؤتى كتابه وراء ظهره وقال في الحاقة بشماله؟ فالجواب من وجهين أحدهما : أن يديه تكونان مغلولتين إلى عنقه ، وتجعل شماله وراء ظهره فيأخذ بها كتابه ، وقيل : تدخل يده اليسرى في صدره وتخرج من ظهره فيأخذ بها كتابه (يَدْعُوا ثُبُوراً) أي يصيح بالويل والثبور (٤) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي كان في الدنيا مسرورا مع أهله ، متنعما غافلا عن الآخرة ، وهذا في مقابلة ما حكي عن المؤمن أنه ينقلب إلى أهله مسرورا في الجنة ، وهو ضد ما حكي عن المؤمنين في الجنة من قولهم : إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لا يرجع إلى الله ، والمعنى أنه يكذب بالبعث (بَلى) أي يحور ويبعث (فَلا أُقْسِمُ) ذكر في نظائره (بِالشَّفَقِ) هي الحمرة التي تبقى بعد غروب الشمس ، وقال أبو حنيفة : هو البياض ، وقيل : هو النهار كله. وهذا ضعيف والأول هو المعروف عند الفقهاء وعند أهل اللغة (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي جمع وضم ، ومنه الوسق (٥) ، وذلك أن الليل يضم الأشياء ويسترها

__________________

(١). الحديث رواه أحمد عن عائشة ج ٦ ص ٤٨.

(٢). رواه أحمد عن ابن عمر ج ٢ ص ٥٧.

(٣). لم أعثر عليه ومعناه صحيح.

(٤). الآية : ويصلى سعيرا هكذا قرأها أبو عمرو وعاصم وحمزة وقرأها الباقون : ويصلّى بالتشديد.

(٥). مكيال يساوي ٦٠ صاعا والصاع : ٣ أمداد. والوسق يساوي تقريبا أكثر بقليل من ١٢٠ كيلو غرام.

٤٦٥

بظلامه (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي إذا كمل ليلة أربعة عشر ، ووزن اتسق افتعل وهو مشتق من الوسق ، فكأنه امتلأ نورا. وفي الآية من أدوات البيان لزوم ما لا يلزم ، لالتزام السين قبل القاف في وسق واتسق.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) الطبق في اللغة له معنيان : أحدهما ما طابق غيره. يقال :

هذا طبق لهذا إذا طابقه والآخر جمع طبقة فعلى الأول يكون المعنى لتركبن حالا بعد حال كل واحدة منها مطابقة للأخرى ، وعلى الثاني يكون المعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات بعضها فوق بعض ، ثم اختلف في تفسير هذه الأحوال ، وفي قراءة تركبن فأما من قرأ بضم الباء (١) فهو خطاب لجنس الإنسان ، وفي تفسير الأحوال على هذا ثلاثة أقوال أحدها أنها شدائد الموت ثم البعث ثم الحساب ثم الجزاء والآخر أنها كون الإنسان نطفة ثم علقة إلى أن يخرج إلى الدنيا ثم إلى أن يهرم ثم يموت والثالث لتركبن سنن من كان قبلكم. وأما من قرأ تركبنّ بفتح الباء فهو خطاب للإنسان على المعاني الثلاثة التي ذكرنا ، وقيل : هي خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اختلف القائلون بهذا على ثلاثة أقوال أحدها : لتركبن مكابدة الكفار حالا بعد حال ، والآخر : لتركبن فتح البلاد شيئا بعد شيء والثالث لتركبن السموات في الإسراء [سماء] بعد سماء وقوله : عن طبق في موضع الصفة لطبقا أو في موضع حال من الضمير في تركبن قاله الزمخشري.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) الضمير لكفار قريش ، والمعنى أي شيء يمنعهم من الإيمان (وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها وليست عند مالك من عزائم السجدات (الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني المذكورين ووضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالكفر (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يجمعون في صدورهم من الكفر والتكذيب أو بما يجمعون في صحائفهم ، يقال أوعيت المال وغيره إذا جمعته (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وضع البشارة في موضع النذارة تهكما بهم (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني من قضى له بالإيمان من هؤلاء الكفار ، فالاستثناء على هذا متصل ، وإلى هذا أشار ابن عطية وقال الزمخشري هو منقطع (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) قد ذكر.

__________________

(١). وهم معظم القراء ما عدا ابن كثير وحمزة والكسائي فإنهم قرءوها بفتح الباء.

٤٦٦

سورة البروج

مكية وآياتها ٢٢ نزلت بعد الشمس

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) البروج هي المنازل المعروفة وهي اثنا عشر ، تقطعها الشمس في السنة ، وقيل : هي النجوم العظام ، لأنها تتبرج أي تظهر (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) هو يوم القيامة باتفاق ، وقد ذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) يحتمل الشاهد والمشهود أن يكون من الشهادة على الأمر ، أو يكون من معنى الحضور ، وحذف المعمول وتقديره : مشهود عليه أو مشهود به أو مشهود فيه.

وقد اضطرب الناس في تفسير الشاهد والمشهود اضطرابا عظيما ، ويتلخص من أقوالهم في الشاهد ستة عشر قولا يقابلها في المشهود اثنان وثلاثون قولا ، الأول : أن الشاهد هو الله تعالى لقوله وكفى بالله شهيدا ؛ والمشهود على هذا يحتمل ثلاثة أوجه ، أحدها أن يكون الخلق بمعنى أنه يشهد عليهم والآخر أن تكون الأعمال بمعنى أنه يشهد بها والثالث أن يكون يوم القيامة ، بمعنى أنه يشهد فيه أي يحضر للحساب والجزاء ، أو تقع فيه الشهادة على الناس ، القول الثاني : أن الشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [الحج : ٧٨] والمشهود على هذا يحتمل أن يكون أمته ؛ لأنه يشهد عليهم أو أعمالهم ، لأنه يشهد بها أو يوم القيامة لأنه يشهد فيه ، أي يحضر أو تقع فيه الشهادة على الأمة ، القول الثالث : أن الشاهد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] والمشهود على هذا سائر الأمم ؛ لأنهم يشهدون عليهم أو أعمالهم أو يوم القيامة ، القول الرابع أن الشاهد هو عيسى عليه‌السلام والمشهود أمته لقوله : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٧] أو أعمالهم ، أو يوم القيامة. الخامس أن الشاهد جميع الأنبياء ، والمشهود أممهم لأن كل نبيّ يشهد على أمته ، أو يشهد القول بأعمالهم أو يوم القيامة ؛ لأنه يشهد فيه ، القول السادس أن الشاهد الملائكة الحفظة والمشهود على هذا الناس ؛ لأن الملائكة يشهدون عليهم أو الأعمال لأن الملائكة يشهدون بها أو يوم القيامة ، أو صلاة الصبح لقوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨]

٤٦٧

القول السابع أن الشاهد جميع الناس ، لأنهم يشهدون يوم القيامة أي يحضرونها ، والمشهود يوم القيامة لقوله (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] والقول الثامن أن الشاهد الجوارح والمشهود عليه أصحابها ، لقوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) [النور : ٢٤] أو الأعمال ؛ لأن الجوارح تشهد بها يوم القيامة ؛ لأن الشهادة تقع فيه ، القول التاسع أن الشاهد الله والملائكة وأولوا العلم لقوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) [آل عمران : ١٨] والمشهود به الوحدانية ، القول العاشر : الشاهد جميع المخلوقات والمشهود به وجود خالقها وإثبات صفاته من الحياة والقدرة وغير ذلك ، القول الحادي عشر أن الشاهد النجم لما ورد في الحديث : لا صلاة بعد العصر حتى يطلع الشاهد وهو النجم (١) والمشهود على هذا الليل والنهار ؛ لأن النجم يشهد بانقضاء النهار ودخول الليل القول الثاني عشر أن الشاهد الحجر الأسود والمشهود الناس الذين يحجون. القول الثالث عشر روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة وذلك أن يوم الجمعة يشهد بالأعمال ويوم عرفة يشهده جمع عظيم من الناس (٢) ، القول الرابع عشر أن الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر قاله علي بن أبي طالب.

القول الخامس عشر أن الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. القول السادس عشر أن الشاهد يوم الاثنين والمشهود يوم الجمعة.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) الكلام هنا في ثلاثة فصول : الأول في جواب القسم وفيه أربعة أقوال أحدها أنه قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) والثاني أنه (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) وهذان القولان ضعيفان لبعد القسم من الجواب ، وثالثها أنه (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) تقديره : لقد قتل ورابعها أنه محذوف يدل عليه قتل أصحاب الأخدود تقديره : لقد قتل هؤلاء الكفار كما قتل أصحاب الأخدود ، وذلك أن الكفار من قريش كانوا يعذبون من أسلم من قومهم ليرجعوا عن الإسلام ، فذكر الله قصة أصحاب الأخدود وعيدا للكفار وتأنيسا للمسلمين المعذبين ، الفصل الثاني في تفسير لفظها ، فأما قتل فاختلف هل هو دعاء أو خبر؟ واختلف هل هو بمعنى القتل حقيقة أو بمعنى اللعن؟ وأما الأخدود فهو الشق في الأرض كالخندق وشبهه ، وأما أصحاب الأخدود فيحتمل أن يريد بهم الكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود ، أو يريد المؤمنين الذين حرقوا فيه ، فيكون القتل حقيقة خبر ، أو الأول أظهر. الفصل الثالث في قصة أصحاب الأخدود وفيها أربعة أقوال : الأول ما ورد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث طويل معناه : أن ملكا كافرا أسلم أهل بلده ، فأمر

__________________

(١). الحديث رواه أحمد ج ٦ ص ٣٩٧ ، عن أبي بصرة الغفاري.

(٢). رواه الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى أبي هريرة وعلي بن أبي طالب وابن عباس.

٤٦٨

بالأخدود فخدّ في أفواه السكك وأضرم فيها النيران فقال : من لم يرجع عن دينه فألقوه فيها ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام : يا أماه اصبري فإنك على الحق. الثاني أن ملكا زنى بأخته ثم أراد أن يحلل للناس نكاح الأخوات فأطاعه قوم ومنهم أخذ المجوس ذلك ، وعصاه قوم فحفر لهم الأخدود فأحرقهم فيه بالنار القول الثالث أن نبي أصحاب الأخدود كان حبشيا ، وأن الحبشة بقية أصحاب الأخدود. القول الرابع أن أصحاب الأخدود ذو نواس المذكور في قصة عبد الله بن التامر التي وقعت في السير «ويحتمل أن يكون ذو نواس الملك الذي ذكره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتفق هذا القول مع الأول فإن ذا نواس حفر أخدودا فأوقد فيه نيرانا وألقى فيها كل من وحد الله تعالى واتبع العبد الصالح عبد الله بن التامر.

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) النار بدل من الأخدود ، وهو بدل اشتمال ، والوقود ما توقد به النار ، والقصد وصف النار بالشدة والعظم (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) الضمير للكفار الذين كانوا يحرقون المؤمنين في الأخدود ، وهم أصحاب الأخدود على الأظهر. والعامل في إذ قوله : قتل فروي أن النار أحرقت من المؤمنين عشرين ألفا ، وقيل : سبعين ألفا فقتل على هذا بمعنى لعن أي لعنوا حين قعدوا على النار لتحريق المؤمنين ، وروي أن الله بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكفار الذين كانوا عليها ، فقتل على هذا بمعنى القتل الحقيقي أي قتلتهم النار ؛ وقيل : الضمير في إذ هم للمؤمنين ، والأول أشهر وأظهر لقوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) يحتمل أن يكون بمعنى الشهادة أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه فعل ما أمره الملك من التحريق ، أو يشهدون بذلك على أنفسهم يوم القيامة ، أو يكون بمعنى الحضور أي كانوا حاضرين على ذلك الفعل (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ) أي ما أنكر الكفار على المؤمنين إلا أنهم آمنوا بالله ، وهذا لا ينبغي أن ينكر. فإن قيل : لم قال أن يؤمنوا بلفظ المضارع ولم يقل آمنوا بلفظ الماضي لأن القصة قد وقعت؟ فالجواب أن التعذيب إنما كان على دوامهم على الإيمان ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوهم ، فلذلك ذكره بلفظ المستقبل فكأنه قال : إلا أن يدوموا على الإيمان.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) إن كانت هذه الآية في أصحاب الأخدود فالفتنة هنا بمعنى الإحراق ، وإن كانت في كفار قريش فالفتنة بمعنى المحنة ، والتعذيب وهذا أظهر لقوله : ثم لم يتوبوا لأن أصحاب الأخدود لم يتوبوا بل ماتوا على كفرهم. وأما قريش فمنهم من أسلم وتاب ، وفي الآية دليل على أن الكافر إذا أسلم يغفر له ما فعل في

٤٦٩

حال كفره لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام يجبّ ما قبله (١) (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) يحتمل أن يكون في الآخرة ، فيكون تأكيدا لعذاب جهنم ، أو نوعا من العذاب زيادة إلى عذاب جهنم. ويحتمل أن يريد في الدنيا ، وذلك على رواية أن الكفار أصحاب الأخدود أحرقتهم النار (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) البطش الأخذ بقوة وسرعة (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي يبدئ الخلق بالنشأة الأولى ، ويعيدهم بالنشأة الآخرة للبعث وقيل : يبدئ البطش ويعيده أي يبطش بهم في الدنيا والآخرة والأول أظهر وأرجح لقوله : (إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [يونس : ٤] وقد ذكرنا الودود في [مقدمة] اللغات (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) أضاف العرش إلى الله وخصه بالذكر لأن العرش أعظم المخلوقات ، والمجيد من المجد وهو الشرف ورفعة القدر ، وقرئ المجيد بالرفع صفة لذو العرش وقرأ حمزة والكسائي بالخفض صفة للعرش (هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] يراد به التنبيه وتعظيم الأمر ، والمراد بذكر الجنود تهديد الكفار وتأنيس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) تهديد لهم معناه لا يفوتونه بل يصيبهم عذابه إذا شاء (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) يعني اللوح المحفوظ الذي في السماء وقرئ محفوظ بالخفض صفة للوح وقرأ نافع محفوظ بالرفع صفة للقرآن ، أي حفظه الله من التبديل والتغيير ، أو حفظه المؤمنون في صدورهم.

__________________

(١). الحديث سبق تخريجه وهو في قصة إسلام عمرو بن العاص راجع سيرة ابن هشام.

٤٧٠

سورة الطارق

مكية وآياتها ١٧ نزلت بعد البلد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) هذه السماء التي أقسم الله بها هي المعروفة. وقيل : أراد المطر لأن العرب قد تسميه سماء ، وهذا بعيد والطارق في اللغة ما يطرق أي يجيء ليلا ، وقد فسره الله هنا بأنه النجم الثاقب وهو يطلع ليلا ومعنى الثاقب : المضيء أو المرتفع فقيل : أراد جنس النجوم وقيل : الثريا لأنه الذي تطلق عليه العرب النجم وقيل : زحل (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) هذا جواب القسم ومعناه عند الجمهور : أن كل نفس من بني آدم عليها حافظ يكتب أعمالها ، يعني : الملائكة الحفظة وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير هذه الآية : أن لكل نفس حفظة من الله يذبون عنها كما يذب عن العسل ، ولو وكل المرء إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الآفات والشياطين» (١) وإن صح هذا الحديث فهو المعوّل عليه. وقرئ لما عليها بتخفيف الميم ، وعلى هذا تكون إن مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد وما زائدة وقرئ لمّا بالتشديد (٢) وعلى هذا تكون إن نافية ولما بمعنى الإيجاب بعد النفي.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) حذف ألف ما لأنها استفهامية وجوابها خلق من ماء دافق ، وسمي المني ماء دافقا من الدفق ، بمعنى الدفع فقيل : معناه مدفوق وصاحبه هو الدافق في الحقيقة قال سيبويه : هو على النسب أي ذو دفق ، وقال ابن عطية : يصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا ، ومقصود الآية إثبات الحشر ، فأمر الإنسان أن ينظر أصل خلقته ليعلم أن الذي خلقه من ماء دافق قادر على أنه يعيده ، ووجه اتصال هذا الكلام بما قبله أنه لما أخبر أن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها ، أعقبه بالتنبيه على الحشر حيث تجازى كل نفس بأعمالها (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) الضمير في يخرج للماء وقال ابن عطية : يحتمل أن يكون للإنسان ، وهذا بعيد جدا والترائب : عظام الصدر واحدها : تريبة وقيل : هي الأطراف كاليدين والرجلين ، وقيل : هي عصارة القلب ، ومنها

__________________

(١). لم أعثر عليه.

(٢). قرأ لمّا بالتشديد ابن عامر وعاصم وحمزة والباقون بدون تشديد.

٤٧١

يكون الولد ، وقيل : هي الأضلاع التي أسفل الصلب ، والأول هو الصحيح المعروف في اللغة ، ولذلك قال ابن عباس : هي موضع القلادة ما بين ثديي المرأة ، ويعني صلب الرجل وترائبه وصلب المرأة وترائبها ، وقيل : أراد صلب الرجل وترائب المرأة (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) الضمير في إنه لله تعالى وفي رجعه للإنسان ، والمعنى : أن الله قادر على رجع الإنسان حيا بعد موته ، والمراد إثبات البعث.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) يعني : يوم القيامة ، والسرائر جمع سريرة وهي ما أسرّ العبد في قلبه من العقائد والنيات ، وما أخفى من الأعمال وبلاؤها هو تعرّفها والاطلاع عليها ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن السرائر الإيمان والصلاة والزكاة والغسل من الجنابة وهذه معظمها. فلذلك خصّها بالذكر ، والعامل في يوم قوله : رجعه أي يرجعه يوم تبلى السرائر ، واعترض بالفصل بينهما. وأجيب بقوة المصدر في العمل ، وقيل : العامل قادر واعترض بتخصيص القدرة بذلك اليوم ، وهذا لا يلزم لأن القدرة وإن كانت مطلقة فقد أخبر الله أن البعث إنما يقع في ذلك اليوم. وقال من احترز من الاعتراضين في القولين المتقدمين : العامل فعل مضمر من المعنى تقديره : يرجعه يوم تبلى السرائر ، وهذا كله على المعنى الصحيح في رجعه ، وأما على الأقوال الأخر فالعامل في يوم مضمر تقديره : اذكر (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) الضمير للإنسان ، ولما كان دفع المكاره في الدنيا إما بقوة الإنسان أو بنصرة غيره له أخبره الله أنه يعدمها يوم القيامة (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) المراد بالرجع عند الجمهور المطر وسماه رجعا بالمصدر ، لأنه يرجع كل عام أو لأنه يرجع إلى الأرض ، وقيل : الرجع السحاب الذي فيه المطر ، وقيل : هو مصدر رجوع الشمس والكواكب من منزلة إلى منزلة (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) يعني ما تصدع عنه الأرض من النبات ، وقيل : يعني ما في الأرض من الشقاق والخنادق وشبهها (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) الضمير للقرآن ، لأن سياق الكلام يقتضيه ، والفصل معناه الذي فصل بين الحق والباطل كما قيل له : فرقان. والهزل : اللهو يعني أنه جدّ كله (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) الضمير لكفار قريش ، وكيدهم هو ما دبروه في شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإضرار به وإبطال أمره (وَأَكِيدُ كَيْداً) هذا تسمية للعقوبة باسم الذنب ، للمشاكلة بين الفعلين (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي لا تستعجل عليهم بالعقوبة لهم أو بالدعاء عليهم ، وهذا منسوخ بالسيف (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إمهالا يسيرا قليلا يعني إلى قتلهم يوم بدر ، أو إلى الدار الآخرة ، وجعله يسيرا ، لأن كل آت قريب ، ولفظ رويدا هذا صفة لمصدر محذوف ، وقد تقع بمعنى الأمر بالتساهل كقولك : رويدا يا فلان ، وكرّر الأمر في قوله أمهلهم وخالف بينه وبين لفظ مهل لزيادة التسكين والتصبير قاله الزمخشري.

٤٧٢

سورة الأعلى

مكية وآياتها ١٩ نزلت بعد التكوير

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) التسبيح في اللغة التنزيه وذكر الاسم هنا يحتمل وجهين أحدهما : أن يكون المراد المسمى ويكون الإسم صلة كالزائد ، ومعنى الكلام سبح اسم ربك أي نزهه عما لا يليق به ، وقد يتخرج ذلك على قول من قال : إن الإسم هو المسمى ، والآخر أن يكون الإسم مقصودا بالذكر ، ويحتمل المعنى على هذا أربعة أوجه ، الأول : تنزيه أسماء الله تعالى عن المعاني الباطلة كالتشبيه والتعطيل ، الثاني : تنزيه أسماء الله عن أن يسمى بها صنم أو وثن : الثالث : تنزيه أسماء الله عن أن تدرك في حال الغفلة دون خشوع. الرابع أن المراد قول سبحان الله ، ولما كان التسبيح باللسان لا بدّ فيه من ذكر الإسم أوقع التسبيح على الإسم ، وهذا القول هو الصحيح ، ويؤيده ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال سبحان ربي الأعلى وأنها لما نزلت قال : اجعلوها في سجودكم. فدل ذلك على أن المراد هو التسبيح باللسان مع موافقة القلب ، ولا بدّ في التسبيح باللسان من ذكر اسم الله تعالى ؛ فلذلك قال : سبح اسم ربك الأعلى مع أن التسبيح في الحقيقة إنما هو لله تعالى لا لاسمه ، وإنما ذكر الإسم لأنه هو الذي يوصل به إلى التسبيح باللسان. وعلى هذا يكون موفقا في المعنى لقوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [الواقعة : ٧٤] لأن معناه نزّه الله بذكر اسمه ويؤيد هذا ما روي عن ابن عباس أن معنى سبح : صل باسم ربك أي صل واذكر في الصلاة اسم ربك ، والأعلى يحتمل أن يكون صفة للرب أو للاسم والأول أظهر.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) حذف مفعول خلق وسوّى لقصد الإجمال الذي يفيد العموم والمراد خلق كل شيء فسوّاه ، أي أتقن خلقته وانظر ما ذكرنا في قوله : (فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) [الانفطار : ٧] (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) قدّر بالتشديد يحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، أو من التقدير ، والموازنة بين الأشياء ، وقرأ الكسائي بالتخفيف فيحتمل أن يكون من القدرة أو التقدير ، وحذف المفعول ليفيد العموم. فإن كان من التقدير فالمعنى : قدّر لكل حيوان ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به ، وقيل : هدى الناس للخير والشر والبهائم

٤٧٣

للمراتع ، وهذه الأقوال أمثلة والأول أعم وأرجح ، فإن هداية الإنسان وسائر الحيوانات إلى مصالحها باب واسع فيه عجائب وغرائب ، وقال الفراء : المعنى هدى وأضلّ واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى وهذا بعيد (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) المرعى هو النبات الذي ترعاه البهائم ، والغثاء هو النبات اليابس المحتطم ، وأحوى معناه أسود وهو صفة لغثاء. والمعنى أن الله أخرج المرعى أخضر فجعله بعد خضرته غثاء أسود ، لأن الغثاء إذا قدم تعفن واسودّ ، وقيل : إن أحوى حال من المرعى ، ومعناه : الأخضر الذي يضرب إلى السواد وتقديره : الذي أخرج المرعى أحوى فجعله غثاء ، وفي هذا القول تكلف.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعده الله أن يقرئه القرآن فلا ينساه ، وفي ذلك معجزة له عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه كان أميا لا يكتب ، وكان مع ذلك لا ينسى ما أقرأه جبريل عليه‌السلام من القرآن ، وقيل : معنى الآية كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) [القيامة : ١٦] الآية : فإنه عليه الصلاة والسلام كان يحرك به لسانه إذا أقرأه جبريل ، خوفا أن ينساه فضمن الله له أن لا ينساه ، وقيل : فلا تنسى نهي عن النسيان ، وقد علم الله أن ترك النسيان ليس في قدرة البشر ، فالمراد الأمر بتعاهده حتى لا ينساه. وهذا بعيد لإثبات الألف في تنسى (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) فيه وجهان : أحدهما أن معناه لا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه كقوله : أو ننسها البقرة : ١٠٦ والآخر : أنه لا ينسى شيئا ولكن قال : إلا ما شاء الله تعظيما لله بإسناد الأمر إليه كقوله في الأنعام : ١٢٨ (خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) على بعض الأقوال وعبر الزمخشري : عن هذا بأنه من استعمال التقليل في معنى النفي ، والأول أظهر فإن النسيان جائز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أراد الله أن يرفعه من القرآن ، أو فيما قضى الله أن ينساه ثم يذكره ، ومن هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سمع قراءة عباد بن بشير رحمه‌الله : لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت قد نسّيتها (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) عطف على سنقرئك ومعناه نوفقك للأمور المرضية التي توجب لك السعادة ، وقيل : معناه للشريعة اليسرى من قوله عليه الصلاة والسلام : دين الله يسر (١) أي سهل لا حرج فيه.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) المراد بهذا الشرط توبيخ الكفار الذين لا تنفعهم الذكرى ، واستبعاد تأثير الذكرى في قلوبهم كقولك : قد أوصيتك لو سمعت ، وقيل : المعنى : ذكر إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. واقتصر على أحد القسمين لدلالة الآخر عليه ، وهذا بعيد

__________________

(١). قال المناوي : رواه البخاري بلفظ : إن الدين يسر.

٤٧٤

وليس عليه الرونق الذي على الأول (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي من يخاف الله (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) يعني الكافر وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة ، والضمير المفعول للذكرى (النَّارَ الْكُبْرى) هي نار جهنم وسماها كبرى بالنظر إلى نار الدنيا ، وقيل : سماها كبرى بالنظر إلى غيرها من نار جهنم ، فإنها تتفاضل ، وبعضها أكبر من بعض وكلا القولين صحيح. إلا أن الأول أظهر. ويؤيده قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءا من نار جهنم (١) (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا حياة هنيئة ، وعطف هذه الجملة بثم لأن هذه الحالة أشد من صلي النار فكأنها بعده في الشدة.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) يحتمل أن يكون بمعنى الطهارة من الشرك والمعاصي ، أو بمعنى الطهارة للصلاة أو بمعنى أداء الزكاة وعلى هذا قال جماعة : إنها يوم الفطر والمعنى أدّى زكاة الفطر (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) في طريق المصلى إلى أن يخرج الإمام وصلى صلاة العيد ، وقد روي هذا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل المراد أدى زكاة ماله وصلى الصلوات الخمس (٢) (إِنَّ هذا) الإشارة إلى ما ذكر من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ، أو إلى ما تضمنته السورة أو إلى القرآن بجملته ، والمعنى أنه ثابت في كتب الأنبياء المتقدمين كما ثبت في هذا الكتاب.

__________________

(١). رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة.

(٢). الآية : بل تؤثرون الحياة الدنيا : قرأ أبو عمرو : بل يؤثرون. بالياء.

٤٧٥

سورة الغاشية

مكية وآياتها ٢٦ نزلت بعد الذاريات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] يراد به التنبيه والتفخيم للأمر ، قيل : هل بمعنى قد وهذا ضعيف (الْغاشِيَةِ) هي القيامة لأنها تغشى جميع الخلق ، وقيل : هي النار من قوله : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [ابراهيم : ٥٠] وهذا ضعيف لأنه ذكر بعد ذلك قسمين أهل الشقاوة وأهل السعادة (خاشِعَةٌ) أي ذليلة (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) هو من النصب بمعنى التعب ، وفي المراد بهم ثلاثة أقوال : أحدهما أنهم الكفار ويحتمل على هذا أن يكون عملهم ونصبهم في الدنيا لأنهم كانوا يعملون أعمال السوء ويتعبون فيها ، أو يكون في الآخرة فيعملون فيها عملا يتعبون فيه من جر السلاسل والأغلال وشبه ذلك ويكون زيادة في عذابهم : الثاني : أنها في الرهبان الذين يجتهدون في العبادة ولا تقبل منهم ، لأنهم على غير الإسلام وبهذا تأولها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا. فعاملة ناصبة على هذا في الدنيا وناصبة إشارة إلى اجتهادهم في العمل ، أو إلى أنه لا ينفعهم فليس لهم منه إلا النصب. الثالث أنها في القدرية. وقد روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر القدرية فبكى وقال إن فيهم المجتهد (١).

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي شديدة الحر ، ومنه حميم آن ، [الرحمن : ٤٤] ووزن آنية هنا فاعلة بخلاف آنية من فضة فإن وزنه أفعلة (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) في الضريع أربعة أقوال : أحدهما أنه شوك يقال له الشبرق وهو سم قاتل وهذا أرجح لأقوال ؛ لأن أرباب اللغة ذكروه ولأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : الضريع شوك في النار. الثاني : أنه الزقوم لقوله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ). [الدخان : ٤٣] الثالث : أنه نبات أخضر منتن ينبت في البحر وهذا ضعيف ، الرابع أنه واد في جهنم وهذا ضعيف لأن ما يجري في الوادي ليس بطعام إنما هو شراب ، ولله در من قال : الضريع طعام أهل النار فإنه أعم وأسلم من عهدة التعيين. واشتقاقه عند بعضهم من المضارعة ، بمعنى المشابهة لأنه يشبه الطعام الطيب وليس به ،

__________________

(١). في الآية بعدها : تصلى نارا حامية. قرأ أبو عمرو وأبو بكر : تصلى. لتتوازن مع : تسقى التي بعدها.

٤٧٦

وقيل : هو بمعنى مضرع للبدن أي مضعف وقيل : إن العرب لا تعرف هذا اللفظ ، فإن قيل : كيف قال هنا : ليس لهم طعام إلا من ضريع وقال في الحاقة : ولا طعام إلا من غسلين؟ فالجواب أن الضريع لقوم والغسلين لقوم ، أو يكون أحدهما في حال والآخر في حال (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) هذه الجملة صفة لضريع ، ولطعام نفي عنه منفعة الطعام وهي التسمين وإزالة الجوع.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي متنعمة في الجنة أو يظهر عليها نضرة النعيم (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي راضية في الآخرة لأجل سعيها وهو عملها في الدنيا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) يحتمل أن يكون من علو المكان أو من علو المقدار أو الوجهين (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١) هو من لغو الكلام ومعناه الفحش وما يكره ، فيحتمل أن يريد كلمة لاغية أو جماعة لاغية (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) يحتمل أن يريد جنس العيون أو واحدة شرّفها بالتعيين (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) قد ذكرنا أكواب ومعنى موضوعة : حاضرة ، معدة بشرابها وفي قوله : مرفوعة وموضوعة مطابقة (وَنَمارِقُ) جمع نمرقة وهي الوسادة (وَزَرابِيُ) هي بسط فاخرة [السجّاد في اصطلاح اليوم] وقيل : هي الطنافس واحدها زربية (مَبْثُوثَةٌ) أي متفرقة ، وذلك عبارة عن كثرتها وقيل : مبسوطة (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) حض على النظر في خلقتها لما فيها من العجائب في قوتها ، وانقيادها مع ذلك لكل ضعيف ، وصبرها على العطش ، وكثرة المنافع التي فيها من الركوب والحمل عليها ، وأكل لحومها وشرب ألبانها ، وأبوالها وغير ذلك. وقيل : أراد بالإبل السحاب وهذا بعيد وإنما حمل قائله عليه مناسبتها للسماء والأرض والجبال. والصحيح أن المراد الحيوان المعروف ، وإنما ذكره لما فيه من العجائب ، ولاعتناء العرب به إذ كانت معايشهم في الغالب منه ، وهو أكثر المواشي في بلادهم (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي قاهر متسلط وهذا من المنسوخ بالسيف (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) استثناء منقطع معناه لكن من تولى (وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ) وقيل هو استثناء من مفعول فذكر ، والمعنى ذكر كل أحد إلا من تولى حتى يئست منه فهو على هذا متصل ، وقيل : هو استثناء من قوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لا تسلط إلا على من تولى وكفر ، وهو على هذا متصل ولا نسخ فيه إذ لا موادعة فيه وهذا بعيد ، لأن السورة مكية والموادعة بمكة ثابتة (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم والآية تهديد.

__________________

(١). الآية قوله : لا تسمع فيها لاغية : قرأها أهل الشام والكوفة هكذا وقرأها نافع : لا تسمع بضم التاء وقرأها ابن كثير وأبو عمر : لا يسمع بالياء.

٤٧٧

سورة الفجر

مكية وآياتها ٣٠ نزلت بعد الليل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْفَجْرِ) أقسم الله تعالى بالفجر وهو الطالع كل يوم كما أقسم بالصبح ، وقيل : أراد صلاة الفجر وقيل : أراد النهار كله ، وقيل : فجر يوم الجمعة وقيل : فجر يوم النحر ، وقيل : فجر ذي الحجة ولا دليل على هذه التخصيصات وقيل : أراد انفجار العيون من الحجارة وهذا هذا بعيد والأول أظهر وأشهر (وَلَيالٍ عَشْرٍ) هي عشر ذي الحجة عند الجمهور وقيل العشر الأول من المحرم وفيها عاشوراء وقيل : العشر الأواخر من رمضان ، وقيل العشر الأول منه (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنها الصلوات منها شفع ووتر (١) وقيل : الشفع التنفل بالصلاة مثنى مثنى والوتر الركعة الواحدة المعروفة وقيل : الشفع العالم والوتر الله لأنه واحد وقيل : الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى ، وقيل الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام ، وقيل : الشفع أبواب الجنة لأنها ثمانية والوتر أبواب النار لأنها سبعة ، وقيل الشفع قران الحج والوتر إفراده ، وقيل المراد الأعداد منها شفع ووتر فهذه عشرة أقوال ، وقرئ الوتر بفتح الواو وكسرها وهما لغتان (٢) (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٣) أي إذا يذهب فهو كقوله : (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) [المدثر : ٣٣] وقيل أراد يسري فيه فهو على هذا كقولهم : ليله قائم والمراد على هذا ليلة جمع لأنها التي يسري فيها والأول أشهر وأظهر (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) هذا توقيف [سؤال] يراد به تعظيم الأشياء التي أقسم بها. والحجر هنا هو : العقل. كأنه يقول : إن هذا لقسم عظيم عند ذوي العقول. وجواب القسم محذوف وهو ليأخذنّ الله

__________________

(١). الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى عمران بن الحصين.

(٢). قرأ حمزة والكسائي : والوتر : بكسر الواو والباقون بفتحها.

(٣). يسر : قرأها أهل الكوفة والشام بدون ياء وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالياء في الوصل وابن كثير في الوقف والوصل.

٤٧٨

الكفار ويدل على ذلك ما ذكره بعده من أخذ عاد وثمود وفرعون (إِرَمَ) هي قبيلة عاد سميت باسم أحد أجدادها ، كما يقال : هاشم لبني هاشم ، وإعرابه بدل من عاد أو عطف بيان وفائدته أن المراد عادا الأولى ، فإن عادا الثانية لا يسمون بهذا الإسم. وقيل : إرم اسم مدينتهم فهو على حذف مضاف تقديره : بعاد عاد إرم ، ويدل على هذا قراءة ابن الزبير بعاد إرم على الإضافة من تنوين عاد وامتنع إرم من الصرف على القولين للتعريف والتأنيث (ذاتِ الْعِمادِ) من قال إرم قبيلة قال : العماد أعمدة بنيانهم أو أعمدة بيوتهم من الشعر لأنهم كانوا أهل عمود وقال ابن عباس : ذلك كناية عن طول أبدانهم ومن قال إرم مدينة فالعماد الحجارة التي بنيت بها وقيل القصور والأبراج (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) صفة للقبيلة لأنهم كانوا أعظم الناس أجساما يقال : كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع [كذا] أو صفة للمدينة وهذا أظهر لقوله في البلاد ولأنها كانت أحسن مدائن الدنيا ، وروي أنها بناها شداد بن عاد في ثلاثمائة عام ، وكان عمره تسعمائة عام وجعل قصورها من الذهب والفضة ، وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أنواع الشجر والأنهار الجارية ، وروي أنه سمع ذكر الجنة فأراد أن يعمل مثلها فلما أتمها وسار إليها بأهل مملكته أهلكهم الله بصيحة ، وكانت هذه المدينة باليمن.

وروي أن بعض المسلمين مر بها في خلافة معاوية ، وقيل : هي دمشق وقيل : الإسكندرية وهذا ضعيف (جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (١) أي نقبوه ونحتوا فيه بيوتا والوادي ما بين الجبلين ، وإن لم يكن فيها ماء ، وقيل : أراد وادي القرى (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) ذكر في سورة داود (ص) (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) صفة لعاد وثمود وفرعون ويجوز أن يكون منصوبا على الذم أو خبر ابتداء مضمر (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) استعارة السوط للعذاب ؛ لأنه يقتضي من التكرار ما لا يقتضيه السيف وغيره. قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : ذكر السوط إشارة إلى عذاب الدنيا ، إذ هو أهون من عذاب الآخرة ، كما أن السوط أهون من القتل (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) عبارة عن أنه تعالى حاضر بعلمه في كل مكان ، وكل زمان ورقيب على كل إنسان ، وأنه لا يفوته أحد من الجبابرة والكفار ، وفي ذلك تهديد لكفار قريش وغيرهم ، والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ) الابتلاء هو الاختبار واختبار الله لعبده لتقوم الحجة على العبد بما يبدو منه ، وقد كان الله عالما بذلك قبل كونه ، والإنسان هنا جنس وقيل : نزلت في عتبة بن ربيعة وهي مع ذلك على

__________________

(١). الواد : قرأ ابن كثير وورش : بالوادي بإثبات الياء في الوصل وابن كثير في الوقف أيضا والباقون بدون ياء مطلقا.

٤٧٩

العموم ، فيمن كان على هذه الصفة وذكر الله في هذه الآية ابتلاءه للإنسان بالخير ، ثم ذكر بعده ابتلاءه بالشر كما قال في [الأنبياء : ٣٥] (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) وأنكر عليه قوله حين الخير : ربي أكرمني وقوله حين الشر : ربي أهانني ويتعلق بالآية سؤالان :

السؤال الأول : لم أنكر الله على الإنسان قوله ربي أكرمني وربي أهانني (١) والجواب من وجهين : أحدهما : أن الإنسان يقول : ربي أكرمني على وجه الفخر بذلك والكبر ، لا على وجه الشكر ويقول : ربي أهانني على وجه التشكي من الله وقلة الصبر والتسليم لقضاء الله ، فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك ، فإن الواجب عليه أن يشكر على الخير ويصبر على الشر. والآخر : أن الإنسان اعتبر الدنيا فجعل بسط الرزق فيها كرامة ، وتضييقه إهانة وليس الأمر كذلك ؛ فإن الله قد يبسط الرزق لأعدائه ، ويضيقه على أوليائه فأنكر الله عليه اعتبار الدنيا والغفلة عن الآخرة ، وهذا الإنكار من هذا الوجه على المؤمن. وأما الكافر فإنما اعتبر الدنيا لأنه لا يصدق بالآخرة ، ويرى أن الدنيا هي الغاية فأنكر عليه ما يقتضيه كلامه من ذلك.

السؤال الثاني : إن قيل : قد قال الله فأكرمه فأثبت إكرامه ، فكيف أنكر عليه قوله ربي أكرمني؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنه لم ينكر عليه ذكره للإكرام ، وإنما أنكر عليه ما يدل عليه كلامه من الفخر وقلة الشكر ، أو من اعتبار الدنيا دون الآخرة حسبما ذكرنا في معنى الإنكار. الثاني أنه أنكر عليه قوله : ربي أكرمني إذا اعتقد أن إكرام الله له باستحقاقه الإكرام ، على وجه التفضل والإنعام كقول قارون : إنما أوتيته على علم عندي [القصص : ٧٨] الثالث أن الإنكار إنما هو لقوله : ربي أهانني لا لقوله ربي أكرمني فإن قوله ربي أكرمني اعتراف بنعمة الله ، وقوله : ربي أهانني شكاية من فعل الله (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي ضيقه وقرئ بتشديد الدال (٢) وتخفيفها بمعنى واحد وفي التشديد مبالغة وقيل معنى التشديد جعله على قدر معلوم.

(كَلَّا) زجر عما أنكر من قول الإنسان (بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (٢) هذا ذمّ لما ذكر من الأعمال القبيحة ومعنى هذا الإضراب ببل ، كأنه أنكر على الإنسان ما تقدم ثم قال بل تفعلون ما هو شر من ذلك وهو ألا تكرموا اليتيم وما ذكر بعده ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم (*) ولا تحضون على طعام المسكين (٣) الحض على

__________________

(١). قوله : أكرمن ، وأهانن : قرأ نافع والبزي عن ابن كثير بإثبات الياء وصلا : أكرمني وأهانني وابن كثير في الوقف أيضا.

(٢). قرأ ابن عامر وحده بالتشديد : فقدّر.

(٣). الكلمات : تكرمون ، تحاضون ، تأكلون ، تحبون : قرأها أبو عمرو : يكرمون يحضّون ، يأكلون ، يحبون وقوله : تحاضّون قرأها عاصم وحمزة والكسائي : تحاضّون بالألف. وقرأ الباقون : تحضّون.

(*). الحديث : أورده في التيسير بلفظ : خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه. وعزاه للبخاري في الأدب المفرد عن عمر بسند ضعيف.

٤٨٠