التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ) (١) العامل في يوم لتنبؤن أو محذوف تقديره اذكر ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره ذلك يوم التغابن يعني ، يوم القيامة. والتغابن مستعار من تغابن الناس في التجارة ، وذلك إذا فاز السعداء بالجنة ، فكأنهم غبنوا الأشقياء في منازلهم التي كانوا ينزلون منها لو كانوا سعداء ، فالتغابن على هذا بمعنى الغبن ، وليس على المتعارف في صيغة تفاعل من كونه بين اثنين ، كقولك تضارب وتقاتل إنما هي فعل واحد كقولك : تواضع قال ابن عطية والزمخشري : يعني نزول السعداء منازل الأشقياء ونزول الأشقياء منازل السعداء ، والتغابن على هذا بين اثنين قال : وفيه تهكم بالأشقياء ، لأن نزولهم في جهنم ليس في الحقيقة بغبن للسعداء (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) يحتمل أن يريد بالمصيبة الرزايا ، وخصها بالذكر لأنها أهم على الناس. أو يريد جميع الحوادث من خير أو شر وبإذن الله عبارة عن قضائه وإرادته تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) قيل : معناه من يؤمن بأن كل شيء بإذن الله يهد الله قلبه للتسليم والرضا بقضاء الله ، وهذا أحسن إلا أن العموم أحسن منه.

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) سببها أن قوما أسلموا وأرادوا الهجرة ، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة ، فحذرهم الله من طاعتهم في ذلك. وقيل : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أراد الجهاد فاجتمع أهله وأولاده فشكوا من فراقه ، فرقّ لهم ورجع. ثم إنه ندم وهمّ بمعاقبتهم ، فنزلت الآية محذرة من فتنة الأولاد ، ثم صرف الله تعالى عن معاقبتهم بقوله : وإن تعفوا وتصفحوا الآية ، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه في التحذير ممن يكون للإنسان عدوا من أهله وأولاده ، سواء كانت عداوتهم بسبب الدين أو الدنيا (وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) ترغيب في الآخرة وتزهيد في الأموال والأولاد ، التي فتن الناس بها (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) قيل : إن هذا ناسخ لقوله :

__________________

(١). بقية الآية : يعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله : قرأ نافع وابن عامر : نكفر بالنون وندخله وقرأ الباقون بالياء في كلا الكلمتين.

٣٨١

(اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] وروي أنه لما نزل حق تقاته شق ذلك على الناس حتى نزل ما استطعتم وقيل : لا نسخ بينهما ؛ لأن حق تقاته معناه فيما استطعتم ، إذ لا يمكن أن يفعل أحد إلا ما يستطيع. وهذه الآية على هذا مبينة لتلك ، وتحرز بالاستطاعة من الإكراه والنسيان وما لا يؤاخذ به العبد ، وإعراب ما في قوله ما استطعتم ظرفية (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) منصوب بإضمار فعل لا يظهر عند سيبويه ، وقيل هو مفعول بأنفقوا ، لأن الخير بمعنى المال وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : أنفقوا إنفاقا خيرا لأنفسكم (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) ذكر في الحشر [٩] (إِنْ تُقْرِضُوا) (١) ذكر في البقرة : ٢٤٥ (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) ذكر في اللغات.

__________________

(١). قوله سبحانه : يضاعفه قرأ ابن كثير وابن عامر : يضعّفه.

٣٨٢

سورة الطلاق

مدنية وآياتها ١٢ نزلت بعد الإنسان

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) إن قيل : لم نودي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ثم جاء بعد ذلك خطاب الجماعة؟ فالجواب : أنه لما كان حكم الطلاق يشترك فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمته ، قيل : إذا طلقتم خطابا له ولهم ، وخصّ هو عليه الصلاة والسلام بالنداء تعظيما له ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا أي : افعل أنت وقومك ، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لأمته ، فكأنه قال : يا أيها النبي إذا طلقت أنت وأمتك. وقيل : تقديره يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم. وهذا ضعيف لأنه يقتضي أن هذا الحكم مختص بأمته دونه ، وقيل : إنه خوطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطلقتم تعظيما له ، كما تقول للرجل المعظم : أنتم فعلتم ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه يقتضي اختصاصه عليه الصلاة والسلام بالحكم دون أمته ، ومعنى إذا طلقتم هنا : إذا أردتم الطلاق.

واختلف في الطلاق هل هو مباح أو مكروه؟ فأما إذا كان على غير وجه السنة فهو ممنوع. ولكن يلزم ، وأما اليمين بالطلاق فممنوع (١) (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) تقديره : طلقوهن مستقبلات لعدتهن ، ولذلك قرأ عثمان وابن عباس وأبيّ بن كعب : فطلقوهن في قبل عدتهن وقرأ ابن عمر : لقبل عدتهن ورويت القراءتان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى ذلك كله : لا يطلقها وهي حائض ، فهو منهي عنه بإجماع ، لأنه إذا فعل ذلك لم يقع طلاقه في الحال التي أمر الله بها وهو استقبال العدة ، واختلف في النهي عن الطلاق في الحيض هل هو معلل بتطويل العدة ، أو هو تعبد ، والصحيح أنه معلل بذلك ، وينبني على هذا الخلاف فروع منها : هل يجوز إذا رضيت به المرأة أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها وهي حامل أم لا؟ ومنها هل يجوز طلاقها قبل الدخول وهي حائض أم لا؟ فالتعليل بتطويل العدّة يقتضي جواز هذه الفروع ، والتعبد يقتضي المنع ، ومن طلق في الحيض لزمه الطلاق ، ثم يؤمر بالرجعة على وجه الإجبار عند مالك ، وبدون إجبار عند الشافعي حتى تطهر ثم تحيض ثم

__________________

(١). قول المصنف : ممنوع ، عجيب ، إذ يؤخذ به من المذاهب ما عدا قول ابن تيمية ومن وافقه.

٣٨٣

تطهر ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ، حسبما ورد في حديث ابن عمر ، حين طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ؛ ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك. واشترط مالك أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه ، ليعتد بذلك الطهر ، فإنه إن طلقها في طهر بعد أن جامعها فيه ، فلا تدري هل تعتد بالوضع [وضع الحمل] أو بالأقراء فليس طلاقا لعدتها كما أمر الله (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أمر بذلك لما ينبني عليها من الأحكام ، في الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك. (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) نهى الله سبحانه وتعالى أن يخرج الرجل المرأة المطلقة من المسكن الذي طلقها فيه ، ونهاها هي أن تخرج باختيارها ، فلا يجوز لها المبيت خارجا عن بيتها ولا أن تغيب عنه نهارا إلا لضرورة التصرف ، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة ، فإن كان المسكن ملكا للزوج ، أو مكترى عنده ، لزمه إسكانها فيه ، وإن كان المسكن لها فعليه كراؤه مدة العدة ، وإن كانت قد أمتعته فيه مدة الزوجية ؛ ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب [المالكي] والصحيح لزومه ؛ لأن الامتناع قد انقطع بالطلاق (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) (١) اختلف في هذه الفاحشة التي أباحت خروج المعتدة ما هي؟ على خمسة أقوال : الأول أنها الزنا فتخرج لإقامة الحدّ ، قاله الليث بن سعد والشعبي. الثاني أنه سوء الكلام مع الأصهار فتخرج ويسقط حقها من السكنى ، ويلزمها الإقامة في مسكن تتخذه حفظا للنسب ، قاله ابن عباس ويؤيده قراءة أبي بن كعب ، إلا أن يفحشن عليكم. الثالث أنه جميع المعاصي من القذف والزنا والسرقة وغير ذلك ، فمتى فعلت شيئا من ذلك سقط حقها في السكنى ، قاله ابن عباس أيضا وإليه مال الطبري الرابع أنه الخروج عن بيتها خروج انتقال فمتى فعلت ذلك سقط حقها في السكنى قاله ابن الفرس : وإلى هذا ذهب مالك في المرأة إذا نشزت في العدة ، الخامس أنه النشوز قبل الطلاق ، فإذا طلقها بسبب نشوزها فلا يكون عليه سكنى قاله قتادة.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) المراد به الرجعة عند الجمهور ، أي أحصوا العدة وامتثلوا ما أمرتم به ، لعل الله يحدث الرجعة لنسائكم ، وقيل : إن سبب الرجعة المذكورة في الآية تطليق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفصة بنت عمر فأمره الله بمراجعتها (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يريد آخر العدة والإمساك بمعروف هو : تحسين العشرة وتوفية النفقة ، والفراق بالمعروف هو : أداء الصداق والإمتاع حين الطلاق والوفاء بالشروط ونحو ذلك (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) هذا خطاب للأزواج ، والمأمور به هو الإشهاد على الرجعة عند الجمهور ، وقد اختلف فيه هل هو واجب أو مستحب على

__________________

(١). مبينة : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء : مبينة وقرأ الباقون بكسر الياء.

٣٨٤

قولين في المذهب. وقال ابن عباس : هو الشهادة على الطلاق وعلى الرجعة ، وهذا أظهر لأن الإشهاد به يرفع الإشكال والنزاع ، ولا فرق في هذا بين الرجعة والطلاق ، وقد ذكرنا العدالة في البقرة وقوله : ذوي عدل يدل على أنه إنما يشهد في الطلاق والنكاح الرجال دون النساء ، وهو مذهب مالك. خلافا لمن أجاز شهادة النساء في ذلك. وقوله : منكم يريد من المسلمين وقيل : من الأحرار فيؤخذ من ذلك ردّ شهادة العبيد ، وهو مذهب مالك (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) هذا خطاب للشهود ، وإقامة الشهادة يحتمل أن يريد بها القيام ، فإذا استشهد وجب عليه أن يشهد وهو فرض كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار ابن الفرس ويحتمل أن يريد إقامتها بالحق دون ميل ولا غرض ، وبهذا فسره الزمخشري وهو أظهر لقوله : لله وهو كقوله (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] شهداء لله (ذلِكُمْ) إشارة إلى ما تقدم من الأحكام.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) قيل إنها في الطلاق ، ومعناها : من يتق الله فيطلق طلقة واحدة ، حسبما تقتضيه السنة يجعل له مخرجا بجواز الرجعة متى ندم على الطلاق ، وفي هذا المعنى روي عن ابن عباس أنه قال لمن طلق ثلاثا : إنك لم تتق الله فبانت منك امرأتك ، ولا أرى لك مخرجا أي لا رجعة لك. وقيل : إنها على العموم أي من يتق الله في أقواله وأفعاله يجعل له مخرجا من كرب الدنيا والآخرة ، وقد روي هذا أيضا عن ابن عباس ، وهذا أرجح لخمسة أوجه أحدها حمل اللفظ على عمومه فيدخل في ذلك الطلاق وغيره ، الثاني أنه روي أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنه أسر ولده وضيق عليه رزقه ، فشكى ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره بالتقوى ، فلم يلبث إلا يسيرا وانطلق ولده ووسع الله رزقه ، والثالث أنه روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قرأها فقال : مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة. والرابع روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم «ومن يتق الله يجعل له مخرجا» الآية : فما زال يقرؤها ويعيدها الخامس قوله : ويرزقه من حيث لا يحتسب ، فإن هذا لا يناسب الطلاق وإنما يناسب التقوى على العموم.

قال بعض العلماء : الرزق على نوعين ؛ رزق مضمون لكل حي طول عمره ، وهو الغذاء الذي تقوم به الحياة وإليه الإشارة بقوله : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ورزق موعود للمتقين خاصة ، وهو المذكور في هذه الآية (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي كافيه بحيث لا يحتاج معه إلى غيره ، وقد تكلمنا على التوكل في آل عمران (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (١) أي يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء ، هذا حض على التوكل وتأكيد له ، لأن العبد إذا تحقق أن الأمور كلها بيد الله توكل عليه وحده ولم يعوّل على سواه (قَدْ جَعَلَ

__________________

(١). بالغ أمره : قرأ حفص بالإضافة وقرأ الباقون : بالغ أمره.

٣٨٥

اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) أي مقدارا معلوما ووقتا محدودا.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) روي أنه لما نزل قوله : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية معلمة أن المطلقة إذا كانت ممن لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر فقوله : (اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) : يعني التي انقطعت حيضتها لكبر سنها وقوله (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) يعني الصغيرة التي لم تبلغ المحيض وهو معطوف على اللائي يئسن أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره واللائي لم يحضن كذلك وقوله (إِنِ ارْتَبْتُمْ) هو من الريب بمعنى الشك وفي معناه قولان : أحدهما إن ارتبتم في حكم عدتها فاعلموا أنها ثلاثة أشهر. والآخر : إن ارتبتم في حيضها هل انقطع أو لم ينقطع فهي على التأويل الأول في التي انقطعت حيضتها لكبر سنها حسبما ذكرنا وهو الصحيح وهي على التأويل الثاني في المرتابة وهي التي غابت عنها الحيضة وهي في سن من تحيض. وقد اختلف العلماء في عدتها على ثلاثة أقوال : أحدها أنها ثلاثة أشهر خاصة حسبما تقتضيه الآية على هذا التأويل ، والآخر أنها ثلاثة أشهر بعد تسعة أشهر تستبرئ بها أمد الحمل وهذا مذهب مالك : وقدوته في ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه والثالث أنها تعتد بالأقراء ولو بقيت ثلاثين سنة حتى تبلغ سن من لا تحيض وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) هذه الآية عند مالك والشافعي وأبي حنيفة وسائر العلماء عامة في المطلقات والمتوفى عنهن ، فمتى كانت إحداهن حاملا فعدتها وضع حملها. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس إنما هذه الآية في المطلقات الحوامل فهن اللاتي عدتهن وضع حملهن. وأما المتوفى عنها إذا كانت حاملا فعدتها عندهما أبعد الأجلين ؛ إما الوضع أو انقضاء الأربعة الأشهر وعشرا ، فحجة الجمهور حديث سبيعة الأسلمية أنها كانت زوجا لسعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حبلى ، فلما وضعت خطبها أبو السنابل بن بعكك ، فسألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها انكحي من شئت ، وقد ذكر أن ابن عباس رجع إلى هذا الحديث لما بلغه ولو بلغ عليا رضي الله عنه لرجع إليه ، وقال عبد الله بن مسعود : إن هذه الآية التي نزلت في سورة النساء القصوى يعني سورة الطلاق نزلت بعد الآية التي في البقرة (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] فهي مخصصة لها حسبما قاله جمهور العلماء (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) أمر الله بإسكان المطلقة طول العدة ، فأما المطلقة غير المبتوتة فيجب لها على زوجها السكنى والنفقة باتفاق ، وأما المبتوتة ففيها ثلاثة أقوال :

٣٨٦

أحدها أنها يجب لها السكنى دون النفقة ، وهو مذهب مالك والشافعي ، والثاني يجب لها السكنى والنفقة وهو مذهب أبي حنيفة ، والثالث أنها ليس لها سكنى ولا نفقة ، فحجة مالك حديث فاطمة بنت قيس ، وهو أن زوجها طلقها البتة ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس لك عليه نفقة ، فيؤخذ من هذا أن لها السكنى دون النفقة ، وحجة من أوجب لها السكنى : قول عمر بن الخطاب : لا ندع آية من كتاب ربنا لقول امرأة. إني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : لها السكنى والنفقة ، وحجة من لا يجعل لها لا سكنى ولا نفقة أن في بعض الروايات عنها أنها قالت : لم يجعل لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفقة ولا سكنى ، وقوله (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) معناه : أسكنوهن مكانا من بعض مساكنكم فمن للتبعيض ، ويفسر ذلك قول قتادة لو لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه (مِنْ وُجْدِكُمْ) الوجد هو الطاقة والسعة في المال فالمعنى : أسكنوهن مسكنا مما تقدرون عليه ، وإعرابه عطف بيان لقوله : حيث سكنتم ، ويجوز في الوجد ضم الواو وفتحها وكسرها وهو بمعنى واحد ، والضم أكثر وأشهر.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) اتفق العلماء على وجوب النفقة في العدة للمطلقة الحامل عملا بهذه الآية ؛ سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا ، واتفقوا على أن للمطلقة غير الحامل النفقة في العدة إذا كان الطلاق رجعيا ، فإن كان بائنا فاختلفوا في نفقتها حسبما ذكرناه ، وأما المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا فلا نفقة لها عند مالك والجمهور ، لأنهم رأوا أن هذه الآية إنما هي في المطلقات ، وقال قوم : لها النفقة في التركة (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) المعنى إن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم فآتوهن أجرة الرضاع ، وهي النفقة وسائر المؤن حسبما ذكر في كتب الفقه (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) هذا خطاب للرجال والنساء ، والمعنى أن يأمر كل واحد صاحبه بخير من المسامحة والرفق والإحسان ، وقيل : معنى ائتمروا تشاوروا ومنه : إن الملأ يأتمرون بك (وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى) المعنى إن تشططت الأم على الأب في أجرة الرضاع ، وطلبت منه كثيرا ، فللأب أن يسترضع لولده امرأة أخرى بما هو أرفق له ، إلا أن لا يقبل الطفل غير ثدي أمه ، فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) أمر بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله ، ولا يكلف الزوج ما لا يطيق ، ولا تضيّع الزوجة بل يكون الحال معتدلا. وفي الآية دليل على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو مذهب مالك خلافا لأبي حنيفة فإنه اعتبر الكفاية ، ومن عجز عن نفقة امرأته فمذهب مالك والشافعي أنها تطلق عليه خلافا لأبي

٣٨٧

حنيفة وإن عجز عن الكسوة دون النفقة ففي التطليق عليه قولان في المذهب (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً) أي حاسبنا أهلها قيل : يعني الحساب في الآخرة ، وكذلك العذاب المذكور بعده ، وقيل : يعني في الدنيا وهذا أرجح لأنه ذكر عذاب الآخرة بعد ذلك في قوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) ، أو لأن قوله : (فَحاسَبْناها وَعَذَّبْناها) بلفظ الماضي فهو حقيقة فيما وقع ، مجاز فيما لم يقع فمعنى حاسبناها أي آخذناهم بذنوبهم ولم يغتفر لهم شيء من صغائرها ، والعذاب هو عقابهم في الدنيا ، والنكر هو الشديد الذي لم يعهد مثله.

(قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) (١) الذكر هنا هو القرآن ، والرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإعراب رسولا مفعول بفعل مضمر تقديره : أرسل رسولا. وهذا الذي اختاره ابن عطية وهو أظهر الأقوال. وقيل : إن الذكر والرسول معا يراد بهما القرآن ، والرسول على هذا بمعنى الرسالة. وقيل : إنهما يراد بهما القرآن على حذف مضاف تقديره ذكرا ذا رسول ، وقيل : رسولا مفعول بالمصدر الذي هو الذكر. وقال الزمخشري : الرسول هو جبريل بدل من الذكر ، لأنه نزل به أو سمى ذكرا لكثرة ذكره لله وهذا كله بعيد (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) لا خلاف أن السموات سبع ، وأما الأرض فاختلف فيها فقيل : إنها سبع أرضين لظاهر هذه الآية ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من غصب شبرا من أرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين (٢). وقيل : إنما هي واحدة فقوله : مثلهن على القول الأول يعني به المماثلة في العدد ، وعلى القول الثاني : يعني به المماثلة في عظم الجرم وكثرة العمار وغير ذلك ، والأول أرجح (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) يحتمل أن يريد بالأمر الوحي أو أحكام الله وتقديره لخلقه.

__________________

(١). في الآية [١١] قوله : يعمل صالحا يدخله جنات. قرأ نافع وابن عامر : ندخله جنات بالنون وقرأ الباقون : ويعمل صالحا يدخله جنات.

(٢). الحديث ذكره في التيسير وأوله : من ظلم وعزاه للشيخين وأحمد عن عائشة وسعيد بن زيد. وهو في المسند ج ١ ص ١٨٧ ، وج ٦ ص ٧٩.

٣٨٨

سورة التحريم

مدنية وآياتها ١٢ نزلت بعد الحجرات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) في سبب نزولها روايتان أحدهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء يوما إلى بيت زوجه حفصة بنت عمر بن الخطاب ، فوجدها قد خرجت لزيارة أبيها ، فبعث إلى جاريته مارية فجامعها في البيت ، فجاءت حفصة فقالت : يا رسول الله ما كان في نسائك أهون عليك مني. أتفعل هذا في بيتي وعلى فراشي؟ فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مترضيا لها : أيرضيك أن أحرمها قالت : نعم فقال : إني قد حرّمتها ، والرواية الأخرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدخل على زوجه زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ؛ فاتفقت عائشة وحفصة وسودة بنت زمعة على أن تقول من دنا منها : أكلت مغافير ، والمغافير صمغ العرفط ، وهو حلو كريه الريح ، ففعلن ذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ولكني شربت عسلا ، فقلن له : جرست نحله العرفط فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا أشربه أبدا. وكان يكره أن توجد منه رائحة كريهة ، فدخل بعد ذلك على زينب فقالت : ألا أسقيك من ذلك : فقال لا حاجة لي به ، فنزلت الآية عتابا له على أن يضيق على نفسه بتحريم الجارية أو تحريم العسل ، والرواية الأولى أشهر ، وعليها تكلم الناس في فقه السورة ، وقد خرج الرواية الثانية البخاري وغيره.

ولنتكلم على فقه التحريم ، فأما تحريم الطعام والمال وسائر الأشياء ما عدا النساء ، فلا يلزم ، ولا شيء عليه عند مالك ، وأوجب عليه أبو حنيفة الكفارة ، وأما تحريم الأمة فإن نوى به العتق لزم ، وإن لم ينو به ذلك لم يلزم. وكان حكمه ما ذكرنا في الطعام. وأما تحريم الزوجة فاختلف الناس فيه على أقوال كثيرة فقال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وابن عباس وعائشة وغيرهم : إنما يلزم فيه كفارة يمين. وقال مالك في المشهور عنه : ثلاث تطليقات في المدخول بها وينوي في غير المدخول بها فيحكم بما نوى من طلقة أو اثنتين أو ثلاث ، وقال ابن الماجشون هي ثلاث في الوجهين ، وروي عن مالك أنها طلقة بائنة ، وقيل طلقة رجعية.

٣٨٩

(تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحل الله لك يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة ، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية ، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإنما تركه لرائحته (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذا إشارة إلى أن الله غفر له ما عاتبه عليه من التحريم ، على أن عتابه في ذلك إنما كان كرامة له ، وإنما وقع العتاب على تضييقه عليه‌السلام على نفسه ، وامتناعه مما كان له فيه أرب ، وبئس ما قال الزمخشري في أن هذا كان منه زلة ؛ لأنه حرّم ما أحل الله ، وذلك قلة أدب على منصب النبوة (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) التحلة هي الكفارة وأحال تعالى هنا على ما ذكر في سورة المائدة [٨٩] من صفتها ، واختلف في المراد بها هنا فأما على قول من قال : إن الآية نزلت في تحريم الجارية فاختلف في ذلك. فمن قال إن التحريم يلزم فيه كفارة يمين استدل بها ، ومن قال : إن التحريم يلزم فيه طلاق قال : إن الكفارة هنا إنما هي لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حلف وقال : والله لا أطؤها أبدا. وأما على القول بأن الآية نزلت في تحريم العسل فاختلف أيضا ؛ فمن أوجب في تحريم الطعام كفارة قال : هذه الكفارة للتحريم ومن قال : لا كفارة فيه قال : إنما هذه الكفارة لأنه حلف ألا يشربه ، وقيل : هي في يمينه عليه‌السلام أن لا يدخل على نسائه شهرا (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) يحتمل أن يكون المولى بمعنى الناصر أو بمعنى السيد الأعظم.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) اختلف في هذا الحديث على ثلاثة أقوال : أحدها أنه تحريم الجارية ، فإنه لما حرمها قال لحفصة : لا تخبري بذلك أحدا ، والآخر أنه قال : إن أبا بكر وعمر يليان الأمر من بعده ، والثالث أنه قوله شربت عسلا والأول أشهر وبعض أزواجه حفصة (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) كانت حفصة قد أخبرت عائشة بما أسر إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحريم الجارية ، فأخبر الله رسوله عليه‌السلام بذلك ، فعاقب حفصة على إفشائها لسره فطلقها ، ثم أمره الله بمراجعتها فراجعها. وقيل : لم يطلقها. فقوله فلما نبأت به حذف المفعول وهو عائشة. وقوله : وأظهره الله عليه أي أطلعه على إخبارها به ، وقوله : عرف بعضه أي عاتب حفصة على بعضه وأعرض عن بعض حياء وتكريما ، فإن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات والتقصير في العتاب ، وقرأ [الكسائي] عرف بالتخفيف من المعرفة (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا) أي لما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة بأنها قد أفشت سره ، ظنت بأن عائشة هي التي أخبرته فقالت له : من أنبأك هذا؟ فلما أخبرها أن الله هو الذي أنبأه سكتت وسلمت.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) هذا خطاب لعائشة وحفصة ، وتوبتهما مما

٣٩٠

جرى منهما في قصة تحريم الجارية أو العسل. ومعنى صغت أي : مالت عن الصواب وقرأ ابن مسعود زاغت والمعنى : إن تتوبا إلى الله فقد صدر منكما ما يوجب التوبة (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) (١) المعنى إن تعاونتما عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما يسؤوه من إفراط الغيرة ، وإفشاء سره ونحو ذلك فإن له من ينصره ، ومولاه هنا يحتمل أن يكون بمعنى السيد الأعظم ، فيوقف على مولاه ويكون جبريل مبتدأ وظهير خبره وخبر ما عطف عليه ، ويحتمل أن يكون المولى هنا بمعنى الولي الناصر ، فيكون جبريل معطوف فيوصل مع ما قبله ، ويوقف على صالح المؤمنين ويكون الملائكة مبتدأ وظهير خبره ، وهذا أظهر وأرجح لوجهين : أحدهما أن معنى الناصر أليق بهذا الموضع ، فإن ذلك كرامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتشريفا له ، وأما إذا كان بمعنى السيد فذلك يشترك فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع غيره ، لأن الله تعالى مولى جميع خلقه بهذا المعنى ، فليس في ذلك إظهار مزية له ، الوجه الثاني أنه ورد في الحديث الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ما يشق عليك من شأن النساء ؛ فإن كنت طلقتهن فإن الله معك وملائكته وجبريل معك وأبو بكر معك وأنا معك ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر ، فقوله يقتضي معك النصرة (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) اختلف في صالح هل هو مفرد أو جمع محذوف النون للإضافة؟ فعلى القول بأنه مفرد هو أبو بكر ، وقيل : علي بن أبي طالب ، وعلى القول بأنه جمع فهو على العموم في كل صالح.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَ) (٢) الآية ، نصرة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي أن عمر قال ذلك ونزل القرآن بموافقته ، ولقد قال عمر حينئذ للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله يا رسول الله لئن أمرتني بضرب عنق حفصة لضربت عنقها ، وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان والقنوت ، والسائحات : معناه الصائمات قاله ابن عباس. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل معناه مهاجرات وقيل ذاهبات إلى الله ، لأن أصل السياحة الذهاب في الأرض ، وقوله : ثيبات وأبكارا ، قال بعضهم : المراد بالأبكار هنا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون ؛ فإن الله يزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إياهما في الجنة وهذا يفتقر إلى نقل صحيح ، ودخلت الواو هنا للتقسيم. ولو سقطت لاختل المعنى لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان ، وقال الكوفيون : هي واو الثمانية وذلك ضعيف (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) أي أطيعوا الله وأمروا أهلكم بطاعته ، لتقوا أنفسكم وأهليكم بطاعته من النار ، فعبر بالمسبب وهو وقاية

__________________

(١). قوله : تظاهرا عليه : قرأ حمزة والكسائي وعاصم : تظاهرا بدون تشديد وقرأ الباقون : تظّاهرا والأصل : تتظاهرا.

(٢). بقية الآية : أن يبدله. قرأها نافع وأبو عمرو : أن يبدّله. بتشديد الدال والباقون بالتخفيف.

٣٩١

النار عن السبب وهو الطاعة (وَقُودُهَا) ذكر في البقرة [٢٤] (مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ) يعني زبانية النار وغلظهم وشدتهم ، يحتمل أن يريد في أجرامهم وفي قساوة قلوبهم (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) قيل : إن هذا تأكيد لقوله : لا يعصون الله ، وقيل : إن معنى لا يعصون امتثال الأمر ، ومعنى يفعلون ما يؤمرون جدهم ونشاطهم فيما يؤمرون به من عذاب الناس (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) يعني يوم القيامة ، ويحتمل أن يكون هذا خطاب من الله للكفار أو خطاب من الملائكة.

(تَوْبَةً نَصُوحاً) قال عمر بن الخطاب التوبة النصوح هي أن تتوب من الذنب ثم لا تعود إليه أبدا ، ولا تريد أن تعود. وقيل : معناه توبة خالصة فهو من قولهم : عسل ناصح إذا خلص من الشمع ، وقيل هو أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت ؛ كتوبة (الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) [التوبة : ١١٨] قال الزمخشري : وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي ، والنصح في الحقيقة صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، وقد تكلمنا على التوبة في قوله : وتوبوا إلى الله جميعا : في النور [٣١] (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَ) العامل في يوم يحتمل أن يكون ما قبله ، أو ما بعده أو محذوف تقديره : اذكر ، والوقف والابتداء يختلف على ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا) يحتمل أن يكون معطوفا على النبي أو مبتدأ وخبره بعده (نُورُهُمْ يَسْعى) ذكر في الحديد [١٩] (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ذكر في براءة [٨٨] (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) قيل اسم امرأة نوح والهة ، واسم امرأة لوط والعة ، وهذا يفتقر إلى صحة نقل (فَخانَتاهُما) قال ابن عباس : خيانة امرأة نوح في أنها كانت تقول : إنه مجنون وخيانة امرأة لوط بأنها كانت تخبر قومه بأضيافه إذا قدموا عليه ، وكانتا مع ذلك كافرتين ، وقيل : خانتا بالزنا ، وأنكر ابن عباس ذلك وقال : ما زنت امرأة نبي قط تنزيها من الله لهم عن هذا النقص ، وضرب الله المثل بهاتين المرأتين للكفار الذين بينهم وبين الأنبياء وسائل ؛ كأنه يقول : لا يغني أحد عن أحد ولو كان أقرب الناس إليه ؛ كقرب امرأة نوح وامرأة لوط من أزواجهما. وقيل : هذا مثال لأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر في أول السورة ، وهذا باطل ؛ لأن الله إنما ضربه للذين كفروا. وامرأة فرعون اسمها آسية وكانت قد آمنت بموسى عليه‌السلام

٣٩٢

فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها ، فدعت بهذا الدعاء فقبض الله روحها ، وروي في قصصها غير هذا مما يطول وهو غير صحيح (مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) تعني : كفره وظلمه ، وقيل : مضاجعته لها وهذا ضعيف.

(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) يعني الفرج الذي هو الجارحة ، وإحصانها له هو صيانتها وعفتها عن كل مكروه (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) عبارة عن نفخ جبريل في فرجها (١) ، فخلق الله فيه عيسى عليه‌السلام وأضاف الله الروح إلى نفسه إضافة مخلوق إلى خالقه ، وفي ذلك تشريف له (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) كلمات ربها يحتمل أن يريد بها الكتب التي أنزل الله أو كلامه مع الملائكة وغيرهم ، وكتابه (٢) بالإفراد يحتمل أن يريد به التوراة أو الإنجيل أو جنس الكتب ، وقرأ أبو عمرو وحفص بالجمع يعني : جميع كتب الله (مِنَ الْقانِتِينَ) أي من العابدين ، فإن قيل : لم قال من القانتين بجمع المذكر وهي أنثى؟ فالجواب : أن القنوت صفة تجمع الرجال والنساء فغلب الذكور.

__________________

(١). قوله في الآية : وكتابه بالإفراد قرأها معظم القراء ما عدا حفص وأبي عمرو.

(٢). قال الطبري : وكل ما كان في الدرع من خرق أو فتق فإنه يسمى فرجا. (فنفخنا فيه) : فنفخنا في جيب درعها.

٣٩٣

سورة الملك

مكية وآياتها ٣٠ نزلت بعد الطور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ورد في الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ هذه السورة كل ليلة إذا أخذ مضجعه وأنه عليه الصلاة والسلام قال : إنها تنجي من عذاب القبر (١) (تَبارَكَ) فعل مشتق من البركة ، وقيل معناه تعاظم وهو مختص بالله تعالى ولم ينطق له بمضارع (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) يعني ملك السموات والأرض والدنيا والآخرة ، وقيل : يعني ملك الملوك في الدنيا فهو كقوله : مالك الملك والأول أعم وأعظم (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) يعني موت الخلق وحياتهم ، وقيل : الموت الدنيا لأن أهلها يموتون ، والحياة الآخرة لأنها باقية فهو كقوله : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) [العنكبوت : ٦٤] وهو على هذا وصف بالمصدر والأول أظهر (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليختبركم ، واختبار الله لعباده إنما هو لتقوم عليهم الحجة بما يصدر منهم ، وقد كان الله علم ما يفعلون قبل كونه ، والمعنى ليبلوكم فيجازيكم بما ظهر منكم (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها فقال : أيكم أحسن عملا وأشدكم الله خوفا وأورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله (سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) أي بعضها فوق بعض ، والطباق مصدر وصفت به السموات ، أو على حذف مضاف تقديره : ذوات طباق وقيل : إنه جمع طبقة.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي : من قلة تناسب وخروج عن الإتقان ، والمعنى أن خلقة السموات في غاية الإتقان وقيل : أراد خلقة جميع المخلوقات ، ولا شك أن جميع المخلوقات متقنة ، ولكن تخصيص الآية بخلقة السموات أظهر لورودها بعد قوله خلق سبع سموات طباقا فبان قوله : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت بيان وتكميل ما قبله ، والخطاب في قوله : ما ترى وارجع البصر وما بعده للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل مخاطب ليعتبر

__________________

(١). روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة من القرآن سورة ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له. وقال : حديث حسن.

٣٩٤

(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) الفطور الشقوق جمع فطر ، وهو الشق. وإرجاع البصر : ترديده في النظر ، ومعنى الآية : الأمر بالنظر إلى السماء فلا يرى فيها شقاق ولا خلل بل هي ملتئمة مستوية (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) أي انظر نظرا بعد نظر للتثبت والتحقق ، وقال الزمخشري : معنى التثنية في كرتين التكثير لا مرتين خاصة. كقولهم : لبيك فإن معناه إجابات كثيرة (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) الخاسئ هو المبعد عن الشيء الذي طلبه ، والحسير هو الكليل الذي أدركه التعب ، فمعنى الآية أنك إذا نظرت إلى السماء مرة بعد مرة لترى فيها شقاقا أو خلالا رجع بصرك ولم تر شيئا من ذلك ؛ فكأنه خاسئ لأنه لم يحصل له ما طلب من رؤية الشقاق والخلل ، وهو مع ذلك كليل من شدة النظر وكثرة التأمل.

(وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) السماء الدنيا : هي القريبة منا ، والمصابيح يراد بها النجوم فإن كانت النجوم كلها في السماء الدنيا فلا إشكال ، لأنها ظاهرة فيها لنا ، ويحتمل أن يريد أنه زيّن السماء الدنيا بالنجوم التي فيها دون التي في غيرها. على أن القول بموضع الكواكب وفي أي سماء هي لم يرد في الشريعة (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) أي جعلنا منها رجوما ، لأن الكواكب الثابتة ليست ترجم الشياطين ، فهو كقولك : أكرمت بني فلان ؛ إذا أكرمت بعضهم ، والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به ، قال الزمخشري : معنى كون النجوم رجوما للشياطين : والشهب تنقض من النجوم لرجم الشياطين الذين يسترقون السمع من السماء ، فالشهب الراجمة منفصلة من نار الكواكب (١) ، لا أن الراجمة هي الكواكب أنفسها ؛ لأنها ثابتة في الفلك. قال قتادة : خلق الله النجوم لثلاثة أشياء زينة السماء ورجوم الشياطين ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) يعني للشياطين (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) الشهيق أقبح ما يكون من صوت الحمار ، ويعني به هنا ما يسمع من صوت جهنم لشدّة غليانها وهولها أو شهيق أهلها ، والأول أظهر (وَهِيَ تَفُورُ) أي تغلي بأهلها غليان القدر بما فيها (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) أي تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض لشدّة غيظها على الكفار ، فيحتمل أن تكون هي المغتاظة بنفسها ، ويحتمل أن يريد غيظ الزبانية والأول أظهر ؛ لأن حال الزبانية يذكر بعد هذا ، وغيظ النار يحتمل أن يكون حقيقة بإدراك يخلقه الله لها ، أو يكون عبارة عن شدتها (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي كلما ألقي في جهنم جماعة من الكفار سألتهم الزبانية هل جاءكم من نذير؟ أي رسول ، وهذا السؤال على وجه

__________________

(١). الشهب هي قطع صغيرة من حجارة أو معدن تلمع عند ما تصدم بالغلاف الجوي وتتناثر في الهواء والنيازك قطع كبيرة تصل إلى الأرض فتحدث فيها الحرائق أو الحفر العميقة. وهذا لا يعارض معنى الآية.

٣٩٥

التوبيخ وإقامة الحجة عليهم ، ولذلك اعترفوا فقالوا : بلى قد جاءنا نذير ، وقوله : كلما يقتضي أن يقال ذلك لكل جماعة تلقى في النار (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يحتمل أن يكون من قول الملائكة للكفار ، أو من قول الكفار للرسل في الدنيا.

(وَقالُوا) الضمير للكفار أي لو كنا نسمع كلام الرسل ونعقل الصواب ما كنا في أصحاب السعير (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) اعترافهم هذا في وقت لا ينفعهم الاعتراف ، وذنبهم هنا يراد به تكذيب الرسل (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) انتصب فسحقا بفعل مضمر على معنى الدعاء عليهم (بِالْغَيْبِ) فيه قولان : أحدهما أن معناه وهم غائبون عن الناس ، ففي ذلك وصف لهم بالإخلاص والآخر أن الغيب ما غاب عنهم من أمور الآخرة وغيرها. على أن هذا القول إنما يحسن في قوله يؤمنون بالغيب (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) المعنى سواء جهرتم أو أسررتم ، فإن الله يعلم الجهر والسر (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) هذا برهان على أن الله تعالى يعلم كل شيء ، لأن الخالق يعلم مخلوقاته ، ويحتمل أن يكون من خلق فاعلا يراد به الخالق والمفعول محذوف تقديره : ألا يعلم الخالق خلقه أو يكون من خلق مفعولا والفاعل مضمر تقديره : ألا يعلم الله من خلق ، والأول أرجح ؛ لأن من خلق إذا كان مفعولا اختص بمن يعقل ، والمعنى الأول يعم من يعقل ومن لا يعقل (الْأَرْضَ ذَلُولاً) فعول هنا بمعنى : مفعول ، أي ذلولة فهي كركوب وحلوب (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) قال ابن عباس : هي الجبال وقيل : الجوانب والنواحي وقيل : الطرق والمعنى تعديد النعمة في تسهيل المشي على الأرض ، فاستعار لها الذل والمناكب تشبيها بالدواب (وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) يعني البعث يوم القيامة (أَأَمِنْتُمْ) (١) الآية مقصودها التهديد والتخويف للكفار ، وكذلك الآية التي بعدها (تَمُورُ) ذكر في الطور [٩] (حاصِباً) يحتمل أن يريد حجارة أو ريحا شديدة (نَذِيرِ) بمعنى الإنذار وكذلك النكير بمعنى الإنكار (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) تنبيه على الاعتبار بطيران الطيور في الهواء من غير شيء يمسكها ، وصافّات جمع صافة وهي التي تبسط جناحها للطيران ، والقبض : ضم الجناحين إلى الجنب وعطف يقبض على صافات ، لأن الفعل في معنى الاسم تقديره : قابضات فإن قيل : لم لم يقل قابضات على

__________________

(١). أأمنتم : هكذا قرأها أهل الشام والكوفة (عاصم) وقرأها نافع وأبو عمر : آمنتم ومثلها في البقرة : (أَأَنْذَرْتَهُمْ).

٣٩٦

طريقة صافات؟ فالجواب أن بسط الجناحين هو الأصل في الطيران ، كما أن مدّ الأطراف هو الأصل في السباحة ، فذكر بصيغة اسم الفاعل لدوامه وكثرته ، وأما قبض الجناحين فإنما يفعله الطائر قليلا للاستراحة والاستعانة ، فذكر بلفظ الفعل لقلته

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) خطاب للكفار على وجه التوبيخ والتهديد وإقامة الحجة عليهم ، ودخلت أم التي يراد بها الإنكار على من فأدغمت فيها ، وكذلك أمّن هذا الذي يرزقكم والضمير في أمسك لله أي من يرزقكم إن منع الله رزقه ، بل لجّوا أي تمادوا في العتوّ والنفور عن الإيمان.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) الآية توقيف على الحالتين ، أيهما أهدى والمراد بها توبيخ الكفار ، وفي معناها قولان : أحدهما أن المشي هنا استعارة في سلوك طريق الهدى والضلال في الدنيا ، والآخر أنه حقيقة في المشي في الآخرة لأن الكافر يحمل على المشي إلى جهنم على وجهه ، فأما على القول الأول فقيل : إن الذي يمشي مكبا أبو جهل والذي يمشي سويا سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : حمزة وقيل : هي على العموم في كل مؤمن وكافر ، وقد تمشي هذه الأقوال أيضا على الثاني ، والمكب هو الذي يقع على وجهه يقال : أكب الرجل وكبه غيره ، فالمعدي دون همزة والقاصر بالهمزة بخلاف سائر الأفعال (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) الضمير للكفار والوعد يراد به البعث أو عذابهم في الدنيا (فَلَمَّا رَأَوْهُ) ضمير الفاعل للكفار وضمير المفعول للعذاب الذي يتضمنه الوعد (زُلْفَةً) أي قريبا وقيل : عيانا (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي ظهر فيها السوء لما حل بها (وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) تفتعلون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به ، والقائلون لذلك الملائكة أو يقال لهم بلسان الحال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ) الآية سببها أن الكفار كانوا يتمنون هلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، فأمره الله أن يقول لهم : إن أهلكني الله وأهلك من معي أو رحمنا فإنكم لا تنجون من العذاب الأليم على كل حال ، والهلاك هنا يحتمل أن يراد به الموت أو غيره ، ومعنى من يجير الكافرين من عذاب أليم : من يمنعهم من العذاب (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) الآية احتجاج على المشركين ، والغور مصدر وصف به فهو بمعنى غاير أي ذاهب في الأرض ، والمعين الكثير ، واختلف هل وزنه فعيل أو مفعول فالمعنى إن غار ماؤكم الذي تشربون هل يأتيكم غير الله بماء معين؟

٣٩٧

سورة القلم

مكية إلا آية ١٧ إلى غاية آية ٣٣ ومن آية ٤٨ إلى غاية آية ٥٠ فمدنية وآياتها ٥٢ نزلت بعد العلق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ن) حرف من حروف الهجاء وقد تقدم الكلام عليها في البقرة ، ويختص ن بأنه قيل : إنه حرف من الرحمن فإن حروف الرحمن ألف ولام وراء وحاء وميم ون وقيل : إن نون هنا يراد به الحوت ، ومنه ؛ ذو النون يونس (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) اختلف فيه على قولين أحدهما : أنه القلم الذي كتب به اللوح المحفوظ ، فالضمير في يسطرون للملائكة والآخر : أنه القلم المعروف عند الناس ، أقسم الله به لما فيه من المنافع والحكم ، والضمير في يسطرون على هذا لبني آدم (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) هذا جواب القسم وهو خطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معناه : نفي نسبة الكفار له من الجنون ، وبنعمة ربك اعتراض بين ما وخبرها كما تقول : أنت بحول الله أفضل والمجرور في موضع الحال ، وقال الزمخشري : إن العامل فيه بمجنون (غَيْرَ مَمْنُونٍ) ذكر في فصلت [٨].

(وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) هذا ثناء على خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت عائشة رضي الله عنها : كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن (١) ، تعني التأدب بآدابه وامتثال أوامره ، وعبر ابن عباس عن الخلق بالدين والشرع وذلك رأس الخلق ، وتفصيل ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع كل فضيلة ، وحاز كل خصلة جميلة ، فمن ذلك شرف النسب ووفور العقل وصحة الفهم ، وكثرة العلم ، وشدّة الحياء ، وكثرة العبادة والسخاء والصدق والشجاعة والصبر والشكر والمروءة والتودد والاقتصاد والزهد والتواضع والشفقة والعدل والعفو وكظم الغيظ وصلة الرحم وحسن المعاشرة وحسن التدبير وفصاحة اللسان وقوة الحواس وحسن الصورة وغير ذلك ، حسبما ورد في أخباره وسيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : بعثت لأتمم مكارم الأخلاق (٢) ، وقال

__________________

(١). حديث عائشة أخرجه المنادى في التيسير وعزاه لأحمد ومسلم وأبي داود.

(٢). الحديث قال العجلوني فيه : رواه مالك في الموطأ بلاغا وأوله : إنما بعثت وقال ابن عبد البر هو متصل بسند صحيح إلى أبي هريرة فانظره هناك.

٣٩٨

الجنيد : سمى خلقه عظيما ، لأنه لم تكن له همة سوى الله عزوجل (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) قيل : إن المفتون هنا بمعنى المجنون ، ويحتمل غير ذلك من معاني الفتنة ، والخطاب في قوله : فستبصر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي قوله ويبصرون لكفار قريش ، واختلف في الباء التي في قوله بأيكم على أربعة أقوال : الأول أنها زائدة ، الثاني أنها غير زائدة والمعنى بأيكم الفتنة فأوقع المفتون موقع الفتنة كقولهم : ماله معقول أي عقل ، الثالث أن الباء بمعنى في والمعنى في أي فريق منكم المفتون واستحسن ابن عطية هذا ، الرابع أن المعنى بأيكم فتنة المفتون ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) المداهنة هي الملاينة والمداراة فيما لا ينبغي ، وروي أن الكفار قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو عبدت آلهتنا لعبدنا إلهك ، فنزلت الآية ولم ينتصب فيدهنون في جواب التمني ؛ بل رفعه بالعطف على تدهن قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : هو خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم يدهنون (حَلَّافٍ) كثير الحلف في الحق والباطل (مَهِينٍ) هو الضعيف الرأي والعقل قال ابن عطية : هو من مهن إذا ضعف ، فالميم فاء الفعل ، وقال الزمخشري : هو من المهانة وهي الذلة والحقارة وقال ابن عباس : المهين الكذاب (هَمَّازٍ) هو الذي يعيب الناس (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي كثير المشي بالنميمة ، يقال : نميم ونميمة بمعنى واحد ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يدخل الجنة نمام (١) (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي شحيح ، لأن الخير هنا هو المال. وقيل : معناه مناع من الخير ، أي يمنع الناس من الإسلام ، والعمل الصالح (مُعْتَدٍ) هو من العدوان وهو الظلم (أَثِيمٍ) من الإثم وهو ارتكاب المحرمات (عُتُلٍ) أي غليظ الجسم ، قاسي القلب بعيد الفهم ، كثير الجهل (زَنِيمٍ) أي ولد زنا ؛ وقيل : هو الذي في عنقه زنمة كزنمة الشاة التي تعلق في حلقها ، وقيل : معناه مريب قبيح الأفعال. وقيل : ظلوم ، وقيل : لئيم وقوله : بعد ذلك أي بعد ما ذكرنا من عيوبه ، فهذا الترتيب في الوصف لا في الزمان ، واختلف في الموصوف بهذه الأوصاف الذميمة ، فقيل : لم يقصد بها شخص معين ، بل كل من اتصف بها ، وقيل : المقصود بها الوليد بن المغيرة ، لأنه وصفه بأنه ذو مال وبنين ، وكذلك كان ، وقيل : أبو جهل وقيل : الأخنس بن شريق ، ويؤيد هذا أنه كانت له زنمة في عنقه ، قال ابن عباس : عرفناه بزنمته وكان لقيطا من ثقيف ، ويعدّ في بني زهرة ، فيصح وصفه بزنيم على القولين ، وقيل : الأسود بن عبد يغوث (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ) في موضع مفعول من أجله يتعلق بقوله : لا تطع أي لا تطعه بسبب كثرة ماله وبنيه ، ويجوز أن

__________________

(١). رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن حذيفة وفي رواية (قتات).

٣٩٩

يتعلق بما بعده ، والمعنى على هذا أنه قال في القرآن أساطير الأولين ، لأنه ذو مال وبنين ، يتكبر بماله وبنيه ، والعامل في أن كان على هذا فعل من المعنى ، ولا يجوز أن يعمل فيه قال الذي هو جواب إذا ، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله والأول أظهر ، وقد تقدم معنى أساطير الأولين (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أصل الخرطوم : أنف السبع [والفيل] ثم استعير للإنسان استخفافا به ، وتقبيحا له والمعنى نجعل له سمة. وهي العلامة على خرطومه ، واختلف في هذه السمة قيل : هي الضربة بالسيف يوم بدر ، وقيل : علامة من نار تجعل على أنفه في جهنم. وقيل : علامة تجعل على أنفه يوم القيامة ليعرف بها.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) أي بلونا قريشا كما بلونا أصحاب الجنة ، وكانوا إخوة من بني إسرائيل لهم جنة ، روي أنها بمقربة من صنعاء ، فحلفوا أن لا يعطوا مسكينا منها شيئا ، وباتوا عازمين على ذلك ، فأرسل الله على جنتهم طائفا من نار فأحرقتها ، فلما أصبحوا إلى جنتهم لم يروها ، فحسبوا أنهم أخطئوا الطريق ، ثم تبينوها فعرفوها ، وعلموا أن الله عاقبهم فيها بما قالوا ، فندموا وتابوا إلى الله ، ووجه تشبيه قريش بأصحاب الجنة ؛ أن الله أنعم على قريش ببعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أنعم على أصحاب الجنة بالجنة ، فكفر هؤلاء بهذه النعمة كما فعل أولئك ، فعاقبهم الله كما عاقبهم وقيل : شبّه قريشا لما أصابهم الجوع بشدة القحط ، حين دعا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحاب الجنة لما هلكت جنتهم (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) أي حلفوا أن يقطعوا غلة جنتهم عند الصباح وكانت الغلة ثمرا (وَلا يَسْتَثْنُونَ) في معناه ثلاثة أقوال : أحدها لم يقولوا إن شاء الله حين حلفوا ليصرمنها ، والآخر لا يستثنون شيئا من ثمرها إلا أخذوه لأنفسهم والثالث لا يتوقفون في رأيهم ولا ينتهون عنه أي لا يرجعون عنه (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ) قال الفراء : الطائف الأمر الذي يأتي بالليل (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) فيه أربعة أقوال : الأول أصبحت كالليل لأنها اسودّت لما أصابها ، والصريم في اللغة الليل الثاني أصبحت كالنهار لأنها ابيضت كالحصيد ويقال : صريم لليل والنهار. الثالث أن الصريم : الرماد الأسود بلغة بعض العرب الرابع أصبحت كالمصرومة أي المقطوعة (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي نادى بعضهم بعضا حين أصبحوا وقال بعضهم لبعض : (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ) أي جنتكم (إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) أي حاصدين لثمرتها (يَتَخافَتُونَ) يكلم بعضهم بعضا في السر ويقولون : (لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) وأن في قوله : أن اغدوا وأن لا يدخلنها حرف عبارة وتفسير.

٤٠٠