التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) في الحرد أربعة أقوال : الأول أنه المنع الثاني أنه القصد الثالث أنه الغضب الرابع أن الحرد اسم للجنة وقادرين يحتمل أن يكون من القدرة ، أي قادرين في زعمهم أو من التقدير : بمعنى التضييق أي ضيقوا على المساكين (إِنَّا لَضَالُّونَ) أي أخطأنا طريق الجنة. قالوا ذلك لما لم يعرفوها ، فلما عرفوها ورأوا ما أصابها قالوا : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي حرمنا الله خيرها (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي خيرهم وأفضلهم ومنه أمة وسطا أي خيارا : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي تقولون : سبحان الله وقيل : هو عبارة عن طاعة الله وتعظيمه ، وقيل : أراد الاستثناء في اليمين كقولهم : إن شاء الله. والأول أظهر لقولهم بعد ذلك سبحان ربنا. والمعنى أن هذا الذي هو أفضلهم كان قد حضهم على التسبيح (يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على ما كانوا عزموا عليه من منع المساكين ، أو على غفلتهم عن التسبيح بدليل قوله : ألم أقل لكم لو لا تسبحون (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها) يحتمل أنهم طلبوا البدل في الدنيا ، أو في الآخرة. والأول أرجح لأنه روي عن ابن مسعود أن الله أبدلهم جنة يحمل البغل منها عنقودا (كَذلِكَ الْعَذابُ) أي مثل هذا العذاب الذي ينزل بأهل الجنة ينزل بقريش.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) الهمزة للإنكار أي كيف يسوّي الله بين المسلمين والمجرمين؟ بل يجازي كل أحد بعمله ، والمراد بالمجرمين هنا الكفار (ما لَكُمْ) توبيخ للكفار وما مبتدأ ولكم خبره ، وتم الكلام هنا فينبغي أن يوقف عليه (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) توبيخ آخر أي كيف تحكمون بأهوائكم وتقولون ما ليس لكم به علم؟ (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) هذه الجملة معمول تدرسون ، وكان أصل إن الفتح وكسرت لأجل اللام التي في خبرها. وتخيّرون معناه تختارون لأنفسكم ، ومعنى الآية : هل لكم كتاب ، من عند الله تدرسون فيه أن لكم ما تختارونه لأنفسكم (أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) المعنى هل حلفنا لكم أيمانا أن لكم ما تحكمون؟ ومعنى بالغة ثابتة واصلة إلى يوم القيامة ، وقوله : إن لكم هو جواب القسم الذي يقتضيه الأيمان ، ولذلك أكده بإن واللام وما تحكمون هو اسم إن دخلت عليه اللام المؤكدة (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ)؟ أي يا محمد اسأل قريشا أيهم زعيم بهذه الأمور ، والزعيم : هو الضامن للأمر القائم به (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ) هذا تعجيز للكفار ، ومعناه : إن كان لكم شركاء يقدرون على

٤٠١

شيء فأتوا بهم ، واختلف هل قوله : فليأتوا بهم في الدنيا ، أي أحضروهم حتى يرى حالهم أو يقال لهم ذلك يوم القيامة ؛ والشركاء هم المعبودون من الأصنام وغيرها. وقال الزمخشري : معناه أم لكم ناس يشاركونكم في هذا القول ، ويوافقونكم عليه فأتوا بهم. يعني أنهم لا يوافقهم أحد عليه ، والأول أظهر.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) قال المتأولون ذلك عبارة عن هول يوم القيامة وشدّته ، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (١) : ينادي مناد يوم القيامة : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع الشمس من كان يعبد الشمس ، ويتبع القمر من كان يعبد القمر ، ويتبع كل أحد ما كان يعبد ، ثم تبقى هذه الأمة وغبرات من أهل الكتاب معهم منافقوهم فيقال لهم : ما شأنكم فيقولون ننتظر ربنا قال فيجيئهم الله في غير الصورة التي عرفوه فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، قال فيقول : أتعرفونه بعلامة ترونها فيقولون نعم فيكشف لهم عن ساق فيقولون : نعم أنت ربنا ويخرون للسجود فيسجد كل مؤمن ، وترجع أصلاب المنافقين عظما واحدا فلا يستطيعون سجودا وتأويل الحديث كتأويل الآية (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) تفسيره في الحديث الذي ذكرنا ، فإن قيل : كيف يدعون في الآخرة إلى السجود وليست الآخر دار تكليف؟ فالجواب : أنهم يدعون إليه على وجه التوبيخ لهم على تركهم السجود في الدنيا لا على وجه التكليف والعبادة (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) أي قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود فيمتنعون منه ، وهم سالمون في أعضائهم قادرون عليه (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) تهديد للمكذبين بالقرآن وإعراب من يكذب مفعول معه أو معطوف ، وقد ذكرنا في الأعراف [١٨٢] سنستدرجهم وما بعده (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) معناه أنت لا تسألهم أجرة على الإسلام فتثقل عليهم ، فلا عذر لهم في تركهم الإسلام ، وقد فسرنا هذا وما بعده في الطور [٤٠] (فَاصْبِرْ) يقتضي مسالمة للكفار ، نسخت بالسيف (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) هو يونس عليه‌السلام وسماه صاحب الحوت ، لأن الحوت ابتلعه ، وهو أيضا ذو النون ، والنون هو الحوت ، وقد ذكرنا قصته في الأنبياء والصافات ، فنهى الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون مثله في الضجر والاستعجال ، حتى ذهب مغاضبا ، وروي أن هذه الآية نزلت لما همّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعو على الكفار (إِذْ نادى وَهُوَ

__________________

(١). الحديث رواه الإمام الطبري في تفسير هذه الآية بسنده إلى أبي سعيد الخدري بألفاظ قريبة فانظره فيه.

٤٠٢

مَكْظُومٌ) هذا آخر ما جرى ليونس ونداؤه هو قوله في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ، والمكظوم الشديد الحزن (لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) هو جواب لو لا ، والمنفي هو الذم لا نبذه بالعراء ، فإنه قد قال في الصافات فنبذناه بالعراء فالمعنى لو لا رحمة الله لنبذ بالعراء وهو مذموم ، لكنه نبذ وهو غير مذموم ، وقد ذكرنا العراء في الصافات (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) عبارة عن شدة عداوتهم ، وإن مخففة من الثقيلة بدليل دخول اللام وليزلقونك معناه يهلكونك كقولك : نظر فلان إلى عدوه نظرة كاد يصرعه ، وأصله من زلق القدم ، وقرأ نافع بفتح الياء والباقون بضمها وهما لغتان وقيل : إن المعنى : يأخذونه بالعين ، وكان ذلك في بني أسد كان الرجل منهم يجوع ثلاثة أيام فلا يتكلم على شيء إلا أصابه بالعين ، فأراد بعضهم أن يصيب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعصمه الله من ذلك ، وقال الحسن دواء من أصيب بالعين قراءة هذه الآية (وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يعني القرآن أو هو موعظة وتذكير للخلق.

٤٠٣

سورة الحاقة

مكية وآياتها ٥٢ نزلت بعد الملك

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَاقَّةُ) هي القيامة ، ووزنها فاعلة وسميت الحاقة لأنها تحق ، أي يصح وجودها ، ولا ريب في وقوعها ولأنها حقت لكل أحد جزاء عمله ، أو لأنها تبدئ حقائق الأمور (مَا الْحَاقَّةُ) ما استفهامية يراد بها التعظيم ، وهي مبتدأ وخبرها ما بعده والجملة خبر الحاقة ، وكان الأصل الحاقة ما هي ، ثم وضع الظاهر موضع المضمر زيادة في التعظيم والتهويل ، وكذلك ، وما أدراك ما الحاقة لفظه استفهام والمراد به التعظيم والتهويل (بِالْقارِعَةِ) هي القيامة سميت بذلك ؛ لأنها تقرع القلوب بأهوالها (بِالطَّاغِيَةِ) يعني الصيحة التي أخذت ثمود ، وسميت بذلك لأنها جاوزت الحدّ في الشدة ، وقيل : الطاغية مصدر فكأنه قال : أهلكوا بطغيانهم ، فهو كقوله : كذبت ثمود بطغواها وقيل : هي صفة لمحذوف تقديره أهلكوا بسبب الفعلة الطاغية ، أو الفئة الطاغية والباء ، على هذين القولين سببية. وعلى القول الأول كقولك : قتلت زيدا بالسيف (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) ذكر في فصلت [١٦] ، وعاتية أي شديدة. وسميت بذلك لأنها عتت على عاد ، وقيل : عتت على خزانها ، فخرجت بغير إذنهم (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ) روي أنها بدت صبيحة يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال ، وتمادت بهم إلى آخر يوم الأربعاء تكملة الشهر (حُسُوماً) قال ابن عباس : معناه كاملة متتابعة لم يتخللها غير ذلك ، وقيل : معناه شؤما وقيل : هو جمع حاسم من الحسم. وهو القطع أي قطعتهم بالإهلاك ، فحسوما على القول الأول والثاني مصدر في موضع الحال ، وعلى الثالث حال أو مفعول من أجله (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى) جمع صريع وهو المطروح بالأرض ، والضمير المجرور يعود على منازلهم ، لأن المعنى يقتضيها وإن لم يتقدم ذكرها ، أو على الأيام والليالي ، أو على الريح (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) تقدم في القمر معنى تشبيههم بأعجاز النخل ، والخاوية هي التي خلت من طول بلائها

٤٠٤

وفسادها (مِنْ باقِيَةٍ) أي من بقية ، وقيل : من فئة باقية وقيل : إنه مصدر بمعنى البقاء.

(وَمَنْ قَبْلَهُ) يريد من تقدم قبله من الأمم الكافرة ، وأقربهم إليه قوم شعيب ، والظاهر أنهم المراد لأن عادا وثمود قد ذكرا ، وقوم لوط هم المؤتفكات ، وقوم نوح قد أشير إليهم في قوله : لما طغى الماء حملناكم في الجارية ، وقرأ [أبو عمرو والكسائي قبله] بكسر القاف وفتح الباء ومعناه : جنده وأتباعه (بِالْخاطِئَةِ) إما أن يكون مصدرا بمعنى الخطيئة أو صفة لمحذوف تقديره : بالفعلة الخاطئة (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) إن عاد الضمير على فرعون وقومه ، فالرسول موسى عليه‌السلام ، وإن عاد على المؤتفكات : فالرسول لوط عليه‌السلام ، وإن عاد على الجميع : فالرسول اسم جنس أو بمعنى الرسالة (رابِيَةً) أي عظيمة وهي من قولك : ربا الشيء إذا كثر (طَغَى الْماءُ) عبارة عن كثرته ، فيحتمل أن يريد أنه طغى على أهل الأرض ، أو على خزانه يعني وقت طوفان نوح عليه‌السلام (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) هي السفينة ، فإن أراد سفينة نوح فمعنى حملناكم حملنا آباءكم لأن كل من على الأرض من ذرية نوح وأولاده الثلاثة الذين كانوا معه في السفينة ، وإن أراد جنس السفن فالخطاب على حقيقته.

(لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً) الضمير للفعلة وهي الحمل في السفينة وقيل : للسفينة ، فإن أراد جنس السفن : فالمعنى أنها تذكرة بقدرة الله ونعمته لمن ركب أو سمع بها ، وإن أراد سفينة نوح فقد قيل : إن الله أبقاها حتى رأى بعض عيدانها أول هذه الأمة (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) الضمير يعود على ما عاد عليه ضمير لنجعلها ، وهذا يقوي أن يكون للفعلة ، والأذن الواعية : هي التي تفهم ما تسمع وتحفظه ، يقال : وعيت العلم إذا حصلته ، ولذلك عبّر بعضهم عنها بأنها التي عقلت عن الله ، وروي (١) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعلي بن أبي طالب : إني دعوت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ ، قال عليّ فما نسيت بعد ذلك شيئا سمعته ، قال الزمخشري : إنما قال : أذن واعية بالتوحيد والتنكير ، للدلالة على قلة الوعاة ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم ، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا عقلت عن الله تعالى فهي المعتبرة عند الله دون غيرها (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) يعني نفخة الصور وهي الأولى (فَدُكَّتا) الضمير للأرض والجبال ، ومعنى دكتا ضرب بعضها ببعض حتى تندق ، وقال الزمخشري : الدك أبلغ من الدق ، وقيل : معناه بسطت حتى تستوي الأرض والجبال.

(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة ، وقيل : وقعت صخرة بيت المقدس وهذا ضعيف

__________________

(١). روى هذا الحديث الإمام الطبري في تفسيره للآية بسنده إلى مكحول وبريدة الأسلمي.

٤٠٥

(واهِيَةٌ) أي مسترخية ساقطة القوة ، ومنه قولهم : دار واهية أي ضعيفة الجدران (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) الملك هنا اسم جنس والأرجاء الجوانب واحدها رجى مقصور ، والضمير يعود على السماء ، والمعنى إن الملائكة يكونون يوم القيامة على جوانب السماء ، لأنها إذا وهيت وقفوا على أطرافها ، وقيل : يعود على الأرض لأن المعنى يقتضيه ، وإن لم يتقدم ذكرها ، وروي في ذلك أن الله يأمر الملائكة فتقف صفوفا على جوانب الأرض. والأول أظهر وأشهر (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) قال ابن عباس : هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدّتهم. وقيل : ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش وأرجلهم تحت الأرض السابعة ، ويؤيد هذا ما روي (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : هو اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة قوّاهم الله بأربعة سواهم.

(يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) خطاب لجميع العالم ، والعرض : البعث أو الحساب (خافِيَةٌ) أي حال خافية من الأعمال والسرائر ، ويحتمل المعنى لا يخفى من أجسادهم لأنهم يحشرون حفاة عراة (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الكتاب هنا صحائف الأعمال (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) هاؤم اسم فعل ، قال ابن عطية : معناه تعالوا وقال الزمخشري : هو صوت يفهم منه معنى خذ ، وكتابيه مفعول يطلبه هاؤم واقرءوا من ضمير المعنى تقديره هاؤم كتاب اقرؤا كتابي ثم حذف لدلالة الآخر عليه وعمل فيه العامل ، الثاني : وهو اقرءوا عند البصريين ، والعامل الأول هو هاؤم عند الكوفيين ، والدليل على صحة قول البصريين أنه لو عمل الأول لقال اقرءوه ، والهاء في كتابيه للوقف ، وكذلك في حسابيه وماليه وسلطانيه ، وكان الأصل أن تسقط في الوصل لكنها ثبتت فيه مراعاة لخط المصحف وقد أسقطها في الوصل [حمزة] ، ومعنى الآية : أن العبد الذي يعطى كتابه بيمينه يقول للناس : اقرءوا كتابيه على وجه الاستبشار والسرور بكتابه (إِنِّي ظَنَنْتُ) الظن هنا بمعنى اليقين (راضِيَةٍ) أي ذات رضا كقولهم : تامر لصاحب التمر. قال ابن عطية : ليست بياء اسم فاعل ، وقال الزمخشري : يجوز أن يكون اسم فاعل نسب الفعل إليها مجازا وهو لصاحبها حقيقة (قُطُوفُها) جمع قطف وهو ما يجتنى من الثمار ويقطف كالعنقود (دانِيَةٌ) أي قريبة ، وروي أن العبد يأخذها بفمه من شجرها ، على أي حال كان من قيام أو جلوس أو اضطجاع (أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي الماضية يعني أيام الدنيا.

__________________

(١). هذا الحديث رواه الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية بسنده إلى ابن إسحاق فقط.

٤٠٦

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) هم الكفار بدليل قوله : إنه كان لا يؤمن بالله العظيم فجعل علة إعطائهم كتبهم بشمالهم عدم إيمانهم ، وأما المؤمنون فيعطون كتبهم بأيمانهم ، لكن اختلف فيمن يدخل النار منهم ، هل يعطى كتابه قبل دخول النار أو بعد خروجه منها؟ وهذا أرجح لقوله : هاؤم اقرءوا كتابيه ، لأن هذا كلام سرور فيبعد أن يقوله من يحمل إلى النار (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) أي يتمنى أنه لم يعط كتابه وقال ابن عطية : يتمنى أن يكون معدوما لا يجري عليه شيء والأول أظهر (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي ليت الموتة الأولى كانت القاضية بحيث لا يكون بعدها بعث ولا إحياء (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) (١) يحتمل أن يكون نفيا ، أو استفهاما يراد به النفي (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي زال عني ملكي وقدرتي وقيل : ذهبت عني حجتي.

(خُذُوهُ) خطاب للزبانية يقوله لهم الله تعالى أو الملائكة بأمر الله (فَغُلُّوهُ) أي اجعلوا غلا في عنقه ؛ وروي أنها نزلت في أبي جهل (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) معنى ذرعها أي طولها ، واختلف في هذا الذراع فقيل : إنه الذراع المعروف ، وقيل : بذراع الملك وقيل : في الذراع سبعون باعا ، كل باع ما بين مكة والكوفة ، ولله در الحسن البصري في قوله : الله أعلم بأي ذراع هي ، وجعلها سبعين ذراعا لإرادة وصفها بالطول ، فإن السبعين من الأعداد التي تقصد بها العرب التكثير ، ويحتمل أن تكون هذه السلسلة لكل واحد من أهل النار ، أو تكون بين جميعهم وقد حكى الثعلبي ذلك (فَاسْلُكُوهُ) أي أدخلوه روي أنها تلتوي عليه حتى تعمه وتضغطه ، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك فيها ، وإنما قدم قوله : في سلسلة على اسلكوه لإرادة الحصر ، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة وكذلك قدّم الحميم على صلّوه لإرادة الحصر أيضا (طَعامِ الْمِسْكِينِ) يحتمل أنه أراد إطعام مسكين ، فوضع الاسم موضع المضمر أو يقدر : لا يحض على بذل طعام المسكين ، وأضاف الطعام إلى المسكين ؛ لأن له إليه نسبة ، ووصفه بأنه لا يحض على طعام المسكين يدل على أنه لا يطعمه من باب أولى ، وهذه الآية تدل على عظم الصدقة وفضلها ، لأنه قرن منع طعام المسكين بالكفر بالله (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) فيه قولان : أحدهما ليس له صديق والآخر : ليس له شراب (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) فإن الحميم الماء

__________________

(١). قوله : ماليه ، سلطانيه : قرأ حمزة بحذف الهاء فيهما وصلا. وقرأ الباقون بإثبات الهاء. وأجمع الجميع على إثبات الهاء في الوقف.

٤٠٧

الحار ، والغسلين صديد أهل النار عند ابن عباس. وقيل : شجر يأكله أهل النار ، وقال اللغويون : هو ما يجري من الجراح إذا غسلت وهو فعلين من الغسل (الْخاطِؤُنَ) جمع خاطئ وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمّدا ، والمخطئ الذي يفعله بغير تعمد.

(فَلا أُقْسِمُ) لا زائدة غير نافية (بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) يعني جميع الأشياء لأنها تنقسم إلى ما يبصر وما لا يبصر ، كالدنيا والآخرة والإنس والجن والأجسام والأرواح وغير ذلك (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) هذا جواب القسم والضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل : لمحمد عليه الصلاة والسلام (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (١) قال ابن عطية : يحتمل أن تكون ما نافية ، فنفى إيمانهم بالجملة أو تكون مصدرية فوصف إيمانهم بالقلة ، وقال الزمخشري : القلة هنا بمعنى العدم ، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) التقوّل هو أن ينسب إلى أحد ما لم يقل ، ومعنى الآية : لو تقوّل علينا محمد لعاقبناه ، ففي ذلك برهان على أن القرآن من عند الله (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) قال ابن عباس : هنا القوة ومعناه : لو تقوّل علينا لأخذناه بقوتنا وقيل : هي عبارة عن الهوان كما يقال لمن يسجن : أخذ بيده وبيمينه ، قال الزمخشري : معناه لو تقوّل علينا لقتلناه ، ثم صور صورة القتل ليكون أهول ، عبر عن ذلك بقوله : لأخذنا منه باليمين ، لأن السيّاف إذا أراد أن يضرب المقتول في جسده أخذ بيده اليمنى ليكون ذلك أشد عليه لنظره إلى السيف (الْوَتِينَ) نياط القلب ، وهو عرق إذا قطع مات صاحبه ، فالمعنى لقتلناه (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) الحاجز المانع ، والمعنى : لو عاقبناه لم يمنعه أحد منكم ولم يدفع عنه وإنما جمع حاجزين ، لأن أحد في معنى الجماعة (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ) الضمير للقرآن وقيل : لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأول أظهر (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) أي حسرة عليهم في الآخرة ، لأنهم يتأسفون إذا رأوا ثواب المؤمنين (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) قال الكوفيون هذا من إضافة الشيء إلى نفسه ، كقولك : مسجد الجامع ، وقال الزمخشري : المعنى : عين اليقين ومحض اليقين ، وقال ابن عطية : ذهب الحذاق إلى أن الحق مضاف إلى الأبلغ من وجوهه.

__________________

(١). قوله تؤمنون ثم تذكرون : قرأهما ابن كثير بالياء : يؤمنون يذكرون.

٤٠٨

سورة المعارج

مكية وآياتها ٤٤ نزلت بعد الحاقة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) من قرأ (١) سأل بالهمز احتمل معنيين أحدهما أن يكون بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بعذاب واقع ، وقد تكون الإشارة إلى قول الكفار : أمطر علينا حجارة من السماء ، وكان الذي قالها النضر بن الحرث ، والآخر أن يكون بمعنى الاستخبار ، أي سأل سائل عن عذاب واقع ، والباء على هذا بمعنى عن ، وتكون الإشارة إلى قوله متى هذا الوعد؟ وغير ذلك ، وأما من قرأ سال بغير همز فيحتمل وجهين. أحدهما : أن يكون مخففا من المهموز ، فيكون فيه المعنيان المذكوران ، والثاني أن يكون من سال السيل إذا جرى ، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس : سال سيل ، وتكون الباء على هذا كقولك ذهبت بزيد ، وإذا كان من السيل احتمل وجهين : أحدهما أن يكون شبّه العذاب في شدته وسرعة وقوعه بالسيل وثانيهما أن تكون حقيقة قال زيد بن ثابت : في جهنم واد يقال له سائل ، فتلخص من هذا أن في القراءة بالهمز يحتمل معنيين وفي القراءة بغير همز أربعة معان (لِلْكافِرينَ) يحتمل أن يتعلق بواقع وتكون اللام بمعنى على ، أو تكون صفة للعذاب ، أو يتعلق بسأل إذا كانت بمعنى دعا ، أي دعا للكافرين بعذاب ، أو تكون مستأنفا كأنه قال : هو للكافرين (مِنَ اللهِ) يحتمل أن يتعلق بواقع أي واقع من عند الله ، أو بدافع أي ليس له دافع من عند الله ، أو يكون صفة للعذاب أو مستأنفا (ذِي الْمَعارِجِ) جمع معرج وهو المصعد إلى علو كالسلم ، والمدارج التي يرتقى بها قال ابن عطية : هي هنا مستعارة في الفضائل والصفات الحميدة ، وقيل : هي المراقي إلى السماء ، وهذا أظهر لأنه فسرها بما بعدها من عروج الملائكة.

(وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي إلى عرشه ، ومن حيث تهبط أوامره وقضاياه ، فالعروج هو من الأرض إلى العرش ، والروح هنا جبريل عليه‌السلام بدليل قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣] وقيل : الروح ملائكة حفظة على الملائكة ، وهذا ضعيف مفتقر إلى صحة نقل. وقيل : الروح جنس أرواح الناس وغيرهم (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ

__________________

(١). وهي قراءة نافع وابن عامر.

٤٠٩

خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) اختلف في هذا اليوم على قولين : أحدهما أنه يوم القيامة والآخر أنه في الدنيا والصحيح أنه يوم القيامة لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث مانع الزكاة : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار يكوى بها جبينه وجنبه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد» (١) يعني يوم القيامة ثم اختلف هل مقداره خمسون ألف سنة حقيقة؟ وهذا هو الأظهر ، أو هل وصف بذلك لشدة أهواله؟ كما يقال : يوم طويل إذا كان فيه مصائب وهموم ، وإذا قلنا إنه في الدنيا فالمعنى أن الملائكة والروح يعرجون في يوم لو عرج فيه الناس لعرجوا في خمسين ألف سنة وقيل : الخمسون ألف سنة هي مدة الدنيا والملائكة تعرج وتنزل في هذه المدة ، وهذا كله على أن يكون قوله : في يوم يتعلق بتعرج ويحتمل أن يكون في يوم صفة للعذاب ، فيتعين أن يكون اليوم يوم القيامة والمعنى على هذا مستقيم.

(فَاصْبِرْ) هذا متصل بما قبله من العذاب وغيره ، أي : اصبر على أقوال الكافرين حتى يأتيهم العذاب ، ولذلك وصفه بالقرب مبالغة في تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) يحتمل أن يعود الضمير على العذاب ، أو على اليوم الذي مقداره خمسين ألف سنة ، والبعيد يحتمل أن يراد به بعد الزمان أو بعد الإمكان ، وكذلك القرب يحتمل أن يراد به قرب الزمان لأن كل آت قريب ، ولأن الساعة قد قربت ، وقرب الإمكان لقدرة الله عليه (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) يوم هنا بدل من يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، أو بدل من الضمير المنصوب في نراه أو منصوب بقوله : قريبا أو بقوله يود المجرم أو بفعل مضمر تقديره : أذكر والمهل : هو دردي الزيت شبه السماء به في سوادها وانكدار أنوارها يوم القيامة ، وقيل : هو ما أذيب من الفضة ونحوها شبّه السماء به في تلوّنه (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) العهن هو الصوف ، شبّه الجبال به في انتفاشه وتخلخل أجزائه وقيل : هو الصوف المصبوغ ألوانا فيكون التشبيه في الانتفاش ، وفي اختلاف الألوان ، لأن الجبال منها بيض وسود وحمر (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الحميم هنا الصديق والمعنى لا يسأل أحد من حميمه نصرة ولا إعانة ؛ لعلمه أنه لا يقدر له على شيء ، وقيل : لا يسأله عن حاله لأن كل أحد مشغول بنفسه.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) يقال : بصر الرجل بالرجل إذا رآه ، وبصّرته إياه بالتشديد إذا أريته إياه ، والضميران يعودان على الحميمين لأنهما في معنى الجمع ، والمعنى أن كل حميم يبصر حميمه يوم القيامة فيراه ولكنه لا يسأله (٢) (وَصاحِبَتِهِ) يعني امرأته (وَفَصِيلَتِهِ) يعني القرابة الأقربين (تُؤْوِيهِ) أي تضمه ، فيحتمل أن يريد تضمه في الانتماء إليها أو في نصرته وحفظه

__________________

(١). رواه الإمام أحمد ج ٢ ص ٢٦٢ وص ٣٨٣ بطوله وأوله : ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه.. من حديث أبي هريرة.

(٢). في بقية الآية : (مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) قرأ نافع والكسائي : يومئذ بفتح الميم.

٤١٠

من المضرات (ثُمَّ يُنْجِيهِ) الفاعل الافتداء الذي يقتضيه لو يفتدي ، وهذا الفعل معطوف على لو يفتدى وإنما عطفه بثم إشعارا ببعد النجاة وامتناعها ، ولذلك زجره عن ذلك بقوله (كَلَّا إِنَّها لَظى) الضمير للنار لأن العذاب يدل عليها ، ويحتمل أن يكون ضمير القصة وفسره بالخبر ولظى علم لجهنم مشتق من اللظى بمعنى اللهب (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) الشوى أطراف الجسد ، وقيل : جلد الرأس ، فالمعنى أن النار تنزعها ثم تعود ، ونزاعة بالرفع (١) بدل من لظى أو خبر ابتداء مضمر أو خبر لأنها إن جعلنا لظى منصوبا على التخصيص أو بدل من الضمير ، أو خبر ثان لأنها إن جعلنا لظى خبر لها ونزاعة بالنصب حال (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) يعني الكفار الذين تولوا عن الإسلام ، ودعاؤها لهم عبارة عن أخذها لهم ، وقال ابن عباس : تدعوهم حقيقة بأسمائهم وأسماء آبائهم ، وقيل : معناه تهلك ، حكاه الخليل عن العرب (وَجَمَعَ فَأَوْعى) يقال : أوعيت المال وغيره إذا جمعته في وعاء ، فالمعنى جمع المال وجعله في وعاء ، وهذه إشارة إلى قوم من أغنياء الكفار جمعوا المال من غير حله ومنعوه من حقه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) الإنسان هنا اسم جنس بدليل الاستثناء منه ، سئل أحمد بن يحيى مؤلف الفصيح عن الهلوع فقال : قد فسره الله فلا تفسيرا أبين من تفسيره وهو قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) وذكره الله على وجه الذم لهذه الخلائق ، ولذلك استثنى منه المصلين ، لأن صلاتهم تحملهم على قلة الاكتراث بالدنيا ، فلا يجزعون من شرها ولا يبخلون بخيرها (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) الدوام عليها هو المواظبة بطول العمر ، والمحافظة عليها المذكورة بعد ذلك هي أداؤها في أوقاتها وتوفية الطهارة لها (حَقٌّ مَعْلُومٌ) قد ذكرنا في الذاريات [١٩] معنى حق والسائل والمحروم ، ووصفه هنا بالمعلوم إن أراد الزكاة فهي معلومة المقدار شرعا ، وإن أراد غيرها فمعنى المعلوم ، أن العبد يجعل على نفسه وظيفة معلومة عنده (غَيْرُ مَأْمُونٍ) أي لا يكون أحد آمنا منه فإن الأمن من عذاب الله حرام ، فلا ينبغي للعبد أن يزيل عنه الخوف حتى يدخل الجنة (لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ) ذكر في المؤمنين [٨] وكذلك (لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ)(وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٢) قال ابن عباس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ،

__________________

(١). قرأ حفص : نزاعة بالنصب والباقون بالرفع.

(٢). قوله لأماناتهم وبشهاداتهم هي قراءة حفص : وقرأ الباقون أماناتهم ما عدا ابن كثير ، كما قرءوا بشهادتهم بالإفراد ما عدا حفص.

٤١١

وقال الجمهور : يعني الشهادة عند الحكام ، ثم اختلف على هذا في معنى القيام بها فقيل : هو التحقيق لها كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مثل الشمس فاشهدوا». وقيل هو المبادرة إلى أدائها من غير امتناع ، فأما إن دعي الشاهد إلى الأداء فهو واجب عليه ، وأما إذا لم يدع إلى الأداء فالشهادة على ثلاثة أقسام أحدها حقوق الناس ، فلا يجوز أداؤها حتى يدعوه صاحب الحق إلى ذلك ، والثاني حقوق الله التي يستدام فيها التحريم كالطلاق والعتق والأحباس ، فيجب أداء الشهادة بذلك دعي أو لم يدع الثالث حقوق الله التي لا يستدام فيها التحريم كالحدود ، فهذا ينبغي ستره ، حتى يدعى إليه.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) أي مسرعين مقبلين إليك بأبصارهم ، كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقبل [سارع] الكفار ينظرون إليه ويستمعون قراءته ، ومعنى قبلك في جهتك وما يليك (عِزِينَ) أي جماعات شتى وهو : جمع عزة بتخفيف الزاي وأصله عزوة ، وقيل عزهة ثم حذفت لامها وجمعت بالواو والنون عوضا من اللام المحذوفة (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) كانوا يقولون إن كان ثم جنة فنحن أهلها (كَلَّا) ردع لهم عما طمعوا فيه من دخول الجنة (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) كناية عن المنيّ الذي خلق الإنسان منه ، وفي المقصود بهذا الكلام ثلاثة أوجه أحدها : تحقير الإنسان والردّ على المتكبرين. الثاني : الردّ على الكفار في طمعهم أن يدخلوا الجنة كأنه يقول : إنا خلقناكم مما خلقنا منه الناس ، فلا يدخل أحد الجنة إلا بالعمل الصالح ؛ لأنكم سواء في الخلقة ، الثالث : الاحتجاج على البعث بأن الله خلقهم من ماء مهين ، فهو قادر على أن يعيدهم كقوله : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى) [القيامة : ٣٧] إلى آخر السورة.

(فَلا أُقْسِمُ) معناه أقسم ولا زائدة (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) ذكر في الصافات [٥] (إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) تهديد للكفار بإهلاكهم ، وإبدال خير منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي مغلوبين ، والمعنى : إنا لا نعجز عن التبديل المذكور أو عن البعث (فَذَرْهُمْ) وعيد لهم ، وفيه مهادنة منسوخة بالسيف (يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يعني يوم القيامة ، بدليل أنه أبدل منه (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) وهي القبور (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) النصب الأصنام ، وأصله كل ما نصب إلى الإنسان ، فهو يقصد إليه مسرعا من علم أو بناء أو غير ذلك ، وفيه لغات (١) فتح النون وإسكان الصاد ، وضم النون وإسكان الصاد وضمها ، ويوفضون معناه : يسرعون والمعنى أنهم يسرعون الخروج من القبور إلى المحشر ، كما يسرعون المشي إلى أصنامهم في الدنيا.

__________________

(١). قرأ ابن عامر وحفص بضم النون والصاد : نصب وقرأ الباقون : نصب وقرأ أبو العالية : نصب.

٤١٢

سورة نوح عليه‌السلام

مكية وآياتها ٢٨ نزلت بعد النحل

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(أَنْ أَنْذِرْ) و (أَنِ اعْبُدُوا) يحتمل أن تكون أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن أنذر وبأن اعبدوا والأول أظهر (عَذابٌ أَلِيمٌ) يحتمل أن يريد عذاب الآخرة أو الغرق الذي أصابهم (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) من هنا للتبعيض أي يغفر لكم ما فعلتم من الذنوب قبل أن تسلموا ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، ولم يضمن أن يغفر لهم ما بعد إسلامهم ، لأن ذلك في مشيئة الله تعالى ، وقيل : إن من هنا زائدة وذلك باطل لأن من لا تزاد عند سيبويه إلا في غير الواجب. وقيل : هي لبيان الجنس وقيل : لابتداء الغاية وهذان القولان ضعيفان في المعنى ، والأول هو الصحيح لأن التبعيض فيه متجه (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ظاهر هذا يقتضي أنهم إن فعلوا ما أمروا به أخروا إلى أجل مسمى ؛ وإن لم يفعلوا لم يؤخروا ، وذلك يقتضى القول بالأجلين. وهو مذهب المعتزلة وعلى هذا حملها الزمخشري ، وأما على مذهب أهل السنة ، فهي من المشكلات وتأولها ابن عطية فقال : ليس للمعتزلة في الآية مجال لأن المعنى أن نوحا عليه الصلاة والسلام لم يعلم هل هم ممن يؤخر أو ممن يعاجل؟ ولا قال لهم : إنكم تؤخرون عن أجل قد حان. لكن قد سبق في الأزل إما ممن قضى له بالإيمان والتأخير أو ممن قضى له بالكفر والمعاجلة. وكأن نوحا عليه‌السلام قال لهم : آمنوا يظهر في الوجود أنكم ممن قضى له بالإيمان والتأخير. وإن بقيتم على كفركم يظهر في الوجود أنكم ممن قضى عليه بالكفر والمعاجلة ، فكان الاحتمال الذي يقتضيه ظاهر الآية إنما هو فيما يبرزه الغيب من حالهم ؛ إذ يمكن أن يبرز إما الإيمان والتأخير ، وإما الكفر والمعاجلة ، وأما عند الله فالحال الذي يكون منهم معلوم مقدر محتوم ، وأجلهم كذلك معلوم مقدر محتوم.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) هذا يقتضي أن الأجل محتوم كما قال تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [يونس : ٤٩] وفي هذا حجة لأهل السنة

٤١٣

وتقوية للتأويل الذي ذكرنا ، وفيه أيضا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين ، ولما كان كذلك قال الزمخشري : إن ظاهر هذا مناقض لما قبله من الوعد بالتأخير إن آمنوا ، وتأول ذلك على مقتضى مذهبه بأن الأجل الذي لا يؤخر هو الأجل الثاني. وذلك أن قوم نوح قضى الله أنهم إن آمنوا عمرهم الله مثلا ألف عام ، وإن لم يؤمنوا عمرهم تسعمائة عام فالألف عام هي التي تؤخر إذا جاءت والتسعمائة عام هي التي وعدوا بالتأخير عنها إلى الألف عام إن أمنوا (دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم ، فذكر المغفرة التي هي سبب عن الإيمان ؛ ليظهر قبح إعراضهم عنه ؛ فإنهم أعرضوا عن سعادتهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) فعلوا ذلك لئلا يسمعوا كلامه ، فيحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة أو يكون عبارة عن إفراط إعراضهم حتى كأنهم فعلوا ذلك (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي جعلوها غشاوة عليهم لئلا يسمعوا كلامه ، أو لئلا يراهم ويحتمل أنهم فعلوا ذلك حقيقة ، أو يكون عبارة عن إعراضهم (وَأَصَرُّوا) أي داوموا على كفرهم (دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) إعراب جهارا مصدر من المعنى كقولك : قعد القرفصاء ، أو صفة لمصدر محذوف تقديره : دعا جهارا أو مصدر في موضع الحال أي مجاهرا (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار ، ثم ذكر أنه دعاهم جهارا ، ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار ، وهذه غاية الجد في النصيحة وتبليغ الرسالة صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، قال ابن عطية : الجهاد دعاؤهم في المحافل ومواضع اجتماعهم ، والإسرار دعاء كل واحد على حدته (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) مفعول من الدرّ وهو كثرة الماء ، وفي الآية دليل على أن الاستغفار يوجب نزول الأمطار ، ولذلك خرج عمر بن الخطاب إلى الاستسقاء فلم يزد على أن استغفر ثم انصرف ، فقيل له ما رأيناك استسقيت فقال والله لقد استسقيت أبلغ الاستسقاء ثم نزل المطر ، وشكا رجل إلى الحسن الجدب فقال له : استغفر الله.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) فيه أربع تأويلات : أحدها أن الوقار بمعنى التوقير والكرامة ، فالمعنى : ما لكم لا ترجون أن يوقركم الله في دار ثوابه. قال ذلك الزمخشري. وقوله : لله على هذا بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صفة لوقارا. والثاني أن الوقار بمعنى التؤدة والتثبت والمعنى ما لكم لا ترجون لله وقارا ، متثبتين حتى تتمكنوا من النظر بوقاركم وقوله : لله على هذا مفعول دخلت عليه اللام كقولك : ضربت لزيد وإعراب وقارا على هذا مصدر في موضع الحال. الثالث أن الرجاء هنا بمعنى الخوف ، والوقار بمعنى العظمة والسلطان فالمعنى : ما لكم لا تخافون عظمة الله وسلطانه ولله على هذا صفة للوقار في

٤١٤

المعنى ، الرابع : أن الرجاء بمعنى الخوف ، والوقار بمعنى الاستقرار من قولك : وقر بالمكان إذا استقر فيه والمعنى : ما لكم لا تخافون الاستقرار في دار القرار إما في الجنة أو النار (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) أي طورا بعد طور ، يعني أن الإنسان كان نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى سائر أحواله ، وقيل : الأطوار الأنواع المختلفة ، فالمعنى أن الناس على أنواع في ألوانهم وأخلاقهم وألسنتهم وغير ذلك (طِباقاً) ذكر في الملك [٣] (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) القمر إنما هو في السماء الدنيا ، وساغ أن يقول فيهن لما كان في إحداهن فهو في الجميع كقولك : فلان في الأندلس ، إذا كان في بعضها ، وجعل القمر نورا والشمس سراجا ، لأن ضوء السراج أقوى من النور ، فإن السراج هو الذي يضيء فيبصر به والنور قد يكون أقل من ذلك.

(وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) هذا عبارة عن إنشائهم من تراب الأرض ، ونباتا مصدر على غير المصدر أو يكون تقديره : أنبتكم فنبتم إنباتا ، ويحتمل أن يكون منصوبا على الحال (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) يعني بالدفن (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) يعني بالبعث من القبور (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) شبه الأرض بالبساط في امتدادها واستقرار الناس عليها ، وأخذ بعضهم من لفظ البساط أن الأرض بسيطة غير كروية ، خلافا لما ذهب إليه أهل التعديل وفي ذلك نظر (سُبُلاً فِجاجاً) ذكر في الأنبياء [٣١] (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) يعني اتبعوا أغنياءهم وكبراءهم وقرئ ولده بفتحتين (١) وولد بضم الواو وسكون اللام وهما بمعنى واحد (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) الكبّار بالتشديد أبلغ من الكبار بالتخفيف ، والكبار بالتخفيف أبلغ من الكبير.

(وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) أي وصى بعضهم بعضا بذلك (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) هذه أسماء أصنامهم ، كان قوم نوح يعبدونها ، وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الدنيا ، فلما ماتوا صوّرهم أهل ذلك العصر من حجارة ، وقالوا : ننظر إليها لنتذكر أعمالهم الصالحة ، فهلك ذلك الجيل وكثر تعظيمهم من بعدهم لتلك الصور ، حتى عبدوها من دون الله ، ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها ؛ وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل العرب ، فكان ودّا لكلب بدومة الجندل ، وكان سواع لهذيل ، وكان يغوث لمراد وكان يعوق لهمدان ، وكان نسرا لذي الكلاع من حمير. وقرئ ودا بفتح الواو وضمها ودا (٢) وهما

__________________

(١). قرأ نافع وابن عامر وعاصم : وولده. وقرأ الباقون : وولده. وهما لغتان.

(٢). قرأ نافع ودا بضم الواو. والباقون بفتحها.

٤١٥

لغتان (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) الضمير للرؤساء من قوم نوح ، والمعنى أضلوا كثيرا من أتباعهم ، وهذا من كلام نوح عليه‌السلام ، وكذلك لا تزد الظالمين إلا ضلالا من كلامه ، وهو دعاء عليهم. وقال الزمخشري : إنه معطوف على قوله : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) والتقدير : قال رب إنهم عصوني وقال : «لا تزد الظالمين إلا ضلالا» (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) (١) هذا من كلام الله إخبارا عن أمرهم ، وما زائدة للتأكيد وإنما قدم هذا المجرور للتأكيد أيضا ليبين أن إغراقهم وإدخالهم النار ، إنما كان بسبب خطاياهم وهي الكفر وسائر المعاصي (فَأُدْخِلُوا ناراً) يعني جهنم. وعبّر عن ذلك بالفعل الماضي لأن الأمر محقق ، وقيل : أراد عرضهم على النار وعبر عنه بالإدخال.

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) ديّارا من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما في الدار ديار ، أي ما فيها أحد ، ووزنه فيعال وكان أصله ديوار ثم قبلت الواو ياء وأدغمت في الياء ، وليس وزنه فعال لأنه لو كان كذلك لقيل : دوار لأنه مشتق من الدور أو من الدار ، وروي أن نوحا عليه‌السلام لم يدع على قومه بهذا الدعاء إلا بعد أن يئس من إيمانهم ، وبعد أن أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) يؤخذ من هذا أن سنة الدعاء أن يقدم الإنسان الدعاء لنفسه على الدعاء لغيره ، وكان والدا نوح عليه‌السلام مؤمنين قال ابن عباس : لم يكن لنوح أب كافر ما بينه وبين آدم عليهما‌السلام واسم والد نوح لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت أنوش ، حكاه الزمخشري (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) قيل : بيته المسجد ، وقيل السفينة. وقيل شريعته سماها بيتا استعارة وهذا بعيد وقيل : داره وهذا أرجح لأنه الحقيقة (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا دعاء بالمغفرة لكل مؤمن ومؤمنة على العموم ، وفيه دليل على جواز ذلك خلافا لمن قال من المتأخرين : إنه لا يجوز الدعاء بالمغفرة لجميع المؤمنين على العموم ، وهذا خطأ وتضييق لرحمة الله الواسعة ، قال بعض العلماء : إن الإله الذي استجاب لنوح عليه‌السلام فأغرق بدعوته جميع أهل الأرض الكفار حقيق أن يستجيب له فيرحم بدعوته جميع المؤمنين والمؤمنات (تَباراً) أي هلاكا والله أعلم.

__________________

(١). قرأ أبو عمرو : خطاياهم. والباقون : خطيئاتهم.

٤١٦

سورة الجن

مكية وآياتها ٢٨ نزلت بعد الأعراف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) تقدمت في الأحقاف [٢٩] قصة هؤلاء الجن الذين استمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأسلموا (فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي قال ذلك بعضهم لبعض ، وعجبا مصدر وصف به للمبالغة لأن العجب مصدر قولك : عجبت عجبا وقيل : هو على حذف مضاف تقديره ذا عجب (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) جدّ الله : جلاله وعظمته وقيل : معناه من قولك : فلان مجدود إذا استغنى ، وقرئ أنه في هذا الموضع بفتح الهمزة وقرأ نافع بكسرها وكذلك فيما بعده إلى قوله : وأنا منا المسلمون. فأما الكسر فاستئناف أو عطف على إنا سمعنا ، لكنه كسر في معمول القول ، فيكون ما عطف عليه من قول الجن ، وأما الفتح فقيل : إنه عطف على قوله : أنه استمع نفر وهذا خطأ من طريق المعنى ؛ لأن قوله : استمع نفر في موضع معمول أوحي ، فيلزم أن يكون المعطوف عليه مما أوحي وأن لا يكون من كلام الجن. وقيل : إنه معطوف على الضمير المجرور في قوله : آمنا به وهذا ضعيف ، لأن الضمير المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة الخافض.

وقال الزمخشري : هو معطوف على محل الجار والمجرور في آمنا به كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وكذلك ما بعده ولا خلاف في فتح ثلاث مواضع هي : أنه استمع ، وأن لو استقاموا ، وأن المساجد لله ؛ لأن ذلك مما أوحي لا من كلام الجن (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) (١) هذا من كلام الجن ، وسفيههم أبوهم إبليس ، وقيل : هو اسم جنس لكل سفيه منهم ، واختار ذلك ابن عطية ، والشطط : التعدي ومجاوزة الحد (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) (٢) أي ظننا أن الأقوال التي كان الإنس والجن يقولونها على الله صادقة وليست بكذب ؛ لأنا ظننا أنه لا يكذب أحد على الله.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) (٣) تفسير هذا ما روي أن

__________________

(١). الكلمات : وأنه وأنا وأنه : جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع : وإنه وإنا وإنه.

(٢). الكلمات : وأنه وأنا وأنه : جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع : وإنه وإنا وإنه.

(٣). الكلمات : وأنه وأنا وأنه : جميعها تقرأ مكسورة الهمزة عند نافع : وإنه وإنا وإنه.

٤١٧

العرب كانوا إذا حل أحد منهم بواد صاح بأعلى صوته : يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك ، ويعتقد أن ذلك الجن الذي بالوادي يحميه (فَزادُوهُمْ رَهَقاً) ضمير الفاعل للجن ، وضمير المفعول للإنس ، والمعنى : أن الجن زادوا الإنس ضلالا وإثما لما عاذوا بهم ، أو زادوهم تخويفا لما رأوا ضعف عقولهم ، وقيل : ضمير الفاعل للإنس ، وضمير المفعول للجن : والمعنى أن الإنس زادوا الجن تكبرا وطغيانا لما عاذوا بهم ، حتى كان الجن يقول : أنا سيد الجن والإنس (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) (١) الضمير في ظنوا لكفار الإنس ، وظننتم خطاب الجن بعضهم لبعض ، فالمعنى أن كفار الإنس والجن ظنوا أن لن يبعث الله أحدا ، والبعث هنا يحتمل أن يريد به بعث الرسل أو البعث من القبور (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) (١) هذا إخبار عن ما حدث عند مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من منع الجن من استراق السمع من السماء ورجمهم ، واللمس المس ، واستعير هنا للطلب ، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ، ولذلك وصف بشديد وهو مفرد ، ويحتمل أن يريد به الملائكة الحراس ، أو النجوم الحارسة ، وكرر الشهب لاختلاف اللفظ (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) (١) المقاعد جمع مقعد ، وقد فسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد ، فمتى أحرق الأعلى طلع الذي تحته مكانه ، فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ، ثم يزيد الكهان للكلمة مائة كذبة ، (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) الرصد اسم جمع للراصد ، كالحراس للحارس وقال ابن عطية : هو مصدر وصف به ومعناه منتظر قال بعضهم : إن رمي الجن بالنجوم إنما حدث بعد مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واختار ابن عطية والزمخشري أنه كان قبل المبعث قليلا ، ثم زاد بعد المبعث وكثر حتى منع الجن من استراق السمع بالكلية ، والدليل أنه كان قبل المبعث قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه وقد رأى كوكبا انقض : ما كنتم تقولون لهذا في الجاهلية؟ قالوا كنا نقول ولد ملك أو مات ملك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليس الأمر كذلك ، ثم وصف استراق الجن للسمع وقد ذكر شعراء الجاهلية ذلك في أشعارهم.

(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) (١) الآية : قال ابن عطية معناه لا ندري أيؤمن الناس بهذا النبي فيرشدوا ، أو يكفرون به فينزل بهم الشر؟ وقال الزمخشري : معناه لا ندري هل أراد الله بأهل الأرض خيرا أو شرا من عذاب أو رحمة أو من خذلان أو من توفيق؟ (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) (١) أي منا قوم دون ذلك فحذف الموصوف وأراد به الذين ليس صلاحهم كاملا ، أو الذين ليس لهم صلاح ، فإن دون قد تكون بمعنى أقل أو

__________________

(١). الكلمات في أوائل الآيات : وأنهم وأنا ، وأنا ، وأنا وأنا ، وأنا : كلها قرأ بها نافع بالكسر. والآية [١٤] أيضا : وأنا من المسلمون.

٤١٨

بمعنى غير (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) الطرائق : المذاهب والسير وشبهها ، والقدد المختلفة وهو جمع قدة. وهذا بيان للقسمة المذكورة قبل ، وهو على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) الظن هنا بمعنى العلم ، وقال ابن عطية : هذا إخبار منهم عن حالهم بعد إيمانهم ، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا هذا الاعتقاد قبل إسلامهم (سَمِعْنَا الْهُدى) يعنون القرآن (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) البخس النقص والظلم ، والرهق تحمل ما لا يطاق ، وقال ابن عباس : البخس نقص الحسنات ، والرهق الزيادة في السيئات.

(وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) يعني الظالمين : يقال قسط الرجل إذا جار ، وأقسط بالألف إذا عدل. هاهنا انتهى ما حكاه الله من كلام الجن ، وأما قوله : فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا يحتمل أن يكون من بقية كلامهم. أو يكون ابتداء كلام الله تعالى وهو الذي اختاره ابن عطية ، وأما قوله : وأن لو استقاموا فهو من كلام الله باتفاق وليس من كلامهم (تَحَرَّوْا) أي قصدوا الرشد (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) الماء الغدق الكثير وذلك استعارة في توسيع الرزق ، والطريقة هي طريقة الإسلام وطاعة الله ، فالمعنى لو استقاموا على ذلك لوسع الله أرزاقهم فهو كقوله : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] وقيل : هي طريقة الكفر ، والمعنى على هذا : لو استقاموا على الكفر لوسع الله عليهم في الدنيا أملاكهم استدراجا ، ويؤيد هذا قوله (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) والأول أظهر ، والضمير في استقاموا يحتمل أن يكون للمسلمين أو للقاسطين المذكورين ، أو لجميع الجن أو للجن الذين سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لجميع الخلق (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) إن كانت الطريقة الإيمان والطاعة ، فمعنى الفتنة الاختبار هل يسلمون أم لا؟ وإن كانت الطريقة الكفر فمعنى الفتنة الإضلال والاستدراج نسلكه عذابا صعدا (١) معنى نسلكه ندخله والصعد الشديد المشقة ، وهو مصدر صعد يصعد ، ووصف بالمصدر للمبالغة يقال : فلان في صعد أي في مشقة. وقيل : صعدا جبل في النار.

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) أراد المساجد على الإطلاق وهي بيوت عبادة الله ، وروي أن الآية نزلت بسبب تغلب قريش على الكعبة ، وقيل : أراد الأعضاء التي يسجد عليها ، واحدها مسجد بفتح الجيم وهذا بعيد ، وعطف أن المساجد لله على أوحي إليّ أنه استمع وقال الخليل : معنى الآية : لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، أي لهذا السبب فلا تعبدوا غير الله.

__________________

(١). قرأ نافع وآخرون بالنون : نسلكه ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي : يسلكه بالياء.

٤١٩

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) (١) عبد الله هنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووصفه بالعبودية اختصاصا له وتقريبا وتشريفا وقال الزمخشري : أنه سماه هنا عبد الله ولم يقل الرسول أو النبي؟ لأن هذا واقع في كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه ، لأنه مما أوحى إليه فذكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه على ما يقتضيه التواضع والتذلل ، وهذا الذي قاله بعيد مع أنه إنما يمكن على قراءة أنه لما قام بفتح الهمزة فيكون عطفا على أوحي إلي أنه استمع وأما على القراءة بالكسر على الاستئناف فيكون إخبارا من الله ، أو من جملة كلام الجن فيبطل ما قاله (كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (٢) اللبد الجماعات واحدها لبدة ، والضمير في كادوا يحتمل أن يكون للكفار من الناس ، أي كادوا يجتمعون على الردّ عليه وإبطال أمره ، أو يكون للجن الذين استمعوا ، أي كادوا يجتمعون عليه لاستماع القرآن والبركة به (٣) (مُلْتَحَداً) أي ملجأ (إِلَّا بَلاغاً) بدل من ملتحدا أي لا أجد ملجأ إلا بلاغ الرسالة ، ويحتمل أن يكون استثناء منقطعا (مِنَ اللهِ) قال الزمخشري : هذا الجار والمجرور ليس بصلة البلاغ إنما هو بمعنى بلاغا كائنا من الله ، ويحتمل عندي أن يكون متعلقا ببلاغا والمعنى بلاغ من الله (وَرِسالاتِهِ) قال الزمخشري : إنه معطوف على بلاغا كأنه قال : إلا التبليغ والرسالة ، ويحتمل أن يكون ورسالاته معطوفا على اسم الله.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) جمع خالدين على معنى من يعص لأنه في معنى الجمع ، والآية في الكفار ، وحملها المعتزلة على عصاة المؤمنين لأن مذهبهم خلودهم في النار. والدليل على أنها في الكفار وجهان : أحدهما أنها مكية والسورة المكية إنما الكلام فيها مع الكفار. والآخر دلالة ما قبلها وما بعدها على أن المراد بها الكفار (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) تعلقت حتى بقوله يكونون عليه لبدا وجعلت غاية لذلك. والمعنى : أنهم يكفرون ويتظاهرون عليه حتى إذا رأوا ما يوعدون قال ذلك الزمخشري وقال أيضا : يجوز أن يتعلق بمحذوف يدل على المعنى كأنه قيل : لا يزالون على ما هم عليه من الكفر حتى إذا رأوا ما يوعدون ، وهذا أظهر (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) إن هنا نافية. والمعنى قل : لا أدري أقريب ما توعدون أم بعيد وعبر عن بعده بقوله : أم يجعل له ربي أمدا ويعني بما توعدون قتلهم يوم بدر ، أو يوم القيامة.

__________________

(١). وأنه قرأ نافع بفتح الهمزة كالجميع ما عدا ابن كثير وأبو عمرو.

(٢). قرأ هشام فقط : لبدا بضم اللام والباقون بكسرها.

٤٢٠