التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ردّ على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي ، والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله ، بل كلها متفقة على التوحيد (وَما أَرْسَلْنا) الآية : ردّ على المشركين ، والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) يعني الملائكة ، وهم الذين قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله ، فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض النبوّة ، ووصفهم بالكرامة ، لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدّبا معه (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي لمن ارتضى أن يشفع له ، ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا ، وهي استغفارهم لمن في الأرض (مُشْفِقُونَ) أي خائفون (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) الآية على فرض أن لو قالوا ذلك ، ولكنهم لا يقولونه ، وإنما مقصد الآية الردّ على المشركين وقيل : إن الذي قال : إني إله هو إبليس لعنه الله.

(كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) الرتق مصدر وصف به ، ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع فيه ولا فتح ، والفتق : الفتح فقيل : كانت السموات ملصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء ، وقيل كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض ، والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا ، والرؤية في قوله أو لم ير على هذا رؤية قلب ، وقيل : فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات ، فالرؤية على هذا رؤية عين.

(وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) أي خلقنا من الماء كل حيوان ، ويعني بالماء المنيّ. وقيل : الماء الذي يشرب ، لأنه سبب لحياة الحيوان ، ويدخل في ذلك النبات باستعارة (رَواسِيَ) يعني الجبال (أَنْ تَمِيدَ) تقديره كراهية أن تميد (فِجاجاً) يعني الطرق الكبار ، وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل ، لأنه صفة تقدّمت على النكرة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) يعني في طرقهم وتصرفاتهم (سَقْفاً مَحْفُوظاً) أي حفظ من السقوط ومن الشياطين (عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) يعني الكواكب والأمطار والرعد والبرق وغير ذلك (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) التنوين في كل عوض عن الإضافة أي : كلهم في فلك يسبحون يعني ؛ الشمس والقمر ، دون الليل والنهار ، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك فالجملة

٢١

في موضع حال من الشمس والقمر أو مستأنفا ، فإن قيل : لفظ كلّ ويسبحون جمع ، فكيف يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟ فالجواب : أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة ، وهي كثيرة قاله الزمخشري وقال القزنوي : أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة ، وعبر عنهما بضمير الجماعة العقلاء في قوله : يسبحون ، لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح ، فإن قيل : كيف قال في فلك ، وهي أفلاك كثيرة؟ فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في فلكه ، وذلك كقولهم : كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة ، ومعنى الفلك جسم مستدير ، وقال بعض المفسرين : إنه من موج ، وذلك بعيد ، والحق أنه لا يعلم صفته وكيفيته إلا بإخبار صحيح عن الشارع ، وذلك غير موجود ، ومعنى يسبحون يجرون ، أو يدورون ، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء ، وقوله : كل في فلك من المقلوب الذي يقرأ من الطرفين.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه بشر يموت ، وقيل : إنهم تمنوا موته ليشتموا به ، وهذا أنسب لما بعده (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس مخلوقة لا بدّ لها أن تذوق الموت ، والذوق هنا استعارة (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال الدنيا ، ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير ، أو خلاف ذلك (فِتْنَةً) مصدر من معنى نبلوكم (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحال ، فإن الذكر قد يكون بذمّ أو مدح ، والجملة تفسير للهزء أي يقولون : أهذا الذي (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن ، فهم أحق بالملامة ، وقيل : معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم ، لأنهم أنكروها ، والأول أغرق في ضلالهم (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة : كقولهم خلق حاتم من جود ، والإنسان هنا جنس ، وسبب الآية : أن الكفار استعجلوا الآيات التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه ، فذكر الله هذا توطئة لقوله : فلا تستعجلون ، وقيل : المراد هنا آدم ، لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم. وهذا ضعيف ، وقيل من عجل : أي من طين ، وهذا أضعف (سَأُرِيكُمْ آياتِي) وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل (وَيَقُولُونَ) الآية : تفسير لاستعجالهم (الْوَعْدُ) القيامة وقيل : نزول العذاب بهم (لَوْ يَعْلَمُ) جواب لو محذوف (حِينَ) مفعول به ليعلموا : أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم العذاب لآمنوا وما استعجلوا

٢٢

(بَلْ تَأْتِيهِمْ) الضمير الفاعل للنار ، وقيل للساعة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تفجؤهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا يؤخرون عن العذاب (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ) الآية تسلية بالتأسي (فَحاقَ) أي أحاط.

(مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) أي من يحفظكم من أمر الله ، ومن استفهامية ، والمعنى تهديد ، وإقامة حجة ، لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا حافظ ، ثم جاء قوله (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله : أي عن الجواب الذي فيه ذكر الله ، وقال الزمخشري : معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره ، فضلا عن أن يخافوا بأسه (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) أي تمنعهم من العذاب ، وأم هنا للاستفهام ، والمعنى الإنكار والنفي ، وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم : أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله : لا يستطيعون نصر أنفسهم ، فإن من لا ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) الضمير للكفار :

أي لا يصحبون منا بنصر ولا حفظ (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا ، فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله ، والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم : أي لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر ولا حفظ ، بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم.

(نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ذكر في [الرعد : ٤٣] (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) إشارة إلى الكفار ، والصم استعارة في إفراط إعراضهم (نَفْحَةٌ) أي خطرة (١) وفيها تقليل العذاب ، والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذعنوا واعترفوا بذنوبهم (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) أي العدل ، وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع ، لأنه مصدر وصف به كالعدل والرضا ، وعلى تقدير ذوات القسط ، ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة ، له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال ، والخفة والثقل متعلقة بالأجسام ، إما صحف الأعمال ، أو ما شاء الله ، وقالت المعتزلة : إن الميزان عبارة عن العدل في الجزاء (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) ، وقال ابن عطية تقديره : لحساب يوم القيامة ، أو لحكمة ، فهو على حذف مضاف

__________________

(١). كذا وفي الطبري : حظ أو نصيب.

٢٣

وقال الزمخشري : هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشهر (مِثْقالَ حَبَّةٍ) أي وزنها والرفع على أن كان تامة ، والنصب على أنها ناقصة واسمها مضمر (الْفُرْقانَ) هنا التوراة ، وقيل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر وإقامة الحجة (وَهذا ذِكْرٌ) يعني القرآن (رُشْدَهُ) أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك (مِنْ قَبْلُ) أي قبل موسى وهارون ، وقيل آتيناه رشده قبل النبوة (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أي علمناه أنه يستحق ذلك (التَّماثِيلُ) يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم (وَجَدْنا آباءَنا) اعتراف بالتقليد من غير دليل (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِ) أي هل الذي تقول حق أم مزاح ، وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل ، وعن اللعب بالجملة الاسمية ، لأنه أثبت عندهم (فَطَرَهُنَ) أي خلقهن ، والضمير للسموات والأرض ، أو التماثيل ، وهذا أليق بالرد عليهم (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) يعني خروجهم إلى عيدهم (جُذاذاً) أي فتاتا ، ويجوز فيه الضم والكسر والفتح ، وهو من الجذ بمعنى القطع (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدوم في يده (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم ، فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء ، وقيل : الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أي يرجعن إليه فيبين لهم الحق.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا) قبله محذوف تقديره : فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة ، فقالوا : من فعل هذا (فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أي يذكرهم بالذم وبقوله : لأكيدن أصنامكم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) قيل : إن إعراب إبراهيم منادى ، وقيل خبر ابتداء مضمر ، وقيل رفع على الإهمال ، والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله ، لأن المراد الاسم لا المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) قصد إبراهيم عليه‌السلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم ، كأنه يقول : إن كان إلها فهو قادر على أن يفعل ، وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض ، لأنه كذب ، فإن قيل : فقد جاء في الحديث (١) إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات : أحدها قوله فعله كبيرهم ، فالجواب أن معنى

__________________

(١). الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة وأوله : أنا سيد الناس يوم القيامة وقد رواه النووي في آخر كتاب رياض الصالحين.

٢٤

ذلك أنه قال قولا ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر ، ويدل على ذلك قوله (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) لأنه أراد به أيضا تبكيتهم وبيان ضلالهم (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر ، أو رجعوا إليها بالملامة (فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) أي الظالمون لأنفسكم ؛ في عبادتكم ما لا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه إنه لمن الظالمين ، وفي تعنيفه على أعين الناس (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة فقالوا (لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ، وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم ، وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم ، ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع ؛ فإن قولهم : لقد علمت ما هؤلاء ينطقون : اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ، ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة : أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة (أُفٍّ لَكُمْ) تقدم الكلام على أف في [الإسراء : ٢٣] (قالُوا حَرِّقُوهُ) لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى التغلب عليه بالظلم (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) أي ذات برد وسلام ، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة ، واختلف كيف بردت النار؟ فقيل : أزال الله عنها ما فيها من الحرّ ، والإحراق ، وقيل : دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها ، وقيل : خلق بينه وبينها حائلا ، ومعنى السلام هنا السلامة ، وقد روى أنه لو لم يقل : سلاما لهلك إبراهيم من البرد. وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ، ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه.

(إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) هي الشام خرج إليها من العراق ، وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها (نافِلَةً) أي عطية ، والتنفيل العطاء ، وقيل سماه : نافلة ؛ لأنه عطاء بغير سؤال ، فكأنه تبرع ، وقيل : الهبة إسحاق ، والنافلة يعقوب ، لأنه سأل إسحاق بقوله : هب لي من الصالحين فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل ، واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى ، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي يرشدون الناس بإذننا (وَلُوطاً) قيل : إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه ، والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون أو إبراهيم وانتصب ونوحا وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضا ، وقيل بفعل مضمر تقديره : اذكر (آتَيْناهُ حُكْماً) أي حكما بين الناس : أو

٢٥

حكمة (مِنَ الْقَرْيَةِ) هي سدوم من أرض الشام (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) أي في الجنة أو في أهل رحمتنا (نادى مِنْ قَبْلُ) أي دعا قبل إبراهيم ولوط (مِنَ الْكَرْبِ) يعني من الغرق (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ) تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدّى بمن ، أو تضمن معنى نجيناه أو أجرناه (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) كان داود نبيا ملكا ، وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاما (فِي الْحَرْثِ) قيل : زرع ، وقيل : كرم ، والحرث يقال فيهما (إِذْ نَفَشَتْ) رعت فيه بالليل (لِحُكْمِهِمْ) الضمير لداود وسليمان والمتخاصمين ، وقيل لداود وسليمان خاصة ، على أن يكون أقل الجمع اثنان (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) تخاصم إلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ، ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم ، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه فقال : يا نبيّ الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع ، قال وما هو؟ قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال له داود : وفقت يا بنيّ ، وقضى بينهما بذلك ، ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع ، وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان ، ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحا لا حكما.

واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاد للأنبياء ، وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه ، وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء ، وعلى القول بالجواز اختلف ، هل وقع أم لا؟ وظاهر قوله : ففهمناها سليمان : أنه كان باجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية ، ومن قال : كان بوحي ، جعل حكم سليمان ناسخا لحكم داود.

وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا ، فقال مالك والشافعي : يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك ، وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان ، لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العجماء جرحها جبار (١) (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) قيل : يعني في

__________________

(١). الحديث ورد في مسند أحمد من حديث أبي هريرة ج ٢ ص ٢٣٩.

٢٦

هذه النازلة ، وأن داود لم يخطئ فيها ، ولكنه رجع إلى ما هو أرجح ، ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب ، وقيل : بل يعني حكما وعلما في غير هذه النازلة ، وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها ، وأن المصيب واحد من المجتهدين (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) كان هذا التسبيح قول سبحان الله ، وقيل : الصلاة معه إذا صلى ، وقدم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل هذا.

وقال ابن عطية : معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة كذا! (صَنْعَةَ لَبُوسٍ) يعني دروع الحديد ، وأول من صنعها داود عليه‌السلام ، وقال ابن عطية اللبوس في اللغة : السلاح وقال الزمخشري : اللبوس اللباس (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي لتقيكم في القتال وقرئ (١) بالياء والتاء والنون ، فالنون لله تعالى ، والتاء للصنعة ، والياء لداود أو للبوس (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) لفظ استفهام ، ومعناه استدعاء إلى الشكر (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) عطف الريح على الجبال ، والعاصفة هي الشديدة فإن قيل : كيف يقال عاصفة؟ وقال في [ص : ٣٦] رخاء أي لينة؟ فالجواب : أنها كانت في نفسها لينة طيبة ، وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين ، وقيل : كانت رخاء في ذهابه ، وعاصفة في رجوعه إلى وطنه ، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع ؛ وقيل : كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) يعني أرض الشام ، وكانت مسكنه وموضع ملكه ، فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها (يَغُوصُونَ لَهُ) أي يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار (عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أقل من الغوص كالبنيان والخدمة (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره ، أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه ، وقيل : معناه عالمين بعددهم.

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ) كان أيوب عليه‌السلام نبيا من الروم ، وقيل من بني إسرائيل ، وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر ، ثم أهلك الأولاد فصبر ، ثم سلط البلاء (٢) على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به ، فحينئذ دعا الله تعالى ، على أن قوله : مسني الضر وأنت أرحم الراحمين ليس تصريحا بالدعاء ، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه ، فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) لما استجاب الله له أنبع له عينا من ماء فشرب منه

__________________

(١). قرأ ابن عامر وحفص لتحصنكم وقرأ أبو بكر : لنحصنكم بالنون وقرأ الباقون ليحصنكم بالياء.

(٢). المراد بالبلاء المرض الذي أصابه وهو مرض باطني لا تنفر منه الطباع البشرية لعصمة الأنبياء من ذلك.

٢٧

واغتسل فبرئ من المرض والبلاء (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) روى أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل : في الآخرة ، وقيل : ولدت امرأته مثل عدد أولاده الموتى ومثلهم معهم ، وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي رحمة لأيوب ، وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معا للعابدين.

(وَذَا الْكِفْلِ) قيل : هو إلياس وقيل : زكريا ، وقيل : نبيّ بعث إلى رجل واحد ، وقيل : رجل صالح غير نبي ، وسمى ذا الكفل : أي ذا الحظ من الله وقيل : لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده.

(وَذَا النُّونِ) هو يونس عليه‌السلام ، والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) أي مغاضبا لقومه ، إذ كان يدعوهم إلى الله فيكفرون ، حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم ، ولذلك قال الله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) [القلم : ٤٨] ، ولا يصح قول من قال مغاضبا لربه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن أن [لن] نضيق عليه ، فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه ، وقيل : هو من القدر والقضاء : أي ظنّ أن لن نضيق عليه بعقوبة ، ولا يصح قول من قال : إنه من القدرة (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قيل هذا الكلام محذوف ؛ لبيانه في غير هذه الآية ، وهو أنه لما خرج ركب السفينة فرمي في البحر فالتقمه الحوت ؛ فنادى في الظلمات ، وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت ، ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت ، لشدّة ظلمته كقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) [البقرة : ١٧] (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن ، والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البرّ (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل أن يكون مطلقا أو لمن دعا بدعاء يونس ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له (١) (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي بلا ولد ولا وارث (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) إن لم ترزقني وارثا فأنت خير الوارثين ، فهو استسلام لله (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) يعني ولدت بعد أن كانت

__________________

(١). الحديث ذكره صاحب التيسير وعزاه لأحمد والترمذي والنسائي والحاكم ، وصححه البيهقي عن سعد بن أبي وقاص.

٢٨

عاقرا ، واسم زوجته أشياع ، قاله السهيلي (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) والضمير للأنبياء المذكورين (رَغَباً وَرَهَباً) الرغب الرجاء ، والرهب الخوف ، وقيل : الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي ، والرهب أن ترفع ظهورها (وَالَّتِي) (أَحْصَنَتْ فَرْجَها) هي مريم بنت عمران ، ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال ، كقولها : لم يمسسني بشر (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها ، ونسب الله النفخ إلى نفسه ، لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد ، وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أو للملك (آيَةً) أي دلالة ، ولذلك لم يثن (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم ملة واحدة ، وهو خطاب للناس كافة ، أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين ، لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) أي اختلفوا فيه ، وهو استعارة من جعل الشيء قطعا ، والضمير للمخاطبين ، قيل فالأصل تقطعتم (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي لإبطال ثواب عمله (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي نكتب عمله في صحيفته (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قرئ حرم (١) بكسر الحاء وهو بمعنى حرام ، واختلف في معنى الآية ، فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة ، أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ، ولا زائدة في الوجهين ، وقيل : حرام بمعنى حتم واقع لا محالة ، ويتصور فيه الوجهان ، وتكون لا نافية فيهما أي : حتم عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو : حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا وقيل : المعنى ممتنع على قرية أهلكها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة ، ولا على هذا نافية أيضا ، ففيه ردّ على من أنكر البعث.

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون ، وجواب إذا : فإذا هي شاخصة ، وقيل : الجواب يا ويلنا لأن تقديره يقولون يا ويلنا ، وفتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) الحدب المرتفع من الأرض ، وينسلون : أي يسرعون ، والضمير ليأجوج ومأجوج : أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم ، وقيل : لجميع الناس (الْوَعْدُ الْحَقُ) يعني القيامة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ) إذا هنا للمفاجأة ، والضمير عند سيبويه ضمير القصة ، وعند الفراء ،

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : حرم. وقرأ الباقون : حرام.

٢٩

للأبصار ، وشاخصة من الشخوص وهو : إحداد النظر من الخوف (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) هذا خطاب للمشركين ، والحصب : ما توقد به النار : كالحطب. وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه «حطب جهنم» والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخا لمن عبدها (وارِدُونَ) الورود هنا الدخول (زَفِيرٌ) ذكر في هود (لا يَسْمَعُونَ).

قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئا ، وقيل : يصمهم الله كما يعميهم (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) سبقت أي : قضيت في الأزل ، والحسنى السعادة ، ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعرى على قوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ، فقال : إن عيسى وعزير والملائكة قد عبدوا ؛ فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد ، واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة (حَسِيسَها) أي صوتها (الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أهوال القيامة على الجملة ، وقيل ذبح الموت وقيل : النفخة الأولى في الصور لقوله : ففزع من السموات ومن في الأرض (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) السجل الصحيفة والكتاب (١) مصدر : أي كما يطوي السجل ليكتب فيه ، أو ليصان الكتاب الذي فيه ، وقيل : السجل رجل كاتب وهذا ضعيف ، وقيل : هو ملك في السماء الثانية : ترفع إليه الأعمال ، وهذا أيضا ضعيف (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة ، فهو كقوله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، وقيل : المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث : يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا (٢) ، ثم قرأ : كما بدأنا أول خلق نعيده ، والكاف متعلقة بقوله نعيده (فاعِلِينَ) تأكيدا لوقوع البعث.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) في الزبور هنا قولان : أحدهما أنه كتاب داود ، والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى ، وما في الزبور من ذكر الله تعالى ، والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء ، والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ : أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له ، بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حتي قضى الأمور كلها ، والأول أرجح ، لأن إطلاق الزبور على كتاب داود أظهر

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي وحفص : للكتب. وقرأ الباقون : للكتاب.

(٢). رواه أحمد عن ابن عباس ج ١ ص ٢٢٣.

٣٠

وأكثر استعمالا ، ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ، ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الأرض هنا على الإطلاق في مشارق الأرض ومغاربها ، وقيل : الأرض المقدسة ، وقيل : أرض الجنة ، والأول أظهر ، والعباد الصالحون : أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففي الآية ثناء عليهم ، وإخبار بظهور غيب مصداقه في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) هذا خطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه تشريف عظيم ، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول ، والمعنى على هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الرحمة ، ويحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره : أرسلناك راحمين للعالمين ، أو يكون مفعولا من أجله ، والمعنى على كل وجه : أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى ، والنجاة من الشقاوة العظمى ، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى ، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة ، فإن قيل : رحمة للعالمين عموم ، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم ، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر.

(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) إن هنا وفي الموضع الآخر نافية ، وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول من طريق المعنى فيجب وصله معه ، والهمزة في قوله : أقريب للتسوية لا لمجرد الاستفهام ، وقيل : يوقف على إن أدرى في الموضعين ، ويبتدأ بما بعده ، وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ) الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي الموت أو القيامة (الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب.

٣١

سورة الحج

مدنية إلا الآيات ٥٢ و ٥٣ و ٥٤ و ٥٥ فبين مكة والمدينة وآياتها ٧٨ نزلت بعد النور

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة الحج

(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) تكلمنا على التقوى في أول البقرة (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) أي شدّتها وهولها كقوله : وزلزلوا ، أو تحريك الأرض حينئذ كقوله : إذا زلزلت الأرض زلزالها ، والجملة تعليل للأمر بالتقوى ، واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة ، أو بعد أن تقوم القيامة ، والأرجح أن ذلك قبل القيامة ، لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة ، ووضع الحامل لا بعد القيامة (يَوْمَ تَرَوْنَها) العامل في الظرف تذهل ، والضمير للزلزلة ، وقيل : الساعة ، وذلك ضعيف لما ذكرنا ؛ إلا أن يريد ابتداء أمرها (تَذْهَلُ) الذهول هو الذهاب عن الشيء مع دهشة (مُرْضِعَةٍ) إنما لم يقل مرضع ، لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، فقال : مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول ، إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ (وَما هُمْ بِسُكارى) نفي لحقيقة السكر ، وقرأ [حمزة والكسائي] سكرى والمعنى متفق.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) نزلت في النضر بن الحارث ، وقيل في أبي جهل ، وهي تتناول كل من اتصف بذلك (شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي شديد الإغواء ، ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس (كُتِبَ) تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب ، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى ، كقولك : كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وفي أنه عطف عليه وقيل : تأكيد (مَنْ تَوَلَّاهُ) أي تبعه أو اتخذه وليا ، والضمير في عليه ، وفي أنه في الموضعين ، وفي تولاه ، للشيطان ، وفي يضله ، ويهديه ، للمتولي له ، ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولا لمن يجادل.

٣٢

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) الآية : معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم ؛ فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة : قادر على أن يعيدكم ثاني مرة ، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها : قادر على أن يخرجكم من قبوركم (خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) إشارة إلى خلق آدم ، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم (مِنْ عَلَقَةٍ) العلقة قطعة من دم جامدة (مِنْ مُضْغَةٍ) أي قطعة من لحم (مُخَلَّقَةٍ) المخلقة التامة الخلقة ، وغير المخلقة الغير التامة : كالسقط ، وقيل : المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) اللام تتعلق بمحذوف تقديره : ذكرنا ذلك لنبين لكم قدرتنا على البعث (وَنُقِرُّ) فعل مستأنف (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق ذلك (نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أفرده لأنه أراد الجنس ، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلا (لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) هو كمال القوّة والعقل والتمييز. وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ذكر في [النحل : ٧٠] (هامِدَةً) يعني لا نبات فيها (اهْتَزَّتْ) تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء (وَرَبَتْ) انتفخت (زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي صنف عجيب.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي ذلك المذكور من أمر الإنسان ، والنبات حاصل ، بأن الله هو الحق ، هكذا قدره الزمخشري ، والباء على هذا سببية ، وبهذا المعنى أيضا فسّره ابن عطية ، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله : وأن الساعة آتية : معطوفا على ذلك ، لأنه ليس بسبب لما ذكر ، فقال ابن عطية قوله : أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ، ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض ، أو على تقدير : والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضعيفان : أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض ، فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح ، وأما قوله على تقدير الأمر : أن الساعة ، فذلك استئناف وقطع للكلام الأول ، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول : هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعا مما قبله ، والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية ، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى ؛ وذلك أن يكون التقدير : ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق ، وأنه يحيى الموتى ، وبأن الساعة آتية ، فيصح عطف : وأن الساعة على ما قبله بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله : ذلك مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات.

٣٣

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق (ثانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن المتكبر المعرض (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) إن كانت في النضر بن الحارث : فالخزي أسره ثم قتله ، وكذلك قتل أبي جهل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) أي يقال له : ذلك بما فعلت وبعدل الله ، لأنه لا يظلم العباد (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) نزلت في قوم من الأعراب ، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال : هذا دين حسن ، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام ، فالحرف هنا كناية عن المقصد ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها ، وخسارة الآخرة بارتداده وسوء اعتقاده (ما لا يَضُرُّهُ) يعني الأصنام ، ويدعو بمعنى يعبد في الموضعين (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) فيها إشكالان : الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضرّها أقرب من نفعها ، فنفى الضرّ ثم أثبته ، فالجواب : أن الضر المنفي أولا يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئا ، والضر الثاني : يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره ، والأشكال الثاني : دخول اللام على من وهي في الظاهر مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول ، وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه : أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها ، كأن الأصل أن يقال : يدعو من لضره أقرب من نفعه ، فموضعها الدخول على المبتدإ ، والثاني : أن يدعو هنا كرر تأكيدا ليدعو الأول وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : لمن ضرّه ، فمن مبتدأ وخبره لبئس المولى ، وثالثها : أن معنى يدعو : يقول يوم القيامة هذا الكلام إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدإ في أول الكلام (الْمَوْلى) هنا بمعنى الولي (الْعَشِيرُ) الصاحب فهو من العشيرة.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية : لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها ، قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع ، وهو دخول الجنة (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) السبب هنا الحبل ، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء ، التي

٣٤

تعلق منها الحبال ، والقطع هنا يراد به : الاختناق بالحبل ، يقال : قطع الرجل إذا اختنق ، ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق ، وربطه في السقف ، والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته ، أو طمع فيما لا يصل إليه ، كقوله للحسود : مت كمدا ، أو اختنق ؛ فإنك لا تقدر على غير ذلك ، وفي معنى الآية قولان : الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمعنى على هذا : من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر الله محمدا فليختنق بحبل ، فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار ، فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقول الثاني أن الضمير في ينصره عائد على من ، والمعنى على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله : فليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء ، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره ، ولذلك فسر بعضهم أن لن ينصره الله بمعنى أن لن يرزقه ، وهذا القول أرجح من الأول لوجهين : أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ، لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن الله لن ينصره ، فيكون هذا الكلام متصلا بما قبله : ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية : إن الله يفعل ما يريد : أي الأمور بيد الله ، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني ، أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه ، وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه ، ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) الكيد هنا يراد به اختناقه ، وسمي كيدا لأنه وضعه موضع الكيد ، إذ هو غاية حيلته ، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر ، أي ليس يذهبه.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ) الضمير للقرآن ، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله (آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) قال ابن عطية : أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله ، وهذا ضعيف. لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله ، وقال الزمخشري : التقدير : لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات ، فجعل أن تعليلا للإنزال ، وهذا ضعيف ؛ للفصل بينهما بالواو. والصحيح عندي : أن قوله : وأن الله معطوف على آيات بينات ، لأنه مقدر بالمصدر ، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه (وَالصَّابِئِينَ) ذكر في [البقرة : ٦٢] وكذلك الذين هادوا (وَالْمَجُوسَ) هم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور والشر من الظلمة (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) هذه الجملة هي خبر إن الذين آمنوا والذين هادوا الآية ، وكررت مع الخبر للتأكيد ، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو

٣٥

الحق ، وسائر الأديان باطلة ، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) دخل في هذا من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الملائكة ، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك ؛ لأنه ذكرهم في آخر الآية ، إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد ، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف ، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما ، وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين : أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعا ، والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله ، فيكون كثير من الناس معطوفا على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله : وكثير حق عليه العذاب مستأنفا يراد به من لا ينقاد للطاعة ، ويوقف على قوله : وكثير من الناس ، وهذا القول هو الصحيح ؛ وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره ؛ فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى ، وقيل : إن قوله : وكثير من الناس معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير حق عليه العذاب فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله : حق عليه العذاب يقتضي ظاهره أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود ، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى ، بأن إعراب كثير من الناس فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد.

(هذانِ خَصْمانِ) الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : نزلت في على ابن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات ، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد به هنا الجماعة ؛ والإشارة بهذان إلى الفريقين (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه وفي صفاته ، والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) الآية : حكم بين الفريقين ، بأن جعل للكفار النار وللمؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي فصلت على قدر أجسادهم ، وهو مستعار من تفصيل الثياب (الْحَمِيمُ) الماء الحارّ (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) أي يذاب ، وذلك أن الحميم إذا صب على رؤوسهم وصل حره إلى بطونهم ، فأذاب ما فيها ، وقيل : معنى يصهر ينضج (مَقامِعُ) جمع مقمعة أي مقرعة (مِنْ حَدِيدٍ) يضربون بها ، وقيل : هي

٣٦

السياط (مِنْ غَمٍ) بدل من المجرور قبله (وَذُوقُوا) التقدير يقال لهم ذوقوا (مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في [الكهف : ٣١] (وَلُؤْلُؤاً) بالنصب مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤا ، أو معطوف على موضع من أساور إذ هو مفعول ، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب (الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) قيل : هو لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك (صِراطِ الْحَمِيدِ) أي صراط الله ، فالحميد اسم الله ، ويحتمل أن يريد الصراط الحميد ، وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك : مسجد الجامع (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) خبره محذوف يدل عليه قوله نذقه من عذاب أليم ، وقيل : الخبر يصدون على زيادة الواو ، وهذا ضعيف ، وإنما قال : يصدون بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل (سَواءً) بالرفع (١) مبتدأ وخبره مقدر ، والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا ، وقرأ حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به (الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) العاكف المقيم في البلد : والبادي (٢) القادم عليه من غيره ، والمعنى : أن الناس سواء في المسجد الحرام ، لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع ، وقال أبو حنيفة : حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها ملك ، والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة ، وقال مالك وغيره : ليست الدور في ذلك كالمسجد ، بل هي متملكة (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) الإلحاد الميل عن الصواب ، والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، لأن الذنوب في مكة أشدّ منها في غيرها ، وقيل : هو استحلال الحرام ، ومفعول يرد محذوف تقديره : من يرد أحدا أو من يرد شيئا ، وبإلحاد بظلم : حالان مترادفان ، وقيل : المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع ، ثم ضوعف ليتعدى ، واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله : تبوئ المؤمنين ، إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدّى الفعل باللام ، وهو يتعدّى بنفسه حتى قيل : اللام زائدة ، وقيل : معناه هيأنا ، وقيل : جعلنا ، والبيت هنا الكعبة ، وروى أنه كان آدم يعبد الله فيه ، ثم درس بالطوفان ، فدل الله إبراهيم عليه‌السلام على مكانه ، وأمره ببنيانه (أَنْ لا تُشْرِكْ) أن

__________________

(١). قرأ حفص وحده بالنصب والباقون بالرفع.

(٢). البادي : قرأها كذلك أبو عمرو وإسماعيل وورش بالياء في الوصل دون الوقف ، وقرأها الباقون بدون ياء وقرأها ابن كثير بالياء وصلا ووقفا.

٣٧

مفسرة ، والخطاب لإبراهيم عليه‌السلام ، وإنما فسرت تبوئة البيت بالنهي عن الإشراك ، والأمر بالتطهير ؛ لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك (طَهِّرا بَيْتِيَ) عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس ، وغير ذلك (وَالْقائِمِينَ) يعني المصلين.

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) خطاب لإبراهيم ، وقيل : لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأول هو الصحيح ، روى أنه لما أمر بالأذان بالحج (١) : صعد على جبل أبي قبيس ، ونادى : أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا ، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة ، وهم في أصلاب آبائهم. وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره. لبيك اللهم لبيك ، فجرت التلبية على ذلك (يَأْتُوكَ رِجالاً) جمع راجل أي ماشيا على رجليه (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك ، وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره ، وقوله : وعلى كل ضامر حال معطوف على حال كأنه قال : رجالا وركبانا ، واستدل بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب ، واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية ، على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر (يَأْتِينَ) صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد (مَنافِعَ لَهُمْ) أي بالتجارة ، وقيل : أعمال الحج وثوابه ، واللفظ أعم من ذلك (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا ، وقيل : يعني الذكر على الإطلاق ، وإنما قال : اسم الله ، لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء (فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) هي عند مالك : يوم النحر وثانيه وثالثه خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده ، ولم يجز ذبحها بالليل لقوله في أيام وقيل : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ويوم النحر والثلاثة بعده ، وقيل : عشر ذي الحجة خاصة ، وأما الأيام المعدودات ، فهي الثلاثة بعد يوم النحر ، فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر في المعدودات لا من المعلومات (فَكُلُوا مِنْها) ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر (الْبائِسَ) الذي أصابه البؤس وقيل : هو المتكفف وقيل : الذي يظهر عليه أثر الجوع (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التفث في اللغة الوسخ ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظفار والاستحداد وسائر خصال الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج ، وقيل : التفث أعمال الحج ، وقرئ بكسر (٢) اللام وإسكانها ، وهي لام الأمر وكذلك وليّوفوا وليطوّفوا.

__________________

(١). راجع الطبري وقد ذكره الحديث بسنده إلى ابن عباس.

(٢). ذكر ابن خالويه ذلك في كتابه الحجة وأن الكسر مع ثم أكثر. وقرأ بالكسر أبو عمرو ورش وابن عامر وقرأ الباقون بسكون اللام.

٣٨

(وَلْيَطَّوَّفُوا) المراد هنا طواف الإفاضة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) أي القديم ، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل : العتيق الكريم ، كقولهم : فرس عتيق ، وقيل أعتق من الجبابرة أي منع منهم ، وقيل : العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط (ذلِكَ) هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير : الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه ، ثم يقول هذا وقد كان كذا ، وأجاز بعضهم الوقف على قوله : ذلك في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا و «ذلك ومن يعظم شعائر الله» و «ذلك ومن يشرك بالله» لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر ، والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير ، لأن ما بعدها ليس كلاما أجنبيا ، ومثلها «ذلك ومن عاقب» و «ذلكم فذوقوه» في الأنفال ، و «هذا وإن للطاغين» في ص : ٥٥ (حُرُماتِ اللهِ) جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة ، فيحتمل أن يكون هنا على العموم ، أو يكون خاصا بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي التعظيم للحرمات خير (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة (الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) من لبيان الجنس كأنه قال : الرجس الذي هو الأوثان ، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقربا إليها ، كما كانت العرب تفعل (قَوْلَ الزُّورِ) أي الكذب ، وقيل : شهادة الزور.

(فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) الآية ، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك (سَحِيقٍ) أي بعيد (شَعائِرَ اللهِ) قيل : هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سمانا عظاما غالية الأثمان ، وقيل : مواضع الحج ، كعرفات ومنى والمزدلفة ، وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها ، وقيل : الشعائر أمور الدين على الإطلاق ، وتعظيمها القيام بها وإجلالها (فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم ، وقال الزمخشري : التقدير : فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ) من قال : إن شعائر الله هي الهدايا ، فالمنافع بها شرب لبنها ، وركوبها لمن اضطر إليها ، والأجل المسمى نحرها. ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج ، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) من قال : إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة ، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي ، وثم على هذا القول ليست للترتيب في

٣٩

الزمان ، لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجمل ، ومن قال : إن الشعائر موضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم : أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال : إن الشعائر أمور الدين على الإطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله : محلها إلى البيت.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي لكل أمة مؤمنة ، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم ، ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة ، والمراد بذلك الذبائح لقوله : «ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّبا إلى الأصنام (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) في وجه اتصاله بما قبله وجهان : أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدّمة خاطبها بقوله : فإلهكم إله واحد ، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدّم قبلكم ، والثاني : أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقربا لغيره (الْمُخْبِتِينَ) الخاشعين وقيل : المتواضعين ، وقيل : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وكذلك قوله بعد ذلك : وبشر المحسنين واللفظ فيهما أعم من ذلك (وَجِلَتْ) خافت (وَالْبُدْنَ) جمع بدنة ، وهو ما أشعر من الإبل ، واختلف هل يقال للبقرة بدنة ، وانتصابه بفعل مضمر (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) واحدها شعيرة ، ومن للتبعيض ، واستدل بذلك من قال : إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قيل : الخير هنا المنافع المذكورة قبل ، وقيل : الثواب ، والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة (صَوافَ) معناه : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهنّ ، وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور ، ووزنه فواعل ، وواحده صافة (وَجَبَتْ جُنُوبُها) أي سقطت إلى الأرض عند موتها ، يقال : وجب الحائط وغيره إذا سقط (الْقانِعَ) معناه السائل ، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون : إذا سأل ، وقيل : معناه المتعفف عن السؤال ، فهو على هذا من قولك : قنع بالكسر إذا رضي بالقليل (وَالْمُعْتَرَّ) المعترض بغير سؤال ، ووزنه مفتعل ، يقال : اعتررت بالقوم إذا تعرّضت لهم ، فالمعنى : أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله ، وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية ، ومن تعرض للعطاء (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم ، وقال الزمخشري : التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله ، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون

٤٠