التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

وقيل : المعنى قد علمنا ما يحصل في بطن الأرض من موتاهم ، والأول قول ابن عباس والجمهور وهو أظهر (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) يعني اللوح المحفوظ ، ومعنى حفيظ : جامع لا يشذ عنه شيء. وقيل : معناه محفوظ من التغيير والتبديل. (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) هذا الإضراب أتبع به الإضراب الأول ، للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أقبح من تعجبهم ، وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة ، وما تضمنته من الإخبار بالحشر وغير ذلك ، وقال ابن عطية : هذا الإضراب عن كلام محذوف تقديره : ما أجادوا النظر ونحو ذلك (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي مضطرب ، لأنهم تارة يقولون : شاعر ، وتارة ساحر ، وغير ذلك من أقوالهم. وقيل : معناه منكر ، وقيل : ملتبس. وقيل : مختلط.

(وَزَيَّنَّاها) يعني بالنجوم (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي من شقوق ، وذلك دليل على إتقان الصنعة (رَواسِيَ) يعني الجبال (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي من كل نوع جميل (ماءً مُبارَكاً) يعني المطر كله وقيل : الماء المبارك ماء مخصوص ينزله الله كل سنة ، وليس كل مطر يتصف بالمبارك ، وهذا ضعيف (حَبَّ الْحَصِيدِ) هو القمح والشعير ونحو ذلك مما يحصد (باسِقاتٍ) أي طويلات (طَلْعٌ نَضِيدٌ) الطلع أول ما يظهر من الثمر ، وهو أبيض منضد كحب الرمان ، فما دام ملتصقا بعضه ببعض فهو نضيد ، فإذا تفرق فليس بنضيد (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) تمثيل لخروج الموتى من القبور بخروج النبات من الأرض (وَأَصْحابُ الرَّسِ) قوم كانت لهم بئر عظيم وهي الرس ، بعث إليهم نبي فجعلوه في الرس وردموا عليه فأهلكهم الله (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) يعني قوم شعيب وقد ذكر (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) ذكر في الدخان [٣٧] (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي حل بهم الهلاك (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) يقال : عيي بالأمر إذا لم يعرف علمه ، والخلق الأول : خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة وقيل : يعني خلق آدم ، وقيل خلق السموات والأرض ، والأول أظهر ، ومقصود الآية الاستدلال بالخلقة الأولى على البعث والهمزة للإنكار (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي هم في شك من البعث ، وإنما نكّر الخلق الجديد ؛ لأنه كان غير معروف عند الكفار المخاطبين ، وعرّف الخلق الأول لأنه معروف معهود. (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعني جنس الإنسان ، ومعنى توسوس به نفسه : تحدثه نفسه في فكرتها. وذلك أخفى الأشياء وقيل : يعني آدم ووسوسته عند أكله من الشجرة ، والأول

٣٠١

أظهر وأشهر (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هو عرق كبير في العنق ، وهما وريدان عن يمين وشمال ، وهذا مثل في فرط القرب ، والمراد به : قرب علم الله واطلاعه على عبده ، وإضافة الحبل إلى الوريد كقولك : مسجد الجامع أو يراد بالحبل : العاتق (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) يعني الملكين الحافظين الكاتبين للأعمال ، والتلقي هو : تلقّي الكلام بحفظه وكتابته ، والعامل في إذ نحن أقرب ، وقيل : مضمر تقديره : اذكر. واختاره ابن عطية (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي قاعد ، وقيل : مقاعد بمعنى مجالس ، وردّه ابن عطية بأن المقاعد إنما يكون مع قعود الإنسان ، والقاعد يكون على جميع هيئة الإنسان ، وإنما أفرده وهما اثنان لأن التقدير : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد من المتلقيين ، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه ، وقال الفراء : لفظ قعيد يدل على الاثنين والجماعة فلا يحتاج إلى حذف.

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) العتيد : الحاضر ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن مقعد الملكين على الشفتين قلمهما اللسان ومدادهما الريق (١) ، وعموم الآية يقتضي أن الملكين يكتبان جميع أعمال العبد ، ولذلك قال الحسن وقتادة : يكتبان جميع الكلام فيثبت الله من ذلك الحسنات والسيئات ويمحو غير ذلك ، وقال عكرمة : إنما تكتب الحسنات والسيئات لا غير (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) أي بلقاء الله أو فراق الدنيا ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : وجاءت سكرة الحق بالموت ، وكذلك قرأها أبو بكر الصديق ، وإنما قال : جاءت بالماضي لتحقق الأمر وقربه ، وكذلك ما بعده من الأفعال (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي تفر وتهرب ، والخطاب للإنسان (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) السائق ملك يسوقه ، وأما الشهيد فقيل : ملك آخر يشهد عليه وهو الأظهر ، وقيل : صحائف الأعمال ، وقيل : جوارح الإنسان (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) خطاب للإنسان الذي يقتضيه قوله : كل نفس ، يريد أنه كان غافلا عما لقي في الآخرة ، وقيل : هو خطاب لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي كنت في غفلة من هذا القصص ؛ وهذا في غاية الضعف لأنه خروج عن سياق الكلام (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) قيل : كشف الغطاء معاينته أمور الآخرة (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي يبصر ما لم يبصره قبل ، وقد ورد : الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا (٢) (وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) القرين هنا : الشيطان الذي كان يغويه ،

__________________

(١). لم أعثر عليه فيما بين يدي من مصادر.

(٢). قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ٤ / ٢٣ : لم أجده مرفوعا وإنما ينسب للإمام علي بن أبي طالب.

٣٠٢

وقيل : الملك الذي يتولى عذابه في جهنم ، والأول أرجح لأنه هو القرين المذكور بعد ، ولقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ومعنى قوله : هذا ما لديّ عتيد ، أي هذا الإنسان حاضر لدي أعتدته ويسرته لجهنم ، وكذلك المعنى إن قلنا : إن القرين هو الملك السائق ، وإن قلنا : إنه أحد الزبانية فمعناه هذا العذاب لديّ حاضر ، ويحتمل أن يكون ما في قوله ، ما لديّ ، موصوفة أو موصولة ، فإن كانت موصوفة فعتيد وصف لها ، وإن كانت موصولة ، فعتيد بدل منها ، أو خبر بعد خبر ، أو خبر مبتدأ محذوف ، وما هي خبر المبتدأ على هذه الوجوه ، ويحتمل أن يكون عتيد الخبر وتكون ما بدلا من هذا أو منصوبة بفعل مضمر (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) الخطاب للملكين السائق والشهيد ، وقيل : إنه خطاب لواحد على أن يكون بالنون المؤكدة الخفيفة ، ثم أبدل منها ألف ، أو على أن يكون معناه : ألق ألق مثنى مبالغة وتأكيدا ، أو على أن يكون على عادة العرب من مخاطبة الاثنين كقولهم : خليلي وصاحبي وهذا كله تكلف بعيد ، ومما يدل على أن الخطاب لاثنين قوله : فألقياه في العذاب الشديد (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) قيل : مناع للزكاة المفروضة والصحيح العموم (مُرِيبٍ) شاك في الدين فهو من الريب بمعنى الشك (الَّذِي جَعَلَ) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره فألقياه وأدخل فيه ألفا لتضمنه معنى الشرط ، أو يكون بدلا أو صفة ، ويكون فألقياه تكرار للتوكيد.

(قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) القرين هنا شيطانه الذي وكّل به في الدنيا ، بلا خلاف ومعنى ما أطغيته : ما أوقعته في الطغيان ، ولكنه طغى باختياره ، وإنما حذف الواو هنا لأن هذه جملة مستأنفة بخلاف قوله : وقال قرينه قبل هذا فإنه عطف (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) خطاب للناس وقرنائهم من الشياطين (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي قد حكمت بتعذيب الكفار فلا تبديل لذلك ، وقيل : معناه لا يكذب أحد لدي لعلمي بجميع الأمور ، فالإشارة على هذا إلى قول القرين ما أطغيته (١) (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) الفعل مسند إلى جهنم ، وقيل : إلى خزنتها من الملائكة ، والأول أظهر واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة أو مجازا بلسان الحال؟ والأظهر أنه حقيقة ، وذلك على الله يسير ، ومعنى قوله : «هل من مزيد» إنما تطلب الزيادة وكانت لم تمتلئ. وقيل : معناه لا مزيد أي ليس عندي موضع للزيادة ، فهي على هذا قد امتلأت والأول أظهر وأرجح ، لما ورد في الحديث «لا تزال جهنم يلقى فيها

__________________

(١). قوله : يوم نقول لجهنم : قرأ نافع وأبو بكر : يوم يقول لجهنم بالياء وقرأ الباقون : نقول بالنون.

٣٠٣

وتقول : هل من مزيد حتى يلقى فيها الجبار قدمه (١)» ، وفي الحديث كلام ليس هذا موضعه ، والمزيد يحتمل أن يكون مصدرا كالمحيض أو اسم مفعول فإن كان مصدرا فوزنه مفعل ، وإن كان اسم مفعول فوزنه مفعول.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قرّبت ثم أكد ذلك بقوله غير بعيد (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي كثير الرجوع إلى الله ، فهو من آب يؤوب إذا رجع ، وقيل : هو المسبح لله من قوله (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١] (حَفِيظٍ) أي حافظ لأوامر الله فيفعلها ، ولنواهيه فيتركها (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) أي اتقى الله وهو غائب عن الناس ، فالمجرور في موضع الحال ، من خشي بدل أو مبتدأ ، فإن قيل : كيف قرن بالخشية الاسم الدال على الرحمة؟ فالجواب : أن ذلك لقصد المبالغة في الثناء على من يخشى الله ؛ لأنه يخشاه مع علمه برحمته وعفوه ، قال ذلك الزمخشري ؛ ويحتمل أن يكون الجواب عن ذلك أن الرحمن صار يستعمل استعمال الاسم الذي ليس بصفة كقولنا الله (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قيل معناه النظر إلى وجه الله ، كقوله : (الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقيل : يعني ما لم يخطر على قلوبهم كما ورد في الحديث مما يرويه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه أنه قال : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (٢) (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) الضمير في هم للقرون المتقدمة ، وفي منهم لكفار قريش (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي طافوا فيها ، وأصله دخولها من أنقابها ، أو من التنقب عن الأمر ، بمعنى البحث عنه (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) أي قالوا : هل من مهرب من الله أو من العذاب (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي قلب واع يعقل ويفهم (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي استمع وهو حاضر القلب (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) اللغوب الإعياء والتعب.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) يعني كفار قريش وغيرهم (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) يحتمل أن يريد التسبيح باللسان ، أو يريد الصلاة وقد ذكر الزمخشري فيه الوجهين وقال ابن عطية : معناه : صلّ بإجماع من المتأوّلين ، وهي على هذا إشارة إلى الصلوات الخمس فقبل طلوع الشمس : الصبح ، وقبل الغروب : الظهر والعصر. ومن الليل : المغرب والعشاء ، وقيل :

__________________

(١). رواه أحمد عن أنس ج ٣ ص ٢٣٤ بلفظ قريب منه.

(٢). الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة وانظر رياض الصالحين.

٣٠٤

هي النوافل (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (١) قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما : الركعتين بعد المغرب وقال ابن عباس : هي النوافل بعد الفرائض ، وقيل : الوتر (وَاسْتَمِعْ) معناه انتظر. فهو عامل في يوم يناد على أنه مفعول به صريح ، وقيل : المعنى استمع لما نقص عليك من أهوال القيامة. فعلى هذا لا يكون عاملا في يوم يناد فيوقف على استمع والأول أظهر (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) المنادي (٢) هنا إسرافيل الذي ينفخ في الصور ، وقيل : إنما وصفه بالقرب لأنه يسمعه جميع الخلق ، وقيل : المكان صخرة بيت المقدس ، وإنما وصفها بالقرب لقربها من مكة (يَوْمُ الْخُرُوجِ) يعني خروج الناس من القبور (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ) (٣) العامل في هذا الظرف معنى قوله : (حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) أو هو بدل مما قبله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بقهار تقهرهم على الإيمان كقوله (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية : ٢٢] وقيل إخبار بأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤوف بهم غير جبار عليهم ، وهذا أظهر (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) [فاطر : ١٨] لأنه لا ينفع التذكير إلا من يخاف.

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وحمزة : وإدبار السجود بكسر الهمزة وقرأ الباقون : وأدبار بالفتح.

(٢). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : ينادي المنادي بإثبات الياء في الوصل وقرأ الباقون : المناد بدون ياء.

(٣). قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : تشّقّق بتشديد الشين وقرأ الباقون : تشقّق بتخفيف الشين.

٣٠٥

سورة الذاريات

مكية وآياتها ٦٠ نزلت بعد الأحقاف

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الذاريات) (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) هي الرياح تذرو التراب وغيره ، ومنه قوله تعالى : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) [الكهف : ٤٥] وانتصب ذروا على المصدرية (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) هي السحاب تحمل المطر ، والوقر : الحمل وهو مفعول به (فَالْجارِياتِ يُسْراً) هي السفن تجري في البحر ، وإعراب يسرا صفة لمصدر محذوف ومعناه بسهولة (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) هي الملائكة تقسم أمر الملكوت من الأرزاق والآجال وغير ذلك ، وأمرا مفعول به ، وقيل : إن الحاملات وقرا : السفن ، وقيل : جميع الحيوان الحامل ، وقيل : إن الجاريات يسرا : السحاب ، وقيل : الجواري من الكواكب والأول أشهر ، وهو قول علي بن أبي طالب (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) هذا جواب القسم ويحتمل : توعدون أن يكون من الوعد أو من الوعيد ، والأظهر ؛ أنه يراد به البعث في الآخرة وهو يشمل الوعد والوعيد (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) الدين هنا الجزاء ، وقيل : الحساب (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) أي ذات الطرائق ، مثل الطرائق التي تكون في الماء إذا هبت عليه الرياح ، وكذلك حبك الزرع ، وهي الطرائق التي فيه. وقيل الحبك : النجوم. وقيل : زينة السماء وقيل : حسن خلقتها وواحد الحبك حباك أو حبيكة.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) يحتمل أن يكون خطابا لجميع الناس ، لأنهم اختلفوا فمنهم مؤمن ومنهم كافر ، ويحتمل أن يكون خطابا للكفار خاصة ، لأنهم اختلفوا فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : كاهن وقال بعضهم : شاعر (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) معنى يؤفك : يصرف ، والضمير في عنه يحتمل أربعة أوجه أحدها : أن يكون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للقرآن أو للإسلام والمعنى : يصرف عن الإيمان به من صرف ، أي من سبق في علم الله أنه مصروف. الثاني : أن يكون الضمير لما توعدون أو للدين ، والمعنى يصرف عن الإيمان به من صرف. الثالث : أن يكون الضمير للقول المختلف ، والمعنى يصرف عن ذلك القول إلى الإسلام من قضى الله بسعادته ، وهذا القول حسن ، إلا أن عرف الاستعمال

٣٠٦

في أفك ويؤفك إنما هو في العرف من خير إلى شر ، وهذا من شر إلى خير. الرابع : أن يكون الضمير للقول المختلف ، وتكون عن سببية والمعنى : يصرف بسبب ذلك القول من صرف عن الإيمان (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) دعاء عليهم كقولهم : قاتلك الله ، وقيل : قتل بمعنى لعن ، قال ابن عطية : واللفظ لا يقتضي ذلك وقال الزمخشري : أصله الدعاء بالقتل ، ثم جرى مجرى لعن وقبح ، والخراصون الكذابون ، وأصل الخرص : التخمين والقول بالظن والإشارة إلى الكفار ، وقيل : إلى الكهان والأول أظهر (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) الغمرة ما يغطي عقل الإنسان ، وأصله من غمرة الماء ، والمراد به هنا الجهالة والغفلة عن النظر (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي يقولون : متى يوم الدين على وجه الاستبعاد والاستخفاف (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) هذا جواب عن سؤالهم ، ومعنى يفتنون : يحرقون ويعذبون ، ومنه قيل للحرّة : فتين لأن الشمس أحرقت حجارتها ، ويحتمل أن يكون يومهم معربا والعامل فيه مضمر تقديره : يقع ذلك يوم هم على النار يفتنون ، وأن يكون مبنيا لإضافته إلى مبني ، وعلى هذا يجوز أن يكون في موضع نصب بالفعل المضمر حسبما ذكرنا ، أو في موضع رفع والتقدير هو : يوم هم على النار يفتنون (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي يقال لهم : ذوقوا حرقتكم.

(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) يعنى يأخذون في الجنة ما أعطاهم ربهم من الخيرات والنعيم ، وقيل : المعنى آخذين في الدنيا ما آتاهم ربهم من شرعه ، والأول أظهر وأرجح لدلالة الكلام عليه (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) الهجوع النوم. وفي معنى الآية قولان : أحدهما : وهو الصحيح : أنهم كانوا ينامون قليلا من الليل ، ويقطعون أكثر الليل بالسهر في الصلاة والتضرع والدعاء ، والآخر : أنهم كانوا لا ينامون بالليل قليلا ولا كثيرا ، ويختلف الإعراب باختلاف المعنيين ؛ فأما على القول الأول ففي الإعراب أربعة أوجه : الأول أن يكون قليلا خبر كانوا وما يهجعون فاعل بقليلا ، لأن قليلا صفة مشبهة باسم الفاعل ، وتكون ما مصدرية ، والتقدير : كانوا قليلا هجوعهم من الليل ، والثاني : مثل هذا إلا أن ما موصولة والتقدير : كانوا قليلا الذي يهجعون فيه من الليل ، والثالث : أن تكون ما زائدة ، وقليلا ظرف ، والعامل فيه يهجعون ، والتقدير : كانوا يهجعون وقتا قليلا من الليل ، والرابع مثل هذا إلا أن قليلا صفة لمصدر محذوف ، والتقدير : كانوا يهجعون هجوعا قليلا ، وأما على القول الثاني ففي الإعراب وجهان : أحدهما أن تكون ما نافية ، وقليلا ظرف ، والعامل فيه يهجعون ، والتقدير : كانوا ما يهجعون قليلا من الليل ، والآخر أن تكون ما نافية ، وقليلا خبر كان ، والمعنى كانوا قليلا في الناس ، ثم ابتدأ بقوله من الليل ما يهجعون وكلا الوجهين باطل عند أهل العربية ، لأن ما نافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، فظهر ضعف هذا المعنى لبطلان إعرابه.

٣٠٧

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يطلبون من الله مغفرة ذنوبهم ، والأسحار آخر الليل ، وقد جاء في الحديث أن الله تعالى يقول في الثلث الآخر من الليل : من يستغفرني فأغفر له (١) ، وقيل : معنى يستغفرون : يصلون وهذا بعيد من اللفظ (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) الحق هنا نوافل الصدقات ، وقيل : المراد الزكاة وهذا بعيد ؛ لأن الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة ، وقيل : إن الآية منسوخة بالزكاة ، وهذا لا يحتاج إليه لأن النسخ إنما يكون مع التعارض ، ولا تعارض بين الزكاة والنوافل. وتسمية النوافل بالحق كقوله : (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة : ٢٣٦] وإن كان غير واجب ، وقال بعض العلماء : حق سوى الزكاة. ورجحه ابن عطية. واختلف الناس في المحروم حتى قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم ، وقيل : المحروم الذي ليس له في بيت المال سهم ، وقيل الذي اجتيحت ثمرته ، وقيل : الذي ماتت ماشيته ، والمعنى الجامع لها أن المحروم هو الفقير المستور الحال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) إشارة إلى ما في خلقة الإنسان من الآيات والعبر ، ولقد قال بعض العلماء فيه : إن فيه خمسة آلاف حكمة ، وقال بعضهم : الإنسان نسخة مختصرة من العالم (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) معنى : في السماء رزقكم : المطر ، وقيل : القضاء والقدر ، ويحتمل أن يكون ما توعدون من الوعد والوعيد والكل في السماء ، ولذلك قيل : يعني الجنة والنار. وقيل : الخير والشر (إِنَّهُ لَحَقٌ) هذا جواب القسم ، والضمير لما تقدم من الآيات أو الرزق أو لما توعدون (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) أي حق مثل نطقكم لا يمكن الشك فيه ، وما زائدة : وقرئ مثل بالنصب والرفع (٢) فالرفع صفة لحق ، والنصب على الحال من حق أو من الضمير المستتر فيه ، أو صفة لحق وبني لإضافته إلى مبني ، أو لتركيبه مع ما فيصير نحو أينما وكلما.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) المراد بالاستفهام في مثل هذا التفخيم والتهويل ، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين جاءوا ليبشروه بالولد وبإهلاك قوم لوط ، ووصفهم بالمكرمين لأنهم مكرمون عند الله ، ولأن إبراهيم عليه‌السلام أكرمهم ، لأنه خدمهم بنفسه وعجل لهم الضيافة ، والعامل في إذ دخلوا على هذا : المكرمين ، ويحتمل أن يكون العامل فيه محذوف تقديره : اذكر (فَقالُوا سَلاماً) نصب هذا لأنه في معنى الطلب

__________________

(١). هو جزء من حديث النزول وهو من الصحيح المتفق عليه رواه أبو هريرة وأوله : ينزل الله تعالى كل ليلة... إلخ راجع البخاري ج ٢ كتاب التجهد باب : ١٤ ص ٤٧.

(٢). قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : لحق مثل بالضم والباقون : مثل بالفتح.

٣٠٨

وهو مفعول بفعل مضمر ، ورفع الثاني لأنه خبر تقديره : أمري سلام ، وهذا على أن يكون السلام بمعنى السلامة ، وإن كان بمعنى التحية فإنما رفع الثاني ليدل على إثبات السلام ، فيكون قد حياهم بأكثر مما حيوه ، وينتصب السلام الأول على هذا على المصدرية تقديره : سلمنا عليك سلاما ، ويرتفع الثاني بالابتداء تقديره : سلام عليكم قوم منكرون أي لم يعرفهم (قالَ أَلا تَأْكُلُونَ) يحتمل أن يكون ألا حضا على الأكل ، أو تكون الهمزة للإنكار دخلت على لا النافية (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) إنما خاف منهم لما لم يأكلوا.

(وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) هو إسحاق عليه‌السلام لقوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١] (فِي صَرَّةٍ) أي صيحة ، وذلك قولها : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ) [هود : ٧٢] وهو من صرّ القلم وغيره إذا صوّت ، وقيل : معناه في جماعة في النساء (فَصَكَّتْ وَجْهَها) أي ضربته حياء منهم وتعجبا من ولادتها وهي عجوز (وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) تقديره : قالت أنا عجوز عقيم فكيف ألد؟ أو تقديره : أتلد عجوز عقيم؟ (قالَ فَما خَطْبُكُمْ) أي ما شأنكم وخبركم ، والخطب أكثر ما يقال في الشدائد (قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) يعني قوم سيدنا لوط ، وقد ذكرنا الحجارة ومسومة في هود (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الضمير المجرور لقرية قوم سيدنا لوط ، لأن الكلام يدل عليها وإن لم يتقدم ذكرها ، والمراد بالمؤمنين لوط وأهله : أمرهم الله بالخروج من القرية لينجو من العذاب الذي أصاب أهلها ، ووصفهم بالمؤمنين وبالمسلمين لأنهم جمعوا الوصفين وقد ذكرنا معنى الإسلام والإيمان في الأحزاب (وَفِي مُوسى) معطوف على قوله وفي الأرض آيات للموقنين أو على قوله : وتركنا فيها آية (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) معنى تولى أعرض عن الإيمان ، وركنه سلطانه وقوته (قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي قالوا إن موسى ساحر أو مجنون : فأو للشك أو للتقسيم ، وقيل : بمعنى الواو وهذا ضعيف ولا يستقيم هنا (وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فعل ما يلام عليه يعني فرعون (الرِّيحَ الْعَقِيمَ) وصفها بالعقم ، لأنها لا بركة فيها من إنشاء المطر أو إلقاح الشجر (كَالرَّمِيمِ) أي الفاني المنقطع ، والعموم هنا يراد به الخصوص فيما أذن للريح أن تهلكه (وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) فيه قولان : أحدهما أن الحين هي الثلاثة الأيام

٣٠٩

بعد عقرهم الناقة والآخر أن الحين من بعد ما بعث صالح عليه‌السلام إلى حين هلاكهم ، وعلى هذا يكون : فعتوا مترتبا بعد تمتعهم ، وأما على الأول فيكن إخبارا عن حالهم غير مرتب على ما قبله (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) يعني الصيحة التي صاحها جبريل (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي يعاينونها لأنها كانت بالنهار.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) أي بقوة ، وانتصاب السماء بفعل مضمر (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن معناه قادرون فهو من الوسع وهو الطاقة ، ومنه (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] أي القوي على الإنفاق ، والآخر جعلنا السماء واسعة ، أو جعلنا بينها وبين الأرض سعة ، والثالث أوسعنا الأرزاق بمطر السماء (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) الماهد الموطئ للموضع (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي نوعين مختلفين كالليل والنهار ، والسواد والبياض ، والصحة والمرض وغير ذلك (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أمر بالرجوع إليه بالتوبة والطاعة وفي اللفظ تحذير وترهيب (أَتَواصَوْا بِهِ) توقيف [سؤال] وتعجيب أي هم بمثابة من أوصى بعضهم بعضا أن يقول ذلك (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) منسوخ بالسيف (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي قد بلغت الرسالة فلا لوم عليك (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل : معناه خلقتهم لكي آمرهم بعبادتي ، وقيل ليتذللوا لي : فإن جميع الإنس والجن متذلل (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي لا أريد أن يطعمون ، لأني منزه عن الأكل وعن صفات البشر ، وأنا غني عن العالمين ، وقيل : المعنى ما أريد أن يطعموا عبيدي ، فحذف المضاف تجوزا ، وقيل : معناه ما أريد أن ينفعوني لأني غنيّ عنهم ، وعبّر عن النفع العام بالإطعام ، والأول أظهر (الْمَتِينُ) أي الشديد القوة (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) الذنوب النصيب ، ويريد به هنا نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب الدلو ، والمراد بالذين ظلموا كفار قريش ، وبأصحابهم من تقدم من الكفار (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) يحتمل أن يريد يوم القيامة أو يوم هلاكهم ببدر ، والأول أرجح لقوله في المعارج (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) [٤٤] يعني يوم القيامة.

٣١٠

سورة الطور

مكية وآياتها ٤٩ نزلت بعد السجدة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الطور) (وَالطُّورِ) هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام ، وقيل : الطور كل جبل فكأنه أقسم بجنس الجبال (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : القرآن ، وقيل : صحائف الأعمال (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) الرق في اللغة : الصحيفة ، وخصصت في العرف بما كان من جلد ، والمنشور خلاف المطوي (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه أبدا وبهذا عمرانه ، وهو حيال الكعبة ، وقيل : البيت المعمور : الكعبة وعمرانها بالحجاج والطائفين ، والأول أظهر ، وهو قول علي وابن عباس (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) يعني السماء (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) هو بحر الدنيا ، وقيل : بحر في السماء تحت العرش : والأول أظهر وأشهر ، ومعنى المسجور : المملوء ماء ، وقيل : الفارغ من الماء ، ويروى أن البحار يذهب ماؤها يوم القيامة ، واللغة تقتضي الوجهين : لأن اللفظ من الأضداد ، وقيل : معناه الموقد نارا من قولك : سجرت التنور ، واللغة أيضا تقتضي هذا ، وروي أن جهنم في البحر (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) هذا جواب القسم ، ويعني عذاب الآخرة (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي : تجيء وتذهب ، وقيل : تدور ، وقيل : تتشقق ، والعامل في الظرف واقع ودافع أو محذوف (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) الخوض : التخبط في الأباطيل شبّه بخوض الماء (يَوْمَ يُدَعُّونَ) أي يدفعون بتعنيف ، ويوم بدل من الظرف المتقدم.

(أَفَسِحْرٌ هذا)؟ توبيخ للكفار على ما كانوا يقولونه في الدنيا من أن القرآن سحر (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) توبيخ أيضا لهم ، وتهكم بهم أي هل أنتم لا تبصرون هذا العذاب الذي حل بكم كما كنتم في الدنيا لا تبصرون الحقائق؟ (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) ليس المراد بذلك الأمر بالصبر ولا النهي عنه ، وإنما المراد التسوية بين الصبر وعدمه في أن كل واحد من الحالين لا ينفعهم ، ولا يخفف عنهم شيئا من العذاب (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا

٣١١

تعليل لما ذكر من عذابهم ، وليس تعليلا للصبر ولا لعدمه كما قال بعض الناس (فاكِهِينَ) يحتمل أن يكون معناه أصحاب فاكهة ، فيكون نحو لابن وتامر صاحب لبن وصاحب تمر أو يكون من الفكاهة بمعنى السرور (وَوَقاهُمْ) معطوف على قوله : في جنات أو على آتاهم ربهم ، أو تكون الواو للحال (كُلُوا وَاشْرَبُوا) أي يقال لهم : كلوا (هَنِيئاً) صفة لمصدر محذوف تقديره : كلوا أكلا هنيئا ، ويحتمل أن يكون وقع موقع فعل تقديره : هنأكم الأكل والشرب (بِحُورٍ عِينٍ) الحور : جمع حوراء وهي الشديدة بياض بياض العين وسواد سوادها ، والعين جمع عيناء وهي الكبيرة العينين مع جمالها ، وإنما دخلت الباء في قوله بحور لأنه تضمن قوله : زوّجناهم معنى قرناهم ، قاله الزمخشري وقال : إن الذين آمنوا معطوف على بحور عين أي قرناهم بحور للتلذذ بهن ، وبالذين آمنوا للأنس معهم. والأظهر أن الكلام تمّ في قوله «بحور عين» ويكون والذين آمنوا مبتدأ خبره ألحقنا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) معنى الآية ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال : «إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته في الجنة ، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه» (٢) فذلك كرامة للأبناء بسبب الآباء ، قيل : إن ذلك في الأولاد الذين ماتوا صغارا ، وقيل : على الإطلاق في الأبناء المؤمنين ، وبإيمان في موضع الحال من الذرية ، والمعنى أنهم اتبعوا آباءهم في الإيمان ، وقال الزمخشري : إن هذا المجرور يتعلق بألحقنا ، والمعنى عنده بسبب الإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ، والأول أظهر ، فإن قيل : لم قال بإيمان بالتنكير؟ فالجواب : أن المعنى بشيء من الإيمان لم يكونوا به أهلا لدرجة آبائهم ، ولكنهم لحقوا بهم كرامة لآباء ، فالمراد تقليل إيمان الذرية ولكنه رفع درجتهم ، فكيف إذا كان إيمانا عظيما (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي ما أنقصناهم من ثواب أعمالهم بل وفينا لهم أجورهم ، وقيل المعنى : ألحقنا ذريتهم بهم ، وما نقصناهم شيئا من ثواب أعمالهم بسبب ذلك ، بل فعلنا ذلك تفضلا زيادة إلى ثواب أعمالهم ، والضمير على القولين يعود على الذين آمنوا ، وقيل : إنه يعود على الذرية (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي مرتهن ، فإما أن تنجيه حسناته ، وإما أن تهلكه

__________________

(١). اختلف القراء في قراءتها : فقرأ أهل الكوفة ذريتهم بالافراد الأولى بالرفع والثانية بالنصب وقرأ نافع ذريتهم الأولى بالافراد : ذرياتهم. والثاني بالجمع والكسر : ذرياتهم وقرأ أبو عمر : وأتبعناهم ذرياتهم ، وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر وقرأ ابن عامر : وأتبعتهم ذرياتهم بالألف والضم. وألحقنا بهم ذرياتهم بالجمع والكسر.

(٢). لم أعثر عليه ولا شك بأن معناه صحيح لورود القرآن به ، وقد أورده الطبري موقوفا على ابن عباس.

٣١٢

سيئاته (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ) الإمداد هو الزيادة مرة بعد مرة (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي يتعاطونها إذ هم جلساء على الشراب (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) (١) اللغو الكلام الساقط ، والتأثيم : الذنب فهي بخلاف خمر الدنيا (غِلْمانٌ لَهُمْ) يعني خدامهم (كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) اللؤلؤ الجوهر ، والمكنون المصون ، وذلك لحسنه وقيل : هو الذي لم يخرج من الصدف (قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي كنا في الدنيا خائفين من الله ، والإشفاق شدة الخوف (السَّمُومِ) أشد الحر وقيل : هو من أسماء جهنم (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ) يحتمل أن يكون بمعنى نعبده ، أو من الدعاء بمعنى الرغبة ، ومن قبل يعنون في الدنيا قبل لقاء الله (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) البر الذي يبرّ عباده ويحسن إليهم ، وقرأ نافع والكسائي أنه بفتح الهمزة على أن يكون مفعولا من أجله ، أو يكون هذا اللفظ هو المدعو به وقرأ الباقون بكسرها على الاستئناف.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي ذكّر الناس. ثم نفى عنه ما نسبه إليه الكفار من الكهانة والجنون. ومعنى : بنعمة ربك : بسبب إنعام الله عليك (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أم في هذا الموضع وفيما بعده للاستفهام بمعنى الإنكار ، والتربص الانتظار ، وريب المنون ، حوادث الدهر ، وقيل : الموت ، وكانت قريش قد قالت : إنما هو شاعر ننتظر به ريب المنون فيهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء كزهير والنابغة (قُلْ تَرَبَّصُوا) أمر على وجه التهديد (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) الأحلام العقول : أي كيف تأمرهم عقولهم بهذا ، والإشارة إلى قولهم هو شاعر ، أو إلى ما هم عليه من الكفر والتكذيب ، وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز كقوله : أصلاتك تأمرك [هود : ٨٧] (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أم هنا بمعنى بل ، ويحتمل أن تكون بمعنى بل وهمزة الاستفهام بمعنى الإنكار كما هي في هذه المواضع كلها (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) أي اختلقه من تلقاء نفسه ، وضمير الفاعل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمير المفعول للقرآن (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) ردّ عليهم وإقامة حجة عليهم ، والأمر هنا للتعجيز (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن معناه أم خلقوا من غير رب أنشأهم واستعبدهم ،

__________________

(١). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالنصب : لا لغو فيها ولا تأثيم مثل الآية : [١٩٦] البقرة : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

٣١٣

فهم من أجل ذلك لا يعبدون الله : الثاني أم خلقوا من غير أب ولا أم كالجمادات فهم لا يؤمرون ولا ينهون كحال الجمادات : الثالث أم خلقوا من غير أن يحاسبوا ولا يجازوا بأعمالهم فهو على هذا كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) معناه أهم الخالقون لأنفسهم بحيث لا يعبدون الخالق؟ أم هم الخالقون للمخلوقات بحيث يتكبرون؟ (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) المعنى أعندهم خزائن الله بحيث يستغنون عن عبادته؟ وقيل : أعندهم خزائن الله بحيث يعطون من شاءوا ويمنعون من شاءوا؟ ويخصون بالنبوّة من شاءوا (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) (١) أي الأرباب الغالبون ، وقيل : المسيطر المسلط القاهر (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) يعني أم لهم سلم يصعدون به إلى السماء ، فيسمعون ما تقول الملائكة ، بحيث يعلمون صحة دعواهم. ثم عجّزهم بقوله : (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة واضحة على دعواهم (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) معناه أتسألهم على الإسلام أجرة ، فيثقل عليهم غرمها فيشق عليهم اتباعك (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) المعنى أعندهم علم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى يقولوا : لا نبعث وإن بعثنا لا نعذب؟ وقيل : المعنى فهم يكتبون للناس سننا وشرائع من عبادة الأصنام وتسييب السوائب وشبه ذلك (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) إشارة إلى كيدهم في دار الندوة (٢) بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث تشاوروا في قتله أو إخراجه (فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) أي المغلوبون في الكيد ، والذين كفروا يعني من تقدم الكلام فيهم وهم كفار قريش ، فوضع الظاهر موضع المضمر ، ويحتمل أن يريد جميع الكفار (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) المعنى هل لهم إله غير الله يعصمهم من عذاب الله ويمنعهم منه؟ وحصر الله في هذه الآية جميع المعاني التي توجب التكبر والبعد من الدخول في الإسلام ونفاها عنهم ؛ ليبين أن تكبرهم من غير موجب وكفرهم من غير حجة.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) كانوا قد طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء ، فالمعنى أنهم لو رأوا الكسف ساقطا عليهم لبلغ بهم الطغيان والجهل والعناد أن يقولوا : ليس بكسف وإنما هو سحاب مركوم : أي كثيف بعضه فوق

__________________

(١). قرأ ابن كثير وحفص : المسيطرون وقرأ حمزة بالإشمام وقرأ الباقون بالصاد المصيطرون.

(٢). مركز اجتماعات كان في مكة قبل الإسلام.

٣١٤

بعض (فَذَرْهُمْ) منسوخ بالسيف (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (١) يعني يوم القيامة والصعقة فيه هي النفخة الأولى ، وقيل : غير ذلك والصحيح ما ذكرنا لقوله في المعارج [٤٤] عن يوم القيامة (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ، (عَذاباً دُونَ ذلِكَ) يعني قتلهم يوم بدر ، وقيل الجوع بالقحط ، وقيل : عذاب القبر (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) أي اصبر على تكذيبهم لك وإمهالنا لهم فإنا نراك (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أنه قول سبحان الله ، ومعنى حين تقوم من كل مجلس ، وقيل : أراد حين تقوم وتقعد ، وفي كل حال وجعل القيام مثالا : الثاني أنه الصلوات النوافل ؛ والثالث أنه الصلوات الفرائض ، فحين تقوم الظهر والعصر : أي حين تقوم من نوم القائلة ، ومن الليل المغرب والعشاء ، وإدبار النجوم : الصبح ومن قال : هي النوافل ، جعل إدبار النجوم ركعتي الفجر.

__________________

(١). قرأ ابن عامر وعاصم : يصعقون ، وقرأ الباقون : يصعقون بفتح الياء.

٣١٥

سورة النجم

مكية إلا آية ٣٢ فمدنية وآياتها ٦٢ نزلت بعد الإخلاص

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة النجم) (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أنها الثريا لأنها غلب عليها التسمية بالنجم ، ومعنى هوى غرب وانتثر يوم القيامة ، الثاني أنه جنس النجوم ، ومعنى هوى كما ذكرنا ، أو انقضت ترجم الشياطين. الثالث أنه من نجوم القرآن ، وهو الجملة التي تنزل ، وهوى على هذا معناه نزل (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) هذا جواب القسم ، والخطاب لقريش ، وصاحبكم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنفى عنه الضلال والغيّ ، والفرق بينهما : أن الضلال بغير قصد ، والغيّ بقصد وتكسب (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي ليس يتكلم بهواه وشهوته ، إنما يتكلم بما يوحي الله إليه (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) يعني القرآن (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ضمير المفعول للقرآن أو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والشديد القوى : جبريل ، وقيل : الله تعالى ، والأول أرجح لقوله : (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) [التكوير : ٢٠] والقوى جمع : قوة (ذُو مِرَّةٍ) أي ذو قوّة ، وقيل : ذو هيئة حسنة ، والأول هو الصحيح في اللغة (فَاسْتَوى) أي استوى جبريل في الجو ؛ إذ رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ب [غار] حراء ، وقيل : معنى استوى : ظهر في صورته على ستمائة جناح ، قد سدّ الأفق بخلاف ما كان يتمثل به من الصور إذا نزل بالوحي ، وكان غالبا ما ينزل في صورة الصحابي دحية الكلبي (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) الضمير لجبريل وقيل : لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأول أصح (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) الضميران لجبريل أي دنا من سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتدلّى في الهواء ، وهو عند بعضهم من المقلوب تقديره : فتدلى فدنا.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) القاب : مقدار المسافة ، أي كان جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام في القرب بمقدار قوسين عربيتين ، ومعناه من طرف العود إلى الطرف الآخر ، وقيل : من الوتر إلى العود ، وقيل : ليس القوس التي يرمى بها ، وإنما هي ذراع تقاس بها المقادير ذكره الثعلبي. وقال : إنه من لغة أهل الحجاز ، وتقدير الكلام : فكان مقدار مسافة جبريل من سيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام مثل قاب قوسين. ثم

٣١٦

حذفت هذه المضافات ، ومعنى أو أدنى أو أقرب وأو هنا مثل قوله : (أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات : ١٤٧] وأشبه التأويلات فيها أنه إذا نظر إليه البشر احتمل عنده أن يكون قاب قوسين أو يكون أدنى ، وهذا الذي ذكرنا أن هذه الضمائر المتقدمة لجبريل هو الصحيح ، وقد ورد ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصحيح ، وقيل : إنها لله تعالى ، وهذا القول يردّ عليه الحديث والعقل ، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن تلك الأوصاف من الدنو والتدلي وغير ذلك (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) في هذه الضمائر ثلاثة أقوال : الأول أن المعنى أوحى الله إلى عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أوحى. الثاني أوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى ، وعاد الضمير على الله في القولين ، لأن سياق الكلام يقتضي ذلك وإن لم يتقدم ذكره ، فهو كقوله : إنا أنزلناه في ليلة القدر. الثالث أوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى ، وفي قوله : ما أوحى إبهام مراد يقتضي التفخيم والتعظيم (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) (١) أي ما كذب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه بعينه ، بل صدق بقلبه أن الذي رآه بعينه حق ، والذي رأى هو جبريل ، يعني حين رآه بمقدار ملأ الأفق ، وقيل : رأى ملكوت السموات والأرض ، والأول أرجح لقوله : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) وقيل : الذي رآه هو الله تعالى ، وقد أنكرت (٢) ذلك عائشة ، وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل رأيت ربك؟ فقال : نور أنّى أراه؟ (٣) (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) (٤) هذا خطاب لقريش ، والمعنى أتجادلونه على ما يرى ، وكانت قريش قد كذبت لما قال إنه رأى ما رأى (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) أي لقد رأى محمد جبريل عليهما الصلاة والسلام مرة أخرى وهو ليلة الإسراء ، وقيل : ضمير المفعول لله تعالى ، وأنكرت ذلك عائشة ، وقالت : من زعم أن محمدا رأى ربه ليلة الإسراء فقد أعظم الفرية على الله تعالى. (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (٥) هي شجرة في السماء السابعة قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ثمرتها كالقلال وورقها كآذان الفيلة ، وسميت سدرة المنتهى ؛ لأن إليها ينتهي علم كل عالم ، ولا يعلم ما وراءها إلا الله تعالى. وقيل : سميت بذلك لأن ما نزل من أمر الله يلتقي عندها ، فلا يتجاوزها ملائكة العلو إلى أسفل ، ولا يتجاوزها ملائكة السفل إلى أعلى (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) يعني أن الجنة التي

__________________

(١). قرأ هشام عن ابن عامر : ما كذّب الفؤاد. وقرأ الباقون بالتخفيف : ما كذب.

(٢). روى الترمذي في كتاب التفسير (٦) ص ٢٦٢ ج ٥ عن عائشة قالت : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله العزية : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم العزية على الله والله يقول : لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.. إلخ.

(٣). رواه مسلم عن أبي ذر ج ١ / ١٦١ كتاب الإيمان.

(٤). أفتمارونه على ما يرى : قرأها حمزة والكسائي أفتمرونه : بدون ألف والباقون بالألف.

(٥). ورد الحديث عن سدرة المنتهى في البخاري كتاب مناقب الأنصار ص ٢٤٨ ج ٤.

٣١٧

وعدها الله عباده هي عند سدرة المنتهى ، وقيل : هي جنة أخرى تأوي إليها أرواح الشهداء ، والأول أظهر وأشهر (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) فيه إبهام لقصد التعظيم ، قال ابن مسعود : غشيها فراش من ذهب ، وقيل : كثرة الملائكة ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، وهذا أولى أن تفسر به الآية (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما زاغ بصر سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما رآه من العجائب ، بل أثبتها وتيقنها ، وما طغى : أي ما تجاوز ما رأى إلى غيره (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) يعني ما رأى ليلة الإسراء من السموات والجنة والنار والملائكة والأنبياء وغير ذلك. ويحتمل أن تكون الكبرى مفعولا أو نعتا لآيات ربه ، والمعنى يختلف على ذلك (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) هذه أوثان كانت تبعد من دون الله ، فخاطب الله من كان يعبدها من العرب على وجه التوبيخ لهم ، وقال ابن عطية : الرؤيا هنا رؤية العين ؛ لأن الأوثان المذكورة أجرام مرئية ، فأما اللات فصنم كان بالطائف ، وقيل : كان بالكعبة ، وأما العزّى فكانت صخرة بالطائف ، وقيل : شجرة فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها تدعو بالويل ؛ فضربها بالسيف حتى قتلها ، وقيل : كانت بيتا تعظمه العرب وأصل لفظ العزى مؤنثة الأعز ، وأما مناة فصخرة كانت لهذيل وخزاعة بين مكة والمدينة. وكانت أعظم هذه الأوثان ، قال ابن عطية : ولذلك قال تعالى : الثالثة الأخرى فأكدها بهاتين الصفتين ، وقال الزمخشري : الأخرى ذم وتحقير أي المتأخرة الوضيعة القدر.

ومنه : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) كانوا يقولون : إن الملائكة وهذه الأوثان بنات الله ، فأنكر الله عليهم ذلك أي كيف تجعلون لأنفسكم الأولاد الذكور ، وتجعلون لله البنات التي هي عندكم حقيرة بغيضة ، وقد ذكر هذا المعنى في النحل وغيرها ، ويحتمل أن يكون أنكر عليهم جعل هذه الأوثان شركاء لله تعالى ؛ مع أنهن إناث والإناث حقيرة بغيضة عندهم (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) (١) أي هذه القسمة التي قسمتم جائرة غير عادلة ، يعني جعلهم الذكور لأنفسهم والإناث لله تعالى ووزن ضيزى فعلى بضم الفاء ، ولكنها كسرت لأجل الياء التي بعدها (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) الضمير للأوثان ، وقد ذكر هذا المعنى في الأعراف : ٧١ في قوله (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ)(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) يعني أنهم يقولون أقوالا بغير حجة كقولهم : إن الملائكة بنات الله ، وقولهم : إن الأصنام تشفع لهم وغير ذلك (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) أم هنا

__________________

(١). ضيزى : قرأها ابن كثير بالهمز : ضئزى والباقون بالياء.

٣١٨

للإنكار ، والإنسان هنا جنس بني آدم : أي ليس لأحد ما يتمنى بل الأمر بيد الله ، وقيل : إن الإشارة إلى ما طمع فيه الكفار من شفاعة الأصنام ، وقيل : إلى قول العاصي بن وائل : لأوتين مالا وولدا ، وقيل : هو تمني بعضهم أن يكون نبيا ، والأحسن حمل اللفظ على إطلاقه.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) الآية : رد على الكفار في قولهم : إن الأوثان تشفع لهم ، كأنه يقول : الملائكة الكرام لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بإذن الله فكيف أوثانكم؟ (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) معناه أن الملائكة لا يشفعون لشخص إلا بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة فيه ويرضى عنه (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) يعني قولهم : إن الملائكة بنات الله ، ثم ردّ عليهم بقوله : وما لهم به من علم (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي إلى ذلك انتهى علمهم ؛ لأنهم علموا ما ينفع في الدنيا ، ولم يعلموا ما ينفع في الآخرة (لِيَجْزِيَ) اللام متعلقة بمعنى ما قبلها ، والتقدير : أن الله مالك أمر السموات والأرض ليجزي الذي أساؤوا بما عملوا. وقيل : يتعلق بضل واهتدى (كَبائِرَ الْإِثْمِ) (١) ذكرنا الكبائر في النساء [٣١] (إِلَّا اللَّمَمَ) فيه أربعة أقوال : الأول : أنه صغائر الذنوب فالاستثناء على هذا منقطع. الثاني : أنه الإلمام بالذنوب على وجه الفلتة والسقطة دون دوام عليها. الثالث : أنه ما ألموا به في الجاهلية من الشرك والمعاصي : الرابع : أنه الهمّ بالذنوب وحديث النفس به دون أن يفعل (أَجِنَّةٌ) جمع جنين (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تنسبوا أنفسكم إلى الصلاح والخير ، قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون نهى عن أن يزكي بعض الناس بعضا ، وهذا بعيد لأنه تجوز التزكية في الشهادة وغيرها.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الآية : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وقيل نزلت في العاصي بن وائل (وَأَكْدى) أي قطع العطاء وأمسك (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) قيل : وفي طاعة الله في ذبح ولده ، وقيل : وفي تبليغ الرسالة ، وقيل : وفي شرائع الإسلام ، وقيل : وفي الكلمات التي ابتلاه الله بهن ، وقيل : وفي هذه العشر الآيات (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ذكر فيما تقدم ،

__________________

(١). كبائر الإثم : قرأها حمزة والكسائي : كبير الإثم والباقون : كبائر.

٣١٩

وهذه الجملة تفسير لما في صحف إبراهيم وموسى عليهما‌السلام.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) السعي هنا بمعنى العمل ، وظاهرها أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره ، وهي حجة لمالك في قوله : لا يصوم أحد عن وليه إذا مات وعليه صيام ، واتفق العلماء على أن الأعمال المالية كالصدقة والعتق يجوز أن يفعلها الإنسان عن غيره ، ويصل نفعها إلى من فعلت عنه ، واختلفوا في الأعمال البدنية كالصلاة والصيام وقيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) والصحيح أنها محكمة لأنها خبر : والأخبار لا تنسخ. وفي تأويلها ثلاثة أقوال : الأول : أنها إخبار عما كان في شريعة غيرنا فلا يلزم في شريعتنا الثاني : أن للإنسان ما عمل بحق وله ما عمل له غيره بهبة العامل له ، فجاءت الآية في إثبات الحقيقة دون ما زاد عليها. الثالث : أنها في الذنوب ، وقد اتفق أنه لا يحتمل أحد ذنب أحد ، ويدل على هذا قوله بعدها : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) وكأنه يقول : لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ولا يؤاخذ إلا بذنب نفسه (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) قيل : معناه يراه الخلق يوم القيامة ، والأظهر أنه صاحبه لقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فيه قولان أحدهما أن معناه إلى الله المصير في الآخرة ، والآخر أن معناه أن العلوم تنتهي إلى الله ، ثم يقف العلماء عند ذلك ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا فكرة في الرب (١).

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) قيل : معناه أضحك أهل الجنة ، وأبكى أهل النار ، وهذا تخصيص لا دليل عليه ، وقيل : أبكى السماء بالمطر وأضحك الأرض بالنبات ، وهذا مجاز وقيل : خلق في بني آدم الضحك والبكاء والصحيح أنه عبارة عن الفرح والحزن لأن الضحك دليل على السرور والفرح ، كما أن البكاء دليل على الحزن. فالمعنى أن الله تعالى أحزن من شاء من عباده ، وأسر من شاء (أَماتَ وَأَحْيا) يعني الحياة المعروفة والموت المعروف وقيل : أحيا بالإيمان وأمات بالكفر والأول أرجح ، لأنه حقيقة (مِنْ نُطْفَةٍ) يعني المني (إِذا تُمْنى) من قولك : أمنى الرجل إذا خرج منه المنيّ (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) يعني الإعادة للحشر وأقنى يعني أكسب عباده المال ، وهو من قنية المال وهو كسبه وادخاره وقيل : معنى أقنى : أفقر وهذا لا تقتضيه اللغة ، وقيل : معناه أرضى وقيل : قنع عبده

__________________

(١). لم أجده بهذا اللفظ وجاء في تخريج أحاديث الإحياء ج ٤ ص ٤٢٤. تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره. وعزاه لأبي نعيم في الحلية وإسناده ضعيف والطبراني في الأوسط عن ابن عمر.

٣٢٠