التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

الذي يعاد إليه ، فقيل : يعني مكة ، والآية نزلت حين الهجرة ، ففيها وعد بالرجوع إلى مكة وفتحها ، وقيل : يعني الآخرة فمعناها إعلام بالحشر ، وقيل يعني الجنة (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) أي ما كنت تطمع أن تنال النبوّة ، ولا أن ينزل عليك الكتاب ، ولكن الله رحمك بذلك ورحم الناس بنبوّتك ، والاستثناء بمعنى لكن فهو منقطع. ويحتمل أن يكون متصلا. والمعنى ما أنزل عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لك ورحمة للناس ، ورحمة على هذا مفعول من أجله أو حال ، وعلى الأول منصوب على الاستثناء (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة ، أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله ، فالمفعول محذوف على هذا تقديره : ادع الناس (وَلا تَدْعُ) أي لا تعبد (مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) الآية. أي إلا إياه ، والوجه هنا عبارة عن الذات.

١٢١

سورة العنكبوت

مكية إلا من آية ١ إلى غاية ١١ فمدنية وآياتها ٦٩ نزلت بعد الروم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة العنكبوت) (الم) ذكر في البقرة (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا بمكة مستضعفين منهم عمار بن ياسر وغيره ، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، فضاقت صدورهم بذلك. فآنسهم الله بهذه الآية ، ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار ، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى ، والثبوت على الإيمان ، فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في عباده ، يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك ، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب ، ولفظها مع ذلك عام ، فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة ، من مصيبة أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك ، ومعنى حسب ظنّ ، وأن يتركوا مفعولها ، والهمزة للإنكار ، وهم لا يفتنون في موضع الحال من الضمير في يتركوا تقديره غير مفتونين ، وأن يقولوا : تعليل في موضع المفعول من أجله (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي يعلم صدقهم علما ظاهرا في الوجود ، وقد كان علمه في الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه ، أو ضدّ ذلك.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) أم معادلة لقوله : أحسب الناس ، والمراد بالذين يعملون السيئات الكفار ، الذين يعذبون المؤمنين ، ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص ، ومعنى يسبقونا : يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ، فمعنى الكلام نفي سبقهم. كما أن معنى الآية قبلها ، نفي ترك المؤمنين بغير فتنة (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) الآية : تسلية المؤمنين ، ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة ، والرجاء هنا على بابه ، وقيل : هو بمعنى الخوف ، وأجل الله هو الموت ، ومعنى الآية : من كان يرجو ثواب الله فليصبر في الدنيا ، على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله ، فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان ، وكل ما هو آت قريب (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه ،

١٢٢

فإن الله لا تنفعه طاعة العباد ، والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال ، أو جهاد النفس (حُسْناً) منصوب بفعل مضمر تقديره : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسنا ، أو مصدرا من معنى وصينا أي وصية حسنة (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وأنه لما أسلم حلفت أمه : أن لا تستظل بظل حتى يكفر ، وقيل : نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك ، فأمرهم الله بالثبات على الإسلام ، وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر ، وعبّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم ، فإذا عذبهم الكفار رجعوا عن الإيمان ، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا : إنا كنا معكم ، فمعنى أوذي في الله أوذي بسبب إيمانه بالله ، وفتنة الناس ، تعذيبهم ، وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي قال الكفار للمؤمنين : اكفروا كما كفرنا ، ونحمل نحن عنكم الإثم والعقاب إن كان ، وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه المهدوي ، وقولهم : ولنحمل خطاياكم : جزاء قولهم : اتبعوا سبيلنا ، ولكنهم ذكروه على وجه الأمر للمبالغة ، ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم كاذبون : أي لا يحملون أوزار هؤلاء ، بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من الكفار.

(فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه ، ويحتمل أن يكون ذلك من أول ولادته ، وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة ، وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن قيل : لم قال ألف سنة ، ثم قال إلا خمسين عاما؟ فاختلف اللفظ مع اتفاق المعنى؟ فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة ، فإن التكرار مكروه إلا إذا قصد به تفخيم أو تهويل (وَجَعَلْناها آيَةً) يحتمل أن يعود الضمير على السفينة ، أو على النجاة ، أو على القصة بكمالها (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) هو من الخلقة يريد به

١٢٣

نحت الأصنام فسماه خلقة على وجه التجوّز ، وقيل هو من اختلاق الكذب (لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) الآية : احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء ، فإن قيل : لم نكّر الرزق أولا ، ثم عرّفه في قوله : فابتغوا عند الله الرزق؟ فالجواب : أنه نكره في قوله : لا يملكون لكم رزقا لقصد العموم في النفي ، فإن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم. ثم عرّفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله ، لأنه لا يقتضي العموم ، في سياق الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال : ابتغوا الرزق كله عند الله (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله تعالى ، ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم ، أو يراد به تسلية النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن تكذيب قومه له ، بالتأسي بغيره من الأنبياء ، الذين كذبهم قومهم.

(أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) يقال بدأ الله الخلق وأبدأه بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة ، والمعنى : أو لم ير الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة الأولى على الإعادة في الحشر ، فقوله : ثم يعيده ليس بمعطوف على يبدأ ، لأن المعنى فيهما مختلف ، لأن رؤية البداءة بالمشاهدة ، بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر والاستدلال ، وإنما هو معطوف على الجملة كلها ، وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات ، وإبدائه ، وعلى هذا يكون ثم يعيده عطفا على يبدئ لاتفاق المعنى ، والأول أحسن وأليق بمقاصد الكلام (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يعني إعادة الخلق وهي حشرهم ، ثم أمرهم بالسير في الأرض ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم ، ولذلك ختمها بقوله : إن الله على كل شيء قدير (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي ترجعون (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في السماء (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة ، أو يكون وصف لحالهم في الدنيا ، لأن الكافر يائس من رحمة الله ، والمؤمن راج خائف ، وهذا الكلام من قوله : أو لم يروا ، إلى هنا : يحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم معترضا بين قصة إبراهيم ، ويحتمل أن يكون

١٢٤

خطابا لإبراهيم وبعد ذلك ذكر جواب قومه له (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ) نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثان لاتخذتم ، ورفعها (١) على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن ، وتكون ما موصولة ونصب بينكم على الظرفية ، وخفضه بالإضافة (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) تضمن آمن معنى انقاد ، ولذلك تعدّى باللام (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) القائل لذلك إبراهيم ، وقيل : لوط ، وهاجرا من بلادهما بأرض بابل إلى الشام (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم ، وعلى ذريته أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل ، وقيل : أراد قطع سبيل النسل بترك النساء وإتيان الرجال (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس ، والمنكر فعلهم بالرجال ، وقيل : إذايتهم للناس (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو قوله : «فبشروه بغلام حليم» أو بشارته بنصر سيدنا لوط ، والأول أظهر (أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) يعني قرية سيدنا لوط ، (قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) ليس إخبارا بأنه فيها ، وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية ، وبراءته من الظلم الذي وصفوه به ، فكأنه قال : كيف تهلكون أهل القرية وفيها لوط ، وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط (مِنَ الْغابِرِينَ) قد ذكر (٢) وكذلك سيء بهم (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) قيل : الرجاء هنا الخوف ،

__________________

(١). مودة : قرأها بالرفع أبو عمرو والكسائي.

(٢). مر شرح الغابرين في سورة الأعراف : ٨٣. وأيضا سيء في هود : ٧٧.

١٢٥

وقيل : هو على بابه (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) يعني نقصهم المكيال والميزان (الرَّجْفَةُ) هي الصيحة (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قيل : معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به ، وقيل : لهم بصيرة في الإيمان ، ولكنهم كفروا عنادا ، وقيل : معنى : مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، ولكنهم لم يفعلوا (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي لم يفوتونا (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الحاصب الحجارة ، والحاصب أيضا الريح الشديدة ، ويحتمل عندي أنه أراد به المعنيين ، لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة ، وعاد أهلكوا بالريح ، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر ، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله : «إن الله وملائكته يصلون على النبي» ويقوي ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) يعني ثمود ومدين (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) يعني قارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) يعني قوم نوح وفرعون وقومه (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتا ضعيفا ، فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء ، فكذلك ما اعتمدت عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون (أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أي أضعفها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل : هي نافية ، والفعل معلق عنها والمعنى على هذا : لستم تدعون من دون الله شيئا له بال ، فلا يصلح أن يسمى شيئا (بِالْحَقِ) أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب.

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) إذا كان المصلي خاشعا في صلاته ، متذكرا لعظمة من وقف بين يديه ، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر ؛ فكأن الصلاة ناهية عن ذلك (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) قيل : فيه ثلاثة معان ؛ الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من

١٢٦

غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، لأن ذكر الله أعظم ما فيها ، كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها عن الفحشاء والمنكر ، لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر : الثاني أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة ، لأنها في بعض الأوقات دون بعض : الثالث أن ذكر الله أكبر أجرا من الصلاة ومن سائر الطاعات ، كما ورد في الحديث ألا أنبئكم بخير أعمالكم ؛ قالوا : بلى قال : ذكر الله (١) (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين إلا بالتي هي أحسن ، لا بضرب ولا قتال ، وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد ، ثم نسخ بالسيف ، ومعنى إلا الذين ظلموا : أي ظلموكم ، وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل : معنى الآية ؛ لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن ، ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من بقي منهم على كفره ، والمعنى الأول أظهر (وَقُولُوا آمَنَّا) هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة ، وهي منسوخة بالسيف ، ويقتضي أيضا الأعراض عن مكالمتهم ، وفي الحديث : لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم ، وإن كان حقا لم تكذبوهم (٢).

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) يعني عبد الله بن سلام وأمثاله ، ممن أسلم من اليهود والنصارى (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بقوله : من هؤلاء من يؤمن به كفار قريش ، وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدّمين من أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم كعبد الله بن سلام (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب ، ثم جاء بالقرآن. فإن قيل : ما فائدة قوله بيمينك؟ فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام ، وتصوير للمعنى المراد (إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار ، فكانوا يقولون : لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه ، وقيل : وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا يجدون في كتبهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فلما جعله الله

__________________

(١). رواه أحمد عن أبي الدرداء ج ٦ ص ٤٤٧.

(٢). الحديث رواه أحمد عن أبي نملة الأنصاري ج ٤ ص ١٣٦ وأوله : إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم.

١٢٧

كذلك قامت عليهم الحجة ، ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفا للصفة التي وصفه الله بها عندهم ، والمذهب الصحيح أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقرأ قط ولا كتب. وقال الباجي وغيره : أنه كتب لظاهر حديث الحديبية ، وهذا القول ضعيف (بَلْ هُوَ آياتٌ) الضمير للقرآن ، والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره : ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون.

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) المعنى كيف يطلبون آية والقرآن أعظم الآيات ، وأوضحها دلالة على صحة النبوة ، فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات (قُلْ كَفى بِاللهِ) ذكر معناه في [الرعد : ٤٣] وفي الأنعام (١) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) الضمير للكفار يعني قولهم : ائتنا بما تعدنا ، وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء وشبه ذلك (وَلَوْ لا) (أَجَلٌ مُسَمًّى) أي لو لا أن الله قدّر لعذابهم أجلا مسمى لجاءهم به حين طلبوه (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر ، أو الجوع الذي أصابهم بهم بتوالي القحط ، أو يريد عذاب الآخرة ، وهذا أظهر لقوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) أي يحيط بهم ، والعامل في الظرف محذوف ، أو محيطة (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) تحريض على الهجرة من مكة ، إذ كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار ، وترغيبا في غيرها من أرض الله ، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي ننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي : نثوينهم بالثاء المثلثة من الثوى وهو الإقامة في المنزل (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) أي : كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها ، ولكن الله يرزقها مع ضعفها ، والقصد بالآية : تقوية لقلوب المؤمنين ، إذ خافوا الفقر والجوع في الهجرة إلى بلاد الناس : أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا

__________________

(١). لم أعشر عليها فب الأنعام ، وربما كان هناك خطأ في اسم السورة لأنه ذكرها بعد الرعد ولعل الصواب : الإسراء : ٩٦.

١٢٨

هاجرتم من بلدكم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) في الموضعين : إقامة حجة عليهم (فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق.

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) حمدا لله على ظهور الحجة ، ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا الله لما اعترفوا أنه خلق السموات والأرض (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) إضراب عن كلام محذوف تقديره : يجب عليهم أن يعبدوا الله لما اعترفوا به ولكنهم لا يعقلون (لَهِيَ الْحَيَوانُ) أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها ، ولفظ الحيوان مصدر كالحياة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) الآية : إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد ، ثم يشركون به في حال الرخاء. (لِيَكْفُرُوا) (١) أمر على وجه التهديد ، أو على وجه الخذلان والتخلية ، كما تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك : اعمل ما شئت (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) الضمير لكفار قريش ، والحرم الآمن : مكة ، لأنها كانت لا تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد ، ولا ينتهك أحد حرمتها (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا) يعني : جهاد النفس من الصبر على إذاية الكفار واحتمال الخروج عن الأوطان وغير ذلك ، وقيل : يعني القتال ، وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن مأمورا به حين نزول الآية (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي لنوفقنهم لسبيل الخير (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) المعنى أنه معهم بإعانته ونصره.

__________________

(١). اللام في ليكفروا : قرأها ابن كثير وحمزة والكسائي وقالون قرءوها بالسكون أي جعلوها لام الأمر.

وكذلك قوله : وليتمتعوا. وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر بكسر اللام فب الكلمتين ، وجعلوها لام كي. وقد رجح الطبري القراءة الأولى من باب التهديد والوعيد.

١٢٩

سورة الروم

مكية إلا آية ١٧ فمدنية وآياتها ٦٠ نزلت بعد الانشقاق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الروم) (الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ) أي هزم كسرى ملك الفرس جيش ملك الروم ، وسميت الروم باسم جدهم وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم (١) (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قيل : هي الجزيرة ، وهي بين الشام والعراق وهي أدنى أرض الروم إلى فارس ، وقيل في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) إخبار بأن الروم سيغلبون الفرس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) روي أن غلب الروم فارس وقع يوم بدر ، وقيل : يوم الحديبية ففرح المؤمنون بنصر الله لهم على كفار قريش وقيل : فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس ، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام ، كذلك فرح الكفار من قريش بنصر الفرس على الروم ، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب ، فهم أقرب إلى كفار قريش ، وروي أنه لما فرح الكفار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال : إن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون ، وراهنهم على عشرة قلاص [القلاص مفردها : قلوص وهي الناقة الشابة] إلى ثلاث سنين ، وذلك قبل أن يحرم القمار ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل ، فجعل القلاص مائة ، والأجل تسعة أعوام ، وجعل معه أبيّ بن خلف مثل ذلك ، فلما وقع الأمر على ما أخبر به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبيّ بن خلف ، إذ كان قد مات وجاء بها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : تصدق بها (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد كقوله : له علي ألف درهم عرفا ، لأن معناه اعترفت له بها اعترافا.

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً) قيل : معناه يعلمون ما يدرك بالحواس دون ما يدرك بالعقول ؛ فهم في

__________________

(١). هذه مقولة لا سند لها. فالروم أمة عظيمة بل مجموعة من الأمم لا تدرى نسبتها على التحقيق والله أعلم. وقد جاء في كتاب جمهرة أنساب العرب لابن حزم تفنيد هذا الحطأ انظر ص ٥١١ حيث يقول : وكان لإسحاق عليه‌السلام ابن آخر غير يعقوب واسمه عيصاب ، كان بنوه يسكنون جبال الشراة التي بين الشام والحجاز. وقد بادوا جملة. إلا أن قوما يذكرون أن الروم من ولده وهذا خطأ... لأن الروم إنما أنساب إلى روفلس باني رومه.. إلخ.

١٣٠

ذلك مثل البهائم ، وقيل : الظاهر ما يعلم بالنظر بأوائل العقول ، والباطن ما يعلم بالنظر والدليل ، وقيل : هو من الظهور بمعنى العلو في الدنيا ، وقيل : ظاهر بمعنى زائل ذاهب ، والأظهر أنه أراد بالظاهر المعرفة بأمور الدنيا ومصالحها ، لأنه وصفهم بعد ذلك بالغفلة عن الآخرة ، وذلك يقتضي عدم معرفتهم بها ، وانظر كيف نفى العلم عنهم أولا ، ثم أثبت لهم العلم بالدنيا خاصة ، وقال بعض أهل البيان : إن هذا من المطابقة لاجتماع النفي والإثبات ، وجعل بعضهم العلم المثبت كالعدم لقلة منفعته ، فهو على هذا بيان للنفي (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) يحتمل معنيين : أحدهما أن تكون النفس ظرفا للفكرة في خلق السموات والأرض كأنه قال : أو لم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله ما خلق السموات والأرض إلا بالحق ، والثاني أي يكون المعنى أو لم يتفكروا في ذواتهم وخلقتهم ليستدلوا بذلك على الخالق ، ويكون قوله : ما خلق الآية : استئناف كلام ، والمعنى الأول أظهر (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي حرثوها (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) معنى السوءى : هلاك الكفار ، ولفظ السوءى تأنيث الأسوأ : كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، وقرأ [أهل الحجاز والبصرة] عاقبة بالرفع على أنه اسم كان ، والسوءى خبرها ، وقرئ (١) بنصب عاقبة على أنها خبر كان ، والسوءى اسمها ، وأن كذبوا مفعول من أجله ، ويحتمل أن تكون السوءى مصدر أساءوا (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) الإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير (يَتَفَرَّقُونَ) معناه في المنازل والجزاء (تُحْبَرُونَ) تنعمون من الحبور وهو السرور والنعيم ، وقيل : تكرمون.

(فَسُبْحانَ اللهِ) هذا تعليم للعباد أي : قولوا سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) أي حين تدخلون في وقت الظهيرة وهي وسط النهار ، وقوله : وله الحمد في السموات والأرض : اعتراض بين المعطوفات وقيل : أراد بذلك الصلوات الخمس ، فحين تمسون : المغرب والعشاء ، وحين تصبحون : الصبح ، وعشيا : العصر ، وحين تظهرون الظهر (يُخْرِجُ الْحَيَ) ذكر في آل عمران (وَيُحْيِ الْأَرْضَ) أي ينبت فيها النبات (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ)

__________________

(١). وقرأ أهل الكوفة والشام.

١٣١

أي كما يخرج الله النبات من الأرض ، كذلك يخرجكم من الأرض للبعث يوم القيامة (تَنْتَشِرُونَ) أي تنصرفون في الدنيا (مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أي صنفكم وجنسكم ، قيل أراد خلقة حواء من ضلع آدم ، وخاطب الناس بذلك لأنهم ذرية آدم (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) قيل : بسبب المصاهرة ، والعموم أحسن وأبلغ (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) أي لغاتكم (وَأَلْوانِكُمْ) (١) يعني البياض والسواد ، وقيل : يعني أصنافكم ، والأول أظهر.

(خَوْفاً وَطَمَعاً) ذكر في الرعد : ١٢ (أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) معناه تثبت أو يقوم تدبيرها (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) إذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية وهي جواب الأولى ، والدعوة في هذه الآية قوله للموتى : قوموا بالنفخة الثانية في الصور ، ومن الأرض يتعلق بقوله مخرجون أو بقوله دعاكم ، على أن تكون الغاية بالنظر إلى المدعوّ كقولك : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل (قانِتُونَ) ذكر في [البقرة : ١١٦] (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي الإعادة يوم القيامة أهون عليه من الخلقة الأولى ، وهذا تقريب لفهم السامع وتحقيق للبعث ، فإن من صنع صنعة أول مرة كانت أسهل عليه ثاني مرة ، ولكن الأمور كلها متساوية عند الله ، فإن كل شيء على الله يسير (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) أي الوصف الأعلى الذي يصفه به أهل السموات والأرض (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ) هذا هو المثل المضروب معناه : أنكم أيها الناس لا يشارككم عبيدكم في أموالكم ، ولا يستوون معكم في أحوالكم ، فكذلك الله تعالى لا يشارك عبيده في ملكه ، ولا يماثله أحد في ربوبيته ، فذكر حرف الاستفهام ومعناه : التقرير على النفي ، ودخل في النفي قوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي لستم في أموالكم سواء مع عبيدكم ، ولستم تخافونهم

__________________

(١). قوله سبحانه في هذه الآية (لِلْعالِمِينَ) قرأها حفص بكسر اللام أي للعلماء وقرأها الباقون للعالمين : بفتح اللام أي للناس.

١٣٢

كما تخافون الأحرار مثلكم ، لأن العبيد عندكم أقل وأذل من ذلك (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ) الإضراب ببل عما تضمنه معنى الآية المتقدمة كأنه يقول : ليس لهم حجة في إشراكهم بالله ؛ بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) هو دين الإسلام ، وإقامة الوجه في الموضعين من السورة عبارة عن الإقبال عليه والإخلاص فيه في قوله : أقم ، والقيم ضرب من ضروب التجنيس (فِطْرَتَ اللهِ) منصوب على المصدر : كقوله : صبغة الله أو مفعولا بفعل مضمر تقديره : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، ومعناه خلقة الله ، والمراد به دين الإسلام ، لأن الله خلق الخلق عليه ، إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة ، وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن أصل فطرته ، كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه (١).

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) يعني بخلق الله الفطرة التي خلق الناس عليها من الإيمان ، ومعنى أن الله لا يبدلها ، أي لا يخلق الناس على غيرها ، ولكن يبدلها شياطين الإنس والجن بعد الخلقة الأولى ، أو يكون المعنى أن تلك الفطرة لا ينبغي للناس أن يبدلوها ، فالنفي على هذا حكم لا خبر وقيل : إنه على الخصوص في المؤمنين ؛ أي لا تبديل لفطرة الله في حق من قضى الله أنه يثبت على إيمانه ، وقيل : إنه نهى عن تبديل الخلقة كخصاء الفحول من الحيوان ، وقطع آذانها وشبه ذلك (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) منصوب على الحال من قوله : أقم وجهك لأن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد هو وأمته ، ولذلك جمعهم في قوله منيبين ، وقيل : هو حال من ضمير الفاعل المستتر في الزموا فطرة الله ، وقيل : هو حال من قوله : فطر الناس وهذا بعيد (وَاتَّقُوهُ) وما بعده معطوف على أقم وجهك أو على العامل في فطرة الله وهو الزموا المضمر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) المجرور بدل من المجرور قبله ، ومعنى فرقوا دينهم : جعلوه فرقا أي اختلفوا فيه ، وقرئ : فارقوا من المفارقة أي تركوه ، والمراد بالمشركين هنا أصناف الكفار ، وقيل : هم المسلمون الذي تفرقوا فرقا مختلفة ، وفي لفظ المشركين هنا تجوّز بعيد ، ولعل قائل هذا القول إنما قاله في قول الله في [الأنعام : ١٥٩] «إن الذين فرقوا دينهم» فإنه ليس هناك ذكر المشركين (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) بالآية : إنحاء على المشركين ، لأنهم يدعون الله في

__________________

(١). أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة ج ٢ ص ٢٧٥.

١٣٣

الشدائد ويشركون به في الرخاء (لِيَكْفُرُوا) ذكر في [النحل : ٥٥] (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أم هنا منقطعة بمعنى بل ، والسلطان الحجة ، وكلامه مجاز كما تقول نطق : بكذا ، والمعنى ليس لهم حجة تشهد بصحة شركهم (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) إنحاء على من يفرح ويبطر إذا أصابه الخير ، ويقنط إذا أصابه الشر ، وانظر كيف قال هنا إذا ، وقال في الشر إن تصبهم سيئة ، لأن إذا للقطع بوقوع الشرط ، بخلاف إن فإنها للشك في وقوعه ، ففي ذلك إشارة إلى أن الخير الذي يصيب به عباده أكثر من الشرّ (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) المعنى أن ما يصيب الناس من المصائب ، فإنه بسبب ذنوبهم (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) يعني صلة رحم القرابة بالإحسان والمودّة ، ولو بالكلام الطيب.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) الآية : معناها كقوله (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧] أي ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يزكو عند الله ، وما آتيتم من الصدقات : فهو الذي يزكو عند الله وينفعكم به ، وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ليعوض له أكثر من ذلك ، فهذا وإن كان جائزا فإنه لا ثواب فيه. وقرئ «وما آتيتم» بالمد بمعنى أعطيتم (١) وبالقصر يعني : جئتم أي فعلتموه ، [وقرأ نافع] لتربوا بالتاء المضمومة [والباقون] ليربوا بالياء مفتوحة ونصب الواو (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) المضعف ذو الإضعاف من الحسنات ، وفي هذه الجملة التفات لخروجه من الغيبة إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : وما آتيتم من زكاة فأنتم المضعفون ، وفيه أيضا حذف ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، وتقديره المضعفون به أو فمؤتوه هم المضعفون.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٢) قيل : البر البلاد البعيدة من البحر ، والبحر هو البلاد التي على ساحل البحر ، وقيل : البر اللسان والبحر القلب وهذا ضعيف ، والصحيح أن البر والبحر المعروفان ، فظهور الفساد في البر بالقحط والفتن وشبه ذلك ، وظهور الفساد في البحر بالغرق وقلة الصيد وكساد التجارات وشبه ذلك ، وكل ذلك بسبب ما يفعله الناس من

__________________

(١). هي قراءة جميع القراء ما عدا ابن كثير الذي قرأها : أتيتم.

(٢). هذا من إعجاز القرآن فقد ظهر الفساد بجميع صورة في البر والبحر مما لم يكن في عصر المؤلف.

١٣٤

الكفر والعصيان (لا مَرَدَّ لَهُ) أي لا رجوع له ولا بد من وقوعه (مِنَ اللهِ) يتعلق بقوله : يأتي أو بقوله لا مردّ له أي لا يرده الله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) من الصدع وهو الفرقة أي يتفرقون : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] (فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) أي يوطنون وهو استعارة من تمهيد الفراش ونحوه ، والمعنى أنهم يعملون ما ينتفعون به في الآخرة (لِيَجْزِيَ) يتعلق بيمهدون أو يصدعون ، أو بمحذوف (مُبَشِّراتٍ) أي تبشر بالمطر (وَلِيُذِيقَكُمْ) عطف على مبشرات كأنه قال : ليبشركم وليذيقكم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره : ليذيقكم (مِنْ رَحْمَتِهِ) أرسلها (وَكانَ حَقًّا) انتصب حقا لأنه خبر كان واسمها نصر المؤمنين ، وقيل : اسمها مضمر يعود على مصدر انتقمنا : أي وكان الانتقام حقا ، فعلى هذا يوقف على حقا ويكون نصر المؤمنين مبتدأ وهذا ضعيف.

(فَتُثِيرُ سَحاباً) أي تحركها وتنشرها (كِسَفاً) أي قطعا ، وقرئ بإسكان السين وهما بناءان للجمع ، وقيل : معنى الإسكان أن السحاب قطعة واحدة (الْوَدْقَ) هو المطر (مِنْ خِلالِهِ) الخلال الشقاق الذي بين بعضه وبعض ، لأنه متخلل الأجزاء والضمير يعود على السحاب (مِنْ قَبْلِهِ) كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار (لَمُبْلِسِينَ) أي قانطين كقوله : ينزل الغيث من بعد ما قنطوا (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) الضمير للنبات الذي ينبته الله بالمطر ، والمعنى لئن أرسل الله ريحا فاصفر به النبات لكفر الناس بالقنوط والاعتراض على الله ، وقيل : الضمير للريح ، وقيل : للسحاب والأول أحسن في المعنى (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) الآية : استعارة في عدم سماع الكفار للمواعظ والبراهين ، فشبه الكفار بالموتى في عدم إحساسهم (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) الضعف الأول كون الإنسان من

١٣٥

ماء مهين ، وكونه ضعيف في حال الطفولية ، والضعف الثاني الأخير الهرم ، وقرئ (١) بفتح الضاد وضمها وهما لغتان.

(ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) هذا جواب القسم ، ومعناه أنهم يحلفون أنهم ما لبثوا في القبور تحت التراب إلا ساعة ، أي ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة ، وذلك لاستقصار تلك المدّة (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق ، والتحقيق حتى يروا الأشياء على ما هي عليه (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ) هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّوا مقالة الكفار التي حلفوا عليها (فِي كِتابِ اللهِ) يعني اللوح المحفوظ أو علم الله ، والمجرور على هذا يتعلق بقوله : لبثتم ، وقيل : يعني القرآن ، فعلى هذا يتعلق هذا المجرور بقوله أوتوا العلم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، وتقديره على هذا : قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله أي العلماء بكتاب الله وقولهم : لقد لبثتم : خطاب للكفار ، وقولهم : فهذا يوم البعث : تقرير لهم ، وهو في المعنى جواب لشرط مقدّر تقديره : إن كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) من العتبى بمعنى الرضا : أي ولا يرضون وليست استفعل هنا للطلب (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يعني ما وعد من النصر على الكفار (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) من الخفة : أي لا تضطرب لكلامهم.

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة : ضعف بالفتح. وقرأها الباقون بالرفع : ضعف.

١٣٦

سورة لقمان

مكية إلا الآيات ٢٧ و ٢٨ و ٢٩ فمدنية وآياتها ٣٤ نزلت بعد الصافات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة لقمان) (الْكِتابِ الْحَكِيمِ) ذكر في يونس (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) هو الغناء ، وفي الحديث أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال (١) : شراء المغنيات وبيعهنّ حرام ، وقرأ هذه الآية ، وقيل : نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالشراء على هذا حقيقة ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان قد تعلم أخبار فارس ، فذلك هو لهو الحديث ، وشراء لهو الحديث استحبابه وسماعه ، فالشراء على هذا مجاز ، وقيل لهو الحديث : الطبل ، وقيل : الشرك ، ومعنى اللفظ يعم ذلك كله ، وظاهر الآية أنه لهو مضاف إلى الكفر بالدين واستخفاف ، لقوله تعالى : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية ، وأن المراد شخص معين ، لوصفه بعد ذلك بجملة أوصاف (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ذكر في [الرعد : ٢] (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) أي لئلا تميد بكم.

(لُقْمانَ) رجل ينطق بالحكمة واختلف هل هو نبيّ أم لا؟ وفي الحديث لم يكن لقمان نبيا ، ولكن كان عبدا حسن اليقين أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ، روي أنه كان

__________________

(١). روى الترمذي الحديث بمعناه عن أبي أمامة كتاب البيوع ج ٣ باب ٥١ ونصه : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلّموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام.

١٣٧

ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل ، واختلف في صناعته ، فقيل : كان نجارا وقيل : خياطا ، وقيل : راعي غنم ، وكان ابنه كافرا فما زال يوصيه حتى أسلم ، وروي أن اسم ابنه ثاران (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) هذه الآية والتي بعدها اعتراض في أثناء وصية لقمان لابنه ؛ على وجه التأكيد لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بالله ، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص وأمه حسبما ذكرنا في العنكبوت (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) أي ضعفا على ضعف ، لأن الحمل كلما عظم ازدادت الحامل به ضعفا ، وانتصاب وهنا بفعل مضمر تقديره : تهن وهنا (وَفِصالُهُ) أي فطامه ، وأشار بذلك إلى غاية مدة الرضاع (أَنِ اشْكُرْ) تفسير للوصية واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله : وفصاله في عامين ليبين ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها ، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب.

(يا بُنَيَ) الآية : رجع إلى كلام لقمان ، والتقدير : وقال لقمان يا بنيّ (١) (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي وزنها ، والمراد بذلك أن الله يأتي بالقليل والكثير ، من أعمال العباد فعبّر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر (فِي صَخْرَةٍ) قيل : معنى الكلام أن مثقال خردلة من الأعمال أو من الأشياء ولو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة ، فإن الله يأتي بها يوم القيامة ، وكذلك لو كانت في السموات أو في الأرض (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) أمر بالصبر على المصائب عموم ، وقيل : المعنى ما يصيب من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) يحتمل أن يريد مما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب ، أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد ، ولفظ العزم مصدر يراد به المفعول أي : من معزومات الأمور (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) (٢) الصعر في اللغة : الميل أي لا تول الناس خدك وتعرض عنهم تكبرا عليهم (مَرَحاً) ذكر في [الإسراء : ٣٧] (مُخْتالاً) من الخيلاء (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) أي اعتدل فيه ولا تتسرع

__________________

(١). يا بني قرأ حفص بفتح الياء وقرأ نافع وغيره : يا بني بكسر الياء. ومثقال : قرأها نافع بالضم والباقون بالفتح.

(٢). تصعّر قرأها نافع وآخرون : تصاعر.

١٣٨

إسراعا يدل على الطيش والخفة ، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر (نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) الظاهرة : الصحة والمال وغير ذلك ، والباطنة : النعم التي لا يطلع عليها الناس ، ومنها ستر القبيح من الأعمال ، وقيل : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة : نعم العقبى ، واللفظ أعم من ذلك كله.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) نزلت في النضر بن الحارث وأمثاله (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ) يسلم أي يخلص أو يستسلم أو ينقاد ، والوجه هنا عبارة عن القصد (بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) ذكر في البقرة (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) وما بعده ذكر في العنكبوت.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ) الآية إخبار بكثرة كلمات الله ، والمراد اتساع علمه ومعنى الآية : أن شجر الأرض لو كانت أقلاما ، والبحر لو كان مدادا يصب فيه سبعة أبحر صبّا دائما وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله ، لأن الأشجار والبحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية ، فإن قيل : لم لم يقل والبحر مدادا كما قال في الكهف قل لو كان البحر مدادا؟ فالجواب : أنه أغنى عن ذلك قوله : يمدّه لأنه من قولك مدّ الدواة وأمدّها ، فإن قيل لم قال : من شجرة ولم يقل من شجر باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟ فالجواب أنه أراد تفصيل الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة ، فإن قيل : لم قال كلمات الله ولم يقل كلم الله بجمع الكثرة؟ فالجواب أن هذا أبلغ لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنه جمع قلة ، فكيف ينفد الجمع الكثير. وروي أن سبب الآية أن اليهود قالوا : قد أوتينا التوراة وفيها العلم كله فنزلت الآية ؛ لتدل أن ما عندهم قليل من كثير ، والآية على هذا مدنية ، وقيل : إن سببها أن قريشا قالوا إن القرآن سينفد.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) بيان لقدرة الله على بعث الناس وردّ على

١٣٩

من استبعد ذلك (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أي يدخل كلا منهما في الآخر بما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر ، أو بإدخال ظلمة الليل على ضوء النهار وإدخال ضوء النهار على ظلمة الليل (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعني يوم القيامة (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) يحتمل أن تكون الباء سببية ، أو يكون المعنى ذلك بأن الله شاهد هو الحق (بِنِعْمَتِ اللهِ) يحتمل أن يريد بذلك ما تحمله السفن من الطعام والتجارات ، والباء للإلصاق أو للمصاحبة ، أو يريد الريح فتكون الباء سببية (صَبَّارٍ شَكُورٍ) مبالغة في صابر وشاكر (كَالظُّلَلِ) جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق ، شبّه الموج بذلك إذا ارتفع وعظم حتى علا فوق الإنسان (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) المقتصد المتوسط في الأمر ، فيحتمل أن يريد كافرا متوسطا في كفره لم يسرف فيه أو مؤمنا متوسطا في إيمانه ، لأن الإخلاص الذي عليه في البحر كان يزول عنه ، وقيل : معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في البحر (خَتَّارٍ) أي غدّار شديد الغدر ، وذلك أنه جحد نعمة الله غدرا (لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) أي لا يقضي عنه شيئا ، والمعنى : أنه لا ينفعه ولا يدفع عنه مضرة (وَلا مَوْلُودٌ) أي ولد فكما لا يقدر الوالد لولده على شيء ، كذلك لا يقدر الولد لوالده على شيء (الْغَرُورُ) الشيطان وقيل : الأمل والتسويف (عِلْمُ السَّاعَةِ) أي متى تكون ، فإن ذلك مما انفرد الله بعلمه ، ولذلك جاء في الحديث : مفاتح الغيب خمس (١) وتلا هذه الآية (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) يعني من خير أو شر أو مال أو ولد أو غير ذلك.

__________________

(١). أورده المناوي في التيسير ولفظه : مفاتيح الغيب خمس وعزاه للبخاري وأحمد عن عبد الله بن عمر.

١٤٠