التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

(الشِّعْرى) نجم في السماء ، وتسمى كلب الجبار وهما شعريان وهما : الغميصاء والعبور. وخصها بالذكر دون سائر النجوم لأن بعض العرب كان يعبدها (عاداً الْأُولى) وصفها بالأولى لأنها كانت في قديم الزمان ، فهي الأولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة ، وقيل : إنما سميت أولى لأن ثم عادا أخرى متأخرة وهذا لا يصح ، وقرأ نافع عاد لّولى بإدغام تنوين عاد في لام الأولى بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى اللام وضعّف المزني والمبرد هذه القراءة وهمز قالون الأولى دون ورش وقرأ الباقون على الأصل بكسر تنوين عادا وإسكان لام الأولى (وَثَمُودَ فَما أَبْقى) (١) أي ما أبقى منهم أحدا ، وقيل : ما أبقى عليهم (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى) هي مدينة قوم لوط ، ومعنى أهوى طرحها من علو إلى أسفل ، وفي قوله ما غشى تعظيم للأمر.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) هذا مخاطبة للإنسان على الإطلاق معناه : بأي نعم ربك تشك (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يعني القرآن أو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعنى من النذر الأولى من نوعها وصفتها (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) أي قربت القيامة (كاشِفَةٌ) يحتمل لفظه ثلاثة أوجه : أن يكون مصدرا كالعافية ، أي ليس لها كشف وأن يكون بمعنى كاشف والتاء للمبالغة كعلامة ، وأن يكون صفة لمحذوف تقديره : نفس كاشفة أو جماعة كاشفة ويحتمل معناه وجهين : أحدهما أن يكون من الكشف بمعنى : الإزالة أي ليس لها من يزيلها إذا وقعت والآخر أن يكون بمعنى الاطلاع ؛ أي ليس لها من يعلم وقتها إلا الله (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) الإشارة إلى القرآن وتعجبهم منه إنكاره (وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) أي لاعبون لاهون ، وقيل : غافلون مفرطون (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) هذا موضع سجدة عند الشافعي وغيره ، وقد قال ابن مسعود قرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسجد وسجد كل من كان معه.

__________________

(١). وثمود : قرأها عاصم وحمزة بفتحة ، وقرأها الباقون ، وثمودا.

٣٢١

سورة القمر

مكية إلا الآيات ٤ و ٤٥ و ٤٦ فمدنية وآياتها ٥٥ نزلت بعد الطارق

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة القمر) (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) أي قربت القيامة ، ومعنى قربها أنها بقي لها من الزمان [شيء] قليل بالنسبة إلى ما مضى ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : بعثت أنا والساعة كهاتين (١) ، وأشار بالسبابة والوسطى (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) هذا إخبار بما جرى في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أن قريشا سألته آية فأراهم انشقاق القمر. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا (٢) ، وقال ابن مسعود : انشق القمر فرأيته فرقتين فرقة وراء الجبل وأخرى دونه ، وقيل : معنى انشق القمر أنه ينشق يوم القيامة ، وهذا قول باطل تردّه الأحاديث الصحيحة الواردة بانشقاق القمر ، وقد اتفقت الأمة على وقوع ذلك وعلى تفسير الآية بذلك إلا من لا يعتبر قوله (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) هذه الضمائر لقريش والآية المشار إليها انشقاق القمر وعند ذلك قالت قريش : سحر محمد القمر ومعنى مستمر : دائم ـ وقيل : معناه ذاهب يزول عن قريب ـ وقيل : شديد وهو على هذا المعنى من المرة وهي القوة (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) أي كل شيء لا بد له من غاية ، فالحق يحق والباطل يبطل (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) الأنباء هنا ، يراد بها ما ورد في القرآن من القصص والبراهين والمواعظ ، ومزدجر اسم مصدر بمعنى الازدجار أو اسم موضع بمعنى أنه مظنة أن يزدجر به (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) بدل من ما فيه أو خبر ابتداء مضمر (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية لمعنى الاستبعاد والإنكار (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم لعلمك أن الإنذار لا ينفعهم.

__________________

(١). قال العجلوني فيه : رواه الشيخان عن أنس وأحمد عن سهل بن سعد وجابر بن عبد الله.

(٢). رواه أحمد عن ابن مسعود ج أول ص ٤٥٦.

٣٢٢

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (١) العامل في يوم مضمر تقديره : اذكر أو قوله : (يَخْرُجُونَ) بعد ذلك ، وليس العامل فيه تول عنهم لفساد المعنى. فقد تم الكلام في قوله : تول عنهم فيوقف عليه وقيل : المعنى تولّ عنهم أي يوم يدع الداع والأول أظهر وأشهر. والداعي جبريل أو إسرافيل إذ ينفخ في الصور ، والشيء النكر الشديد الفظيع. وأصله من الإنكار. أي : هو منكور لأنه لم ير قط مثله ، والمراد به يوم القيامة (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) كناية عن الذلة وانتصب خشعا على الحال من الضمير في يخرجون (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي من القبور (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) شبّههم بالجراد في خروجهم من الأرض ، فكأنه استدلال على البعث كالاستدلال بخروج النبات. وقيل : إنما شبههم بالجراد في كثرتهم ، وأن بعضهم يموج في بعض (مُهْطِعِينَ) أي مسرعين وقيل : ناظرين إلى الداع (٢) (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) يعني نوحا عليه‌السلام ، ووصفه هنا بالعبودية تشريفا له واختصاصا (وَازْدُجِرَ) أي زجروه بالشتم والتخويف وقالوا له : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) أي قد غلبني الكفار فانتصر لي أو انتصر لنفسك ، (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) عبارة عن كثرة المطر ، فكأنه يخرج من أبواب ، وقيل : فتحت في السماء أبواب يومئذ حقيقة ، والمنهمر الكثير (فَالْتَقَى الْماءُ) ماء السماء وماء الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي قد قضي في الأزل ، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قدر بمقدار معلوم ، وروي في ذلك أنه علا فوق الأرض أربعين ذراعا (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) يعني السفينة والدسر هي المسامير واحدها دسار ، وقيل : هي مقادم السفينة ، وقيل : أضلاعها والأول أشهر (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) عبارة عن حفظ الله ورعيه لها (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي جزاء لنوح : وقيل : جزاء لله تعالى والأول أظهر ، وانتصب جزاء على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه ما تقدم من فتح أبواب السماء وما بعده من الأفعال ؛ أي جعلنا ذلك كله جزاء لنوح ، ويحتمل أن يكون قوله : كفر من الكفر بالدين والتقدير لمن كفر به فحذف الضمير ، أو يكون من الكفر بالنعمة ؛ لأن نوحا عليه‌السلام نعمة من الله كفرها قومه ، فلا يحتاج على هذا إلى الضمير المحذوف.

__________________

(١). قوله : يدع الداع : قرأ قالون عن نافع والبزي وأبو عمرو : يوم يدع الداعي بإثبات الياء وصلا وحذفها الباقون.

(٢). قوله : مهطعين إلى الداع. قرأ أهل الحجاز والبصرة : (مهطعين إلى الداعي) بإثبات الياء وصلا وأثبتها ابن كثير وقفا وحذفها الباقون وصلا ووقفا.

٣٢٣

(وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) الضمير للقصة المذكورة أو الفعلة أو السفينة وروي في هذا المعنى أنها بقيت على الجودي حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) تحضيض على الادّكار فيه ملاطفة جميلة من الله لعباده ، ووزن مدكر مفتعل وأصله مدتكر ثم أبدل من التاء دالا وأدغمت فيها الدال (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (١) توقيف [سؤال] فيه تهديد لقريش والنذر جمع نذير (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي يسرناه للحفظ ، وهذا معلوم بالمشاهدة ، فإنه يحفظه الأطفال الأصاغر وغيرهم حفظا بالغا بخلاف غيره من الكتب ، وقد روي أنه لم يحفظ شيء من كتب الله عن ظهر قلب إلا القرآن. وقيل : معنى الآية سهلناه للفهم والاتعاظ به لما تضمن من البراهين والحكم البليغة ، وإنما كرر هذه الآية البليغة وقوله : فذوقوا عذابي ونذر لينبه السامع عند كل قصة ، فيعتبر بها إذ كل قصة من القصص التي ذكرت عبرة وموعظة ، فختم كل واحدة بما يوقظ السامع من الوعيد في قوله : فكيف كان عذابي ونذر ، ومن الملاطفة في قوله : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر (رِيحاً صَرْصَراً) أي مصوتة فهو من الصرير يعني الصوت وقيل : معناه باردة فهو من الصر (يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) روي أنه كان يوم أربعاء ، حتى رأى بعضهم أن كل يوم أربعاء نحس ورووا : آخر أربعاء من الشهر يوم نحس مستمر (٢) (تَنْزِعُ النَّاسَ) أي تقلعهم من مواضعهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) أعجاز النخل هي : أصولها ، والمنقعر : المنقطع. فشبه الله عادا لما هلكوا بذلك لأنهم طوال عظام الأجساد كالنخل ، وقيل : كانت الريح تقطع رؤوسهم فتبقى أجسادا بلا رؤوس ، فشبههم بأعجاز النخل لأنها دون أغصان : وقيل : كانوا حفروا حفرا يمتنعون بها من الريح. فهلكوا فيها فشبههم بأعجاز النخل إذا كانت في حفرها (أَبَشَراً) هو صالح عليه‌السلام ، وانتصب بفعل مضمر والمعنى أنهم أنكروا أن يتبعوا بشرا وطلبوا أن يكون الرسول من الملائكة ، ثم زادوا أن أنكروا أن يتبعوا واحدا وهم جماعة كثيرون (وَسُعُرٍ) أي عناد ، وقيل : معناه جنون ، وقيل : معناه هم وغم وأصله من السعير بمعنى النار. وكأنه احتراق النفس بالهم.

__________________

(١). قوله تعالى : (وَنُذُرِ) تكررت عدة مرات في هذه السورة وقد قرأها ورش عن نافع بالياء : ونذري وحذفها الباقون.

(٢). هذا الحديث ذكره المناوي في التيسير وعزاه لوكيع بن الجراح في الغرر وابن مردويه وهو ضعيف.

٣٢٤

(أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) أنكروا أن يخصه الله بالنبوة دونهم ، وذلك جهل منهم ، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء (أَشِرٌ) بطر متكبر (وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي لهم يوم وللناقة يوم من غير أن يتعدوا على الناقة ، فالضمير في نبئهم يعود على ثمود. وعلى الناقة تغليبا للعقلاء ، وقيل : إن الضمير لثمود ، والمعنى لا يتعدى بعضهم على بعض (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي مشهود (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) يعني : عاقر الناقة واسمه قدار وهو أحيمر ثمود وأشقاها (فَتَعاطى) أي اجترأ على أمر عظيم ، وهو عقر الناقة وقيل : تعاطى السيف (صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها جبريل صيحة فماتوا منها (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) الهشيم هو ما تكسر وتفتت من الشجر وغيرها ، والمحتظر الذي يعمل الحظيرة وهي حائط من الأغصان أو القصب ونحو ذلك ، أو يكون تحليقا للمواشي أو السكنى فشبه الله ثمود لما هلكوا بما يتفتت من الحظيرة من الأوراق وغيرها ، وقيل : المحتظر المحترق (حاصِباً) ذكر في العنكبوت [٤٠] (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) تشككوا (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) الضيف هنا هم : الملائكة الذين أرسلهم الله إلى لوط ، ليهلكوا قومه. وكان قومه قد ظنوا أنهم من بني آدم ، وأرادوا منهم الفاحشة فطمس الله على أعينهم ، فاستوت مع وجوههم ، وقيل : إن الطمس عبارة عن عدم رؤيتهم لهم ، وأنهم دخلوا منزل لوط فلم يروا فيه أحدا (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) هذا خطاب لقريش على وجه التهديد ، والهمزة للإنكار ومعناه : هل الكفار منكم خير عند الله من الكفار المتقدمين المذكورين ، بحيث أهلكناهم لما كذبوا الرسل وتنجون أنتم وقد كذبتم رسلكم؟ بل الذي أهلكهم يهلككم (أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) معناه أم لكم في كتاب الله براءة من العذاب؟ (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) أي نحن نجتمع وننتصر لأنفسنا بالقتال (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) هذا وعد من الله لرسوله بأنه سيهزم جمع قريش ، وقد ظهر ذلك يوم بدر وفتح مكة (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) المراد بالمجرمين هنا الكفار وضلالهم في الدنيا ، والسعر لهم في الآخرة

٣٢٥

وهو الاحتراق ، وقيل : أراد بالمجرمين القدرية لقوله في الرد عليهم : إنا كل شيء خلقناه بقدر والأول أظهر (يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ) أي يجرون فيها (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) المعنى أن الله خلق كل شيء بقدر ، أي بقضاء معلوم سابق في الأزل ، ويحتمل أن يكون معنى بقدر بمقدار في هيئته وصفته وغير ذلك ، والأول أرجح وفيه حجة لأهل السنة على القدرية. وانتصب كل شيء بفعل مضمر يفسره خلقناه (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) عبارة عن سرعة التكوين ونفوذ أمر الله ، والواحدة يراد بها الكلمة وهي قوله كن (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) يعني أشياعكم من الكفار (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي كل ما فعلوه مكتوب في صحائف الأعمال (مُسْتَطَرٌ) أي مكتوب وهو من السطر. تقول سطرت واستطرت بمعنى واحد ، والمراد الصغير والكبير من أعمالهم وقيل : جميع الأشياء (وَنَهَرٍ) يعني أنهار الماء والخمر واللبن والعسل واكتفى باسم الجنس (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) أي في مكان مرضي.

٣٢٦

سورة الرحمن

مدنية وآياتها ٧٨ نزلت بعد الرعد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سورة الرحمن عزوجل) (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) هذا تعديد نعمة على من علمه الله القرآن ، وقيل : معنى علّم القرآن جعله علامة وآية لسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والأول أظهر وارتفع الرحمن بالابتداء ، والأفعال التي بعده أخبار متوالية ، ويدل على ذلك مجيئها بدون حرف عطف (خَلَقَ الْإِنْسانَ) قيل : جنس الناس وقيل : يعني آدم وقيل : يعني سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا دليل على التخصيص. والأول أرجح (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) يعني النطق والكلام (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) أي يجريان في الفلك بحسبان معلوم وترتيب مقدر ، وفي ذلك دليل على الصانع الحكيم المريد القدير (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) النجم عند ابن عباس النبات الذي لا ساق له كالبقول ، والشجر النبات الذي له ساق ، وقيل : النجم جنس نجوم السماء. والسجود عبارة عن التذلل والانقياد لله تعالى : وقيل : سجود الشمس : غروبها وسجود الشجر ظله (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) يعني الميزان المعروف الذي يوزن به الطعام وغيره ، وكرر ذكره اهتماما به وقيل : أراد العدل (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تنقصوا إذا وزنتم (لِلْأَنامِ) أي للناس وقيل : الإنس والجن وقيل : الحيوان كله. الأكمام : يحتمل أن يكون جمع كم بالضم ، وهو ما يغطي ويلف النخل من الليف ، وبه شبّه كم القميص ، أو يكون جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة (الْعَصْفِ) (١) ورق الزرع وقيل : التبن (وَالرَّيْحانُ) قيل : هو الريحان المعروف ، وقيل : كل مشموم طيب الريح من النبات ، وقيل : هو الرزق.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الآلاء هي : النعم. واحدها إلى على وزن معي. وقيل :

__________________

(١). قوله : والحبّ ذو العصف. قرأها ابن عامر : والحبّ ذا العصف بالنصب والباقون بالرفع.

٣٢٧

ألى على وزن قضى وقيل : ألي على وزن أمد أو على وزن حصر ، والخطاب للثقلين الإنس والجن بدليل قوله : سنفرغ لكم أيها الثقلان. روي أن هذه الآية لما قرأها رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكت أصحابه فقال : جواب الجن خير من سكوتكم. إني لما قرأتها على الجن قالوا : لا نكذب بشيء من آلاء ربنا (١) وكرر هذه الآية تأكيدا ومبالغة وقيل : إن كل موضع منها يرجع إلى معنى الآية التي قبله فليس بتأكيد ، لأن التأكيد لا يزيد على ثلاث مرات (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) الإنسان هو آدم ، والصلصال الطين اليابس ، فإذا طبخ فهو فخار (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) الجان الجن يعني إبليس والد الجن ، والمارج اللهيب المضطرب من النار (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) يريد مشرق الشمس والقمر ومغرب الشمس والقمر. وقيل : مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) ذكر في الفرقان ، أي يلتقى ماء هذا وماء هذا ، وذلك إذ نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر ، وأما على القول بأن البحر العذب هو الأنهار والعيون ، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر ، وأما على قول من قال إن البحرين بحر فارس وبحر الروم ، أو بحر القلزم الأحمر واليمن فضعيف لقوله في الفرقان [٥٣] (هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وكل واحد من هذه أجاج ، والمراد بالبحرين في هذه السورة ما أراد في الفرقان (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي حاجز يعني جرم الأرض ، أو حاجز من قدرة الله (لا يَبْغِيانِ) أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالاختلاط ، وقيل : لا يبغيان على الناس بالفيض.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (٢) اللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان صغاره ، وقيل : بالعكس وقيل : إن المرجان أحجار حمر ، قال ابن عطية : وهذا هو الصواب (٣) وأما قوله منهما ولا يخرج إلا من أحدهما ، فقد تكلمنا عليه في فاطر.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) يعني السفن وسماها منشآت لأن الناس ينشئونها ، وقرأ حمزة وأبو بكر المنشئات بكسر الشين بمعنى أنها تنشئ السير أو تنشئ

__________________

(١). روى الطبري هذا الحديث بسنده إلى عبد الله بن عمر.

(٢). قوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. قرأ نافع وأبو عمر : يخرج بضم الياء.

(٣). اللؤلؤ هي حبوب تستخرج من أصداف بحرية مخصوصة تسمى واحدتها المحارة وهي ذات ألوان فمنها الأبيض والأسود والزهري ، وأما المرجان فهو عروق تنمو على بعض الصخور في البحر كعروق النبات ثم تقطع وتصير صلبة حمراء.

٣٢٨

الموج ، والأعلام الجبال شبه السفن بها (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) الضمير في عليها للأرض يدل على ذلك سياق الكلام وإن لم يتقدم لها ذكر ، ويعني بمن عليها بني آدم وغيرهم من الحيوان ، ولكنه غلّب العقلاء (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) الوجه هنا عبارة عن الذات ، وذو الجلال صفة للذات لأن من أسمائه تعالى الجليل ، ومعناه يقرب من معنى العظيم ، وأما وصفه بالإكرام فيحتمل أن يكون بمعنى أنه يكرم عباده كما قال في الإسراء [٧] : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) أو بمعنى أن عباده يكرمونه بتوحيده وتسبيحه وعبادته (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) المعنى أن كل من في السموات والأرض يسأل حاجته من الله ، فمنهم من يسأله بلسان المقال ، وهم المؤمنون ، ومنهم من يسأله بلسان الحال لافتقار الجميع إليه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) المعنى أنه تعالى يتصرف في ملكوته تصرفا يظهر في كل يوم من العطاء والمنع ، والإماتة والإحياء وغير ذلك ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأها فقيل له وما ذلك الشأن ، قال من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين (١) وسئل بعضهم. كيف قال : كل يوم هو في شأن والقلم قد جف بما هو كائن إلى يوم القيامة؟ فقال : هو في شأن يبديه لا في شأن يبتديه.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (٢) معناه الوعيد كقولك لمن تهدده : سأفرغ لعقوبتك ، وليس المراد التفرغ من شغل ، ويحتمل أن يريد انتهاء مدة الدنيا ، وإنه حينئذ ينقضي شأنها ، فلا يبقى إلا شأن الآخرة فعبّر عن ذلك بالتفرغ. قال الإمام جعفر بن محمد : سمى الإنس والجن ثقلين ، كأنهما ثقلا بالذنوب (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) هذا كلام يقال للجن والإنس يوم القيامة أي : إن قدرتم على الهروب والخروج من أقطار السموات والأرض فافعلوا ، وروي أنهم يفرون يومئذ لما يرون من أهوال القيامة فيجدون سبعة صفوف من الملائكة ، قد أحاطت بالأرض فيرجعون ، وقيل : بل خوطبوا بذلك في الدنيا ؛ والمعنى : إن استطعتم الخروج عن قهر الله وقضائه عليكم فافعلوا ، وقوله : فانفذوا أمر يراد به التعجيز (لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة ، وليس لكم قوة (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ) الشواظ لهيب النار ، والنحاس الدخان وقيل : هو الصفر يذاب ويصب على رؤوسهم وقرئ شواظ بضم الشين

__________________

(١). رواه الطبري بسنده إلى عبد الله الأزدي.

(٢). قوله : سنفرغ : قرأها حمزة والكسائي : سيفرغ. والباقون بالنون : سنفرغ.

٣٢٩

وابن كثير بكسرها وهما لغتان وقرئ (١) نحاس بالرفع على شواظ وبالخفض عطف على نار (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) جواب إذا قوله : فيومئذ وقال ابن عطية : جوابها محذوف (فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) معنى وردة حمراء كالوردة ، وقيل : هو من الفرس الورد ، قال قتادة السماء اليوم خضراء ويوم القيامة حمراء ، والدهان جمع دهن كالزيت وشبهه شبه السماء يوم القيامة به لأنها تذاب من شدّة الهول ، وقيل : يشبه لمعانها بلمعان الدهن ، وقيل : إن الدهان هو الجلد الأحمر (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) السؤال المنفي هنا هو على وجه الاستخبار وطلب المغفرة إذ لا يحتاج إلى ذلك ، لأن المجرمين يعرفون بسيماهم ، ولأن أعمالهم معلومة عند الله مكتوبة في صحائفهم ، وأما السؤال الثابت في قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [الحجر : ٩٢] وغيره ، فهو سؤال على وجه الحساب والتوبيخ ، فلا تعارض بين المنفي والمثبت وقيل : إن ذلك باختلاف المواطن والأول أحسن.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) يعني بعلامتهم وهي سواد الوجوه وغير ذلك ، والمجرمون هنا الكفار بدليل قوله : هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) قيل معناه : يؤخذ بعض الكفار بناصيته وبعضهم بقدميه ، وقيل : بل يؤخذ كل واحد بناصيته وقدميه فيطوى ويطرح في النار (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) الحميم الماء السخن ، والآن الشديد الحرارة ، وقيل : الحاضر من قولك آن الشيء إذا حضر ، والأول أظهر (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) مقام ربه القيام بين يديه للحساب ، ومنه : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ، وقيل : قيام الله بأعماله ، ومنه : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣] ، وقيل : معناه لمن خاف ربه وأقحم المقام ، كقولك : خفت جانب فلان. واختلف هل الجنتان لكل خائف على انفراده؟ أو للصنف الخائف وذلك مبنى على قوله : لمن خاف مقام ربه هل يراد به واحد أو جماعة؟ وقال الزمخشري : إنما قال جنتان ، لأنه خاطب الثقلين فكأنه قال جنة للإنس وجنة للجن ، (ذَواتا أَفْنانٍ) ثنى ذات هنا على الأصل لأن أصله ذوات ، قاله ابن عطية ، والأفنان جمع فنن وهو الغصن ، أو جمع فن

__________________

(١). قوله : من نار ونحاس فلا تنتصران. قرأها كل من ابن كثير وأبو عمرو : ونحاس وقرأ الباقون : ونحاس.

٣٣٠

وهو الصنف من الفواكه وغيرها (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي نوعان (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الجنا هو ما يجتنى من الثمار ، ودان قريب ، وروي أن الإنسان يجتنى الفاكهة في الجنة على أي حال كان ؛ من قيام أو قعود أو اضطجاع ؛ لأنها تتدلى له إذا أرادها وفي قوله جنا الجنتين ضرب من ضروب التجنيس (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ذكر في الصافات [٤٨] (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) المعنى أنهن أبكار ، ولم يطمثهن معناه لم يفتضهن ، وقيل : الطمث الجماع سواء كان لبكر أو غيرها ، ونفي أن يطمثهن إنس أو جان ، مبالغة وقصدا للعموم ، فكأنه قال لم يطمثهن شيء ، وقيل : أراد لم يطمث نساء الإنس إنس ولم يطمث نساء الجن جن ، وهذا القول يفيد بأن الجن يدخلون الجنة ويتلذذون فيها بما يتلذذ البشر (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) شبه النساء بالياقوت والمرجان في الحمرة والجمال ، وقد ذكرنا المرجان في أول السورة.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) المعنى أن جزاء من أحسن بطاعة الله أن يحسن الله إليه بالجنة ، ويحتمل أن يكون الإحسان هنا هو الذي سأل عنه جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (١) ، وذلك هو مقام المراقبة والمشاهدة ، فجعل جزاء ذلك الإحسان بهاتين الجنتين ، ويقوي هذا أنه جعل هاتين الجنتين الموصوفتين هنا لأهل المقام العلي ، وجعل جنتين دونها لمن كان دون ذلك ، فالجنتان المذكورتان أولا للسابقين ، والجنتان المذكورتين ثانيا بعد ذلك لأصحاب اليمين حسبما ورد في الواقعة ، وانظر كيف جعل أوصاف هاتين الجنتين ، أعلى من أوصاف الجنتين اللتين بعدهما فقال هنا : عينان تجريان وقال في الآخرتين : عينان نضّاختان ، والجري أشد من النضخ وقال هنالك : من كل فاكهة زوجان ، وقال هنا فاكهة ونخل ورمان ، وكذلك صفة الحور هنا أبلغ من صفتها هنالك ، وكذلك صفة البسط ويفسر ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : جنتان من ذهب آنيتهما وكل ما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وكل ما فيهما (٢) (مُدْهامَّتانِ) أي تضربان إلى السواد من شدة الخضرة (عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي تفوران بالماء والنضخ بالخاء المعجمة أشد من النضح بالحاء المهملة (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) خص النخل

__________________

(١). هذا جزء من حديث صحيح رواه مسلم عن عمر بن الخطاب ، انظر الأربعين النووية الحديث الثاني.

(٢). الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن قيس (أبو موسى الأشعري) كتاب الإيمان ١٦٣ / ١.

٣٣١

والرمان بالذكر بعد دخولهما في الفاكهة تشريفا لهما ، وبيانا لفضلهما على سائر الفواكه. وهذا هو التجريد (خَيْراتٌ حِسانٌ) خيرات جمع خيرة وقال الزمخشري وغيره : أصله خيرات بالتشديد ثم خفف كميت وقرئ بالتشديد ، قالت أم سلمة يا رسول الله أخبرني عن قوله تعالى : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : خيرات الأخلاق حسان الوجوه (١) (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) الحور جمع حوراء والمقصورات المحجوبات ، لأن النساء يمدحن بملازمة البيوت ويذممن بكثرة الخروج ، والخيام هي البيوت التي من الخشب والحشيش ونحو ذلك ، وخيام الجنة من اللؤلؤ (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) الرفرف البسط ، وقيل الوسائد وقيل رياض الجنة (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) العبقري الطنافس ، وقيل الزرابي [أي السجاد بلغة اليوم] ، وقيل الديباج الغليظ ، وهو منسوب إلى عبقري وتزعم العرب أنه بلد الجن فإذا أعجبتها شيء نسبته إليه (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) ذكر تبارك في الفرقان وغيرها ، والاسم هنا يراد به المسمى على الأظهر. وقرأ الجمهور ذي الجلال بالياء صفة لربك ، وقرأ ابن عامر بالواو صفة للاسم ، وقد ذكر معنى ذي الجلال والإكرام.

__________________

(١). رواه الطبري بسنده إلى أم سلمة رضي الله عنها.

٣٣٢

سورة الواقعة

مكية إلا آيتي ٨١ و ٨٢ فمدنيتان وآياتها ٩٦ نزلت بعد طه

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

روى ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من قرأ سورة الواقعة لم تصبه فاقة أبدا (١) ولما حضرت ابن مسعود الوفاة قيل له ما تركت لبناتك ، قال : تركت لهن سورة الواقعة (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) يعني إذا قامت القيامة فالواقعة اسم من أسماء القيامة ، تدل على هولها كالطامة والصاخة وقيل : الواقعة الصيحة وهي النفخة في الصور (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) يحتمل ثلاثة أوجه : الأول أن تكون الكاذبة مصدر كالعافية والمعنى ليس لها كذب ولا رد.

الثاني أن تكون كاذبة صفة محذوف كأنه قال : ليس لها حالة كاذبة أي هي صادقة الوقوع ولا بدّ ، وهذا المعنى قريب من الأول. الثالث أن يكون التقدير : ليس لها نفس كاذبة أي تكذيب في إنكار البعث ، لأن كل نفس تؤمن حينئذ (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) تقديره : هي خافضة رافعة ، فينبغي أن يوقف على ما قبله لبيان المعنى ، والمراد بالخفض والرفع أنها تخفض أقواما إلى النار وترفع أقواما إلى الجنة ، وقيل : ذلك عبارة عن هولها ، لأن السماء تنشق والأرض تتزلزل وتمر ، والجبال تنسف فكأنها تخفض بعض هذه الأجرام وترفع بعضها (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا وإذا هنا بدل من إذا وقعت ويحتمل أن يكون العامل فيه خافضة رافعة (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) أي فتت وقيل : سيرت (هَباءً مُنْبَثًّا) الهباء ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ، ولا تكاد ترى إلا في الشمس إذا دخلت على كوّة قاله ابن عباس. وقال عليّ بن أبي طالب : هو ما يتطاير من حوافر الدواب من التراب ، وقيل : ما تطاير من شرر النار ، فإذا طفى لم يوجد شيئا والمنبث المتفرق.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) هذا خطاب لجميع الناس لأنهم ينقسمون يوم القيامة إلى هذه الأصناف الثلاثة : وهم السابقون ، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، فأما السابقون فهم : أهل الدرجات العلى في الجنة ، وأما أصحاب اليمين فهم سائر أهل الجنة ، وأما أصحاب الشمال

__________________

(١). قال في تخريج أحاديث الإحياء ج ٣٤٢ أول إن الحديث ضعيف.

٣٣٣

فهم أهل النار (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هذا ابتداء خبر فيه معنى التعظيم ، كقولك : زيد ما زيد ، والميمنة يحتمل أن تكون مشتقة من اليمن وهو ضد الشؤم ، وتكون المشأمة به مشتقة من الشؤم أو تكون الميمنة من ناحية اليمين والمشأمة من ناحية الشمال ، واليد الشؤمى هي الشمال ، وذلك لأن العرب تجعل الخير من اليمين ، والشر من الشمال ، أو لأن أهل الجنة يحملون إلى جهة اليمين ، وأهل النار يحملون إلى جهة الشمال ، أو يكون من أخذ الكتاب باليمين أو الشمال (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الأول مبتدأ والثاني خبره على وجه التعظيم كقولك : أنت أنت أو على معنى أن السابقين إلى طاعة الله هم السابقون إلى الجنة ، وقيل : إن السابقون الثاني صفة للأول أو تأكيد ، والخبر أولئك المقربون ، والأرجح أن يكون الثاني خبر الأول لأنه في مقابلة قوله : أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة ، وعلى هذا يوقف على السابقون الثاني ويبتدئ بما بعده.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) الثلة الجماعة من الناس ، فالمعنى أن السابقين من الأولين أكثر من السابقين من الآخرين ، والأولون هم أول هذه الأمة والآخرون المتأخرون من هذه الأمة ، والدليل على ذلك ما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الفرقتان في أمتي ، وذلك لأن صدر هذه الأمة خير ممن بعدهم فكثر السابقون من السلف الصالح ، وقلوا بعد ذلك ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم (١) وقيل إن الفرقتين في أمة كل نبيّ ، فالسابقون في كل أمة يكثرون في أولها ويقلون في آخرها ، وقيل : إن الأولين هم من كان قبل هذه الأمة ، والآخرين هم هذه الأمة ، فيقتضي هذا أن السابقين من الأمم المتقدمة أكثر من السابقين من هذه الأمة وهذا بعيد ، وقيل إن السابقين يراد بهم الأنبياء ، لأنهم كانوا في أول الزمان أكثر مما كانوا في آخره (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) السرر جمع سرير والموضونة المنسوجة وقيل المشبكة بالدر والياقوت ، وقيل معناه متواصلة قد أدنى بعضها من بعض (مُتَقابِلِينَ) أي وجوه بعضهم إلى بعض (وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) الولدان صغار الخدم ، والمخلدون الذين لا يموتون ، وقيل المقرطون بالخلدات وهي ضرب من الاقراط ، والأول أظهر (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) الأكواب جمع كوب ، وهو الإناء وهو الذي لا أذن له ولا خرطوم يمسك به ، والأباريق جمع إبريق وهو الإناء الذي له خرطوم أو أذن يمسك (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) ذكر في الصافات [٤٥] (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) أي

__________________

(١). أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي الناس خير قال : «قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم» ج ٢ ص ١٨٦٣ ، وثمة روايات بألفاظ متقاربة.

٣٣٤

لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يصيب من خمر الدنيا ، وقيل لا يفرقون عنها فهو من الصدع وهو الفرقة ، ومعنى لا ينزفون (١) لا يسكرون (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) قيل : يتخيرون ما شاؤوا لكثرتها ، وقيل : مخيرة مرضية (وَحُورٌ عِينٌ) قدمنا معناه ، والقراءة بالرفع على تقدير فيها حور ، أو عطف على الضمير في متكئين ، أو على ولدان وقرأ حمزة والكسائي حور بالخفض عطف على المعنى كأنه قال : ينعمون بهذا كله وبحور عين ، وقيل : خفض على الجوار (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) شبههن باللؤلؤ في البياض ووصفه بالمكنون ؛ لأنه أبعد عن تغيير حسنه ، وسألت أم سلمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذا التشبيه فقال : صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) اللغو الكلام الساقط كالفحش وغيره ، والتأثيم مصدر بمعنى لا يؤثم أحد هناك نفسه ولا غيره (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) انتصب سلاما على أنه بدل من قيلا أو صفة له أو مفعول به لقيلا ، لأن معناه قولا ، ومعنى السلام على هذا التحية ، والمعنى أنهم يفشون السلام فيسلمون سلاما بعد سلام ، ويحتمل أن يكون معناه السلامة ، فينتصب بفعل مضمر تقديره اسلموا سلاما.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) هذا مبتدأ وخبره قصد به التعظيم فيوقف عليه ، ويبتدأ بما بعده ويحتمل أن يكون الخبر في سدر ، ويكون ما أصحاب اليمين اعتراضا ، والأول أحسن ، وكذلك إعراب أصحاب الشمال (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) السدر شجر معروف ، قال ابن عطية هو الذي يقال له شجر أم غيلان النبق وهو كثير في بلاد المشرق وهي في بعض بلاد الأندلس دون بعض ، والمخضود الذي لا شوك له كأنه خضد شوكه ، وذلك أن سدر الدنيا له شوك ، فوصف سدر الجنة بضد ذلك وقيل : المخضود هو الموقر الذي انثنت أغصانه من كثرة حمله ، فهو على هذا من خضد الغصن إذا ثناه (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الطلح شجر عظيم كثير الشوك ، قاله ابن عطية وقال الزمخشري هو شجر الموز ، وحكي ابن عطية هذا عن علي بن أبي طالب وابن عباس وقرأ علي بن أبي طالب : وطلع منضود بالعين فقيل له إنما هو ، وطلح بالحاء فقال : ما للطلح والجنة فقيل له أنصلحها في المصحف فقال : المصحف اليوم لا يغيّر ، والمنضود الذي تنضد بالثمر من أعلاه إلى أسفله ، حتى لا يظهر له ساق (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) أي منبسط لا يزول لأنه لا تنسخه الشمس ، وقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. اقرءوا إن شئتم وظل ممدود (٢). (وَماءٍ مَسْكُوبٍ) : أي مصبوب ، وذلك عبارة عن كثرته وقيل : المعنى

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : ينزفون بكسر الفاء وقرأ الباقون ينزفون بالفتح.

(٢). أخرجه البخاري في عدة كتب منها التفسير والرقاق وبدء الخلق عن سهل بن سعد ج ٧ / ٢٠١.

٣٣٥

أنه جار في غير أخاديد وقيل : المعنى أنه يجري من غير ساقية ولا دلو ولا تعب (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) أي لا ينقطع إبّانها كفاكهة الدنيا ، فإن شجر الجنة يثمر في كل وقت ، ولا تمتنع ببعد تناولها ولا بغير ذلك من وجوه المنع (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) هي الأسرة ، وقد روي ارتفاع السرير منها مسيرة خمسمائة عام وقيل : هي النساء وهذا بعيد (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) الضمير لنساء الجنة ، فإن سياق الكلام يقتضي ذلك ، وإن لم يتقدم ذكرهن ، ولكن تقدّم ذكر الفرش وهي تدل على النساء وأما من قال : إن الفرش هي النساء فالضمير عائد عليها وقيل : يعود على الحور العين المذكورة قبل هذا وذلك بعيد ، فإن ذلك في وصف جنات السابقين ، وهذا في وصف جنات أصحاب اليمين ، ومعنى إنشاء النساء أن الله تعالى يخلقهن في الجنة خلقا آخر في غاية الحسن ، بخلاف الدنيا فالعجوز ترجع شابة والقبيحة ترجع حسنة (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً) جمع عروب وهي المتوددة إلى زوجها بإظهار محبته ، وعبّر عنهن ابن عباس بأنهن العواشق لأزواجهن ، وقيل : هي الحسنة الكلام (أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي مستويات في السن مع أزواجهن ، وروي أنهن يكونون في سن أبناء ثلاث وثلاثين عاما ولأصحاب اليمين يتعلق بقوله أنشأناهن على ما قاله الزمخشري. ويحتمل أن يتعلق بأترابا ، وهذا هو الذي يقتضيه المعنى أي أترابا لأزواجهن (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي جماعة من أول هذه الأمة وجماعة من آخرها ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفرقتان من أمتي ، وفي ذلك رد على من قال إنهما من غير هذه الأمة. وتأمل كيف جعل أصحاب اليمين ثلة من الأولين وثلة من الآخرين ، بخلاف السابقين فإنهم قليل في الآخرين وذلك لأن السابقين في أول هذه الأمة أكثر منهم في آخرها لفضيلة السلف الصالح ، وأما أصحاب اليمين فكثير في أولها وآخرها.

(فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) السموم الحر الشديد والحميم الماء الحار جدّا واليحموم هو الأسود وظل من يحموم هو الدخان في قول الجمهور ، وقيل : سرادق النار المحيط بأهلها فإنه يرتفع من كل جهة حتى يظلهم وقيل : هو جبل في جهنم (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) معنى يصرون يدومون من غير إقلاع والحنث هو الإثم ، وقيل : هو الشرك ، وقيل : هو الحنث في اليمين أو اليمين الغموس (أَإِذا مِتْنا) الآية معناها أنهم أنكروا البعث بعد الموت ، وقد ذكرنا قراءة الاستفهامين في الرعد ، وآباؤنا في

٣٣٦

الصافات (١) (أَيُّهَا الضَّالُّونَ) خطاب لكفار قريش وسائر الكفار (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ) الضمير للمأكول (فَشارِبُونَ شُرْبَ) (١) (الْهِيمِ) وزن الهيم فعل بضم الفاء ، وكسرت الهاء لأجل الياء وهو جمع أهيم ، وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء. وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقم ، والأنثى هيماء ، وقيل : جمع هائم وهائمة ، وقيل : الهيم الرمال التي لا تروى من الماء ، وهو على هذا جمع هيام بفتح الهاء. وقرئ شرب بضم الشين (٢) واختلف هل هو مصدر أو اسم المشروب وقرئ بالفتح وهو مصدر فإن قيل : كيف عطف قوله : فشاربون على شاربون ومعناهما واحد ، فالجواب أن المعنى مختلف لأن الأول يقتضى الشرب مطلقا ، والآخر يقتضي الشرب الكثير المشبه لشرب الهيم (هذا نُزُلُهُمْ) النزل أول ما يأكله الضيف فكأنه يقول : هذا أول عذابهم فما ظنك بسائره (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) تحضيض على التصديق إما بالخالق تعالى ، وإما بالبعث لأن الخلقة الأولى دليل عليه.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) هذه الآية وما بعدها تتضمن إقامة براهين على الوحدانية ، وعلى البعث وتتضمن أيضا وعيدا وتعديد نعم. ومعنى تمنون : تقذفون المني (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) هذا توقيف [سؤال] يقتضي أن يجيبوا عليه بأن الله هو الخالق لا إله إلا هو (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) (٣) أي جعلناه مقدرا بآجال معلومة وأعمار منها طويل وقصير ومتوسط (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) المسبوق على الشيء هو المغلوب عليه ؛ بحيث لا يقدر عليه ونبدل أمثالكم : معناه نهلككم ونستبدل قوما غيركم ، وقيل : نمسخكم قردة وخنازير وننشئكم معناه نبعثكم بعد هلاككم وفيما لا تعلمون معناه ننشئكم في خلقة لا تعلمونها على وجه لا تصل عقولكم إلى فهمه. فمعنى الآية أن الله قادر على أن يهلكهم وعلى أن يبعثهم ففيها تهديد واحتجاج [إقامة الحجة] على البعث (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) تحضيض على التذكير والاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الآخرة ، وفي هذا دليل على صحة القياس (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) المراد بالزراعة هنا إنبات ما يزرع وتمام خلقته ، لأن ذلك مما انفرد الله به ولا يدعيه غيره ، قال

__________________

(١). قوله ؛ أو آباؤنا قرأ نافع وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو في أو وقرأ الباقون بالفتح.

(٢). قرأ عاصم ونافع وحمزة : شرب بضم الشين وقرأ الباقون بالفتح : شرب.

(٣). قرأ ابن كثير : قدرنا بدون تشديد والباقون : قدّرنا. وهما لغتان بمعنى واحد.

٣٣٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يقولنّ أحدكم زرعت ولكن يقول حرثت (١) والمراد بالحرث قلب الأرض وإلقاء الزريعة فيها وقد يقال لهذا زرع ومنه قوله (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) [الفتح : ٢٩] (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) الحطام اليابس المفتت وقيل : معناه تبن بلا قمح فظلتم تفكهون أي : تطرحون الفاكهة وهي المسرة ، يقال : رجل فكه إذا كان مسرورا منبسط النفس ويقال : تفكه إذا زالت عنه الفكاهة فصار حزينا ، لأن صيغة تفاعل تأتي لزوال الشيء كقولهم : تحرج وتأثم إذا زال عنه الحرج والإثم. فالمعنى : صرتم تحزنون على الزرع لو جعله الله حطاما. وقد عبر بعضهم عن تفكهون بأن معناه : تتفجعون وقيل : تندمون وقيل : تعجبون وهذه معان متقاربة والأصل ما ذكرنا (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) تقديره : تقولون ذلك لو جعل الله زرعكم حطاما والمغرم المعذب. لأن الغرام هو أشد العذاب ، ويحتمل أن يكون من الغرم أي مثقلون بما غرمنا من النفقة على الزرع ، والمحروم الذي حرمه الله الخير.

(مِنَ الْمُزْنِ) هي السحاب ، والأجاج الشديد الملوحة ، فإن قيل : لم ثبتت اللام في قوله لو نشاء لجعلناه حطاما وسقطت في قوله : لو نشاء جعلناه أجاجا؟ فالجواب من وجهين أحدهما أنه أغنى إثباتها أولا عن إثباتها ثانيا مع قرب الموضعين. والآخر أن هذه اللام تدخل للتأكيد ، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب للدلالة على أن الطعام أوكد من الشراب ، لأن الإنسان لا يشرب إلا بعد أن يأكل (النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تقدحونها من الزناد ، والزناد قد يكون من حجرين ومن حجر وحديدة ، ومن شجر وهو المرخ والعفار ولما كانت عادة العرب في زنادهم من شجر ، قال الله تعالى (أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) أي الشجرة التي توقد النار منها. وقيل : أراد بالشجرة نفس النار كأنه يقول : نوعها أو جنسها فاستعار الشجرة لذلك وهذا بعيد (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) أي تذكر بنار جهنم (وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) المتاع ما يتمتع به ، ويحتمل المقوين أن يكون من الأرض القواء وهي الفيافي ، ومعنى المقوين الذين دخلوا في القواء ، ولذلك عبر ابن عباس عنه بالمسافرين ، ويحتمل أن يكون من قولهم : أقوى المنزل إذا خلا فمعناه الذين خلت بطونهم أو موائدهم من الطعام ، ولذلك عبّر بعضهم عنه بالجائعين.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) لا في هذا الموضع وأمثاله زائدة ، وكأنها زيدت لتأكيد القسم ، أو لاستفتاح الكلام نحو ألا. وقيل : هي نافية لكلام الكفار كأنه يقول : لا صحة

__________________

(١). الحديث المذكور رواه الإمام الطبري في تفسيره بسنده إلى أبي هريرة.

٣٣٨

لما يقول الكفار وهذا ضعيف والأول حسن ، لأن زيادة لا كثيرة معروفة في كلام العرب ، ومواقع النجوم فيه قولان : أحدهما قال ابن عباس : إنها نجوم القرآن إذ نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقطعا بطول عشرين سنة فكل قطعة منه نجم والآخر قول كثير من المفسرين : أن النجوم الكواكب ومواقعها مغاربها ومساقطها ، وقيل : مواضعها من السماء وقيل : انكدارها يوم القيامة. (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) هذه جملة اعتراض بين القسم وجوابه ، وقوله : لو تعلمون اعتراض بين الموصوف وصفته فهو اعتراض في اعتراض ، والمقصود بذلك تعظيم المقسم به وهو مواقع النجوم وجواب القسم : إنه لقرآن كريم وأعاد الضمير على القرآن لأن المعنى يقتضيه ، أو لأنه مذكور على قول من قال إن مواقع النجوم نزول القرآن (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مصون ، والمراد بهذا الكتاب المكنون المصاحف التي كتب فيها القرآن ، أو صحف القرآن التي بأيدي الملائكة عليهم‌السلام.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الضمير يعود على الكتاب المكنون ، ويحتمل أن يعود على القرآن المذكور قبله إلا أن هذا ضعيف لوجهين أحدهما : أن مسّ الكتاب حقيقة ومس القرآن مجاز ، والحقيقة أولى من المجاز والآخر أن الكتاب أقرب والضمير يعود على أقرب مذكور فإذا قلنا : إنه يعود على الكتاب المكنون فإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الملائكة ، فالمطهرون يراد بهم الملائكة ، لأنهم مطهرون من الذنوب والعيوب والآية إخبار بأنه لا يمسه إلا هم دون غيرهم ، وإن قلنا إن الكتاب المكنون هو الصحف التي بأيدي الناس ، فيحتمل أن يريد بالمطهرين المسلمين ، لأنهم مطهرون من الكفر أو يريد المطهرين من الحدث الأكبر ، وهي الجنابة أو الحيض ، فالطهارة على هذا الاغتسال أو المطهرين من الحدث الأصغر ، فالطهارة على هذا الوضوء ويحتمل أن يكون قوله : لا يمسه خبرا أو نهيا. على أنه قد أنكر بعض الناس أن يكون نهيا وقال لو كان نهيا لكان بفتح السين. وقال المحققون : إن النهي يصح مع ضم السين لأن الفعل المضاعف إذا كان مجزوما أو اتصل به ضمير المفرد المذكر ضمّ عند التقاء الساكنين اتباعا لحركة الضمير ، وإذا جعلناه خبرا فيحتمل أن يقصد به مجرد الإخبار ، أو يكون خبرا بمعنى النهي. وإذا كان لمجرّد الإخبار فالمعنى أنه : لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون. أي هذا حقه وإن وقع خلاف ذلك واختلف الفقهاء فيمن يجوز له مس المصحف على حسب الاحتمالات في الآية ، فأجمعوا على أنه لا يجوز أن يمسه كافر ؛ لأنه إن أراد بالمطهرين المسلمين ، فذلك طاهر ؛ وإن أراد الطهارة من الحدث فالإسلام حاصل مع ذلك. وأما الحدث ففيه ثلاثة أقوال : الأول أنه لا يجوز أن يمسه الجنب ولا الحائض ولا المحدث حدثا أصغر وهو قول مالك وأصحابه ، ومنعوا أيضا أن يحمله بعلاقة أو وسادة. وحجتهم الآية على أن يراد بالمطهرين الطهارة من الحدث الأكبر والأصغر. وقد احتج مالك في الموطأ بالآية على المسألة. ومن

٣٣٩

حجتهم أيضا كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمرو بن حزم «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» (١) ، الثاني أنه يجوز مسه للجنب والحائض والمحدث حدثا أصغر وهو مذهب أحمد بن حنبل والظاهرية وحملوا المطهرون على أنهم المسلمون والملائكة أو جعلوا لا يمسه لمجرد الإخبار ، والقول الثالث أنه يجوز مسه بالحدث الأصغر دون الأكبر ، ورخص مالك في مسه على غير وضوء للمعلم والصبيان ، لأجل المشقة. واختلفوا في قراءة الجنب للقرآن فمنعه الشافعي وأبو حنيفة مطلقا ، وأجازه الظاهرية مطلقا ، وأجاز مالك قراءة الآية اليسيرة. واختلف في قراءة الحائض والنفساء للقرآن عن ظهر قلب فعن مالك في ذلك روايتان ، وفرق بعضهم بين اليسير والكثير.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) هذا خطاب للكفار ، والحديث المشار إليه هو القرآن ، ومدهنون معناه متهاونون ، وأصله من المداهنة وهي لين الجانب والموافقة بالظاهر لا بالباطن قال ابن عباس معناه مكذبون (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) قال ابن عطية :

أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر إنه نزل بنوء كذا وكذا ، والمعنى تجعلون شكر رزقكم التكذيب ، فحذف شكر أنكم تكذبون وكذلك قرأ ابن عباس إلا أنه قرأ تكذّبون بضم التاء والتشديد كقراءة الجماعة وقراءة علي بفتح التاء وإسكان الكاف من الكذب أي يكذبون في قولهم : نزل المطر بنوء كذا ومن هذا المعنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى يقول أصبح من عبادي مؤمن بي كافر بالكوكب وكافر بي مؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكوكب كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب» (٢). والمنهي عنه في هذا الباب أن يعتقد أن للكوكب تأثيرا في المطر ، وأما مراعاة العوائد التي أجراها الله تعالى فلا بأس به لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة (٣) ، وقد قال عمر للعباس وهما في الاستسقاء : كم بقي من نوء الثريا فقال العباس : العلماء يقولون إنها تعترض في الأفق بعد سقوطها سبعا ، قال ابن الطيب : فما مضت سبع حتى مطروا ، وقيل : إن معنى الآية تجعلون سبب رزقكم تكذيبكم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم كانوا يقولون : إن آمنا به حرمنا الله الرزق ، كقولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) [القصص : ٥٧] فأنكر الله عليهم ذلك. وإعراب أنكم على هذا القول مفعول بتجعلون على حذف مضاف تقديره : تجعلون

__________________

(١). ذكره المناوي في التيسير وعزاه للطبراني عن ابن عمر وإسناده صحيح.

(٢). رواه البخاري في كتاب الأذان باب ١٥٦ ص ٢٠٥ عن زيد بن خالد الجهني.

(٣). رواه مالك في الموطأ كتاب الاستسقاء حديث ٥ ص ١٩٢ وهو الحديث الرابع الموقوف إسناده على مالك.

٣٤٠