التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم ، فالغني فتنة للفقير ، والصحيح فتنة للمريض ، والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به (أَتَصْبِرُونَ) تقديره لننظر هل تصبرون (لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) قيل : معناه لا يخافون ، والصحيح أنه على بابه لأن لقاء الله يرجى ويخاف (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله ، وحينئذ يؤمنون فرد الله عليهم بقوله : لقد استكبروا الآية : أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه ، وقوله : في أنفسهم كما تقول : فلان عظيم في نفسه ، أي عند نفسه أو بمعنى أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) لما طلبوا رؤية الملائكة ، أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم يرونهم ، فالعامل في يوم معنى لا بشرى ، ويومئذ بدل (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) الضمير في يقولون إن كان للملائكة ، فالمعنى أنهم يقولون للمجرمين حجرا محجورا ، أي حرام عليكم الجنة أو البشرى ، وإن كان الضمير للمجرمين ، فالمعنى أنهم يقولون حجرا بمعنى عوذا. لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة مما تكره ، وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله.

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا) أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز ، وقيل : هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره (فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك ، وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال ، والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة ، والمنثور المتفرّق (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار ، لأن هذا مستقرّ وهذا مستقرّ (وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) هو مفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها ، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة ، وقيل : إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) هو يوم القيامة وانشقاق السماء : انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام ، وهو السحاب الرقيق الأبيض ، وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) عض اليدين كناية عن الندم والحسرة ، والظالم هنا عقبة بن أبي معيط ، وقيل : كل ظالم والظلم هنا الكفر (مَعَ الرَّسُولِ) هو محمد صلى الله

٨١

تعالى عليه وآله وسلم ، أو اسم جنس على العموم (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبيّ بن خلف وأمية بن خلف فهو فلان ، وقيل : إن عقبة نهى أبيّ بن خلف عن الإسلام ، فالظالم على هذا أبيّ وفلان عقبة ، وإن كان الظالم على العموم ففلانا على العموم أي خليل كل كافر (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم ، أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى ، ويحتمل أن يريد بالشيطان إبليس أو الخليل المذكور (وَقالَ الرَّسُولُ) قيل : إن هذا حكاية قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الدنيا ، وقيل : في الآخرة (مَهْجُوراً) من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل : من الهجر بضم الهاء ، أي قالوا فيه الهجر حين قالوا : إنه شعر وسحر والأول أظهر.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) العدو هنا جمع ، والمراد تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) وعد لمحمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بالهدى والنصرة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) هذا من اعتراضات قريش ؛ لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) هذا جواب لهم تقديره : أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحفظه : ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ ، فحفظ المفرق عليه أسهل ، وأيضا فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه ، وأيضا منه ناسخ ومنسوخ ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي فرقناه تفريقا فإنه نزل بطول عشرين سنة. وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر ، الذي يتعلق به كذلك وبه يتعلق لنثبت (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) الآية معناه لا يوردون عليك سؤالا أو اعتراضا ، إلا أتيناك في جوابه بالحق ، والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) يعني الكفار ، وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث ؛ قيل يا رسول الله : كيف يحشر الكافر على وجهه : قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادرا على أن يمشيه في الآخرة على وجهه (١) (شَرٌّ مَكاناً) يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أو الدار والمسكن في الآخرة (وَزِيراً) معينا (إِلَى الْقَوْمِ) يعني فرعون وقومه ،

__________________

(١). رواه المنذري في الترغيب والترهيب ١٩٤ / ٤ عن أنس وعزاه للبخاري ومسلم.

٨٢

وفي الكلام حذف تقديره : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم (كَذَّبُوا الرُّسُلَ) تأويله كما ذكر في قوله في هود فعصوا رسله (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم ، أو يريد الظالمين على العموم (وَأَصْحابَ الرَّسِ) معنى الرس في اللغة : البئر ، واختلف في أصحاب الرس : فقيل هم من بقية ثمود وقيل : من أهل اليمامة ، وقيل من أهل أنطاكية ، وهم أصحاب يس ، واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبيا فرموه في بئر فأهلكهم الله ، وقيل : كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) يقتضي التكثير والإبهام ، والإشارة بذلك إلى المذكور قبل من الأمم (ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي بينا له (تَبَّرْنا) أي أهلكنا (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ) الضمير في أتوا لقريش وغيرهم من الكفار ، والقرية قرية قوم لوط ، ومطر السوء الحجارة ثم سألهم على رؤيتهم لها ؛ لأنها في طريقهم إلى الشام ، ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم بالنشور. و (يَرْجُونَ) كقوله : (يَرْجُونَ لِقاءَنا) ، وقد ذكر (أَهذَا الَّذِي) حكاية قولهم على وجه الاستهزاء ، فالجملة في موضع مفعول لقول محذوف يدل عليه هذا ، وقوله (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) استئناف جملة أخرى وتم كلامهم ، واستأنف كلام الله تعالى في قوله (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) الآية على وجه التهديد لهم (اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله (بَلْ هُمْ أَضَلُ) لأن الأنعام ليس لها عقول ، وهؤلاء لهم عقول ضيعوها ، ولأن الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب ، ولا يخافون أضرّ الأشياء وهو العقاب.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) أي إلى صنع ربك وقدرته (مَدَّ الظِّلَ) قيل : مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها ، واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل ، ولا يقال ظل بالليل ، واختار أن مدّ الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير ، وقيل : معنى مد الظل ؛ أي جعله يمتدّ وينبسط (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس ، وقيل : معنى ساكن غير منبسط على الأرض ، بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) قيل : معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها ، في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض ،

٨٣

ومتى يزول عن مكان إلى آخر ، فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه ، وقيل : معناه لو لا الشمس لم يعرف أن الظل شيء ، لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) قبضه نسخه وإزالته بالشمس ؛ ومعنى يسيرا شيئا بعد شيء لا دفعة واحدة ، فإن قيل : ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة؟ فالجواب أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل الله هذه الأحوال حالا بعد حال ، أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة. وأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني (اللَّيْلَ لِباساً) شبّه ظلام الليل باللباس ، لأنه يستر كل شيء كاللباس (وَالنَّوْمَ سُباتاً) قيل : راحة وقيل موتا لقوله : (يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ، وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] ويدل عليه مقابلته بالنشور (الرِّياحَ بُشْراً) ذكر في [الأعراف : ٥٧] (ماءً طَهُوراً) مبالغة في طاهر وقيل : معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره. وبهذا المعنى يقول الفقهاء : ماء طهورا ، أي مطهرا ، وكل مطهر طاهر ، وليس كل طاهر مطهر (أَناسِيَ) قيل : جمع إنسي ، وقيل : جمع إنسان ، والأول أصح (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) الضمير للقرآن ، وقيل : للمطر وهو بعيد (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل ، ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) (١) اضطرب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب ، وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح ، قال ابن عباس : أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض ، والبحر العذب الفرات بحر السحاب ، وقيل : البحر الملح البحر المعروف ، والبحر العذب مياه الأرض ، وقيل : البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها ، والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون ، ومعنى العذب : البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة ، والأجاج نقيضه ، واختلف في معنى مرجهما ، فقيل : جعلهما متجاورين متلاصقين ، وقيل أسال أحدهما في الآخر (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي فاصلا يفصل بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان ، وقيل : البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر.

__________________

(١). من الثابت وجود ينابيع عذبة في البحر قرب السواحل ، وهي معروفة للناس يستقرن منها رغم كونها محاطة بالماء المالح. مصححة.

٨٤

(خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) إن أراد بالبشر آدم ؛ فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع التراب فصار طينا ، وإن أراد بالبشر بني آدم ، فالمراد بالماء المنيّ الذي يخلقون منه (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً) النسب والصهر يعمّان كل قربى : أي كل قرابة ، والنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو الاختلاط بالنكاح ، وقيل : أراد بالنسب الذكور ، أي ذوي نسب ينتسب إليهم ، وأراد بالصهر الإناث : أي ذوات صهر يصاهر بهنّ ، وهو كقوله : (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [القيامة : ٣٩] (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) الكافر هنا الجنس ، وقيل : المراد أبو جهل ، والظهير : المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك ، ولفظه يقع للواحد والجماعة كقوله : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) معناه إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالتقرب إليه وعبادته ، فالاستثناء منقطع ، وقيل : المعنى أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا بالصدقة ، فالاستثناء على هذا متصل ، والأول أظهر ، وفي الكلام محذوف تقديره : إلا سؤال من شاء وشبه ذلك.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) قرأ هذه الآية بعض السلف فقال : لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي قل سبحان الله وبحمده ، والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به ، ومعنى بحمده أي : بحمده أقول ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبسا بحمده ، فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) يحتمل أن يكون المراد بهذا بيان حلمه وعفوه عن عباده مع علمه بذنوبهم ، أو يكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ذكر في [الأعراف : ٥٣] (الرَّحْمنُ) خبر ابتداء مضمر ، أو بدل من الضمير في استوى (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) فيه معنيان : أحدهما وهو الأظهر : أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به ، وانتصب خبيرا على المفعولية ، وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليه‌السلام والعلماء ، وأهل الكتاب ، والباء في قوله به : يحتمل أن تتعلق بخبيرا ، أو تتعلق بالسؤال ، ويكون معناها على هذا معنى عن ، والمعنى الثاني : أن المراد اسأل بسؤاله خبيرا ؛ أي إن سألته تعالى تجده خبيرا بكل شيء ، فانتصب خبيرا على الحال ، وهو كقولك : لو رأيت فلانا رأيت به أسدا : أي رأيت برؤيته أسدا (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش ، وقالوا : لا نعرف الرحمن ، وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن ، فقالوا على وجه المغالطة : إنما الرحمن الرجل الذي باليمامة (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) تقديره لما تأمرنا أن نسجد له

٨٥

(وَزادَهُمْ نُفُوراً) الضمير المفعول في زادهم يعود على المقول وهو اسجدوا للرحمن (بُرُوجاً) يعني المنازل الأثني عشر ، وقيل الكواكب العظام (سِراجاً) يعني الشمس ، وقرئ (١) بضم السين والراء على الجمع : يعني جميع الأنوار ثم خص القمر بالذكر تشريفا (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف هذا هذا ، وقيل : هو من الاختلاف ، لأن هذا أبيض وهذا أسود ، والخلفة اسم الهيئة : كالركبة والجلسة ، والأصل جعلهما ذوي خلفة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ) قيل : معناه يعتبر في المصنوعات ، وقيل : معناه يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل ، فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره بالليل ، وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما.

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ) أي عباده المرضيون عنده ، فالعبودية هنا للتشريف والكرامة ، وعباد مبتدأ وخبره الذين يمشون ، أو قوله في آخر السورة : أولئك يجزون الغرفة (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي رفقا ولينا بحلم ووقار ، ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم ، وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم (قالُوا سَلاماً) أي : قالوا قولا سديدا ليدفع الجاهل برفق ، وقيل : معناه قالوا للجاهل : سلاما أي هذا اللفظ بعينه بمعنى : سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف ، وإنما يصح النسخ في حق الكفار ، أما الإغضاء عن السفهاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ (إِنَّ عَذابَها) وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عزوجل (كانَ غَراماً) أي هلاكا وخسرانا ، وقيل ملازما (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) (٢) الإقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الإسراف ، فنهى عن الطرفين ، وأمر بالتوسط بينهما وهو القوام ، وذلك في الانفاق في المباحات وفي الطاعات ، وأما الانفاق في المعاصي فهو إسراف ، وإن قل (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) أي عقابا ، وقيل : الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام ؛ وقيل الأثام : واد في جهنم ، والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) قيل : نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع ، فكأنه قال : الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا ، وقيل : نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون ، فأما على مذهب المعتزلة

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي : سرجا. والباقون : سراجا.

(٢). قرأ نافع يقتروا. وقرأ أهل الكوفة : يقتروا.

٨٦

فالخلود على بابه ، وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة (إِلَّا مَنْ تابَ) إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها ، لأن الكافر إذا أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا ، وإن قلنا إنها في المؤمنين فلا خلاف أن التوبة من الزنا تصح ، واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا (يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قيل : يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلا عما عملوا من السيئات ، وقيل : إن هذا التبديل في الآخرة : أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات (يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) أي متابا مقبولا مرضيا عند الله كما تقول : لقد قلت يا فلان قولا ، أي قولا حسنا (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة ، وقيل : معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو ، فهو على هذا من المشاهدة والحضور ، والأول أظهر (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه ، ومعنى مروا كراما أي أعرضوا عنه واستحيوا ، ولم يدخلوا مع أهله تنزيها لأنفسهم عن ذلك (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) أي لم يعرضوا عن آيات الله ، بل أقبلوا عليها بأسماعهم وقلوبهم ، فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) قيل : معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك ، وقيل : أدخلهم معنا الجنة ، واللفظ أعم من ذلك (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) أي قدوة يقتدي بنا المتقون ، فإمام مفرد يراد به الجنس ، وقيل : هو جمع آم أي متبع (الْغُرْفَةَ) يعني غرفة الجنة فهي اسم جنس.

(قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية ، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال : الأول : أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لو لا عبادتكم له ، فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] الثاني : أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال ، والمعنى لا يبالي الله بكم ، ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطابا لجميع الناس من المؤمنين والكافرين ، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه ، أو خطابا للمؤمنين خاصة ، لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه ، ولكن يضعف هذا بقوله «فقد كذبتم» الثالث : أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا : ما يعبأ بكم ربي لو لا أن يدعوكم إلى دينه ، والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين ، وهو مصدر مضاف إلى المفعول ، وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) أي سوف يكون العذاب لزاما ثابتا وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم ، واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر ، أو عذاب الآخرة؟

٨٧

سورة الشعراء

مكية إلا آية ١٩٧ ومن آية ٢٢٤ إلى آخر السورة فمدنية وآياتها ٢٢٧ نزلت بعد الواقعة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة الشعراء

(طسم) تكلمنا على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ، ويخص هذا أنه قيل الطاء من ذي الطول ، والسين من السميع أو السلام ، والميم من الرحيم أو المنعم (باخِعٌ) ذكر في الكهف (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة ، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء ؛ لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ، ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء ، وقيل : الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم : رؤوس وصدور ، وقيل : هم الجماعات من الناس ، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل (مُحْدَثٍ) يعني به محدث الإتيان (فَسَيَأْتِيهِمْ) الآية : تهديد (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه والأدوية والمرعى ، ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) الإشارة إلى ما تقدّم من النبات ، وإنما ذكره بلفظ الإفراد لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله : (أَنْبَتْنا وَيَضِيقُ صَدْرِي) بالرفع عطف على أخاف ، أو استئناف ، وقرئ بالنصب عطفا على يكذبون (فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) أي اجعله معي رسولا أستعين به (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) يعني قتله للقبطي (قالَ كَلَّا) أي لا تخف أن يقتلوك (إِنَّا مَعَكُمْ) خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما. أو على جعل الاثنين جماعة (مُسْتَمِعُونَ) لفظه جمع ، وورد

٨٨

مورد تعظيم الله تعالى ، ويحتمل أن تكون الملائكة هي التي تسمع بأمر الله ، لأن الله لا يوصف بالاستماع ، وإنما يوصف بالسمع والأول أحسن ، وتأويله : أن في الاستماع اعتناء واهتماما بالأمر ليست في صفة سامعون ، والخطاب في قوله : معكم لموسى وهارون وفرعون وقومه ، وقيل : لموسى وهارون خاصة على معاملة الاثنين معاملة الجماعة ، ذلك على قول من يرى أن أقل الجمع اثنان (أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) إن قيل : لم أفرده وهما اثنان؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنّ التقدير كل واحد منا رسول. الثاني : أنهما جعلا كشخص واحد لاتفاقهما في الشريعة ، ولأنهما أخوان فكأنهما واحد. الثالث : أنّ رسول هنا مصدر وصف به ، فلذلك أطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، فإنه يقال رسول بمعنى رسالة ، بخلاف قوله إنا رسولا فإنه بمعنى الرسل ، (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أطلقهم (قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) قصد فرعون بهذا الكلام المنّ على موسى والاحتقار له.

(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) قصد فرعون بهذا الكلام توبيخ موسى عليه‌السلام ، ويعني بالفعلة : قتله للقبطي ، والواو في قوله وأنت إن كانت للحال فقوله من الكافرين ، معناه كافرا بهذا الدين الذي جئت به لأن موسى إنما أظهر لهم الإسلام بعد الرسالة ، وقد كان قبل ذلك مؤمنا ، ولم يعلم بذلك فرعون ، وقيل : معناه من الكافرين بنعمتي ، وإن كانت الواو للاستئناف : فيحتمل أن يريد من الكافرين بديني ، ومن الكافرين بنعمتي (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) القائل هنا هو موسى عليه‌السلام ، والضمير في قوله : فعلتها لقتله القبطي ، واختلف في معنى قوله : من الضالين ، فقيل : معناه من الجاهلين بأن وكزتي تقتله ، وقيل : معناه من الناسين ، فهو كقوله : «أن تضل إحداهما» وقوله «إذا» صلة في الكلام ، وكأنها بمعنى حينئذ ، قال ذلك ابن عطية (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) أي من فرعون وقومه ، ولذلك جمع ضمير الخطاب بعد أن أفرده في قوله («تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ» وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) معنى عبّدت : ذللت واتخذتهم عبيدا ، فمعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة عليّ تعبيد بني إسرائيل ، وليست في الحقيقة بنعمة إنما كانت نقمة ، لأنك كنت تذبح أبناءهم ، ولذلك وصلت أنا إليك فربيتني ، فالإشارة بقوله : تلك إلى التربية ، وأن عبدت في موضع رفع عطف بيان على تلك ، أو في موضع نصب على أنه مفعول من أجله ، وقيل : معنى الكلام تربيتك نعمة علي لأنك عبدت بني إسرائيل وتركتني فهي في المعنى

٨٩

الأول إنكار لنعمته وفي الثاني اعتراف بها (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لما أظهر فرعون الجهل بالله فقال : وما رب العالمين؟ أجابه موسى بقوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فقال (أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ تعجبا من جوابه فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء وأعظم البراهين ، فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم ، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه ، وأيد الازدراء والتهكم في قوله : رسولكم الذي أرسل إليكم فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) ، لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحدا جحدها ، ولا أن يدعيها لغير الله ، ولذلك أقام إبراهيم الخليل بها الحجة على نمروذ ، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدّده بالسجن ، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة ، وذكرها له بتلطف طمعا في إيمانه ، فقال : (أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) والواو واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام وتقديره : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ وقد تقدم في الأعراف ذكر العصا واليد ، (فَما ذا تَأْمُرُونَ)؟ و (أَرْجِهْ) ، وحاشرين فإن قيل : كيف قال أولا : إن كنتم موقنين ، ثم قال آخرا (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)؟ فالجواب أنه لاين أولا طمعا في إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة : وبخهم بقوله : إن كنتم تعقلون ، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون : إن رسولكم لمجنون (لِمِيقاتِ يَوْمٍ) هو يوم الزينة (نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) أي نتبعهم في نصرة ديننا لا في عمل السحر ، لأن عمل السحر كان حراما (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) قسم أقسموا به ، وقد تقدم في [الأعراف : ١١٧] تفسير ما يأفكون ، وما بعد ذلك (لا ضَيْرَ) أي لا يضرنا ذلك لأننا

٩٠

ننقلب إلى الله (أَسْرِ بِعِبادِي) يعني بني إسرائيل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إخبار باتباع فرعون (لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) الشرذمة الطائفة من الناس ، وفي هذا احتقار لهم على أنه روي أنهم كانوا ستمائة ألف ، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير (١) (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) يعني التي بمصر ، والعيون الخلجان الخارجة من النيل ، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان ، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) مجالس الأمراء والحكام ، وقيل : المنابر ، وقيل : المساكن الحسان (كَذلِكَ) في موضع خفض صفة لمقام أو في موضع نصب على تقدير : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج ، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء تقديره : الأمر كذلك (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) أي أورثهم الله مواضع فرعون بمصر ؛ على أن التواريخ لم يذكر فيها ملك بني إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على هذا أورثهم مثل ذلك بالشام (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي لحقوهم ، وضمير الفاعل لفرعون وقومه ، وضمير المفعول لبني إسرائيل (مُشْرِقِينَ) معناه داخلين في وقت الشروق وهو طلوع الشمس ، وقيل : معناه نحو المشرق وانتصابه على الحال.

(تَراءَا الْجَمْعانِ) وزن تراء تفاعل ، وهو منصوب من [الرؤية] ، والجمعان جمع موسى وجمع فرعون ، أي رأى بعضهم بعضا (فَانْفَلَقَ) تقدير الكلام فضرب موسى البحر فانفلق (كُلُّ فِرْقٍ) أي كل جزء منه والطود الجبل ، وروي أنه صار في البحر اثنا عشر طريقا ، لكل سبط من بني إسرائيل طريق (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) يعني بالآخرين فرعون وقومه ، ومعنى (أَزْلَفْنا) : قربناهم من البحر ليغرقوا ، وثم هنا ظرف يراد به حيث انفلق البحر وهو بحر القلزم [الأحمر] (ما تَعْبُدُونَ) إنما سألهم مع علمه بأنهم يعبدون الأصنام ليبين لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء ، ويقيم عليهم الحجة (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً) إن قيل : لم صرحوا بقولهم نعبد ، مع أن السؤال وهو قوله : ما تعبدون يغني عن التصريح بذلك ، وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : خَيْراً) ، فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام ، ثم زادوا قولهم : فنظل لها

__________________

(١). قوله : حاذرون : قرأها نافع وابن كثير وأبو عمرو : حذرون. وهما بمعنى واحد.

٩١

عاكفين مبالغة في ذلك (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا) اعتراف بالتقليد المحض (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثناء منقطع وقيل : متصل لأن في آبائهم من عبد الله تعالى (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) أسند المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله تأدبا مع الله (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) قيل أراد كذباته الثلاثة الواردة في الحديث وهي قوله في سارة زوجته : هي أختي ، وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) وقيل : أراد الجنس على الإطلاق ؛ لأن هذه الثلاثة من المعاريض فلا إثم فيها (لِسانَ صِدْقٍ) ثناء جميلا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم ، وهو من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون أيضا من كلام إبراهيم (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) ، قيل : سليم من الشرك والمعاصي وقيل : الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره وقيل : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم هو اللديغ : [الملدوغ] لغة ، وقال الزمخشري : هذا من بدع التفاسير ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا فيكون : من أتى الله مفعولا ، بقوله : (لا يَنْفَعُ) ، والمعنى على هذا أن المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله ، وأن البنين لا ينفعون إلا من علمهم الدين وأوصاهم بالحق ، ويحتمل أيضا أن يكون متصلا ، ويكون قوله : (مَنْ أَتَى اللهَ) بدلا من قوله : (مالٌ وَلا بَنُونَ) على حذف مضاف تقديره : إلا مال من أتى الله وبنوه ويحتمل أن يكون منقطعا بمعنى لكن (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربت.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) يعني المشركين بدلالة ما بعده (فَكُبْكِبُوا فِيها) كبكبوا : مضاعف من كب كررت حروفه دلالة على تكرير معناه : أي كبهم الله في النار مرة بعد مرة ، والضمير للأصنام ، والغاوون هم المشركون ، وقيل : الضمير للمشركين ، والغاوون هم الشياطين (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي نجعلكم سواء معه (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) يعني كبراءهم ، وأهل الجرم والجراءة منهم (حَمِيمٍ) أي خالص الودّ ، قال الزمخشري : جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الأصدقاء (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) أسند

٩٢

الفعل إلى القوم ، وفيه علامة التأنيث ، لأن القوم في معنى الجماعة والأمة ، فإن قيل : كيف قال المرسلين بالجمع وإنما كذبوا نوحا وحده؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد الجنس كقولك : فلان يركب الخيل وإنما لم يركب إلا فرسا واحدا والآخر أن من كذب نبيا واحدا فقد كذب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن قولهم واحد ودعوتهم سواء ، وكذلك الجواب في : كذبت عاد المرسلين وغيره (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) جمع أرذل ، وقد تقدّم الكلام عليه في قوله أراذلنا في [هود : ٢٧] (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني الذين سموهم أرذلين ، فإنّ الكفار أرادوا من نوح أن يطردهم ، كما أرادت قريش من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطرد عمار بن ياسر وصهيبا وبلالا وأشباههم من الضعفاء (الْمَرْجُومِينَ) يحتمل أن يريدوا الرجم بالحجارة ، أو بالقول وهو الشتم (فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ) أي احكم بيننا (فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي المملوء (بِكُلِّ رِيعٍ) الريع المكان المرتفع وقيل الطريق (آيَةً) يعني المباني الطوال وقيل أبراج الحمام (مَصانِعَ) جمع مصنع وهو ما أتقن صنعه من المباني ، وقيل : مأخذ الماء (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) الآية تفسير لقوله أمدكم بما تعلمون فأبهم أولا ثم فسره (خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) بضم الخاء واللام أي عادتهم والمعنى أنهم قالوا : ما هذا الذي عليه من ديننا إلا عادة الناس الأولين ، وقرأ [ابن كثير والكسائي وأبو عمرو] بفتح الخاء وإسكان اللام ، ويحتمل على هذا وجهين : أحدهما أنه بمعنى الخلقة والمعنى ما هذه الخلقة التي نحن عليها إلا خلقة الأولين ، والآخر أنها من

٩٣

الاختلاق بمعنى الكذب ، والمعنى ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين (أَتُتْرَكُونَ) تخويف لهم معناه : أتطمعون أن تتركوا في النعم على كفركم (وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) الطلع عنقود التمر في أول نباته قبل أن يخرج من الكم ، والهضيم : اللين الرطب ، فالمعنى طلعها يتم ويرطب ، وقيل : هو الرّخص أول ما يخرج ، وقيل : الذي ليس فيه نوى ، فإن قيل : لم ذكر النخل بعد ذكر الجنات ، والجنات تحتوي على النخل؟ فالجواب : أن ذلك تجريد كقوله فاكهة ونخل ورمان ، ويحتمل أنه أراد الجنات التي ليس فيها نخل ثم عطف عليها النخل.

(وَتَنْحِتُونَ) ذكر في [الأعراف : ٧٤] (فارِهِينَ) قرئ بألف وبغير ألف (١) وهو منصوب على الحال في الفاعل من تنحتون ، وهو مشتق من الفراهة وهي النشاط والكيس ، وقيل : معناه أقوياء وقيل : أشرين بطرين (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) مبالغة في المسحورين ، وهو من السحر بكسر السين ، وقيل : من السحر بفتح السين وهي الرؤية ، والمعنى على هذا إنما أنت بشر (لَها شِرْبٌ) أي حظ من الماء (فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) لما تغيرت ألوانهم حسبما أخبرهم صالح عليه‌السلام ندموا حين لا تنفعهم الندامة (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) التي ماتوا منها وهي العذاب المذكور هنا (مِنَ الْقالِينَ) أي من المبغضين ، وفي قوله : قال ومن القالين : ضرب من ضروب التجنيس (مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي نجّني من عقوبة عملهم أو اعصمني من عملهم ، والأول أرجح (إِلَّا عَجُوزاً) يعني امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) ذكر في [الأعراف : ٨٣] وكذلك (أَمْطَرْنا) [الأعراف : ٨٤] (أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) قرئ بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحجر وق ، ومعناه الغيضة من الشجر ، وقرئ هنا وفي ص : بفتح اللام

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : فرهين. والباقون بالألف.

٩٤

والتاء (١) ، فقيل : إنه مسهل من الهمز ، وقيل إنه اسم بلدهم ، ويقوي هذا : القول بأنه على هذه القراءة بفتح التاء غير منصرف ، يدل على ذلك أنه اسم علم ، وضعّف ذلك الزمخشري ، وقال : إن الأيكة اسم لا يعرف (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره ، وقيل : إن شعيبا بعث إلى مدين ، وكان من قبيلتهم ، فلذلك قال : وإلى مدين أخاهم شعيبا ، وبعث أيضا إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم ، فلذلك لم يقل أخوهم ، فكان شعيبا على هذا مبعوثا إلى القبيلتين وقيل : إن أصحاب الأيكة مدين ، ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلتهم ، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيها لشعيب عن النسبة إليها (مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أي من الناقصين للكيل والوزن (بِالْقِسْطاسِ) الميزان المعتدل (وَالْجِبِلَّةَ) يعني القرون المتقدمة (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) هي سحابة من نار أحرقتهم ، فأهلك الله مدين بالصيحة ، وأهلك أصحاب الأيكة بالظلة ، فإن قيل : لم كرر قوله إن في ذلك لآية مع كل قصة؟ فالجواب : أن ذلك أبلغ في الاعتبار ، وأشدّ تنبيها للقلوب وأيضا فإن كل قصة منها كأنها كلام قائم مستقل بنفسه ، فختمت بما ختمت به صاحبتها.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) الضمير للقرآن (الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعني جبريل عليه‌السلام (عَلى قَلْبِكَ) إشارة إلى حفظه إياه لأن القلب هو الذي يحفظ (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) يعني كلام العرب هو متعلق بنزل أو المنذرين (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) المعنى أن القرآن مذكور في كتب المتقدّمين ففي ذلك دليل على صحته ثم أقام الحجة على قريش بقوله (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) بأنه من عند الله آية لكم وبرهان ، والمراد من أسلم من بني إسرائيل : كعبد الله بن سلام وقيل : الذين كانوا يبشرون بمبعثه عليه الصلاة والسلام (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الآية جمع أعجم ، وهو الذي لا يتكلم سواء كان إنسانا أو بهيمة أو جمادا والأعجمي : المنسوب إلى [العجم أي غير العرب] وقيل : بمعنى

__________________

(١). قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : ليكة. والباقون الأيكة.

٩٥

الأعجم ، ومعنى الآية : أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم ، ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا لإفراط عنادهم ، ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كفرهم به مع وضوح برهانه (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) معنى سلكناه. أدخلناه ، والضمير للتكذيب الذي دل عليه ما تقدم من الكلام ، أو للقرآن أي سلكناه في قلوبهم مكذبا به ، وتقدير قوله : كذلك مثل هذا السلك سلكناه ، والمجرمين : يحتمل أن يريد به قريشا أو الكفار المتقدمين ولا يؤمنون : تفسير للسلك الذي سلكه في قلوبهم (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) تمنوا أن يؤخروا حين لم ينفعهم التمني (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) توبيخ لقريش على استعجالهم بالعذاب في قولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] وشبه ذلك (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) المعنى أن مدّة إمهالهم لا تغني مع نزول العذاب بعدها ، وإن طالت مدة سنين ، لأن كل ما هو آت قريب ، قال بعضهم «سنين» يريد به عمر الدنيا (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) المعنى أن الله لم يهلك قوما إلا بعد أن أقام الحجة عليهم بأن أرسل إليهم رسولا فأنذرهم فكذبوه (ذِكْرى) منصوب على المصدر من معنى الإنذار ، أو على الحال من الضمير من منذرون ، أو على المفعول من أجله ، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) الضمير للقرآن ، وهو ردّ على من قال أنه كهانة نزلت به الشياطين على محمد (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) أي ما يمكنهم ذلك ولا يقدرون عليه ، ولفظ : ما ينبغي تارة يستعمل بمعنى لا يمكن وتارة بمعنى لا يليق (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) تعليل لكون الشياطين لا يستطيعون الكهانة ، لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان أمر الكهان كثيرا منتشرا قبل ذلك.

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) عشيرة الرجل هم قرابته الأدنون ، ولما نزلت هذه الآية أنذر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرابته فقال : يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، ثم نادى كذلك ابنته فاطمة وعمته صفية (١) ، قال الزمخشري : في معناه قولان : أحدهما أنه أمر أن يبدأ بإنذار أقاربه قبل غيرهم من الناس ، والآخر أنه أمر أن لا يأخذه ما يأخذ القريب من الرأفة بقريبه ، ولا يخافهم بالإنذار (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) عبارة عن لين

__________________

(١). الحديث رواه مسلم عن أبي هريرة في كتاب الإيمان ج ١ / ١٩٢ وأوله يا بني كعب بن لؤي.

٩٦

الجانب والرفق ، وعن التواضع (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) أي حين تقوم في الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) معطوف على الضمير المفعول في قوله يراك ، والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد ، وقيل : معناه يرى صلاتك مع المصلين ، ففي ذلك إشارة إلى الصلاة مع الجماعة ، وقيل : يرى تقلب بصرك في المصلين خلفك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يراهم من وراء ظهره (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) هذا جواب السؤال المتقدم وهو قوله : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاعل للإثم يعني بذلك الكهان ، وفي هذا ردّ على من قال إن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالكهانة ، لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على غاية الصدق والبرّ (يُلْقُونَ السَّمْعَ) معناه يستمعون والضمير يحتمل أن يكون للشياطين بمعنى أنهم يستمعون إلى الملائكة ، أو يكون للكهان بمعنى أنهم يستمعون إلى الشياطين ، وقيل : يلقون بمعنى يلقون المسموع ، والضمير يحتمل أيضا على هذا أن يكون للشياطين ، لأنهم يلقون الكلام إلى الكهان أو يكون للكهان لأنهم يلقون الكلام إلى الناس (وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) يعني الشياطين أو الكهان لأنهم يكذبون فيما يخبرون به عن الشياطين.

(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) لما ذكر الكهان ذكر الشعراء ليبين أن القرآن ليس بكهانة ولا شعر لتباين أوصافه وما بين أوصاف الشعر والكهانة ، وأراد الشعراء الذين يلقون من الشعر ما لا ينبغي كالهجاء والمدح بالباطل وغير ذلك ، وقيل : أراد شعراء الجاهلية ، وقيل : شعراء كفار قريش الذين كانوا يؤذون المسلمين بأشعارهم ، والغاوون قيل : هم رواة الشعر وقيل : هم سفهاء الناس الذين تعجبهم الأشعار لما فيها من اللغو والباطل ، وقيل : هم الشياطين (فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) استعارة وتمثيل أي يذهبون في كل وجه من الكلام الحق والباطل ، ويفرطون في التجوز حتى يخرجوا إلى الكذب (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية : استثناء من الشعراء يعني بهم شعراء المسلمين كحسان بن ثابت وغيره ممن اتصف بهذه الأوصاف ، وقيل : إن هذه الآية مدنية (ذَكَرُوا اللهَ) قيل : معناه ذكروا الله في أشعارهم ، وقيل : يعني الذكر على الإطلاق (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) إشارة إلى ما قاله حسان بن ثابت وغيره من الشعراء في هجو الكفار بعد أن هجا الكفار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وعيد للذين ظلموا والظلم هنا بمعنى الاعتداء على الناس لقوله : من بعد ما ظلموا وعمل ينقلبون في أيّ لتأخره ، وقيل : إن العامل في أيّ سيعلم.

٩٧

سورة النمل

مكية وآياتها ٩٣ نزلت بعد سورة الشعراء

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سورة النمل

(تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض ، وإن كان الموصوف واحدا (هُدىً وَبُشْرى) في موضع نصب على المصدر ، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة ، فتكون بقية صلة الذين ، أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها ، ورجح الزمخشري هذا (يَعْمَهُونَ) يتحيرون (سُوءُ الْعَذابِ) يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر ، ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة ، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك (لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) أي تعطاه (آنَسْتُ) ذكر في [طه : ١١] وكذلك قبس : [طه : ١٢] ، والشهاب : النجم شبّه القبس به ، وقرئ بإضافة شهاب إلى قبس (١) وبالتنوين على البدل أو الصفة ، فإن قيل : كيف قال هنا : (سَآتِيكُمْ) وفي الموضع الآخر : (لَعَلِّي آتِيكُمْ) ؛ والفرق بين الترجي والتسويف أن التسويف متيقن الوقوع بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي : سيكون كذا ؛ إذا قوي رجاؤه (تَصْطَلُونَ) معناه : تستدفئون بالنار من البرد ، ووزنه تفعلون ، وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) أن مفسرة ، وبورك من البركة ، ومن في النار : يعني من في مكان النار ومن حولها : من حول مكانها : يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه‌السلام ، قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام (وَسُبْحانَ اللهِ) يحتمل أن

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : بشهاب وقرأ الباقون : بشهاب.

٩٨

يكون مما قيل في النداء لموسى عليه‌السلام ، أو يكون مستأنفا وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء ، أو في قوله : بورك من في النار لأن المعنى نودي أن بورك من في النار ، إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه.

(وَأَلْقِ عَصاكَ) هذه الجملة معطوفة على قوله : بورك من في النار ، لأن المعنى يؤدي إلى أن : بورك من في النار ، وأن ألق عصاك وكلاهما تفسير للنداء (كَأَنَّها جَانٌ) الجان : الحية ، وقيل : الحية الصغيرة ، وعلى هذا يشكل قوله : فإذا هي ثعبان ، والجواب : أنها ثعبان في جرمها ، جان في سرعة حركتها (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع أو لم يلتفت (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع تقديره : لكن من ظلم من سائر الناس ، لا من المرسلين ، وقيل : إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم ، وهذا بعيد ؛ لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب ، وأيضا فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم (بَدَّلَ حُسْناً) أي عمل صالحا (فِي جَيْبِكَ) ذكر في [طه : ٢٢] (فِي تِسْعِ آياتٍ) متصل بقوله : ألق وأدخل ، تقديره : نيسر لك ذلك في جملة تسع آيات ، وقد ذكرت الآيات التسع في [الإسراء : ١٠١] (إِلى فِرْعَوْنَ) متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره : اذهب بالآيات التسع إلى فرعون (مُبْصِرَةً) أي ظاهرة واضحة الدلالة ، وأسند الإبصار لها مجازا ، وهو في الحقيقة لمتأملها (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد ، ولذلك قال فيه : ظلما ، والواو فيه واو الحال ، وأضمرت بعدها قد علوا يعني تكبروا.

(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي ورث عنه النبوة والعلم والملك (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) عموم معناه الخصوص ، والمراد بهذا اللفظ التكثير : كقولك : فلان يقصده كل أحد ، وقوله : علمنا وأوتينا ؛ يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم ، لأنه كان ملكا (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ) اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافا شديدا ، تركنا ذكره لعدم صحته (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يكفّون ويردّ أوّلهم إلى آخرهم ، ولا بدّ لكل ملك أو حاكم من وزعة يدفعون الناس.

٩٩

(حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض ، أو ركبانا حتى خافت منهم النمل ، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ، وأحست النملة بنزولهم في وادي (١) النمل (قالَتْ نَمْلَةٌ) النمل : حيوان بل حشرة فطن قويّ الحس يدخر قوته ، ويقسم الحبة بقسمين لئلا تنبت ، ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قسمت قسمين ، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول ، وروي أن سليمان سمع كلامها ، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال ، وهذا لا يسمعه البشر إلا من خصه الله بذلك (ادْخُلُوا) خاطبتهم مخاطبة العقلاء ، لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) يحتمل أن يكون جوابا للأمر ، أو نهيا بدلا من الأمر لتقارب المعنى (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) الضمير لسليمان وجنوده ، والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) تبسم لأحد أمرين : أحدهما سروره بما أعطاه الله ؛ والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده ، فإن قولها وهم لا يشعرون : وصف لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ) اختلف الناس في معنى تفقده للطير ، فقيل : ذلك لعنايته بأمور ملكه ، وقيل : لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) أم منقطعة ، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، (فَقالَ ما لِيَ) (٢) (لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر ، ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك (لَأُعَذِّبَنَّهُ) روي أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي حجة بينة (فَمَكَثَ) أي أقام ، ويجوز فتح الكاف وضمها ، وبالفتح قرأ عاصم والباقون بالضم ، والفعل يحتمل أن يكون مسندا إلى سليمان عليه‌السلام أو إلى الهدهد ، وهو أظهر (غَيْرَ بَعِيدٍ) يعني زمان قريب (أَحَطْتُ) أي أحطت علما بما لم تعلمه (مِنْ سَبَإٍ) يعني قبيلة من العرب ، وجدّهم الذي يعرفون به : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومن صرفه [أي سبأ] أراد الحيّ أو الأب ، ومن لم يصرفه سبأ أراد القبيلة أو البلدة ، وقرئ بالتسكين سبأ لتوالي الحركات ، وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله : من سبإ بنبإ ضرب من أدوات البيان ، وهو التجنيس (وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) المرأة بلقيس بنت شراحيل : كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد

__________________

(١). وقف الكسائي وحده على «وادي» بالياء والباقون بغير ياء.

(٢). مالي : قرأ ابن كثير وعاصم والكسائي وابن عامر بفتح الياء ، وقرأ نافع وأبو عمر بإسكانها : مالي.

١٠٠