التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي

التسهيل لعلوم التنزيل - ج ٢

المؤلف:

محمّد بن أحمد بن جزي الغرناطي


المحقق: الدكتور عبد الله الخالدي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة دار الأرقم بن أبي الأرقم للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٤
الجزء ١ الجزء ٢

سورة المرسلات

مكية إلا آية ٤٨ فمدنية وآياتها ٥٠ نزلت بعد الهمزة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اختلف في معنى المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات على قولين : أحدهما أنها الملائكة والآخر أنها الرياح. فعلى القول بأنها الملائكة سماهم المرسلات لأن الله تعالى يرسلهم بالوحي وغيره ، وسماهم العاصفات لأنهم يعصفون كما تعصف الرياح في سرعة مضيهم إلى امتثال أوامر الله تعالى ، وسماهم ناشرات لأنهم ينشرون أجنحتهم في الجو ، وينشرون الشرائع في الأرض ، أو ينشرون صحائف الأعمال وسماهم الفارقات لأنهم يفرقون بين الحق والباطل ، وعلى القول بأنها الرياح ، سماها المرسلات لقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الروم : ٤٨] وسماها العاصفات من قوله : (رِيحٌ عاصِفٌ) أي شديدة ، وسماها الناشرات لأنها تنشر السحاب في الجو ومنه قوله : (يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] وسماها الفارقات لأنها تفرق بين السحاب ومنه قوله : فيجعله كسفا وأما الملقيات ذكرا فهم الملائكة لأنهم يلقون الذكر للأنبياء عليهم‌السلام ، والأظهر في المرسلات والعاصفات أنها الرياح لأن وصف الريح بالعصف حقيقة ، والأظهر في الناشرات والفارقات أنها الملائكة لأن الوصف بالفارقات أليق بهم من الرياح ، ولأن الملقيات المذكورة بعدها هي الملائكة ولم يقل أحد أنها الرياح ، ولذلك عطف المتجانسين بالفاء فقال : والمرسلات فالعاصفات ثم عطف ما ليس من جنس بالواو فقال : والناشرات ثم عطف عليه المتجانسين بالفاء وقد قيل في المرسلات والملقيات أنهم الأنبياء عليهم‌السلام (عُرْفاً) معناه : فضلا وإنعاما وانتصابه على أنه مفعول من أجله وقيل : معناه متتابعة وهو مصدر في موضع الحال وأما عصفا ونشرا وفرقا فمصادر ، وأما ذكرا فمفعول به (عُذْراً أَوْ نُذْراً) العذر فسّره ابن عطية وغيره بمعنى : إعذار الله إلى عباده لئلا تبقى لهم حجة أو عذر. وفسره الزمخشري بمعنى الاعتذار. يقال : عذر إذا محا الإساءة ، وأما نذرا فمن الإنذار وهو التخويف وقرأ الأعشى التميمي بضم الذال في الموضعين وبقية القراء

٤٤١

بإسكانها ، ويحتمل أن يكونا مصدرين فيكون نصبهما على البدل من ذكرا أو مفعولا بذكر ، أو يحتمل أن يكون عذرا جمع عذير أو عاذر ، ونذرا جمع نذير فيكون نصبهما على الحال (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) يعني البعث والجزاء وهو جواب القسم (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي زال ضوؤها وقيل : محيت (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي انشقت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) أي صارت غبارا (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي جعل لها وقت معلوم ، فحان ذلك الوقت وجمعت للشهادة على الأمم يوم القيامة وقرأ أبو عمرو وقّتت بالواو وهو الأصل ، والهمزة بدل من الواو (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) هو من الأجل كما أن التوقيت من الوقت ، وفيه توقيف [سؤال] يراد به تعظيم لذلك اليوم ثم بينه بقوله : (لِيَوْمِ الْفَصْلِ) أي يفصل فيه بين العباد ثم عظّمه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) تكراره في هذه السورة قيل : إنه تأكيد وقيل : بل في كل آية ما يقتضي التصديق فجاء ويل يومئذ للمكذبين راجعا إلى ما قبله في كل موضع منها.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) يعني الكفار المتقدمين ، كقوم نوح وغيرهم (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) يعني قريشا وغيرهم من الكفار بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا وعيد لهم ظهر مصداقه يوم بدر وغيره (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) أي مثل هذا الفعل نفعل بكل مجرم يعني الكفار (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) يعني المني ، والمهين الضعيف (فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ) يعني رحم المرأة (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) يعني وقت الولادة ، وهو معلوم عند تسعة أشهر ، أو أقل منها أو أكثر (فَقَدَرْنا) بالتشديد من التقدير (١) وبالتخفيف من القدرة ، فإذا كان من القدرة اتفق مع قوله فنعم القادرون ، وإذا كان من التقدير فهو تجنيس (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً) الكفات من : كفت إذا ضم وجمع. فالمعنى أن الأرض تكفت الأحياء على ظهرها ، والموتى في بطنها. وانتصب أحياء وأمواتا على أنه مفعول بكفاتا لأن الكفات اسم لما يضم ويجمع ، فكأنه قال : جامعة أحياء وأمواتا ويجوز أن يكون المعنى : تكفتهم أحياء وأمواتا. فيكون نصبهما على الحال من الضمير ، وإنما نكّر أحياء وأمواتا للتفخيم ودلالة على كثرتهم (رَواسِيَ) يعني الجبال (شامِخاتٍ) أي مرتفعات (ماءً فُراتاً) أي

__________________

(١). قرأ نافع والكسائي بالتشديد والباقون بالتخفيف.

٤٤٢

حلوا (انْطَلِقُوا) خطاب للمكذبين وقرأ يعقوب بفتح اللام على أنه فعل ماض ثم كرره لبيان المنطلق إليه (إِلى ظِلٍ) يعني دخان جهنم ومنه ظل من يحموم (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) أي يتفرع من الدخان ثلاث شعب فتظلهم ، بينما يكون المؤمنون في ظلال العرش وقيل : إن هذه الآية في عبدة الصليب لأنهم على ثلاثا شعب فيقال لهم انطلقوا إليه (لا ظَلِيلٍ) نفى عنه أن يظلهم كما يظل العرش المؤمنين ونفى أيضا أن يمنع عنهم اللهب (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الضمير في إنها لجهنم والقصر واحد القصور ، وهي الديار العظام شبه الشرر به في عظمته وارتفاعه في الهواء ، وقيل : هو الغليظ من الشجر واحده قصرة كجمرة وجمر كأنّه جمالات صفر (١) في الجمالات قولان أحدهما : أنها جمع جمال شبه بها الشرر وصفر على ظاهره ؛ لأن لون النار يضرب إلى الصفرة. وقيل : صفر هنا بمعنى سود يقال : جمل أصفر أي أسود. وهذا أليق بوصف جهنم. الثاني أن الجمالات قطع النحاس الكبار ، فكأنه مشتق من الجملة. وقرئ جمالات بضم الجيم وهي قلوس السفن وهي حبالها العظام (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) هذا في مواطن ، وقد يتكلمون في مواطن أخر لقوله : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١] (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) تعجيز لهم وتعريض بكيدهم في الدنيا وتقريع عليه (كُلُوا وَاشْرَبُوا) يقال لهم ذلك في الجنة بلسان الحال أو بلسان المقال (هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) نصب هنيئا على الحال أو على الدعاء (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) خطاب للكفار على وجه التهديد تقديره : قل لهم كلوا وتمتعوا قليلا في الدنيا (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) هذا إخبار عن حال الكفار في الدنيا ، وذكر الركوع عبارة عن الصلاة وقيل : معنى اركعوا اخشعوا وتواضعوا. وقيل : هو إخبار عن حال المنافقين يوم القيامة لأنهم إذا قيل لهم : اركعوا لا يقدرون على الركوع كقوله : (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ) [القلم : ٤٢] والأول أشهر وأظهر (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الضمير للقرآن.

__________________

(١). قرأ حمزة والكسائي وحفص : جمالة بدون ألف وقرأ الباقون : جمالات وهي جمع الجمع.

٤٤٣

سورة النبأ

مكية وآياتها ٤٠ نزلت بعد المعارج

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أصل عمّ عن ما ثم أدغمت النون في الميم وحذفت ألف ما لأنها استفهامية ، تقديرها : عن أي شيء يتساءلون ، وليس المراد بها هنا مجرد الاستفهام ، وإنما المراد تفخيم الأمر. والضمير في يتساءلون لكفار قريش ، أو لجميع الناس ومعناه يسأل بعضهم بعضا (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) هو ما جاءت به الشريعة من التوحيد والبعث والجزاء وغير ذلك ، ويتعلق عن النبإ بفعل محذوف يفسره الظاهر تقديره : يتساءلون عن النبأ. ووقعت هذه الجملة جوابا عن الاستفهام وبيانا للمسئول عنه كأنه لما قال : عم يتساءلون أجاب فقال يتساءلون عن النبأ العظيم. وقيل : يتعلق عن النبأ بيتساءلون الظاهر والمعنى على هذا لأي شيء يتساءلون عن النبأ العظيم؟ والأول أفصح وأبرع وينبغي على ذلك أن يوقف على قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) إن كان الضمير في يتساءلون لكفار قريش ، فاختلافهم أن منهم من يقطع بالتكذيب ، ومنهم من يشك أو يكون اختلافهم ؛ قول بعضهم سحر ، وقول بعضهم شعر وكهانة وغير ذلك ، وإن كان الضمير لجميع الناس فاختلافهم أن منهم المؤمن والكافر.

(كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ردع وتهديد ثم كرره للتأكيد (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) أي فراشا ، وإنما ذكر الله تعالى هنا هذه المخلوقات على جهة التوقيف [السؤال] ليقيم الحجة على الكفار فيما أنكروه من البعث كأنه يقول : إن الإله الذي قدر على خلقة هذه المخلوقات العظام قادر على إحياء الناس بعد موتهم ، ويحتمل أنه ذكرها حجة على التوحيد ؛ لأن الذي خلق هذه المخلوقات هو الإله وحده لا شريك له (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) شبهها بالأوتاد لأنها تمسك الأرض أن تميد (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) أي من زوجين ذكرا وأنثى ، وقيل : معناه أنواعا في ألوانكم وصوركم وألسنتكم (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لكم ، وقيل : معناه

٤٤٤

قطعا للأعمال والتصرف. والسبت : القطع. وقيل : معناه موتا ؛ لأن النوم هو الموت الأصغر ، ومنه قوله تعالى (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) [الزمر : ٤٢] (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) شبهه بالثياب التي تلبس لأنه ستر عن العيون (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) أي تطلب فيه المعيشة ، فهو على حذف مضاف تقديره ذا معاش ، وقال الزمخشري : معناه يعاش فيه فجعله بمعنى الحياة في مقابلة السبات ، الذي بمعنى الموت (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) يعني السموات (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) يعني الشمس. والوهّاج الوقاد الشديد الإضاءة ، وقيل : الحار الذي يضطرم من شدة لهبه (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) يعني : المطر. والمعصرات : هي السحاب وهو مأخوذ من العصر ؛ لأن السحاب ينعصر فينزل منه الماء أو من العصرة ؛ بمعنى الإغاثة. ومنه : وفيه يعصرون ، وقيل : هي السموات وقيل : الرياح والثجّاج السريع الاندفاع (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً) الحب هو القمح والشعير وسائر الحبوب والنبات هو العشب (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) أي ملتفة وهو جمع لف بضم اللام ، وقيل : بالكسر وقيل : لا واحد له (كانَ مِيقاتاً) أي في وقت معلوم.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) يعني نفخة القيام من القبور (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) أي جماعات (فَكانَتْ أَبْواباً) (١) أي تنفخ فتكون فيها شقاق كالأبواب (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) أي حملت (فَكانَتْ سَراباً) عبارة عن تلاشيها وفنائها والسراب في اللغة : ما يظهر على البعد أنه ماء ، وليس ذلك المراد هنا وإنما هو تشبيه في أنه لا شيء (مِرْصاداً) أي موضع المرصاد والرصد هو الارتقاب والانتظار ، أي تنتظر الكفار ليدخلوها وقيل : معناه طريقا للمؤمنين يمرون عليه إلى الجنة لأن الصراط منصوب على جهنم (مَآباً) أي مرجعا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) جمع حقبة أو حقب وهي المدة الطويلة من الدهر غير محدودة ، وقيل إنها محدودة ثم اختلف في مقدارها ، فروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها ثمانون ألف سنة ، وقال ابن عباس : ثلاثون سنة وقيل ثلاثمائة سنة ، وعلى القول بالتحديد فالمعنى أنهم يبقون فيها أحقابا ، كلما انقضى حقب جاء آخر إلى غير نهاية وقيل : إنه كان يقتضي أن مدة العذاب تنقضي ، ثم نسخ بقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) وهذا خطاب لأن الأخبار لا تنسخ ، وقيل : هي في عصاة المؤمنين الذين يخرجون من النار ، وهذا خطأ لأنها في الكفار لقوله : وكذبوا بآياتنا وقيل : معناها أنهم يبقون أحيانا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، ثم يبدل لهم نوع آخر

__________________

(١). أول الآية : وفتحت السماء قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد : وفتّحت.

٤٤٥

من العذاب (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً) أي لا يذوقون برودة تخفف عنهم حر النار. وقيل : لا يذوقون ماء باردا وقيل : البرد هنا النوم والأول أظهر (إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) استثناء من الشراب وهو متصل ، والحميم : الماء الحار. والغساق : صديد أهل النار ، وقد ذكر في سورة داود [ص : ٥٧] (جَزاءً وِفاقاً) أي موافقا أعمالهم لأن أعمالهم كفر وجزاؤهم النار ، ووفاقا مصدر وصف به أو هو على حذف مضاف تقديره ذو وفاق (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) هذا مثل لا يرجون لقاءنا وقد ذكر (١) (كِذَّاباً) بالتشديد مصدر بمعنى تكذيب وبالتخفيف بمعنى الكذب أو المكاذبة ، وهي تكذيب بعضهم لبعض (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما نزل في أهل النار أشد من هذه الآية» (٢).

(مَفازاً) أي موضع فوز يعني الجنة (حَدائِقَ) أي بساتين (وَكَواعِبَ) جمع كاعب وهي الجارية التي خرج ثديها (أَتْراباً) أي على سن واحد (وَكَأْساً دِهاقاً) أي ملأى وقيل : صافية والأول أشهر (عَطاءً حِساباً) أي كافيا من أحسب الشيء إذا كفاه ، وقيل : معناه على حسب أعمالهم (رَبِّ السَّماواتِ) بالرفع (٣) مبتدأ أو خبر ابتداء مضمر وبالخفض صفة لربك ، والرحمن بالخفض صفة ، وبالرفع خبر المبتدأ أو خبر ابتداء مضمر (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) قال ابن عطية : الضمير للكفار أي لا يملكون أن يخاطبوه بمقدرة ولا غيرها ، وقيل : المعنى لا يقدرون أن يخاطبهم كقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) وقال الزمخشري : الضمير لجميع الخلق أي ليس بأيديهم شيء من خطاب الله (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) قيل هو جبريل ، وقيل : ملك عظيم يكون هو وحده صفا والملائكة صفا ، وقيل : يعني أرواح بني آدم فهو اسم جنس ويوم يتعلق بلا يملكون أو لا يتكلمون (لا يَتَكَلَّمُونَ) الضمير للملائكة والروح ، أي تمنعهم الهيبة من الكلام إلا من بعد أن يأذن الله لهم. وقول الصواب يكون في ذلك الموطن على هذا. وقيل : الضمير للناس خاصة والصواب المشار إليه قول : لا إله إلا الله أي من قالها في الدنيا (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) أي الحق وجوده ووقوعه (فَمَنْ شاءَ)

__________________

(١). لا يرجون لقاءنا : وردت في سورة يونس ٧ ، ١١ ، ١٥ ، والفرقان : ٢١.

(٢). روى الطبري هذا الحديث. بسنده إلى عبد الله بن عمرو في تفسير الآية.

(٣). قراءة نافع وابن كثير وأبو عمرو. وقرأ عاصم وابن عامر : ربّ بالكسر.

٤٤٦

تخصيص وترغيب (عَذاباً قَرِيباً) يعني عذاب الآخرة ووصفه بالقرب لأن كل آت قريب ، أو لأن الدنيا على آخرها (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) المرء هنا عموم في المؤمن والكافر ، وقيل : هو المؤمن وقيل : هو الكافر والعموم أحسن ، لأن كل أحد يرى ما عمل لقوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة الآية (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) يتمنى أن يكون يوم القيامة ترابا فلا يحاسب ولا يجازى ، وقيل : تمنى أن يكون في الدنيا ترابا أي لم يخلق ، وروي أن البهائم تحشر ليقتص لبعضهم من بعض ثم ترد ترابا ، فيتمنى الكافر أن يكون ترابا مثلها ، وهذا يقوّي الأول ، وقيل : الكافر هنا إبليس يتمنى أن يكون خلق من تراب ، مثل آدم وذريته لما رأى ثوابهم ، وقد كان احتقر التراب في قوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].

٤٤٧

سورة النازعات

مكية وآياتها ٤٦ نزلت بعد النبأ

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

اختلف في معنى النازعات والناشطات والسابقات والسابحات والمدبرات ، فقيل : إنها الملائكة وقيل : النجوم ، فعلى القول بأنها الملائكة سماهم نازعات ؛ لأنهم ينزعون نفوس بني آدم من أجسادها ، وناشطات لأنهم ينشطونها أي يخرجونها فهو من قولك : نشطت الدلو من البئر : إذا أخرجتها وسابحات لأنهم يسبحون في سيرهم ، أي يسرعون فيسبقون فيدبرون أمور العباد ، والرياح والمطر وغير ذلك حسبما يأمرهم الله وعلى القول بأنها النجوم سماها نازعات لأنها تنزع من المشرق إلى المغرب ، وناشطات لأنها تنشط من برج إلى برج ، وسابحات لأنها تسبح في الفلك ومنه (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] فتسبق في جريها فتدبر أمرا من علم الحساب ، وقال ابن عطية : لا أعلم خلافا أن المدبرات أمرا الملائكة ، وحكى الزمخشري فيها ما ذكرنا. وقد قيل في النازعات والناشطات أنها النفوس ، تنزع من معنى النزع بالموت ، فتنشط من الأجساد ، وقيل : في السابحات والسابقات أنها الخيل وأنها السفن (غَرْقاً) إن قلنا النازعات الملائكة ففي معنى غرقا وجهان : أحدهما أنها من الغرق أي تغرق الكفار في جهنم ، والآخر أنه من الإغراق في الأمر ، بمعنى المبالغة فيه ، أي تبالغ في نزعها فتقطع الفلك كله ، وإن قلنا إنها النفوس ، فهو أيضا من الإغراق أي تغرق في الخروج من الجسد ، والإعراب غرقا مصدر في موضع الحال ، ونشطا وسبحا وسبقا مصادر ، وأمرا مفعول به ، وجواب القسم محذوف ، وهو بعث الموتى بدلالة ما بعده عليه من ذكر القيامة ، وقيل : الجواب يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة على تقدير حذف لام التأكيد ، وقيل : هو «إن في ذلك لعبرة لمن يخشى» وهذا بعيد لبعده عن القسم ، ولأنه إشارة إلى قصة فرعون لا لمعنى القسم.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) قيل : الراجفة النفخة الأولى في الصور ، والرادفة النفخة الثانية : لأنها تتبعها ولذلك سماها رادفة من قولك : ردفت الشيء إذا تبعته ، وفي

٤٤٨

الحديث أن بينهما أربعين عاما ، وقيل : الراجفة : الموت والرادفة : القيامة ، وقيل : الراجفة الأرض ، من قوله (تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤] والرادفة السماء لأنها تنشق يومئذ. والعامل في يوم ترجف محذوف وهو الجواب المقدر تقديره : لتبعثن يوم ترجف الراجفة وإن جعلنا يوم ترجف الجواب فالعامل في يوم معنى قوله (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) وقوله :

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) في موضع الحال ، ويحتمل أن يكون العامل فيه تتبعها (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي شديدة الاضطراب ، والوجيف والوجيب بمعنى واحد ، وارتفع قلوب بالابتداء وواجفة خبره ، وقال الزمخشري : واجفة صفة ، والخبر أبصارها خاشعة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) كناية عن الذل والخوف ، وإضافة الأبصار إلى القلوب على تجوز والتقدير : قلوب أصحابها. (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) هذا حكاية قول الكفار في الدنيا ، ومعناه على الجملة إنكار البعث ، فالهمزة في قوله «أإنا لمردودون» للإنكار. ولذلك اتفق العلماء على قراءته بالهمزتين ، إلا أن منهم من سهّل الثانية ومنهم من خففها. واختلفوا في إذا كنا عظاما نخرة فمنهم من قرأه بهمزة واحدة لأنه ليس بموضع استفهام ولا إنكار ، ومنهم من قرأه بهمزتين تأكيدا للإنكار المتقدم ، ثم اختلفوا في معنى الحافرة على ثلاثة أقوال : أحدها أنها الحالة الأولى. يقال : رجع فلان في حافرته إذا رجع إلى حالته الأولى. فالمعنى أإنا لمردودون إلى الحياة بعد الموت والآخر أن الحافرة الأرض بمعنى محفورة فالمعنى أإنا لمردودون إلى وجه الأرض بعد الدفن في القبور والثالث أن الحافرة النار والعظام النخرة البالية المتعفنة وقرأ [حمزة والكسائي وأبو بكر] ناخرة بألف [والباقون] بحذف الألف وهما بمعنى واحد ؛ إلا أن حذف الألف أبلغ لأن فعل أبلغ من فاعل وقيل : معناه العظام المجوفة التي تمر بها الريح فيسمع لها نخير ، والعامل في إذا كنا محذوف تقديره إذا كنا عظاما نبعث ، ويحتمل أن يكون العامل فيه مردودون في الحافرة ولكن إنما يجوز ذلك على قراءة إذا كنا بهمزة واحدة على الخبر ، ولا يجوز على قراءته بهمزتين. لأن همزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) الكرة الرجعة والخاسرة منسوبة إلى الخسران كقوله : عيشة راضية ، أي ذات رضى أو معناه خاسر أصحابها ومعنى هذا الكلام أنهم قالوا : إن كان البعث حقا فكرّتنا خاسرة ، لأنا ندخل النار.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) يعني النفخة في الصور للقيام من القبور. وهذا من كلام الله تعالى ردّا على الذين أنكروا البعث كأنه يقول : لا تظنوا أنه صعب على الله [بل] هو عليه يسير ، فإنما ينفخ نفخة واحدة في الصور فيقوم الناس من قبورهم (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) إذا هنا فجائية والساهرة وجه الأرض ، والباء ظرفية والمعنى : إذا نفخ في الصور حصلوا بالأرض أسرع شيء.

٤٤٩

(هَلْ أَتاكَ) توقيف [سؤال] وتنبيه وليس المراد به مجرد الاستفهام (طُوىً) ذكر في طه : ١٢ (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) تفسير للنداء (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (١) أن تتطهر من الكفر والذنوب والعيوب والرذائل ، وقال بعضهم : تزكى تسلم وقيل : تقول لا إله إلا الله والأول أعم (الْآيَةَ الْكُبْرى) قلب العصا حية ، وإخراج اليد بيضاء ، وجعلهما واحدة لأن الثانية تتبع الأولى ، ويحتمل أن يريد الأولى وحدها (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) الإدبار كناية عن الإعراض عن الإيمان ، ويسعى عبارة عن جده في الكفر ، وفي إبطال أمر موسى عليه‌السلام وقيل : هو حقيقة. أي قام من مجلسه يفر من مجالسة موسى أو يهرب من العصا لما صارت ثعبانا (فَحَشَرَ) أي جمع جنوده وأهل مملكته (فَنادى) أي نادى قومه وقال لهم ما قال ، ويحتمل أنه ناداهم بنفسه ، أو أمر من يناديهم ، والأول أظهر. وروى أنه قام فيهم خطيبا فقال ما قال (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) النكال مصدر بمعنى التنكيل ، والعامل فيه أخذه الله ؛ لأنه بمعناه وقيل : العامل محذوف ، والآخرة هي : دار الآخرة والأولى : الدنيا فالمعنى نكال الآخرة بالنار ونكال الأولى بالغرق. وقيل : الآخرة قوله : أنا ربكم الأعلى والأولى قوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص : ٣٨] وقيل : بالعكس فالمعنى أخذه الله وعاقبه على كلمة الآخرة وكلمة الأولى.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) هذا توقيف [سؤال] قصد به الاستدلال على البعث فإن الذي خلق السماء قادر على خلق الأجساد بعد فنائها (رَفَعَ سَمْكَها) السمك : غلظ السماء وهو الارتفاع الذي بين سطح السماء الأسفل الذي يلينا وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها. ومعنى رفعه أنه جعله مسيرة خمسمائة عام وقيل : السّمك السقف (فَسَوَّاها) أي أتقن خلقتها وقيل : جعلها مستوية ليس فيها مرتفع ولا منخفض (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي جعله مظلما يقال : غطش الليل إذا أظلم. وأغطشه الله (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي أظهر ضوء الشمس في وقت الضحى ، وأضاف الضحى والليل إلى السماء من حيث أنهما ظاهران منها وفيها (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بسطها واستدل بها من قال : إن الأرض بسيطة غير كروية وقد ذكرنا في فصلت [١١] الجمع بين هذا وبين قوله ثم استوى إلى السماء (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) ومرعاها نسب الماء والمرعى إلى الأرض ، لأنهما يخرجان منها فإن قيل : لم قال

__________________

(١). تزكّى : قرأ نافع وابن كثير : تزّكّى بالتشديد وقرأ الباقون : تزكّى.

٤٥٠

أخرج بغير حرف العطف؟ فالجواب أن هذه الجملة في موضع الحال وتفسير لما قبلها قاله الزمخشري (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها ونصب الجبال بفعل مضمر يدل عليه الظاهر وكذلك الأرض (مَتاعاً لَكُمْ) تقديره : فعل ذلك كله تمتيعا لكم منه (وَلِأَنْعامِكُمْ) لأن بني آدم والأنعام ينتفعون بما ذكر.

(الطَّامَّةُ) هي القيامة وقيل : النفخة الثانية واشتقاقها من قولك : طمّ الأمر إذا علا وغلب (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) أي أظهرت لكل من يرى ، فهي لا تخفى على أحد (مَقامَ رَبِّهِ) ذكر في سورة الرحمن [٤٦] (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي ردها عن شهواتها وأغراضها الفاسدة قال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك وخالفه. وقال سهل التستري : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين (أَيَّانَ مُرْساها) ذكر في الأعراف : ١٨٧ (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي من ذكر زمانها فالمعنى لست في شيء من ذكر ذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل عن الساعة كثيرا فلما نزلت هذه الآية انتهى (١) (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) أي منتهى علمها لا يعلم متى تكون إلا هو وحده (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي : إنما بعثت لتنذر بها ، وليس عليك الإخبار بوقتها ، وخص الإنذار بمن يخشاها ؛ لأنه هو الذي ينفعه الإنذار (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أخبر أنهم إذا رأوا الساعة ظنوا أنهم لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور إلا عشية يوم أو ضحى يوم ، وأضاف الضحى كذلك إلى العشية لما بينهما من الملابسة إذ هما في يوم واحد.

__________________

(١). رواه الإمام الطبري في تفسيره للآية.

٤٥١

سورة عبس

مكية وآياتها ٤٢ نزلت بعد النجم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

سبب نزول صدر هذه السورة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان حريصا على إسلام قريش ، وكان يدعو أشرافهم إلى الله تعالى ليسلموا فيسلم بإسلامهم غيرهم ، فبينما هو مع رجل من عظمائهم قيل : هو الوليد بن المغيرة وقيل : عتبة بن ربيعة وقيل : أمية بن خلف ، وقال ابن عباس : كانوا جماعة إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله ، وكرر ذلك وهو لا يعلم عنه بتشاغله بالقوم ، فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطع الأعمى كلامه ، فعبس وأعرض عنه. وذهب الرجل الذي كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فنزلت الآية فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم بعد ذلك يقول : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويبسط له رداءه ، وقد استخلفه على المدينة مرتين (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي عبس في وجه الأعمى وأعرض عنه ، قال ابن عطية : في مخاطبته بلفظ الغائب مبالغة في العتب ؛ لأن في ذلك بعض الإعراض ، وقال الزمخشري : في الإخبار بالغيبة زيادة في الإنكار ، وقال غيرهما ، هو إكرام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتنزيه له عن المخاطبة بالعتاب وهذا أحسن (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) في موضع مفعول من أجله ، وهو منصوب بتولى أو عبس. وذكر ابن أم مكتوم بلفظ الأعمى ليدل أن عماه هو الذي أوجب احتقاره ، وفي هذا دليل على أن ذكر هذه العاهات جائز إذا كان لمنفعة ، أو يشهد صاحبها ومنه قول المحدثين : سليمان الأعمش ، وعبد الرحمن الأعرج وغير ذلك (وَما يُدْرِيكَ) أي أيّ شيء يطلعك على حال هذا الأعمى (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) أي يتطهر وينتفع في دينه بما يسمع منك (١).

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٢) أي تتعرّض للغنى رجاء أن يسلم (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي لا حرج عليك أن لا يتزكى هذا الغني (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) إشارة إلى عبد الله بن أم مكتوم ، ومعنى يسعى يسرع في مشيه من حرصه في طلب الخير (وَهُوَ يَخْشى) الله أو يخاف

__________________

(١). في الآية التالية : أو يذكر فتنفعه الذكرى : قرأ عاصم بفتح العين والباقون : بالضم : فتنفعه.

(٢). قوله : تصدى : قرأها نافع وابن كثير : تصّدّى بالتشديد والباقون بالتخفيف.

٤٥٢

الكفار وإذايتهم له على اتباعك ، وقيل : جاء وليس معه من يقوده ، فكان يخشى أن يقع وهذا ضعيف (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي تشتغل عنه بغيره من قولك : لهيت عن الشيء إذا تركته ، وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأدّب بما أدبه الله في هذه السورة فلم يعرض بعدها عن فقير ولا تعرّض لغني ، وكذلك اتبعه فضلاء العلماء ، فكان الفقراء في مجلس سفيان الثوري كالأمراء ، وكان الأغنياء يتمنون أن يكونوا فقراء.

(كَلَّا) ردع عن معاودة ما وقع العتاب فيه (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) فيه وجهان ، أحدهما : أن هذا الكلام المتقدّم تذكرة أو موعظة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والآخر أن القرآن تذكرة لجميع الناس ، فلا ينبغي أن يؤثر فيه أحد على أحد ، وهذا أرجح لأنه يناسبه : فمن شاء ذكره ، وما بعده ، وأنث الضمير في قوله : إنها تذكرة على معنى القصة أو الموعظة أو السورة أو القراءة ، وذكّرها في قوله : فمن شاء ذكره على معنى الوعظ أو الذكرى والقرآن (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة أي ثابتة في صحف ، وهي الصحف المنسوخة من اللوح المحفوظ وقيل : هي مصاحف المسلمين (مَرْفُوعَةٍ) إن كانت الصحف المصاحف فمعناه مرفوعة المقدار ، وإن كانت صحف الملائكة فمعناه كذلك ، أو مرفوعة في السماء ومطهرة أي منزهة عن أيدي الشياطين (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) هي الملائكة ، والسفرة جمع سافر وهو الكاتب ؛ لأنهم يكتبون القرآن ، وقيل : لأنهم سفراء بين الله وبين عبيده ، وقيل : يعني القرّاء من الناس. والأول أرجح. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة (١) أي أنه يعمل مثل عملهم في كتابة القرآن وتلاوته ، أو له من الأجر على القرآن مثل أجورهم.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه على ما جرت به عادة العرب من الدعاء بهذا اللفظ ، ومعناه تقبيح حاله ، وأنه ممن يستحق أن يقال له ذلك ، وقيل : معناه لعن وهذا بعيد (ما أَكْفَرَهُ) تعجيب من شدّة كفره ، مع أنه كان يجب عليه خلاف ذلك (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) توقيف [سؤال] وتقرير ثم أجاب عنه بقوله (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) يعني المني ومقصد الكلام تحقير الإنسان ومعناه أنه يجب عليه أن يعظم الرب الذي خلقه (فَقَدَّرَهُ) أي هيأه لما يصلح له ومنه : (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) الفرقان : ٢] ، وقيل : معناه جعله على مقدار معلوم في إعطائه وأجله ورزقه وغير ذلك (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) نصب السبيل بفعل مضمر فسره يسره ، وفي معناه ثلاثة أقوال أحدها : يسر سبيل خروجه من بطن أمه والآخر أنه سبيل الخير والشر لقوله : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، الثالث سبيل النظر السديد المؤدي إلى الإيمان ، والأول أرجح لعطفه على قوله : من نطفة خلقه فقدره

__________________

(١). الحديث رواه أحمد عن عائشة في ج ٦ ص ٢٣٩.

٤٥٣

وهو قول ابن عباس (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أي جعله ذا قبر يقال قبرت الميت إذا دفنته ، وأقبرته إذا أمرت أن يدفن (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي بعثه من قبره يقال : نشر الميت إذا قام ، وأنشره الله والإشارة إذا شاء ليوم القيامة ، أي الوقت الذي يقدر أن ينشره فيه.

(كَلَّا) ردع للإنسان عما هو فيه (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي لم يقض الإنسان على تطاول عمره ما أمره الله ، قال بعضهم : لا يقضي أحد أبدا جميع ما افترض الله عليه إذ لا بدّ للعبد من تفريط (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أمر بالاعتبار في الطعام كيف خلقه الله بقدرته ويسره برحمته ، فيجب على العبد طاعته وشكره ويقبح معصيته والكفر به ، وقيل : فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ، فينظر حقارة الدنيا وخساسة نفسه ، والأول أشهر ، وأظهر في معنى الآية على أن القول الثاني صحيح وانظر كيف فسره بقوله (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) (١) وما بعده ليعدّد النعم ويظهر القدرة ، وقرئ إنا صببنا الماء بفتح الهمزة على البدل من الطعام (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ) يعني يخرج البنات منها (حَبًّا) يعني القمح والشعير وسائر الحبوب (وَقَضْباً) قيل : هي الفصفصة ، وقيل : هي علف البهائم واختار ابن عطية أنها البقول وشبهها مما يؤكل رطبا (غُلْباً) أي غليظة ناعمة (وَأَبًّا) الأبّ المرعى عند ابن عباس والجمهور ، وقيل : التبن وقد توقف في تفسيره أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

(الصَّاخَّةُ) القيامة وهي مشتقة من قولك : صخ الأذن إذا أصمها بشدة صياحه ، فكأنه إشارة إلى النفخة في الصور ، أو إلى شدة الأمر حتى يصخ من يسمعه لصعوبته وقيل : هي من قولك : أصاخ للحديث إذا استمعه ، والأول هو الموافق للاشتقاق (يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) الآية ذكر فرار الإنسان من أحبابه ، ورتبهم على ترتيبهم في الحنو والشفقة فبدأ بالأقل وختم بالأكثر ، لأن الإنسان أشد شفقة على بنيه من كل من تقدم ذكره ؛ وإنما يفر منهم لاشتغاله بنفسه ؛ وقيل : إن فراره منهم لئلا يطالبوه بالتبعات والأول أرجح وأظهر ، لقوله (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي هو مشغول بشأنه من الحساب والثواب والعقاب ، حتى لا يسعه ذكر غيره ، وانظر قول الأنبياء عليهم‌السلام ، يومئذ نفسي نفسي (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) أي مضيئة من السرور ، وهو من قولك : أسفر الصبح إذا أضاء (عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار ، والقترة أيضا الغبار. قال ابن عطية : الغبرة من العبوس والكرب ، كما يقتر وجه المهموم والمريض ، والقترة هي غبار الأرض ، وقال الزمخشري : الغبرة : غبار يعلوها ، والقترة سواد فيعظم قبحها باجتماع الغبار والسواد.

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي : أنا صببنا بفتح الهمزة والباقون بكسرها.

٤٥٤

سورة التكوير

مكية وآياتها ٢٩ نزلت بعد المسد

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

ذكر الله في هذه السورة أهوال القيامة ، وما يعتري الموجودات حينئذ من التغيير (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) قال ابن عباس : ذهب ضوءها وأظلمت وقيل : رمى بها وقيل : اضمحلت وأصله من تكوير العمامة لأنها إذا لفت زال انبساطها وصغر جرمها (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي تساقطت من مواضعها ، وقيل : تغيرت والأول أرجح لأنه موافق لقوله (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) وروي أن الشمس والنجوم تطرح في جهنم ليراها من عبدها ، كما قال (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] (وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي حملت وبعد ذلك تفتتت فتصير هباء ثم تتلاشى (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) العشار جمع عشراء وهي الناقة الحامل التي مر لحملها عشرة أشهر ، وهي أنفس ما عند العرب وأعزها فلا تعطل إلا من شدة الهول ، وتعطيلها هو تركها سائبة أي ترك حلبها (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت وفي صفة حشرها ثلاثة أقوال : أحدها أنها تحشر أي تبعث يوم القيامة ، ليقتص لبعضها من بعض ثم تكون ترابا. والآخر أنها تحشر بموتها دفعة واحدة عند هول القيامة قاله ابن عباس وقال : إنها لا تبعث وأنه لا يحضر القيامة إلا الإنس والجن والثالث أنها تجمع في أول أهوال القيامة وتفر (١) في الأرض فذلك حشرها.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٢) فيه ثلاثة أقوال : أحدها ملئت وفجر بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا واحدا والآخر ملئت نيرانا لتعذيب أهل النار والثالث فرغت من مائها ويبست وأصله من سجرت التنور إذا ملأتها فالقول الأول والثاني أليق بالأصل. والأول والثالث موافق لقوله فجرت (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن التزويج بمعنى

__________________

(١). كذا في الأصل ولعل الصواب : تقر أو تفرّق والله أعلم.

(٢). قرأ ابن كثير وأبو عمرو : سجرت بدون تشديد والباقون بالتشديد.

٤٥٥

التنويع لأن الأزواج هي الأنواع ، فالمعنى جعل الكافر مع الكافر والمؤمن مع المؤمن والثاني زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور العين والثالث زوجت الأرواح والأجساد أي ردت إليها عند البعث والأول هو الأرجح ، لأنه روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن عمر بن الخطاب وابن عباس (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) الموؤدة هي البنت التي كان بعض العرب يدفنها حية من كراهته لها ، ومن غيرته عليها فتسأل يوم القيامة بأي ذنب قتلت على وجه التوبيخ لقاتلها ، وقرأ ابن عباس (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) بضم القاف وسكون اللام وضم التاء واستدل ابن عباس بهذه الآية على أن أولاد المشركين في الجنة لأن الله ينتصر لهم ممن ظلمهم (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) (١) هي صحف الأعمال تنشر ليقرأ كل أحد كتابه ، وقبل : هي الصحف التي تتطاير بالإيمان والشمائل بالجزاء (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) الكشط هو التقشير كما يكشط جلدة الشاة حين تسلخ ، وكشط السماء هو طيها كطي السجل قاله ابن عطية وقيل : معناه كشفت وهذا أليق بالكشط (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (٢) أي أوقدت وأحميت.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي قربت (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) هذا جواب إذا المكررة في المواضع قبل هذا ، ومعناه علمت كل نفس ما أحضرت من عمل ، فلفظ النفس مفرد يراد به الجنس والعموم وقال ابن عطية : إنما أفردها ليبين حقارتها وذلتها وقال الزمخشري : هذا من عكس كلامهم الذي يقصد به الإفراط فيما يعكس عنه (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الحجر : ٢] ومعناه التكثير ، وكذلك هنا معناه أعم الجموع (ما أَحْضَرَتْ) عبارة عن الحسنات والسيئات (فَلا أُقْسِمُ) ذكرت نظائره (بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ) يعني الدراري السبعة وهي الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والمشتري والزهرة وذلك أن هذه الكواكب تخنس في جريها أي تتقهقر ، فيكون النجم في البرج ثم يكرّ راجعا وهي جواري في الفلك ، وهي تنكنس في أبراجها أي تستتر وهو مشتق من قولك : كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو موضعه وقيل : يعني الدراري الخمسة لأنها تستتر بضوء الشمس وقيل : يعني النجوم كلها ، لأنها تخنس في جريها وتنكنس بالنهار أي تستر ، وتختفي بضوء الشمس. وقيل : يعني بقر الوحش ، فالخنس على هذا من خنس الأنف والكنس من سكناها في كناسها (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) يقال عسعس إذا كان غير مستحكم الظلام فقيل : ذلك في أوله وقيل : في آخره وهذا أرجح ، لأن آخر الليل أفضل ولأنه أعقبه بقوله (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي استطار واتسع

__________________

(١). نشرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتخفيف والباقون نشّرت بالتشديد.

(٢). سعّرت قرأها نافع وابن عامر وعاصم بالتشديد والباقون سعرت بالتخفيف.

٤٥٦

ضوؤه (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) الضمير للقرآن والرسول الكريم جبريل وقيل : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال السهيلي : لا يجوز أن يقال إنه محمد عليه‌السلام ؛ لأن الآية نزلت في الرد على الذين قالوا إن محمدا قال القرآن فكيف يخبر الله أنه قوله ، وإنما أراد جبريل. وأضاف القرآن إليه لأنه جاء به ، وهو في الحقيقة قول الله تعالى وهذا الذي قال السهيلي لا يلزم ، فإنه قد يضاف إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه تلقاه عن جبريل عليه‌السلام ، وجاء به إلى الناس ، ومع ذلك فالأظهر أنه جبريل وصفه بقوله : ذي قوة وقد وصف جبريل بهذا لقوله شديد القوى وذو مرة (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) يتعلق بذي قوة ، وقيل : بمكين ، وهذا أظهر والمكين الذي له مكانة أي جاه وتقريب (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) هذا الظرف إشارة إلى الظرف المذكور قبله. وهو عند ذي العرش أي مطاع في ملائكة ذي العرش (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتفاق (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) ضمير الفاعل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وضمير المفعول لجبريل عليه‌السلام ، وهذه الرؤية له بغار حراء على كرسي بين السماء والأرض. وقيل : الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى في الإسراء ، ووصف هذا الأفق بالمبين لأنه روي أنه كان في المشرق من حيث تطلع الشمس ، وأيضا فكل أفق فهو مبين (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) الضمير للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومن قرأ بالضاد فمعناه بخيل أي لا يبخل بأداء ما ألقى إليه من الغيب ، وهو الوحي ، ومن قرأ بالظاء (١) فمعناه متهم أي لا يتهم على الوحي ، بل هو أمين عليه. ورجح بعضهم هذه القراءة بأن الكفار لم ينسبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البخل بالوحي بل اتهموه فنفى عنه ذلك (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) الضمير للقرآن (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) خطاب لكفار قريش أي ليس لكم زوال عن هذه الحقائق. وقد تقدم تفسير بقية السورة في نظائره فيما تقدم.

__________________

(١). بظنين : هي قراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي والباقون بالضاد : بضنين.

٤٥٧

سورة الانفطار

مكية وآياتها ١٩ نزلت بعد النازعات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي سقطت من مواضعها (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي فرغت وقيل : فجر بعضها إلى بعض فاختلط (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي نبشت على الموتى الذين فيها ، وقال الزمخشري : أصله من البعث والبحث فضمت إليها الراء والمعنى بحثت وأخرج موتاها (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) هذا هو الجواب ومعناه : علمت كل نفس جميع أعمالها ، وقيل ما قدمت في حياتها وما أخرت مما تركته بعد موتها من سنّتها أو وصيّة أوصت بها ، وأفردت النفس والمراد به العموم حسبما ذكرنا في التكوير.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) خطاب لجنس بني آدم (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) هذا توبيخ وعتاب معناه : أي شيء غرّك بربك حتى كفرت به أو عصيته ، أو غفلت عنه فدخل في العتاب الكفار وعصاة المؤمنين ، ومن يغفل عن الله في بعض الأحيان من الصالحين. وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ ما غرّك بربك الكريم فقال : غرّه جهله وقال عمر : غرّه جهله وحمقه. وقرأ إنه كان ظلوما جهولا ، وقيل : غرّه الشيطان المسلط عليه. وقيل : غرّه ستر الله عليه وقيل : غرّه طمعه في عفو الله عنه. ولا تعارض بين هذه الأقوال لأن كل واحد منهما مما يغرّ الإنسان ، إلا أن بعضها يغرّ قوما وبعضها يغر قوما آخرين فإن قيل : ما مناسبة وصفه بالكريم هنا للتوبيخ على الغرور؟ فالجواب أن الكريم ينبغي أن يعبد ويطاع شكرا لإحسانه ومقابلة لكرمه ، ومن لم يفعل ذلك فقد كفر النعمة وأضاع الشكر الواجب (فَعَدَلَكَ) (١) بالتشديد والتخفيف أي عدل أعضاءك وجعلها متوازية فلم يجعل إحدى اليدين أطول من الأخرى ، ولا إحدى العينين أكبر من الأخرى ولا إحداهما كحلاء

__________________

(١). قرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتخفيف والباقون بالتشديد.

٤٥٨

والأخرى زرقاء ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود وشبه ذلك من الموازنة (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) المجرور يتعلق بركبك وما زائدة ، والمعنى ركبك في أي صورة شاء من الحسن والقبح ، والطول والقصر ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من اختلاف الصور ، ويحتمل أن يتعلق المجرور بمحذوف تقديره : ركبك حاصلا في أي صورة وقيل : يتعلق بعدلك على أن يكون بمعنى صرفك إلى أي صورة شاء هذا بعيد ، ولا يمكن إلا مع قراءة عدلك بالتخفيف.

(كَلَّا) ردع عن الغرور المذكور قبل ، والتكذيب المذكور بعد (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) هذا خطاب للكفار والدين هنا يحتمل أن يكون بمعنى الشريعة أو الحساب أو الجزاء (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) يعني الملائكة الذين يكتبون أعمال بني آدم (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) يعلمون الأعمال لمشاهدتهم لها ، وأما ما لا يرى ولا يسمع من الخواطر والنيات والذكر بالقلب فقيل : إن الله ينفرد بعلم ذلك ، وقيل إن الملك يجد لها ريحا يدركها به (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) في هذه الآية وفيما بعدها من أدوات البيان المطابقة والترصيع (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) فيه قولان : أحدهما أن معناه لا يخرجون منها إذا دخلوها والآخر لا يغيبون عنها في البرزخ قبل دخولها لأنهم يعرضون عليها غدوا وعشيا (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) تعظيم له وتهويل ، وكرّره للتأكيد والمعنى أنه من شدته بحيث لا يدري أحد مقدار هوله وعظمته (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يقدر أحد على منفعة أحد وقرأ [ابن كثير وأبو عمرو] يوم بالرفع على البدل من يوم الدين ، أو على إضمار مبتدأ ، أو بالنصب على الظرفية بإضمار فعل تقديره فعل يجازون يوم الدين أو النصب على المفعولية بإضمار فعل تقديره اذكر ، ويجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكن وهو في موضع رفع.

٤٥٩

سورة المطففين

مكية وآياتها ٣٦ نزلت بعد العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) التطفيف في اللغة هو البخس والنقص وفسره بذلك الزمخشري واختاره ابن عطية وقيل : هو تجاوز الحد في زيادة أو نقصان واختاره ابن الفرس وهو الأظهر لأن المراد به هنا بخس حقوق الناس في المكيال والميزان ، بأن يزيد الإنسان على حقه أو ينقص من حق غيره ، وسبب نزول السورة أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطى بالأنقص ، فالسورة على هذا مدنية وقيل مكية لذكر أساطير الأولين وقيل : نزل بعضها بمكة. ونزل أمر التطفيف بالمدينة ؛ إذ كانوا أشد الناس فسادا في هذا المعنى فأصلحهم الله بهذه السورة (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) معنى اكتالوا على الناس قبضوا منهم بالكيل فعلى بمعنى من وإنما أبدلت منها لما تضمن الكلام من معنى التحامل عليهم ، ويجوز أن يتعلق على الناس بيستوفون وقدم المفعول لإفادة التخصيص (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) معنى يخسرون ينقصون حقوق الناس وهو من الخسارة ، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره إذا جعله يخسر ، وكالوهم معناه : كالوا لهم أو وزنوهم معناه وزنوا لهم ، ثم حذف حرف الجرّ فانتصب المفعول لأن هذين الفعلين يتعدى كل واحد منهما تارة بنفسه وتارة بحرف الجرّ يقال : كلتك وكلت لك ووزنتك ووزنت لك بمعنى واحد. وحذف المفعول الثاني ، وهو المكيل والموزون ، والواو التي هي ضمير الفاعل للمطففين والهاء الذي هي ضمير المفعول للناس. فالمعنى إذا كالوا أو وزنوا لهم طعاما أو غيره مما يكال أو يوزن يخسرونهم حقوقهم ، وقيل : إن هم في كالوهم أو وزنوهم تأكيد للضمير الفاعل وروي عن حمزة أنه كان يقف على كالوا ووزنوا ثم يبتدئ هم ليبين هذا المعنى وهو ضعيف من وجهين ، أحدهما : أنه لم يثبت في المصحف ألف بعد الواو في كالوا ووزنوا فدلّ ذلك على أن هم ضمير المفعول. والآخر أن المعنى على هذا أن المطففين إذا تولوا الكيل أو الوزن نقصوا ، وليس ذلك بمقصود لأن الكلام واقع في الفعل لا في المباشر ، ألا ترى أنّ اكتالوا على الناس معناه : قبضوا منهم

٤٦٠