المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى

أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]

المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى

المؤلف:

أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

ثم أنواع المد وأحكامه وبعده باب الهمز وأحكامه ، وأحكام الهمزتين.

وبذلك ينتهي الكتاب.

بين ابن قتيبة والحدادي :

نلاحظ في الكتاب أنّ الحدادي ، رحمه‌الله ، تأثر بكتابه هذا بكتاب ابن قتيبة «تأويل مشكل القرآن» فكلاهما سبب تأليفه الرد على الطاعنين في القرآن كما بينا.

كما أن فيهما عدة من الأبواب المشتركة وهي :

ـ باب الحروف واستعارة بعضها مكان بعض.

ـ باب الانتقال من الخطاب إلى الغائب والعكس.

ـ باب الجمع ، يراد به واحد أو اثنان.

ـ باب الواحد ، يراد به الجمع.

٤١

ـ باب أن يجتمع شيئان فيجعل الفعل لأحدهما وهو لهما.

ـ باب العكس.

ـ باب المفعول بلفظ الفاعل ، والفعيل بمعنى المفعل ، والفعيل بمعنى الفاعل ، والفاعل ، والفاعل على لفظ المفعول.

ـ باب الحروف المقطعة.

ـ باب الأمر.

ففي باب الحروف نجد مثلا في باب [الباء مكان «عن»] استشهد ابن قتيبة بقوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً.) [الفرقان : آية ٥٩].

وبقول علقمة بن عبدة :

فإن تسألوني بالنساء فإنّني

خبير بأدواء النساء طبيب

وقول ابن أحمر :

تسائل بابن أحمر من رآه

أعارت عينه أم لم تعارا

 ـ ونجد الحدادي استشهد بنفس الشواهد عدا بيت ابن الأحمر فإنه استشهد به في مكان آخر ، وزاد عليه قوله تعالى : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ.) [المعارج : آية ١].

وبقول الأخطل :

دع المغمّر لا تسأل بمصرعه

وسل بمصقلة البكري ما فعلا

 ـ وفي باب [إلى بمعنى مع] استشهد ابن قتيبة بقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) (١) ، وقوله : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٢) ، وبقول ابن مفرّغ :

شدخت غرّة السوابق منهم

في وجوه إلى اللمام الجعاد

__________________

(١) سورة النساء : آية ٢.

(٢) سورة الصف : آية ١٤.

٤٢

ـ والحدادي ذكر نفس الشواهد وزاد عليه ثلاثة من الأبيات الشعرية على عادته في كثرة الشواهد.

ـ وفي باب الفعيل بمعنى مفعل استشهد ابن قتيبة بقوله تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، وقوله : (عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) ، وقول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرّقني وأصحابي هجوع

 ـ والحدادي ذكر نفس الشواهد إلا الآية الثانية ، وزاد من الآيات : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) (٣) و (يَوْمٍ عَقِيمٍ ،) (٤) أي : معقم. وفي الأبواب المشتركة بينهما نجد أنّ ابن قتيبة يتكلم عليها باختصار بينما الحدادي يتوسع ويستكثر من الأمثلة.

والحدادي زاد في كتابه أبوابا كثيرة لم يذكرها ابن قتيبة ، تناسب موضوع كتابه ، كما نجد لابن قتيبة أبوابا لعدة سور يتكلم على المشكل فيها.

ـ وفي كلّ خير وكما قيل : «لا يستغنى بكتاب عن كتاب».

بين الحدادي ، وابن فارس :

ـ نلاحظ أن المؤلف قد تأثر بابن فارس علما أنّ ابن فارس كان معاصرا للمؤلف ، إذ كانت وفاته سنة ٣٩٥ ه‍ ، والمؤلف توفي بعد الأربعمائة بقليل.

ولم تدل المصادر على اجتماعهما ولا التقائهما مع أنّ ابن فارس رحل إلى بغداد وأقام بها مدة والمؤلف كذلك ، ثم رجع إلى بلاد الري وتوفي فيها. لكن شهرة ابن فارس كانت أكثر من مؤلفنا.

فنجد عدة أبواب مشتركة بين كتابه وكتاب ابن فارس «الصاحبي» ، ومن هذه الأبواب :

ـ باب الحروف إلا أنّ ابن فارس جمع الكلام على الحروف في مكان واحد ، والمؤلف فرّقه في عدة أمكنة ، حسب موضع الحرف من الآيات.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١١٧.

(٢) سورة البقرة : آية ١٠.

(٣) سورة يس : آية ١.

(٤) سورة الحج : آية ٥٥.

٤٣

ونجد ابن فارس يذكر في أول الحروف فيقول : «رأيت أصحابنا الفقهاء يضمّنون كتبهم في أصول الفقه حروفا من حروف المعاني ، وما أدري ما الوجه في اختصاصهم إياها دون غيرها ، فذكرت عامة حروف المعاني رسما واختصارا».

ـ ففي باب «أو» مثلا :

يذكر ابن فارس أنها تكون للشك والتخيير والإباحة وبمعنى الواو أو بل.

وأيضا الحدادي ذكر هذه المعاني لها لكنه أكثر من الشواهد الشعرية.

فابن فارس ذكر ثلاثة شواهد فقط ، والحدادي ذكر أربعة أبيات منها اثنين ذكرهما ابن فارس ، بينما في الآيات ذكر الحدادي ضعفه أو أكثر.

ملاحظات :

نلاحظ في النهاية عدة سمات أساسية لهذا الكتاب :

١ ـ الاستطراد الكثير.

٢ ـ كثرة الشواهد القرآنية ، التي تزيد القاعدة وضوحا وجمالا وروعة ، وكأنّ القرآن أمام المؤلف رحمه‌الله مائدة مفتوحة ، ينتقي منها ما يشاء ، فيجعله في محلّه المناسب له.

٣ ـ سعة اطلاع المؤلف على أشعار العرب خاصة الجاهلية ، حيث إنّ شواهده كثيرة ونجده يستشهد كثيرا بالمعلقات الجاهلية وعلى الأخص معلّقة امرىء القيس ، وعنترة.

٤ ـ قلة استشهاده بالحديث الشريف ، ولعل السبب في ذلك هو اختلاف العلماء في جواز الاحتجاج بالحديث في القواعد النحوية.

٥ ـ نجده أيضا يستشهد ببعض الأمثال العربية ، يزيّن بها كتابه ، وإن كانت قليلة.

٤٤

نسخة الكتاب

الكتاب نسخة فريدة في العالم ، ولم نجد بعد البحث والاستقصاء ـ بقدر الطاقة ـ في الفهارس والمكتبات العامة وفهارس المخطوطات أي نسخة غير هذه النسخة.

والنسخة هي مخطوطة في مكتبة شستربتي في إيرلندا.

وعنها نسختان مصورتان :

ـ إحداهما : في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في قسم المخطوطات والميكرو فيلم.

ـ والأخرى : في مكتبة جامعة أم القرى بمكة المكرمة في قسم المخطوطات والميكرو فيلم.

فكلاهما مصورتان بالميكرو فيلم عن المخطوطة الأصلية في إيرلندا.

والنسخة عبارة عن ١٢٣ ورقة من القطع المتوسط. كل صفحة منها في ١٩ سطرا ولم يبيّن ناسخها ، فهي مليئة بالتصحيفات التي لا تخفى على سار في أول طلب العلم ، ولكن الصعوبة في التصحيفات الشعرية الكثيرة. ويبدو أن الناسخ لم يكن يتقن النحو كل الإتقان ، وتاريخ نسخها القرن الثامن الهجري.

ويبدو أن النسخة ناقصة ورقات من الأخير.

وفيها بعض الأماكن القليلة مطموسة لم تظهر ، ولم تمكن قراءتها فأشرت لها وهو موضع أو أكثر.

٤٥

٤٦

٤٧

٤٨

٤٩
٥٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة المؤلف

ربّ يسّر ولا تعسّر ، وسهّل وتمّم

إنّ أفضل ما يفتتح به الكلام حمد الله ، وأحقّ ما يمسك به الأنام دين الله ، وأحرى ما يزجى في تفهمه الأيام كتاب الله.

الحمد لله الذي هدانا للإيمان ، وفهّمنا علم القرآن ، وجنّبنا عبادة الأوثان.

والصلاة على نجيّ خطابه ، وسفير كتابه ، محمد وآله وأصحابه.

قال الفقيه الإمام المفسّر الزاهد أبو نصر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد الحدادي ، رضي الله عنه حيّا وميتا :

إني لما فرغت من تصنيف كتاب «الموضح لعلم القرآن» (١) صنّفت كتابي هذا تحفة مني لولدي (محمد نعمة الله) وصلة مني إيّاه ، وهدية له ولسائر إخواني من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين وجعلته «مدخلا لعلم تفسير كتاب الله تعالى ومعانيه» وتنبيها على ما غمض من طرقه ومبانيه ، وردّا على الملحدين الطاعنين في كتاب الله ، لقصور علمهم عن افتنان لطائف لغة العرب وفصاحتها ، ومذاهبها في الحذف والاختصار ، والإيجاز والتّكرار ، والتقديم والتأخير ، والإطالة والتقصير ، وذكر التثنية بلفظ الجمع ، وذكر الجمع بلفظ التثنية ، والمذكّر بلفظ التأنيث ، والتأنيث بلفظ التّذكير ، وحذف

__________________

(١) وقد طبع الكتاب بتحقيقنا.

٥١

المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، والعدول من المخاطبة إلى الغائبة ، ومن الغائبة إلى المخاطبة ، وحذف الجواب عن الشرط والقسم ، وردّ الكناية في الكلام إلى اللفظ تارة وإلى المعنى أخرى ، وإقامة بعض الحروف مقام بعض ، وإثبات بعض الحروف والمعنى حذفها ، وحذف بعض الحروف والمعنى إثباتها ، ولفظ الخبر بمعنى الأمر ، والأمر بمعنى الخبر ، وما يجيء بعد القول ، وانتصاب الاسم على المصدر ، وأشباهه مما سيوقف عليه في أبواب هذا الكتاب إن شاء الله عزوجل.

* * *

٥٢

الباب الأول

في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

ـ اجتمع في هذه السورة ثمانية أبواب من هذه الأبواب المذكورة من قبل وغيرها :

ـ أحدها : باب المبتدأ وخبره.

ـ الثاني : باب ما جاء بعد القول.

ـ الثالث : باب الانتصاب للاسم على المصدر.

ـ الرابع : باب العدول من المخاطب إلى الغائب.

ـ الخامس : باب العدول من الغائب إلى المخاطب.

ـ السادس : باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

ـ السابع : باب إدخال «لا» صلة.

ـ الثامن : باب البدل والمبدل منه.

باب المبتدأ وخبره

قال الشيخ الإمام الزاهد (١) : إن سألك سائل عن قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ) (٢) على ما ذا ارتفع؟

فقل : إنّ في (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أربع لغات :

__________________

(١) يعني المؤلف رحمه‌الله.

(٢) سورة الفاتحة : آية ١.

٥٣

(الحمد لله) ، برفع الدال. وهي أصحّ اللغات وأشهرها ، وهي لغة قريش وتميم. وعليها أكثر العرب.

و (الحمد لله) منصوبة. وهي لغة قيس. وكان رؤبة بن العجّاج (١) يقرأ بها.

و (الحمد لله) بكسر الدال ، وهي لغة غطفان وبني عامر ، وقراءة الحسن (٢) رحمة الله عليه.

و (الحمد لله) برفع الدال واللام ، وهي لغة ربيعة ، ولا علم لي بمن يقرأ بها (٣).

وأمّا اللغة الأولى ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وهي أشهرها.

فقيل : إنّ (الْحَمْدُ) مبتدأ ، وخبره في (لِلَّهِ).

والنحويون أطلقوا الخبر على (لِلَّهِ) على التسامح لا على الحقيقة ؛ لأنّ الحرف لا يكون خبرا ، والخبر إنّما يكون اسما أو فعلا ، إلا أنّه لمّا اقتضت حروف الجرّ أسماء وأفعالا ؛ إمّا ظاهرة وإمّا مقدرة ، أطلقوا الخبر على

__________________

(١) راجز مشهور ، يكنى أبا محمد ، له ديوان رجز ليس فيه شعر سوى الأراجيز. كان بصيرا باللغة ، قيّما بحوشيها وغريبها ، وكان يأكل الفار. توفي سنة ١٤٥ ه‍ ، ولما مات قال الخليل : دفنّا الشعر واللغة والفصاحة.

(٢) هو الحسن بن أبي الحسن البصري ، من سادات التابعين وكبرائهم. يكنى أبا سعيد وأبوه مولى زيد بن ثابت الأنصاري ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وربما غابت في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله بها. جمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة. توفي بالبصرة سنة ١١٠ ه‍.

(٣) قال أبو جعفر النحاس : وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة.

وقال الفراء : وأما الذين رفعوا اللام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان مثل : الحلم والعقب.

والعقب : العاقبة.

٥٤

الحرف ، وعنوا به الاسم المقدّر في الحرف ، أو الفعل المقدّر ، فكان معناه ههنا : الحمد ثابت لله ، أو : ثبت لله (١).

لأنّ المبتدأ إذا كان مصدرا كالحمد والقيام والقعود وغيرها ، جاز أن يحذف خبره ويقام غيره مقامه ، كقولك : قيامك خلف زيد ، وقعودك يوم الجمعة.

أي : قيامك كائن خلف زيد ، وقعودك كائن يوم الجمعة.

فكذلك ههنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ثابت لله ، أو واجب لله.

ولأنّ المحذوف من هذا اللفظ يعمل عمل المنطوق به ، كقولك : أربعة أشهر رمضان... الخ أي : هي شهر رمضان... ، فإنّه خبر ابتداء محذوف.

فإذا جاز حذف المبتدأ وإثبات خبره ، جاز أيضا إثبات المبتدأ وحذف الخبر.

وكذلك قوله تعالى : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) (٢) ، أي : معروف له.

وقوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣). قيل : إنّ الويل مبتدأ ، وخبره داخل في اللام ، تقديره : ويل ثابت ، أو : أليم للمكذبين.

وقوله تعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (٤).

ومن ذلك قوله تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (٥).

__________________

(١) اختلف في تعليق الجار والمجرور إذا كان خبرا ، فبعضهم قدّر اسما ، وبعضهم قدّر فعلا فمن قدّر الفعل ـ وهم الأكثرون ـ فلأنه الأصل في العمل ، ومن قدّر الاسم جعله وصفا لأن الأصل في الخبر الإفراد. ا. ه. راجع مغني اللبيب ص ٥٨٤.

(٢) سورة يوسف : آية ٧٨.

(٣) سورة المرسلات : آية ١٥.

(٤) سورة غافر : آية ١٢.

(٥) سورة الزمر : آية ١.

٥٥

قال الزّجّاج (١) : تنزيل : مبتدأ ، وخبره : (من الله).

فكان تقدير الكلام : تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنزاله ، أو تنزيله.

فيكون خبر المبتدأ هو الاسم المقدّر في قوله «من» على التقديم.

وكذلك قوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (٢) على قراءة من قرأ غير منوّن (٣). فمعناه : عزير بن الله نبيّنا.

* * *

__________________

(١) هو أبو إسحق إبراهيم بن السري ، عالم بالنحو واللغة ، كان من أهل الفضل والدين ، حسن الاعتقاد وكان في فتوته يخرط الزجاج ثم مال إلى النحو ، فعلّمه المبرد ، واختص بصحبة الوزير عبيد الله بن سليمان بن وهب ، وعلم. ولده القاسم الأدب ، أخذ عنه الزجاجي وغيره.

من مؤلفاته : معاني القرآن وإعرابه ، والاشتقاق. توفي سنة ٣١٠ ه‍.

(٢) سورة التوبة : آية ٣٠.

(٣) وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وحمزة وخلف.

راجع إتحاف فضلاء البشر ص ٢٤١.

٥٦

باب آخر

وهو ما جاء بعد القول

قال بعض النحويين : إنّما ارتفع (الْحَمْدُ لِلَّهِ) على الحكاية والخبر كأنّه جاء بعد القول ، والقول فيه مضمر.

وما يجيء بعد القول يكون محكيا عنه ، فيكون رفعا على الحكاية كقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ : طاعَةٌ) (١) ، وقوله تعالى : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) (٢) ، وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (٣).

والقول لا يعمل إلا في القول ، كما تقول : قلت قولا حسنا ، أو فيما فيه معنى القول كقوله تعالى : (قالُوا سَلاماً) (٤) ، و (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٥) ، أي : قولا حسنا على قراءة من قرأ بفتح الحاء والسين (٦).

فجئنا إلى قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ.)

فتقدير الكلام : قل الحمد لله ، كقوله تعالى في موضع آخر : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ) (٧) الآية ، وأظهر القول هناك وأضمره ههنا.

__________________

(١) سورة النساء : آية ٨١.

(٢) سورة البقرة : آية ٥٨.

(٣) سورة الأنعام : آية ٩١.

(٤) سورة الفرقان : آية ٦٣.

(٥) سورة البقرة : آية ٨٣.

(٦) وهي قراءة حمزة والكسائي ويعقوب وخلف ، صفة لمصدر محذوف.

راجع إتحاف فضلاء البشر ص ١٤٠.

(٧) سورة النمل : آية ٥٩.

٥٧

وقد يجوز حذف القول من لفظ الكلمة وهو في المعنى ثابت ، والمحذوف من اللفظ يعمل عمل المنطوق به.

أما حذف القول من أول الكلام فشائع ، وإنه يحذف أكثر مما يحذف من غيره ، كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ) (١) أي : يقولون : سلام. وقد أفردت لهذا النوع بابا في كتابي هذا ، ستقف عليه في موضعه إن شاء الله تعالى (٢).

ـ وأمّا من قرأ : الحمد لله رب العالمين (٣) على لغة قيس. فقيل : إنّه انتصب على المصدر.

* * *

__________________

(١) سورة الرعد : آية ٢٣.

(٢) انظر صفحة ٢٤٥ من هذا الكتاب.

(٣) قرأ بذلك سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج. وهي لغة قيس. والحارث بن سامة وهم بنو الحارث بن سامة بن لؤي ، ينتهي نسبه إلى نزار بن معدّ بن عدنان.

٥٨

باب

انتصاب الأسماء على المصدر

ـ قال الشيخ الإمام الزاهد رضي الله عنه : اعلم أنّ المصادر إذا وضعت موضع الأفعال وقعت منصوبة لا غير.

وقيل : هذا منتصب على المصدر المؤكّد ؛ فمنها قوله تعالى : (كِتاباً مُؤَجَّلاً) (١).

كتابا : مصدر انتصب ، ومؤجّلا : صفة له.

وقيل : «كتابا» مصدر دالّ على فعل محذوف.

ومثل هذا يجيء في الكلام مؤكّدا ، ومن ذلك قوله تعالى : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) (٢).

لأنّه لمّا قال : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ،) قال : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) تأكيدا.

__________________

(١) سورة آل عمران : آية ١٤٥.

(٢) سورة النساء : آية ٢٣. والآية أولها : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً* وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ.)

٥٩

وكذلك قوله : (صُنْعَ اللهِ) (١) ، وقوله تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً) (٢) ، أي : حفظناها حفظا.

وقوله تعالى : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) (٣). أي : وعد الله وعدا.

وقوله تعالى : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) (٤) ، وقوله تعالى : (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) (٥) ، وقوله : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) (٦). أي : ليوصوا وصية.

وقوله تعالى : (وَلكِنْ ذِكْرى) (٧) أي : ذكّروهم ذكرى.

رجعنا إلى قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ.)

يحتمل أن يكون تقدير الكلام : احمدوا الله حمدا.

وقال الفرّاء (٨) ومن تابعه : إنّ أصل الكلام حمدا لله ، كأنه يقول : أحمد حمدا ، فزيدت فيه الألف واللام (٩).

ومن ذلك قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (١٠) ، أي : يحسنوا إحسانا.

__________________

(١) سورة النمل : آية ٨٨.

(٢) سورة فصلت : آية ١٢.

(٣) سورة الروم : آية ٦.

(٤) سورة محمد : آية ٤.

(٥) سورة البقرة : آية ٢٣٦.

(٦) سورة البقرة : آية ٢٤٠.

(٧) سورة الأنعام : آية ٦٩.

(٨) هو أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء ، كان أوسع الكوفيين علما ، أخذ النحو عن الكسائي ثم اتصل بالمأمون وألف كتاب «معاني القرآن» وهو مطبوع و «الحدود».

قال عنه ثعلب : لو لا الفراء لما كانت عربية ؛ لأنه خلّصها وضبطها. توفي سنة ٢٠٧ ه‍ في طريق مكة.

(٩) انظر معاني القرآني ١ / ٣.

(١٠) سورة الإسراء : آية ٢٣.

٦٠