المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى

أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]

المدخل لعلم تفسير كتاب الله تعالى

المؤلف:

أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]


المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

الْعَلِيمُ) (١) و (أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢) وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) (٣).

ـ وأمّا دخوله بين اسمي ظننت وحسبت وخلت فكقوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) (٤).

وأمّا قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) (٥).

فإذا جعلت (هُوَ) عمادا وصلة فتقدير الكلام : وما تقدموا من خير تجدوه خيرا عند الله ، ولا تحسبن بخل الباخلين خيرا لهم.

* * *

__________________

(١) سورة الأنفال : آية ٦١.

(٢) سورة النور : آية ٢٥.

(٣) سورة الحج : آية ٦٢.

(٤) سورة آل عمران : آية ١٨٠.

(٥) سورة المزمل : آية ٢٠.

٤٠١

باب

المستقبل بمعنى الحال

ـ إن سئل عن قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) (١)؟ قلنا :

قد قيل فيه ثلاثة أوجه : أحدها ـ إن تقدير الكلام : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل أن لا تعبدوا ، فلما سقطت (أن) ارتفع ، واحتجوا بقول القائل :

٤٠٩ ـ ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى

وأن أشهد اللذّات هل أنت مخلدي

أي : أن أحضر الوغى ، فلما سقطت «أن» ارتفع ، وكذلك الآية.

ـ وقال بعضهم : إنّما ارتفع لا تعبدون على القسم ، لأنّ الميثاق هو : العقد المؤكد باليمين. المعنى : حلّفناهم لا يعبدون إلا الله (٢).

ـ والوجه الثالث : أنّه ارتفع على الحال ، فتقدير الكلام : غير عابدين إلا الله. والحال على نوعين :

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٨٣.

٤٠٩ ـ البيت لطرفة بن العبد من معلقته ، وقد تقدم ، وهو في المقتضب ٢ / ٨٥ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٢٨٦.

(٢) قال الأخفش : وإنما رفع لموقعه في موضع الأسماء ، ومعنى هذا الكلام حكاية ، كأنّه قال : استحلفناهم لا يعبدون ، أي : قلنا لهم : والله لا تعبدون.

راجع معاني القرآن للأخفش ١ / ١٢٦.

٤٠٢

أحدها : نحو قولك : جاء زيد راكبا.

والثاني : جاء زيد يركب ، على صيغة المستقبل.

ونظير هذا قوله تعالى : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) (١) على قراءة من قرأ اللام مرفوعة والتاء مفتوحة (٢). تقديره : إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرا غير سائل عن أصحاب الجحيم.

وكذلك قوله تعالى : (ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٣).

يعني : لا عبين ، فلولا هذا المعنى ، وإلا كان مجزوما على جواب الأمر.

وقوله تعالى : (يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) (٤).

يعني : مكلّما للناس في المهد. أي : في حال كونه في المهد ، وفي حال كهولته إذا نزل من السماء ، فكيف يجوز عطف الاسم على الفعل لولا هذا التقدير.

وكذلك قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ) (٥).

وقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) (٦). أي : قائلين.

__________________

(١) سورة البقرة : آية ١١٩.

(٢) وهي قراءة شاذة ، ولم يذكر من قرأ بها.

(٣) سورة الأنعام : آية ٩١.

(٤) سورة آل عمران : آية ٤٦.

(٥) سورة الأنعام : آية ٩٥.

(٦) سورة آل عمران : آية ٧.

٤٠٣

قال الشاعر :

٤١٠ ـ يا ليتني علقت غير مارج

قبل الصّباح ذات خلق بارج

أمّ صبيّ قد حبا ودارج

معناه : أمّ صبي حاب أو دارج.

* * *

__________________

٤١٠ ـ الرجم لجندب بن عمرو يعرّض بامرأة الشماخ.

وهو في معاني القرآن للفرّاء ١ / ٢١٤ ، ولم ينسبهما المحقق ، وخزانة الأدب ٤ / ٢٣٨ ، وذكر قصة الأرجاز هنالك. والشطر الأخير في أمالي ابن الشجري ٢ / ١٦٧.

وقوله : بارج أي ظاهر في حسن ، ودارج يقال : درج الصبي إذا مشى مشيا ضعيفا ، وعلق : عشق ، مارج : أي آثم.

وهو في شفاء العليل شرح التسهيل ٢ / ٧٩٨ ، قال المحقق : لم أعرف قائلهما.

٤٠٤

باب آخر

من هذا النوع

ـ قال الشيخ الإمام رضي الله عنه : اعلم ـ أسعدك الله ـ أنّ الفعلين إذا تواليا ، ولم يكن بينهما حرف عطف كان الثاني حالا للأول.

من ذلك قوله تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) (١).

هما فعلان ليس بينهما حرف عطف.

وكذلك قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) (٢) ، أي : باكين.

وقوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) (٣) ، وقوله تعالى : (تَقاسَمُوا بِاللهِ) (٤) ، يعني : متقاسمين بالله.

وقوله تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (٥).

وقوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ) (٦).

وقوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ) (٧).

__________________

(١) سورة الحجر : آية ٦٧.

(٢) سورة يوسف : آية ١٦.

(٣) سورة النازعات : آية ٢٢.

(٤) سورة النمل : آية ٤٩.

(٥) سورة القصص : آية ٢٠.

(٦) سورة الإسراء : آية ١٠٩.

(٧) سورة غافر : آية ٧.

٤٠٥

قال الشاعر :

٤١١ ـ فباتوا يرفثون وبات منّا

رجال في سلاحهم قعود

وقال الآخر :

٤١٢ ـ قامت تبكيه على قبره

من لي بعدك يا عامر

* * *

__________________

٤١١ ـ البيت تقدم برقم ٢٢٥.

٤١٢ ـ البيت تقدم برقم ١١٥.

٤٠٦

باب

كون الماضي حالا بتقدير «قد» أو تقدمه عليه

اعلم أنّ الفعل الماضي قد يكون حالا إذا تقدّمه قد ، أو يكون مقدّرا فيه فمن ذلك قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) (١) ، أي : وقد كنتم أمواتا.

وقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (٢) ، أي : وقد حصرت صدورهم.

وقوله تعالى : (وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ،) أي : قد فتحت ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٨.

(٢) سورة النساء : آية ٩٠.

٤٠٧

باب

الكناية عمّا لم يسبق ذكره

ـ إن سئل عن قوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (١) ، الفعل لمن؟.

قلنا : أجمع أهل التفسير على أنّه للشمس ، أي : غابت الشمس وراء الحجاب ، وهو جبل دون المغرب.

وقد يجوز أن يكنّى عن شيء لم يسبق ذكره ، كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٢) جاء في التفسير أنّ المراد به القرآن ، أنزله الله في ليلة القدر.

وكذلك قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ) (٣) ، أي : على الأرض ، وكذلك قوله عزوجل : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها) (٤).

وقوله تعالى : (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) (٥). المعنى : ما حياتنا إلا الحياة الدنيا.

وقوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٦). أي : على الأرض.

__________________

(١) سورة ص : آية ٣٢.

(٢) سورة القدر : آية ١.

(٣) سورة النحل : آية ٦١.

(٤) سورة فاطر : آية ٤٥.

(٥) سورة الجاثية : آية ٢٤.

(٦) سورة الرحمن : آية ٢٦.

٤٠٨

وقوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ) (١) ، الفعل للنفس.

وقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) (٢) ، يعني : بالقرآن.

وقوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) (٣) ، أي : الاستعباد جزاؤه.

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤). يعني : القرآن.

وقوله تعالى : (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) (٥). يعني : بالوادي.

قال الشاعر :

٤١٣ ـ وإنّي لأبكي اليوم من خوفي غدا

فراقك والحيّان مؤتلفان

٤١٤ ـ رشاشا وتهتانا ووبلا وديمة

وسحا وتسكابا وتنهملان

كنّى عن العينين ، ولم يسبق ذكرهما.

الرشاش والتهتان والوبل والديمة كلها صفة للدمع.

وقال حميد بن ثور :

٤١٥ ـ وصهباء منها كالسفينة نضّجت

بها الحمل حتى زاد شهرا عديدها

يريد : الصهباء من الإبل.

__________________

(١) سورة القيامة : آية ٢٦.

(٢) سورة القيامة : آية ١٦.

(٣) سورة يوسف : آية ٧٥.

(٤) سورة النجم : آية ٤.

(٥) سورة العاديات : آية ٤.

٤١٣ ـ ٤١٤ ـ البيتان لمجنون ليلى ، وهما في أمالي القالي ١ / ٢٠٧ ، والأغاني ١ / ١٧٩.

٤١٥ ـ البيت في اللسان مادة لقح ٣ / ٣٠٢ ، وتأويل مشكل القرآن ٢٢٦ ، والمجمل ٤ / ٨٧١ ، وإذا حملت الإبل من يوم لقحت فجازت السنة ، قيل : أدرجت ونضجت.

٤٠٩

وقال حاتم :

٤١٦ ـ أماوي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

يعني النفس ، وقال لبيد :

٤١٧ ـ حتى إذا ألقت يدا في كافر

وأجنّ عورات الثغور ظلامها

يعني الشمس ، وقال الآخر :

٤١٨ ـ هم الملوك وأبناء الملوك لهم

والآخذون به والسّاسة الأول

الآخذون به ، أي : بالملك.

* * *

__________________

٤١٦ ـ البيت في ديوانه ص ٣٩ ، وتأويل مشكل القرآن ١٧٥ ، والصاحبي ٤٤١ ، واللسان : ثرى.

٤١٧ ـ البيت من معلقته ، راجع شرح المعلقات للنحاس ١ / ١٦٦ ، وديوانه ص ١٧٦ ، قوله الكافر : الليل ، وأجنّ : غطّى.

٤١٨ ـ البيت للقطامي يمدح قريشا وبني أمية ، وهو في خزانة الأدب ٦ / ٤٨٥ ، ومعاني القرآن للفراء ١ / ١٠٤.

٤١٠

باب

المجاز والاستعارة

ـ إن سئل عن قوله تعالى : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) (١). فهل للجدار إرادة؟.

الجواب : هذا على المجاز ، وهذا ممّا لا يعاب عليه في كلام الفصحاء ، بل يعدّ من غاية البلاغة ، تقول من ذلك : قال برأسه كذا ، وطار في هذا الأمر ، والجبلان يتراءيان ويتناطحان. ونظير هذا في القرآن :

قوله تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (٢).

وقوله : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٣).

وقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) (٤).

وقوله تعالى : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (٥).

فهذا من فعل الله تعالى ، ولكن أضافه إلى الأرض مجازا.

وقوله تعالى : (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) (٦).

__________________

(١) سورة الكهف : آية ٧٧.

(٢) سورة الجاثية : آية ٢٩.

(٣) سورة إبراهيم : آية ٣٦.

(٤) سورة مريم : آية ٩٠.

(٥) سورة الحج : آية ٥.

(٦) سورة الطور : آية ٩.

٤١١

فالله تعالى حرّكها ؛ لأنها جماد لا تتحرك بنفسها ، ولكن أضاف الفعل إليها مجازا.

وقوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (١).

فالله تعالى يبكيهما. قال الشاعر :

٤١٩ ـ يريد الرّمح صدر أبي براء

ويرغب عن دماء بني عقيل

وقال الآخر :

٤٢٠ ـ امتلأ الحوض وقال قطني

مهلا رويدا قد ملأت بطني

وقال الآخر :

٤٢١ ـ إنّ دهرا يلفّ شملي بجمل

لزمان يهمّ بالإحسان

وقال الآخر :

٤٢٢ ـ لما أتى خبر الزّبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

__________________

(١) سورة الدخان : آية ٢٩.

٤١٩ ـ البيت للنجاشي الحارثي.

وهو في مجاز القرآن ١ / ٤١٠ ، والصناعتين ٣٠٥ ، وتفسير الطبري ١٦ / ١٨٦ ، وتأويل مشكل القرآن ١٣٣ ، ولم ينسبه المحقق.

٤٢٠ ـ البيت في تفسير الماوردي ٤ / ٩٠ ، والإفصاح للفارقي ٢٧٢ ، وشطره الأول في اللسان مادة قول.

٤٢١ ـ البيت لجميل بثينة ، وهو في نهاية الإيجاز للفخر الرازي ص ٣٥٦ ، وتأويل مشكل القرآن ١٣٣ ، وتفسير القرطبي ١١ / ٢٦ ، ومعاني القرآن للفراء ٢ / ١٥٦ ، والصناعتين ٣٠٥.

٤٢٢ ـ البيت تقدم برقم ١٩٢.

٤١٢

وقال آخر :

٤٢٣ ـ بكى الحارث الجولان من فقد ربّه

وجولان منه خاشع متضائل

وقال الآخر :

٤٢٤ ـ سألتني بأناس هلكوا

شرب الدهر عليهم وأكل

وقال عبيد :

٤٢٥ ـ سائل بنا حجر بن أمّ قطام إذ

ظلّت به السمر النّواهل تلعب

* * *

__________________

٤٢٣ ـ البيت للنابغة الذبياني ، وهو في ديوانه ص ١٢٠ ، وتهذيب اللغة ٥ / ٢٣١ ، ومثلث البطليوسي ١ / ٤٧٢. وقد تقدم برقم ١٩٣.

٤٢٤ ـ البيت للنابغة الجعدي وهو في مجمع الأمثال للميداني ١ / ٤٢ ، لكن شطره الأول فيه [كم رأينا من أناس قبلنا] ، والمعاني الكبير ٣ / ١٢٠٨ ، والاقتضاب ٢٩١ ، وسيكرر البيت ثانية.

٤٢٥ ـ البيت لعبيد بن الأبرص ، وهو في تفسير الطبري ١٢ / ١٣٢ ، وديوانه ص ٣٥.

٤١٣

باب «أيّ»

ـ إن سأل سائل عن قوله تعالى : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١) لم ارتفع أيّ وقد جاء بعد الفعل؟.

فهلا عمل فيه كما عمل في قوله تعالى : (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢)؟.

وكذلك السؤال عن قوله : (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٣) فهلا عمل فيه (لَنَنْزِعَنَّ؟.)

قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : إنّ «أيا» ارتفع في الآية الأولى على الابتداء ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ، ولا يعمل فيه ما قبله فيما بعده.

وقوله : (لِنَعْلَمَ) لم يقع على (أَيَ) وإنما وقع على شيء مضمر.

المعنى : لنعلم بالنظر والمسألة ، أي : ليظهر ويرى بالمسألة والنظر أيّ الفريقين أحصى. وهذا كقولك : انظر واعلم أيّهما قام ، كأنك تقول : من القوم أيهم قام ، والله أعلم.

وأمّا قوله : (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٤) ، فإنما انتصب بالظرف ؛ لأنّ المنقلب ظرف مكان ، وتقدير الكلام : بأيّ منقلب ،

__________________

(١) سورة الكهف : آية ١٢.

(٢) سورة الشعراء : آية ٢٢٧.

(٣) سورة مريم : آية ٦٩.

(٤) سورة النمل : آية ٣٨.

٤١٤

وفي أي منقلب ، فلما سقط حرف الصفة انتصب وإن شئت قلت : إنّما انتصب بإضمار فعل دلّ عليه قوله : (يَنْقَلِبُونَ.)

وقد قيل : إن «أيا» على أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون بمعنى الاستفهام ، فله صدر الكلام ، ويكون مرفوعا بالابتداء ، وخبره أيضا مرفوع ، كقوله تعالى : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) (١)

وقوله تعالى : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (٢).

وكذلك قوله : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) (٣) ، وقوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) (٤) ، و (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) (٥) وأشباهها.

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٦).

وللنحويين فيه أقاويل :

قال الخليل : رفعه على الحكاية ، كأنّه قال : ثمّ لننزعنّ من كل شيعة من يقال : أيّهم أشدّ على الرحمن عتيا ؛ لأنّ في (لَنَنْزِعَنَ) دليلا على معنى القول ، لأنهم ينزعون بالقول.

والوجه الثاني : وهو قول سيبويه : إنّ أيا بمعنى الذي ، إلا أنّه لما جاز حذف الضمير من صلته خالف أشباهه ، فيبنى على الضمّ كما تقول : لأضربنّ أيّهم قائل لك شيئا. معناه : الذي هو قائل لك شيئا. ولا يجوز حذف الضمير في غيره من الصلات. وهذا على قول الخليل لا يجوز.

__________________

(١) سورة النمل : آية ٣٨.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٤.

(٣) سورة الكهف : آية ١٢.

(٤) سورة طه : آية ٧١.

(٥) سورة مريم : آية ٧٣.

(٦) سورة مريم : آية ٦٩.

٤١٥

والوجه الثالث : ـ وهو قول يونس بن حبيب ـ إنّ قوله : (لَنَنْزِعَنَ) معلّقة كما يعلّق العلم في قولك : قد علمت أيّهم في الدار.

وأمّا قوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) (١) ، فارتفع بفعله الذي هو يأتي ، وكذلك قوله : (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (٢) ، ف «أي» في هذه الآية بمعنى الاستفهام.

ـ وأمّا إذا كان بمعنى الشرط فإنّه يكون مرفوعا ، وجزاؤه مجزوما ، كقولك : أيّهم يكرمني أكرمه وإذا أوقعت عليه الفعل نصبته ، كقوله تعالى : (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٣) ، وقوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) (٤).

ـ وأمّا بمعنى التعجب فإنّه إن وقع مبتدأ كان مرفوعا ، تقول من ذلك : أيّ رجل زيد ، وإذا لم يقع مبتدأ جرى عليه الإعراب ، كقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٥) ، وقد قيل : فيه معنى الشرط.

وقيل : بمعنى التعجب ، والله أعلم.

وكقوله تعالى : (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٦).

ـ وأمّا ما جاء بمعنى الذي فيجري عليه الإعراب أيضا ، كقولك : لأضربنّ أيّهم في الدار ، وإنما عمل فيه ما قبله ، لأنه بمعنى الذي.

فمن ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (٧) ، هذا قرىء في الشواذ (٨).

* * *

__________________

(١) سورة النمل : آية ٣٨.

(٢) سورة آل عمران : آية ٤٤.

(٣) سورة الإسراء : آية ١١٠.

(٤) سورة القصص : آية ٢٨.

(٥) سورة الانفطار : آية ٨.

(٦) سورة عبس : آية ١٨.

(٧) سورة مريم : آية ٦٩.

(٨) قرأ هارون القارىء بنصب «أيهم» أوقع على «أيهم» لننزعن ، وكذا قرأ بها أيضا معاذ بن مسلم الهرّاء ، وطلحة بن مصرف ، راجع إعراب القرآن للنحاس ٢ / ٣٢٢.

٤١٦

باب

الكلمات التي جاءت في سورة من القرآن ، وجوابها

في سورة أخرى ، أو كلمة جاءت في سورة معطوفة

على كلمة في سورة أخرى أو في [موضع] آخر

من تلك السورة

ـ إن سئل عن قوله تعالى : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) (١) الآية. لأيّ معنى جعلت علّة المغفرة فتح الله عليه البلدان (٢)؟

قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : قد قيل عدّة من الأجوبة :

أحدها : أنّ الفتح علامة المغفرة لا علّة المغفرة ، كما يقال : رزقك الله مالا لتحجّ فيغفر الله لك.

__________________

(١) سورة الفتح : آية ١.

(٢) قال ابن هشام : فإن قلت : ليس فتح مكة علّة للمغفرة ؛ قلت : هو كما ذكرت ، ولكنه لم يجعل علة لها ، وإنّما جعل علّة لاجتماع الأمور الأربعة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي : المغفرة وإتمام النعمة والهداية إلى الصراط المستقيم وحصول النصر العزيز ، ولا شك في أنّ اجتماعها له عليه‌السلام حصل حين فتح الله تعالى مكة عليه. ا ه.

راجع شذور الذهب ٣٨٣.

وقال ابن الأنباري : الوقف على (فَتْحاً مُبِيناً) غير تامّ ؛ لأنّ قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ) متعلق بالفتح ، كأنه قال : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا لكي يجمع الله لك مع الفتح المغفرة ، فيجمع الله لك به ما تقرّ به عينك في الدنيا والآخرة.

وقال القرطبي : ويجوز أن يكون فتح مكة من حيث إنه جهاد العدو سببا للغفران والثواب. ا ه. راجع تفسير القرطبي.

٤١٧

ـ والوجه الثاني : وفقك الله بفتح البلدان ، فصار ذلك سببا لغفرانك ، كما أنّ الله تعالى إذا وفّق عبدا له لأنواع من الطاعات فتقرّب بها إليه صار ذلك سببا للمغفرة.

وقيل : إنّ هذا مردود إلى قوله تعالى في السورة الأخرى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (١) ليغفر لك الله ، لأنّ القرآن كلّه بمنزلة سورة واحدة.

ـ حتى بلغنا عن عكرمة رضي الله عنه أنّه قال ـ في قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً) ٢ ـ : إنّ الواو مردودة إلى قوله تعالى في سورة المؤمن وهو قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) (٣).

ـ وقال غيره في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) (٤) ، وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ) (٥) ، وقوله : (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٦) ، وقوله : (لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا) (٧) ، فإذا جمعت بين هذه الآيات صار تلخيصها :

إنّ الموالي لما أسلموا قبل الرؤساء قالت الرؤساء : لو كان في هذا الدين خير ما سبقونا إليه ـ يعنون الموالي ـ وقالوا أيضا : أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالإسلام ليكونوا أوفر حظا منا ، ونكون لهم تبعا ، فامتنعوا عن الإسلام فنزلت الآية ، فقال : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) (٨) ، أي : جعلنا بعض السابقين من الفقراء بليّة لبعض الرؤساء ، ثم قال : (أَتَصْبِرُونَ) أيها الرؤساء على فضيلة السابقين؟ فادخلوا في الإسلام.

__________________

(١) سورة محمد : آية ١٩.

(٢) سورة الأنبياء : آية ٤٨.

(٣) سورة المؤمن : آية ٧.

(٤) سورة الأنعام : آية ٥٣.

(٥) سورة الفرقان : آية ٢٠.

(٦) سورة الأحقاف : آية ١١.

(٧) سورة الأنعام : آية ٥٣.

(٨) سورة الفرقان : آية ٢٠.

٤١٨

وقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (١).

قيل : إنّ هذا معطوف على قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) (٢) ، كأنّه قال : هل رأيت كالذي حاجّ إبراهيم في ربه ، أو كالذي مرّ على قرية.

وقيل : إنّ فيها إضمارين :

أحدهما : كأنه قال : ليس إحيائي وإماتتي كإحياء من قتل واحدا ، وعلى سبيل التشبيه ، بل إحيائي وإماتتي كمن مرّ على قرية أمتّه ثم أحييته بعد مائة عام.

وقيل : إن فيه تقديما وتأخيرا ، وكأنّه رجع إلى قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ) (٣) ، إلى قوله : (ثُمَّ أَحْياهُمْ.)

كأنه قال : إحيائي للموتى كإحياء هؤلاء القوم ، أو كإحياء من مرّ على قرية ، لا كإحياء نمروذ حين خلّى سبيل حيّ فقال : إني أحييته. والله أعلم بمراده.

وقوله تعالى : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) (٤) ، قيل : هذه همزة الاستفهام دخلت على واو العطف ، والاستفهام هذا بمعنى الإنكار ، كأنّه معطوف على قوله : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ) (٥) ، أي : الرسول. ولما أصابتكم مصيبة قلتم أنّى هذا؟ قل : هو من عند أنفسكم ، حيث فشلتم وعصيتم الرسول.

ـ وقوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٦).

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٥٩.

(٢) سورة البقرة : آية ٢٥٨.

(٣) تتمتها : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) [البقرة : آية ٢٤٣].

(٤) سورة آل عمران : آية ١٦٥.

(٥) سورة آل عمران : آية ١٥٢.

(٦) سورة النساء : آية ٨٤.

٤١٩

قيل : إنّ هذا متصل بمضمر في قوله عزوجل : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ) (١). أي : ولو لا فضل الله عليكم ورحمته إذا أكرمكم بالإيمان لا تبعتم الشيطان ، فكما أكرمكم بالإيمان فقاتل في سبيل الله.

والثاني : ولو لا فضل الله بإرسال الرسول ، ورحمته بإنزال القرآن ما اهتدى أحد إلى معرفة الباري بعقله ، فقاتل في سبيل الله شكرا لهاتين النعمتين.

ـ وقيل : بل هذا متصل بقوله تعالى : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢) ، فقاتل...

ـ وأمّا قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً) (٣) الآية ، قيل : إنّ الاستثناء بعد النهي إثبات ، وبعد الأمر رخصة ، والله تعالى لا يرخّص في قتل المؤمن إلا بالحقّ فكيف الوجه في هذا؟

قيل : إنّه مردود إلى قوله في سورة بني إسرائيل (٤) ، كأنّه قال : وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ، ومن قتل فقد جعلنا لوليّه سلطانا يقتصّه إلا خطأ ، فيكون الاستثناء من القصاص.

وقيل : فيه أيضا وجه آخر ، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا ، ومن قتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم إلا خطأ.

__________________

(١) سورة النساء : آية ٨٣.

(٢) سورة النساء : آية : ٧٤.

(٣) سورة النساء : آية ٩٢.

(٤) أي إلى قوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) [سورة الإسراء : آية ٣٣].

٤٢٠