أبي النصر أحمد بن محمّد بن أحمد السمرقندي [ الحدّادي ]
المحقق: صفوان عدنان داوودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القلم ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦
وقوله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً) (١) ، وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (٢).
قيل : إن الفعل كان للنفس ، فلما نقل إلى «من» انتصب على التفسير ، وكقوله : (سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) (٣) وأشباه ذلك.
قال الشاعر :
٣٨٣ ـ قالت عن الرّفد طب نفسا فقلت لها |
|
لا يصدر الحرّ إلا بعد مورده |
* * *
__________________
(١) سورة غافر : آية ٧.
(٢) سورة البقرة : آية ١٣٠ ، وهذه الرأي عند الكوفيين ، قال أبو جعفر النحاس : وقول الفراء أنّ (نفسه) مثل ضقت به ذرعا محال عند البصريين ؛ لأنه جعل المعرفة منصوبة على التمييز.
(٣) سورة هود : آية ٧٧.
٣٨٣ ـ البيت لم أجده.
باب
جعل الصفة للظرف
ـ فإن سئل عن قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (١) ، وقوله تعالى : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٢) ، أليس العصف صفة للريح؟ يقال : ريح عاصف وكذلك يقال : عذاب عصيب ، فكيف وصف بهما اليوم؟.
قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : اعلم أسعدك الله أنّ الظرف إذا كان فيه صفة لغيره ، تجعل العرب تلك الصفة للظرف على المجاز ، وإن كانت هي في الحقيقة لغير الظرف ، كقولهم : ليل نائم ، أي : ينام فيه غيره ، وسوق كاسد ، ويوم ماطر.
فمنها قوله تعالى : (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) (١) ، أي : عاصف فيه الريح ، وقوله تعالى : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) (٢) ، أي : شديد هوله ، وكقوله تعالى : (يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٣). أي : عقيم من أن يكون فيه خير ، أو عقيم من كان فيه.
وكقوله تعالى : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) (٤) ، وكقوله تعالى : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٥).
وكقوله تعالى : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (٦) ونظائرها.
__________________
(١) سورة إبراهيم : آية ١٨.
(٢) سورة هود : آية ٧٧.
(٣) سورة الحج : آية ٥٥.
(٤) سورة يونس : آية ٦٧.
(٥) سورة الفرقان : آية ٤٧.
(٦) سورة الإنسان : آية ١٠.
قال الشاعر :
٣٨٤ ـ حارت قد فرّجت عنّي همي |
|
فنام ليلي وتجلى غمّي |
وقال الآخر :
٣٨٥ ـ لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى |
|
ونمت وما ليل المطيّ بنائم |
وقال :
٣٨٦ ـ فلما رأيت الخيل تترى أثايجا |
|
علمت بأنّ اليوم أحمس فاجر |
وقال :
٣٨٧ ـ وأعور من نبهان أمّا نهاره |
|
فأعمى وأمّا ليله فبصير |
وقال :
٣٨٨ ـ وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت |
|
جنح الظلام وساده لا يرقد |
* * *
__________________
٣٨٤ ـ البيت لرؤبة بن العجاج وهو في تفسير القرطبي ١٤ / ٣٠٣ وتفسير الطبري ١ / ١٣٩.
٣٨٥ ـ البيت لجرير في ديوانه ٥٠٤ وكتاب سيبويه ١ / ٨٠ وخزانة الأدب ١ / ٢٢٣ والصاحبي ٣٦٨.
٣٨٦ ـ البيت لوعلة الجرمي وقيل : لابنه الحارث وهو في المفضليات ص ١٦٦ ، وتأويل مشكل القرآن ٢٩٦ ، والخزانة ١ / ٤١٣ ، والمعاني الكبير ٢ / ٩٤٦. والأثايج : الجماعات.
٣٨٧ ـ البيت لجرير وهو في تفسير الطبري ١ / ١٤٠ ، ومعجم الشعراء : ٣٩ ، وديوانه ص ١٩٨.
٣٨٨ ـ البيت للطّرماح ، وهو في أساس البلاغة مادة حضر ص ٨٧ ، وديوانه ص ١٥٢.
باب
الفاعل بمعنى المفعل
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١) ، أليس هذا من صفات المحدث وأمارات المخلوقين؟
ـ قلنا ـ وبالله التوفيق ـ :
إنّ العرب تضع الفاعل مكان المفعل تعيده إلى الأصل ، وقد يجوز أن يكون الفاعل بمعنى ذي فعل ، كما يقال : رجل لابن. أي : ذو لبن ، وتامر. أي : ذو تمر ، وتارس. أي : ذو ترس.
فقول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١) يحتمل المعنيين ، يحتمل : إنّ الله ذو وسع غني ، وموسع غنيّ.
وكذلك قوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) (٢) يحتمل المعنيين أيضا ، أي : ملقحة وذات لقاح ، ولو لا هذا التقدير لما جاز أن يجمع المفعلة على الفواعل ، ولكان من حقّه أن يقال : لاقحات ، ومنها قوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) (٣) قيل : المعنى : مكملة للحج.
وقوله تعالى : (ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٤). أي : مبطلا ، كما يقال : هلّه وأهلّه.
__________________
(١) سورة البقرة : آية ١١٥.
(٢) سورة الحجر : آية ٢٢.
(٣) سورة البقرة : آية ١٩٦.
(٤) سورة آل عمران : آية ١٩١.
وكقول القائل :
٣٨٩ ـ يكشف عن جمّاته دلو الدالي |
|
... |
يريد : المدلي.
وقال الآخر :
٣٩٠ ـ كليني لهمّ يا أميمة ناصب |
|
وليل أقاسيه بطيء الكواكب |
أي : ذو نصب.
وقال الراجز :
٣٩١ ـ ومهمه هالك من تعرّجا |
|
... |
يريد المهلك.
__________________
٣٨٩ ـ الرجز للعجاج وعجزه [عباءة غبراء من أجن طال] وهو في لسان العرب مادة دلا ١٤ / ٢٦٥ ، والمقتضب ٤ / ١٧٩ ، وأدب الكاتب ص ٦١٢.
٣٩٠ ـ البيت للنابغة الذبياني ، وهو في أمالي ابن الشجري ٢ / ٨٣ ، وديوانه ص ٩.
٣٩١ ـ الرجز للعجاج وهو في المقتضب ٤ / ١٨٠ ، والخصائص ٢ / ٢١٠ ، والاقتضاب ٤٠٣ ، وشرح الجمل لابن عصفور ١ / ٥٦٩. والمهمه : الفلاة الواسعة ، تعرّج : سلك ، وعجزه [هائلة أهواله من أدلجا] راجع الجمهرة ٣ / ١٧١.
باب
المصادر التي جاءت على الفاعلة
منها قوله تعالى : (فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (١).
قيل : المعنى : فعلى الطالب إنظاره إلى وقت يسار المديون.
وقوله تعالى : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) (٢) ، أي : كذب ولا خلف.
وكذلك قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (٣).
يريد : خيانة الأعين ، وهي : استراق النظر إلى ما لا يحلّ.
وكذلك قوله تعالى : (وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ) (٤).
يحتمل : على فرقة خائنة منهم ، ويحتمل المصدر ، أي : على خيانة منهم.
وكذلك قوله تعالى : (عاقِبَةُ الدَّارِ) (٥) وهي مصدر كما قال في موضع آخر : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (٦).
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٢٨٠.
(٢) سورة الواقعة : آية ٢.
(٣) سورة غافر : آية ١٩.
(٤) سورة المائدة : آية ١٣.
(٥) سورة الأنعام : آية ١٣٥.
(٦) سورة الرعد : آية ٢٢.
وقوله تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) (١) ، أي : بطغيانهم.
وكذلك قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) (٢) ، أي : من بقاء.
وكذلك قوله : (وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) (٣) ، أي : بالخطأ.
قال الشاعر :
٣٩٢ ـ فيخبرني عن غائب المرء هديه |
|
كفى الهدي عمّا غيّب المرء مخبرا |
* * *
__________________
(١) سورة الحاقة : آية ٦.
(٢) سورة الحاقة : آية ٨.
(٣) سورة الحاقة : آية ٣.
٣٩٢ ـ البيت لزيادة بن زيد العذري وهو في اللسان مادة هدي ، والبيان والتبيين ٣ / ١٩٩ ، والمحكم ٦ / ١٩ ولم ينسبه المحقق. والهدي : السمت ، يقال : هدى هدي فلان ، أي : سار سيره.
باب
الكناية والضمير عن الاسمين والمراد به أحدهما
ـ اعلم أنّ العرب ربّما تكنّي عن شيئين وتريد به الواحد.
كما حكي عن الحجاج أنه قال : يا حرسيّ ، قوما فاضربا عنقه.
ومنها قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) (١).
قال الكلبي (٢) : إنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح دون العذب.
وقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) (٣) قيل : إنّه خطاب لمالك وحده.
وقوله تعالى : (نَسِيا حُوتَهُما) (٤). أي : نسي يوشع وحده.
وقوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) (٥). أي : لا حرج على الرّجل فيما أخذ من امرأته من الفداء عند الخلع.
وقوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) (٦).
__________________
(١) سورة الرحمن : آية ٢٢.
(٢) هشام بن محمد بن السائب الكلبي الأخباري النسابة المفسر ، حدث عن أبيه وغيره.
قال أحمد بن حنبل : إنما كان صاحب سمر ، وقال ابن عساكر : رافضي ليس بثقة ، توفي سنة ٢٠٤ ه.
(٣) سورة ق : آية ٢٤.
(٤) سورة الكهف : آية ٦١.
(٥) سورة البقرة : آية ٢٢٩.
(٦) سورة الأنعام : آية ١٣٠.
قال أهل العلم : إنّ الرسل لم تكن إلا من الإنس خاصة.
قال الشاعر :
٣٩٣ ـ فقلت لصاحبي لا تحبسانا |
|
بنزع أصوله واجدزّ شيحا |
وقال الآخر :
٣٩٤ ـ لا تعجلا باللوم وارحل عنّي |
|
فلست والله الخليل منّي |
وقال الآخر :
٣٩٥ ـ فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر |
|
وإن تدعاني أحم عرضا ممنّعا |
__________________
٣٩٣ ـ البيت لمضرّس بن ربعي ، وهو في شرح شواهد الشافية ٤٨١ ، وخزانة الأدب ١١ / ١٧ ، والصاحبي ١٤٠ ، واللسان جرر ، اجدزّ ، أي : اقطع ، والدال مبدلة من التاء أصله : اجتزّ ، الشيخ : نبت.
٣٩٤ ـ لم أجده.
٣٩٥ ـ البيت لسويد بن كراع ، وهو في طبقات الشعراء ٧٣ ، وتفسير الماوردي ٤ / ٨٨ ، وتفسير القرطبي ١٧ / ١٦ ، وتأويل مشكل القرآن ٢٩١.
قال ابن منظور : كان سويد بن كراع العكلي هجا بني دارم ، فاستعدوا عليه سعيد بن عثمان فأراد ضربه فقال سويد قصيدته التي أولها :
تقول ابنة العوفي ليلى ألا ترى |
|
إلى ابن كراع لا يزال مفزّعا |
مخافة هذين الأميرين سهّدت |
|
رقادي وغشّتني بياضا مقزّعا |
فإن أنتما أحكمتماني فازجرا |
|
أراهط تؤذيني من الناس رضّعا |
فإن تزجراني... |
|
... |
قال : وهذا يدل على أنّه خاطب اثنين سعيد بن عثمان ومن ينوب عنه أو يحضر معه. ا ه.
فعلى هذا فلا شاهد في البيت ، راجع لسان مادة جزز ٥ / ٣٢٠.
وقال امرؤ القيس :
٣٩٦ ـ خليليّ مرّا بي على أمّ جندب |
|
لتقضي حاجات الفؤاد المعذّب |
٣٩٧ ـ ألم تر أنني كلما جئت طارقا |
|
وجدت بها طيبا وإن لم تطيّب |
وقال أيضا :
٣٩٨ ـ قفا نبك... |
|
... |
والمراد به الواحد.
وقال الآخر :
٣٩٩ ـ ولو كان البكاء يردّ شيئا |
|
لقلت لدمع عيني أسعداني |
* * *
__________________
٣٩٦ ـ ٣٩٧ ـ البيتان في ديوانه ص ٢٩.
٣٩٨ ـ قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل |
|
بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
هو مطلع معلقته ، راجع شرح المعلقات ١ / ٣.
٣٩٩ ـ لم أجده.
باب
إدخال اللام في الكلام زيادة
وكذلك سائر حروف الصفات
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) (١).
ما هذه اللام الزائدة في قوله (لِلرُّءْيا)؟.
أليس يقال : عبرت الرؤيا ، ولا يقال : عبرت للرؤيا؟.
الجواب عن هذا :
إنّ المفعول إذا تقدم على الفاعل ضعفت قوته ، فيحتاج حينئذ إلى إدخال حرف الصفة عليه ، فربّما يقوّى بحرف الصفة ، وربّما يعدّى بتركه ، ويجري على أصل اللغة.
فمن ذلك قوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) (٢) ، وقوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) (٣).
وقال في موضع آخر : (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) (٤).
فاللام في الآية الأولى على ما بيّنت لك ، وفي الآية الأخرى لم يدخلها على أصل اللغة ؛ لأنّه يقال : بوّأته منزلا ، وقلما يقال : بوّأت له ، كما قال عمرو بن معد يكرب :
__________________
(١) سورة يوسف : آية ٤٣.
(٢) سورة المدثر : آية ١٦.
(٣) سورة الحج : آية ٢٦.
(٤) سورة الأعراف : آية ٧٤.
٤٠٠ ـ كم من أخ لي صالح |
|
بوّأته بيديّ لحدا |
ومنها قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (١).
المعنى : أنتم واردوها ؛ لأنّ المفعول لما تقدّم على الفاعل دخلت اللام عليه ، والله أعلم.
ومنها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) (٢) وكذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) (٣).
وقال في موضع آخر : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) (٤).
وأمّا زيادة سائر حروف الصفات فقد مرّ ذكرها.
* * *
__________________
٤٠٠ ـ البيت لعمرو بن معد يكرب ، وهو في تفسير القرطبي ١٢ / ٣٦ ، والأفعال للسرقسطي ١ / ١٧٢ ووهم فيه صاحب كتاب الأفعال ، فنسبه للكميت ، ولم يعرفه المحقق الدكتور حسين محمد شرف ولا الدكتور مهدي علام عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، وشرح الحماسة للتبريزي ١ / ٩٢ ، وديوانه ص ٨١.
(١) سورة الأنبياء : آية ٩٨.
(٢) سورة الأعراف : آية ١٥٤.
(٣) سورة يوسف : آية ٢١.
(٤) سورة الأعراف : آية ١٠.
باب
ما جاء على صيغة الأمر
ومعناه الخبر أو الشرط
ـ من ذلك قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١).
قيل : المعنى : إن أسررتم قولكم أو جهرتم به. فهذا بمعنى الشرط.
وقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (٢).
قيل : إنّ المعنى : تمشون في أقطارها ، وتأكلون من رزقه. وهذا أمر بمعنى الخبر.
وقوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (٣) ، لفظه لفظ الأمر للغائب ، ومعناه الخبر.
يعني : يضحكون في الدنيا قليلا ، ويبكون في الآخرة كثيرا.
وقوله تعالى : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) (٤) ، فظاهره على صيغة الأمر ، وحقيقته الخبر.
وقوله تعالى : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) (٥) ، يعني : أماتهم الله تعالى.
__________________
(١) سورة تبارك : آية ١٣.
(٢) سورة تبارك : آية ١٥.
(٣) سورة التوبة : آية ٨٢.
(٤) سورة مريم : آية ٧٥.
(٥) سورة البقرة : آية ٢٤٣.
وقوله تعالى : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١) ، يعني : صيّرناهم قرودا.
وقوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (٢).
لفظه لفظ الأمر ومعناه الشرط ، يعني : أستغفرت لهم أو لم تستغفر لهم.
وقوله تعالى : (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) (٣).
معناه : الشرط ، يعني : إن صبرتم أو لا فإنّه لا ينفعكم.
* * *
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٦٥.
(٢) سورة التوبة : آية ٨٠.
(٣) سورة الطور : آية ١٦.
باب
الجواب الواحد عن الشرطين
ـ فإن سئل عن قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) ، فأين جواب قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ؟) إذا جعلت (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جوابا عن قوله : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ؟)
ـ قلنا ـ وبالله التوفيق ـ : إنّ أهل العلم قد اختلفوا فيه :
ـ فمنهم من يقول : إنّ ههنا جوابا واحدا عن الشرطين ، وذلك مما لا يستنكر.
وهذا كقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) (٢) فلم يجب حتى أتى بشرط آخر فقال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) (٣) ثم أجاب عن الشرطين جميعا بجواب واحد ، وهو قوله : (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ.)
وكقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) (٤) ، ثم قال في آخر
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٣٨.
(٢) تتمتها : (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) [سورة النور : آية ١٠].
(٣) تتمتها : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [سورة النور : آية ١٤].
(٤) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة : آية ٢٣].
الآية : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ،) فهذان شرطان أجيب عنهما بجواب واحد ، وهو قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ،) أتى بالجواب فيما بين الشرطين. ذكره ابن الأنباري ، وقال :
وإن شئت قلت : وإن كنتم صادقين فأتوا بسورة ، وإن شئت جعلته جوابا للكلامين جميعا كقوله تعالى : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).
ـ وقيل : لا ، بل الشرط إذا دخل على «ما» الصلة صار تأكيدا ، وخرج عن معنى الشرط ، فصار تقدير الكلام : فعلى كلّ حال يأتيكم مني هدى بلا شك ، ثمّ قال : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ.)
ـ وقيل أيضا : يحتمل أن يكون جواب الشرط الأول مضمرا فيه ، تقديره :
فإمّا يأتينّكم مني هدى فاتبعوه ، فإنّ من تبع هداي فلا خوف عليهم.
قال الشيخ الإمام الزاهد : هذا هو المختار عندنا.
وقوله عزوجل : (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) ، فلولا للتحضيض.
أي : فهلا ترجعونها ، إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين.
وقوله تعالى : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ) (٣) الآية.
__________________
(١) سورة الواقعة : آية ٨٦.
(٢) سورة الواقعة : آية ٨٦.
(٣) سورة البقرة : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ* فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [آية ١٥١ ـ ١٥٢].
قال أهل التفسير : المعنى : اذكروني أذكركم ، (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً.)
وذكر عن الفراء قول ، فهذا الذي أذكره (١) : معناه : (كَما أَرْسَلْنا) هذا شرط ، والفاء في قوله : (فَاذْكُرُونِي) جوابها. و (أَذْكُرْكُمْ) جواب الشرط المقدّر من الأمر ، كما تقول : إذا أتاك عبد الله فأته ترضه. «إذا» محمولة على معنى الشرط ، والفاء جوابها ، وترضه : جواب الشرط مقدّر من الإتيان.
فقد حصل ههنا جوابان لشرط واحد.
* * *
__________________
(١) قال الفرّاء : وفيها وجه آخر :
تجعلها من صلة ما قبلها ، لقوله : (أَذْكُرْكُمْ) ألا ترى أنّه قد جعل لقوله : (فَاذْكُرُونِي) جوابا مجزوما ، فكان في ذلك دليل على أنّ الكاف التي في (كَما) لما قبلها ؛ لأنك تقول في الكلام : كما أحسنت فأحسن ، ولا تحتاج إلى أن تشترط ل «أحسن» لأنّ الكاف شرط ، معناه : افعل كما فعلت ، وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان ، مثل قولك : إذا أتاك فلان فأته ترضه ، فقد صارت فأته وترضه جوابين ا. ه.
راجع معاني القرآن للفرّاء ١ / ٩٢.
باب
الاستفهامين
قوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١).
قيل : معنى الآية :
أفمن حقّ عليه كلمة العذاب فإنّه ينجو منه ، أفأنت تنقذه؟
ـ والوجه الثاني : أفمن حقّ عليه كلمة العذاب أنّه يعذبه في الآخرة ، أفتستطيع أنت أن تنقذه من العذاب. فالهمزة الأولى للاستفهام ، إلا أنّه لما طال الكلام جاء بالهمزة الآخرى للاستفهام تأكيدا للأول.
نظيرها قوله تعالى : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) (٢).
وكذلك قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٣).
وأمّا قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) (٤).
__________________
(١) سورة الزمر : آية ١٩.
(٢) سورة المؤمنون : آية ٣٥.
(٣) سورة الفرقان : آية ٤٣.
(٤) سورة آل عمران : آية ١٨٨.
فقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للأول ، لما طال الكلام جعل الثاني هو الأول.
وغيّر بعض النحويين من أهل الكوفة العبارة بعبارة أخرى فقال :
هذا مما يراد به استفهام واحد ، فسبق الاستفهام في غير موضعه ، وردّ إلى موضعه الذي هو له.
فالمعنى والله أعلم :
أفأنت تنقذ من في النّار ممّن حقّت عليه كلمة العذاب.
وهكذا نظائرها من الآيات.
* * *
باب
يشتمل على مسائل
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، متى قال لهم هذا؟ وهل له في التنزيل ذكر؟
قلنا : نعم ، وهو في قوله : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٢).
مسألة أخرى :
ـ إن سئل عن قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) (٣).
فأين ذكر هذا العهد في القرآن؟
قلنا وبالله التوفيق : هو في قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٤).
ـ وإن سئل عن قوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) (٥) ، ففي أيّ موضع من القرآن ذكر المحرّمات التي استثناها من المحلّلات؟
__________________
(١) سورة البقرة : آية ٣٣.
(٢) سورة تبارك : آية ١٣.
(٣) سورة البقرة : آية ٤٠.
(٤) سورة البقرة : آية ٣٨.
(٥) سورة المائدة : آية ١.