تفسير النسائي - ج ٢

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي

تفسير النسائي - ج ٢

المؤلف:

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي


المحقق: صبري بن عبدالخالق الشافعي وسيّد بن عبّاس الجليمي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٨٩٥
الجزء ١ الجزء ٢

[٢٣٧] قوله عزوجل :

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) [٤٠]

حديث الفتون [٣٤٦] ـ أنا عبد الله بن محمّد ، نا يزيد بن هارون ، أنا أصبغ بن زيد (*) ، نا القاسم بن أبي أيّوب (*) ، أني (١) سعيد بن جبير ، قال :

__________________

(٠) (*) في هامش الأصل : «أصبغ بن زيد والقاسم بن أبي أيوب ثقتان عندهم».

(١) هكذا في الأصل ، ومعناها «أخبرني».

__________________

(٣٤٦) ـ رجاله ثقات. تفرد به المصنف ، وانظر تحفة الأشراف (رقم ٥٥٩٨). عبد اللّه بن محمد بن يحيى ـ الملقب بالضعيف لشدة عبادته ـ ثقة ، وباقي رجاله ثقات ، وأصبغ بن زيد قال عنه الحافظ في التقريب : صدوق يغرب.

وقد أخرجه أبو يعلى الموصلي (ج ٥ / ص ١٠ ـ ٢٩ / رقم ٢٦١٨) عن أبي خيثمة ، وابن جرير الطبري في تفسيره (١٦ / ١٢٥) عن العباس بن الوليد الآملي ، والطحاوي في المشكل (رقم ٦٦) عن علي بن شيبة ، ثلاثتهم عن يزيد بن هارون ـ به ورواه بحشل في تاريخه (ص ٨٦) من طرق عن أصبغ ـ به.

وزاد السيوطي نسبته في الدر المنثور (٤ / ٢٩٦) لابن أبي عمر العدني في مسنده وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ـ به وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (٧ / ٥٦ ـ ٦٦) وقال : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ، غير أصبغ بن زيد والقاسم بن أبي أيوب وهما ثقتان.

٤١

سألت عبد الله بن عبّاس عن قول الله عزوجل لموسى عليه‌السلام : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) ، فسألته عن الفتون ما هو؟ قال : استأنف النّهار يا ابن جبير ، فإنّ لها حديثا طويلا ، فلمّا أصبحت غدوت على ابن عبّاس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله عزوجل وعد إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل في ذرّيّته أنبياء وملوكا ، فقال بعضهم : إنّ بني إسرائيل (١) ينتظرون ذلك ، ما يشكّون فيه ، وكانوا يظنّون أنّه يوسف بن يعقوب عليهما‌السلام ، فلمّا هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه‌السلام ، فقال فرعون : فكيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشّفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا إلّا ذبحوه ، ففعلوا ذلك ، فلمّا رأوا أنّ الكبار من بني إسرائيل يموتون

__________________

(١) في الأصل فوق هذه الكلمة لفظة : «صح».

قوله «الشفار» جمع الشفرة وهي السكين العريضة.

__________________

ـ وأصبغ بن زيد قد وثقه الكثير من جهابذة الفن ، وانظر تهذيب الكمال وغيره ، وقال ابن حبان في المجروحين (١ / ١٧٤) عنه : يخطئ كثيرا لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد.

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٥٤) : وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه إلا قليل منه مرفوعا ، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي اللّه عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، واللّه أعلم ، وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا.

ولبعض هذا الخبر شواهد ، مثل خلوف الصائم وغيره.

٤٢

بآجالهم ، والصّغار يذبحون ، قالوا : توشكون أن تفنوا بني إسرائيل فتصيروا أن تباشروا من الأعمال والخدمة الّذي كانوا يكفونكم. فاقتلوا عاما كلّ مولود ذكر فيقلّ نباتهم (١) ، ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا ، فينشأ الصّغار مكان من يموت من الكبار ، فإنّهم لن يكثروا بمن (٢) تستحيون / منهم فتخافوا مكاثرتهم إيّاكم ، ولن يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك. فحملت أمّ موسى بهارون في العام الّذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة. فلمّا كان من قابل حملت بموسى فوقع في قلبها الهمّ والحزن ـ وذلك من الفتون يا ابن جبير ـ ما دخل عليه في بطن أمّه ممّا يراد به. فأوحى الله جلّ ذكره إليها أن (لا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت وتلقيه في اليمّ. فلمّا ولدت فعلت ذلك. فلمّا توارى عنها ابنها ، أتاها الشّيطان فقالت في نفسها : ما فعلت بابني؟ لو ذبح عندى فواريته وكفّنته كان أحبّ إليّ أن ألقيه إلى دوابّ البحر وحيتانه ، فانتهى الماء به حتّى أوفى به عند فرضة مستقى جواري امرأة فرعون. فلمّا رأينه

__________________

(١) في الأصل : «بناتهم».

(٢) في الأصل : «ثم» والتصويب من الروايات الأخرى.

__________________

قوله فرضة النهر الثلمة التي ينحدر منها الماء وتصعد منها السفن.

٤٣

أخذنه فهممن أن يفتحن التّابوت فقال بعضهنّ (١) : إنّ في هذا مالا ، وإنّا إن فتحناه لم تصدّقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه. فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتّى دفعنه إليها ، فلمّا فتحته رأت فيه غلاما ، فألقي عليها منه محبّة لم يلق منها على أحد قطّ ، وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغا من ذكر كلّ شيء إلّا من ذكر موسى. فلمّا سمع الذّبّاحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ـ وذلك من الفتون يا ابن جبير ـ ، فقالت لهم : أقرّوه ، فإنّ هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، حتّى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت : قرّة عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك فأمّا لي فلا حاجة لي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرّة عين كما أقرّت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكنّ الله حرمه ذلك». فأرسلت إلى من حولها ؛ إلى كلّ امرأة لها لبن / تختار له ظئرا ، فجعل كلّما أخذته امرأة منهنّ لترضعه لم يقبل على ثديها ، حتّى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللّبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السّوق ومجمع النّاس ، ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها ، فلم يقبل. فأصبحت أمّ موسى والها ، فقالت لأخته :

__________________

(١) في الأصل : «بعضهم» وهو لحن ، والتصويب من الروايات الأخرى.

__________________

قوله ظئرا هي المرضعة غير ولدها.

٤٤

قصّي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرا ، أحيّ ابني أم أكلته الدّوابّ ، ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب ـ والجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى الشّيء البعيد وهو إلى ناحية لا يشعر به ـ فقالت من الفرح حين أعياهم الضّئورات : أنا أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها ، فقالوا : ما يدريك ما نصحهم؟ هل تعرفونه؟ حتّى شكّوا فى ذلك ـ وذلك من الفتون يا بن جبير ـ فقالت : نصيحتهم له ، وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ورجاء منفعة الملك. فأرسلوها فانطلقت إلى أمّها فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمّه ، فلمّا وضعته في حجرها ، ثوى إلى ثديها ، فمصّه حتّى امتلأ جنباه ريّا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشّرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا ، فأرسلت إليها فأتت بها وبه ، فلمّا رأت ما يصنع ، قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإنّي لم أحبّ شيئا حبّه قطّ ، قالت أمّ موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معى لا آلوه خيرا فعلت ، فإنّي غير تاركة بيتي وولدى ، وذكرت أمّ موسى ما كان الله وعدها ، فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أنّ الله منجز موعوده. فرجعت إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، وحفظ لما قد قضى فيه ، فلم يزل بنو إسرائيل وهم في ناحية القرية ممتنعين

__________________

قوله : «ثوى إلى ثديها» أي أقام واستقر.

٤٥

من السّخرة والظّلم ما كان فيهم ، فلمّا ترعرع قالت امرأة فرعون لأمّ موسى : أزيريني / ابني ، فوعدتها يوما تزيرها إيّاه فيه.

وقالت امرأة فرعون لخزّانها وظئورها وقهارمتها : لا يبقينّ أحد منكم إلّا استقبل ابنى اليوم بهديّة وكرامة ، لأرى ذلك فيه ، وأنا باعثة أمينا يحصى كلّ ما يصنع كلّ إنسان منكم. فلم تزل الهدايا والكرامة والنّحل تستقبله من حين خرج من بيت أمّه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلمّا دخل عليها نحلته وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمّه بحسن أثرها عليه (١) ثمّ قالت : لآتينّ فرعون فلينحلنّه وليكرمنّه ، فلمّا دخلت به عليه جعله فى حجرة ، فتناول موسى لحية فرعون ، فمدّها إلى الأرض. قال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيّه ، إنّه زعم أن يربّك (٢) ويعلوك ويصرعك؟! فأرسل إلى

__________________

(١) في الأصل قبلى : «عليها» وقد ضرب على هذه الكلمة.

(٢) في الأصل رسمت هكذا : «ريّك» وبهامش الأصل : «يربّك» وقد وضع فوقها حرف «خ» ، وقد أورد الحافظ ابن كثير في تفسيره الحديث بالإسناد نفسه فقال في اللفظة : «يرثك» ، وعند أبي يعلى الموصلي في مسنده : «يربّك» وهو الأظهر إن شاء الله تعالى ، والله أعلم.

__________________

قوله أزيريني ابني من الزيارة والمعنى : ائتني به ليزورني.

قوله قهارمتها جمع قهرمان وهو الخازن والوكيل والحافظ لما تحت يده وهو خاص بالملك.

قوله النّحل أي العطيّة والهبة ، ويضم أوله ويكسر.

قوله الغواة من الغي.

٤٦

الذّبّاحين ليذبحوه ، ـ وذلك من الفتون يا ابن جبير ـ بعد كلّ بلاء ابتلي به وأريد به فتونا. فجاءت امرأة فرعون [تسعى إلى فرعون](١) فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الّذي وهبته لي ، فقال : ألا ترينه ، إنّه يزعم سيصرعنى ويعلوني ، قالت : اجعل بيني وبينك أمرا يعرف فيه الحقّ ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقرّبهنّ إليه ، فإن بطش باللّؤلؤ ، واجتنب الجمرتين ، عرفت أنّه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللّؤلؤتين ، علمت أنّ أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللّؤلؤتين وهو يعقل. فقرّب ذلك إليه فتناول الجمرتين فنزعوهما (٢) منه مخافة أن يحرقا يديه ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به ، وكان الله بالغا فيه أمره. فلمّا بلغ أشدّه ، وكان من الرّجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتّى امتنعوا كلّ الامتناع.

فبينما موسى عليه‌السلام يمشي في ناحية المدينة ، إذ هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعونيّ والآخر إسرائيليّ ، فاستغاثه الإسرائيليّ على / الفرعونيّ ، فغضب موسى عليه‌السلام غضبا شديدا لأنّه تناوله وهو يعلم منزله من بني إسرائيل ، وحفظه لهم ، لا يعلم النّاس إلّا أنّما ذلك

__________________

(١) ما بين المعقوفتين زيادة من لحق بالهامش في الأصل.

(٢) فوق هذه الكلمة وضع كلمة «صح» وألحق بالهامش كلمة «فانزعوهما» وعليها كلمة «صح» والصواب ما أثبتناه لتمام المعنى والله أعلم.

٤٧

من الرّضاع إلّا أمّ موسى ، إلّا أن يكون الله سبحانه أطلع موسى عليه‌السلام من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، ووكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلّا الله عزوجل والإسرائيليّ ، فقال موسى حين قتل الرّجل : هذا من عمل الشّيطان ، إنّه عدوّ مضلّ مبين ، ثمّ قال : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فأصبح في المدينة خائفا يترقّب الأخبار ، فأتى فرعون فقيل له : إنّ بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون ، فخذ لنا بحقّك ولا ترخّص لهم. فقال : ابغوني قاتله من شهد عليه ، فإنّ الملك وإن كان صفوه مع قومه ، لا يستقيم له أن يقيد بغير بيّنة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقّكم. فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا ، إذا موسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيليّ يقاتل رجلا من آل فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيليّ على الفرعونيّ ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه ، وكره الّذي رأى (١) فغضب الإسرائيليّ ، وهو يريد أن يبطش بالفرعونيّ (٢) ، فقال للإسرائيليّ لما فعل أمس واليوم : إنّك لغويّ مبين ، فنظر الإسرائيليّ إلى موسى عليه‌السلام بعد ما قال له ما قال ،

__________________

(١) في الأصل : «راء» والتصويب من باقي الروايات.

(٢) في الأصل : قبل هذه الكلمة لفظه : «بالاسرائيلي» وقد ضرب عليها.

__________________

قوله فوكز أي نخسه ، والوكز هو الضرب بجمع الكف.

قوله : أن يقيد بغير بينة أي يقتص والقود : القصاص.

٤٨

فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس ، الّذي قتل فيه الفرعونيّ ، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنّك لغويّ مبين ، أن يكون إيّاه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنّما أراد الفرعونيّ ، فخاف الإسرائيليّ وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟ ، وإنّما قال له مخافة أن يكون إيّاه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، وانطلق الفرعونىّ فأخبرهم بما سمع من الإسرائيليّ ، من الخبر حين يقول : أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا / بالأمس ، فأرسل فرعون الذّبّاحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون الطّريق الأعظم ، يمشون على هيئتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتّى سبقهم إلى موسى فأخبره الخبر ـ وذلك من الفتون يا ابن جبير ـ. فخرج موسى متوجّها نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له علم إلّا حسن ظنّه بربّه تعالى ، فإنّه (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) يعني بذلك : حابستين غنمهما ـ فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع النّاس؟ فقالتا : ليس لنا قوّة نزاحم القوم ، وإنّما ننتظر فضول حياضهم ، فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدّلو ماء كثيرا حتّى كان أوّل الرّعاء ، وانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى عليه‌السلام ، فاستظلّ بشجرة وقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفّلا بطانا ، فقال :

٤٩

إنّ لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلمّا كلّمه ، قال : لا تخف نجوت من القوم الظّالمين ، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : يا أبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين ، فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوّته وما أمانته؟ قالت : أمّا قوّته فما رأيت منه في الدّلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قطّ أقوى في ذلك السّقي منه ، وأمّا الأمانة ، فإنّه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلمّا علم أنّي امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه حتّى بلّغته رسالتك ، ثمّ قال لي : / امشي خلفي ، وانعتي لي الطّريق ، فلم يفعل هذا الأمر إلّا وهو أمين. فسرّي عن أبيها وصدّقها ، وظنّ به الّذي قالت ، فقال له : هل لك (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَ

__________________

قوله : «فاستنكر أبوهما سرعة صدورهما» استنكر : عده أمرا منكرا أي غريبا غير مألوف.

قوله : «صدورهما» الصدور الرجوع من المكان أو إلى المكان.

قوله : «حفّلا» جمع حافل وهو الممتلئ من كل شيء.

قوله : «بطانا» أي ممتلئة البطون.

قوله : «صوب رأسه» أي نكس رأسه وخفضها.

قوله : «فسرّى عنه» تجلّى همه وزال عنه.

قوله : «ثمانى حجج» حجج جمع حجّة وهي السنة.

٥٠

عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) ففعل فكانت على نبيّ الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته ، فأتمّها عشرا.

قال سعيد : فلقيني رجل من أهل النّصرانيّة من علمائهم ، قال : هل تدري أىّ الأجلين قضى موسى؟ ، قلت : لا ، وأنا يومئذ لا أدري ، فلقيت ابن عبّاس فذكرت ذلك له ، فقال : أما علمت أنّ ثمانيا كانت على نبيّ الله واجبة ، لم يكن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لينقص منها شيئا ، ويعلم أنّ الله كان قاضيا عن موسى عدته الّتي وعده ، فإنّه قضى عشر سنين ، فلقيت النّصرانيّ فأخبرته ذلك ، فقال : الّذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك. قلت : أجل ، وأولى.

فلمّا سار موسى بأهله كان من أمر النّار والعصا ويده ما قصّ الله عليك في القرآن ، فشكى إلى الله سبحانه ما يتخوّف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه ، فإنّه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير الكلام ، وسأل ربّه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ، ويتكلّم عنه بكثير ممّا لا يفصح به (١) لسانه ، فآتاه الله سؤله وحلّ عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتّى لقي هارون عليه‌السلام ، فانطلقا جميعا إلى فرعون ، فأقاما على

__________________

(١) في الأصل قبل هذه اللفظة : «عنه» وقد ضرب عليها.

٥١

بابه حينا لا يؤذن لهما ، ثمّ أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا : إنّا رسولا ربّك ، قال : فمن ربّكما؟ فأخبره بالّذي قصّ الله عليك في القرآن ، قال : فما تريدان؟ وذكّره القتيل فاعتذر بما قد سمعت / ، قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معى بني إسرائيل ، فأبى عليه وقال ائت بآية إن كنت من الصّادقين ، فألقى عصاه فإذا هي حيّة عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون ، فلمّا رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفّها عنه ، ففعل ثمّ أخرج يده من جيبه ، فرآها بيضاء من غير سوء ـ يعني من غير برص ـ ثمّ ردّها فعادت إلى لونها الأوّل ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ، ويذهبا بطريقتكم المثلى ـ يعني ملكهم الّذي هم فيه والعيش ـ فأبوا على موسى أن يعطوه شيئا ممّا طلب ، وقالوا له : اجمع لهما السّحرة ، فإنّهم بأرضك كثير ، حتّى يغلب سحرك سحرهما ، فأرسل في المدائن فحشر له كلّ ساحر متعالم ، فلمّا أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا السّاحر؟ قالوا يعمل بالحيّات ، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسّحر بالحيّات ، والحبال والعصيّ الّذي نعمل ، وما أجرنا إن نحن غلبنا؟ ، قال لهم : أنتم أقاربي وخاصّتي ، وأنا صانع إليكم كلّ شيء أحببتم. فتواعدوا يوم الزّينة ، وأن يحشر النّاس ضحى. قال سعيد : فحدّثني ابن عبّاس : أنّ يوم الزّينة ، اليوم الّذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسّحرة ، هو يوم عاشوراء.

٥٢

فلمّا اجتمعوا في صعيد ، قال النّاس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر لعلّنا نتّبع السّحرة إن كانوا هم الغالبين ـ يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ـ ، فقالوا : يا موسى ـ لقدرتهم بسحرهم ـ إمّا أن تلقي ، وإمّا أن نكون نحن الملقين ، قال : بل ألقوا ، (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ، وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ). فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلمّا ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها / ، فجعلت العصا (١) تلبّس بالحبال (٢) حتّى صارت جرزا على (٣) الثّعبان تدخل فيه ، حتّى ما أبقت عصا ولا حبلا إلّا ابتلعته ، فلمّا عرف السّحرة ذلك ، قالوا : لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كلّ هذا ، ولكنّه أمر من الله ، آمنّا بالله وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله ممّا كنّا عليه. فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأتباعه ، وظهر الحقّ

__________________

(١) هكذا في الأصل : «العصا» وألحقت بالهامش «العصى (ن)» وكتب فوقها نون.

(٢) ألحقت بالهامش : «بالحيات» وكتب فوقها «خ» : أي خطأ.

(٣) كذا في الأصل ، وفي الدر المنثور «جرد إلى الثعبان» وفي مسند أبي يعلى «جرزا إلى الثعبان».

__________________

قوله جرزا على الثعبان جرز بوزن غرف جمع مفرده جرزة بوزن غرفة ، وهي الحزمة من العيدان ، أي أصبحت عصا موسى تلتهم كل العصى والحبال التي ألقاها السحرة حتى امتلأت بها جميعا فأصبحت كالحزمة من الأعواد من ضخامتها.

٥٣

وبطل ما كانوا يعملون (فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) وامرأة فرعون بارزة تدعو الله بالنّصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ، ظنّ أنّها إنّما ابتذلت للشّفقة على فرعون وأشياعه وإنّما كان حزنها وهمّها لموسى. فلمّا طال مكث موسى بمواعد فرعون الكاذبة ، كلّما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده ، وقال : هل يستطيع ربّك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله عزوجل على قومه (الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ ، آياتٍ مُفَصَّلاتٍ) ، كلّ ذلك يشكو إلى موسى ، ويطلب إليه أن يكفّها عنه ، ويوافقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كفّ ذلك عنه ، أخلف موعده ، ونكث عهده. حتّى أمر موسى بالخروج بقومه ، فخرج بهم ليلا ، فلمّا أصبح فرعون ، فرأى أنّهم قد مضوا ، أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله تعالى إلى البحر إذا ضربك عبدى موسى بعصاه فانفرق اثنتي عشرة فرقة ، حتّى يجاوز موسى ومن معه ، ثمّ التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا ، فانتهى إلى البحر ، وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه ، وهو غافل ، فيصير عاصيا لله.

__________________

قوله «قصيف» هو الصوت الهائل الذي يشبه صوت الرعد.

٥٤

فلمّا تراءى الجمعان تقاربا ، قال قوم موسى : إنّا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربّك فإنّه لم يكذب / ولم تكذب ، قال : وعدني ربّي إذا أتيت البحر انفرق اثنتا عشرة فرقة ، حتّى أجاوزه ، ثمّ ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربّه ، وكما وعد موسى ، فلمّا أن جاز موسى وأصحابه كلّهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلمّا جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنّا نخاف ألّا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربّه فأخرجه له ببدنه حتّى استيقنوا هلاكه ، ثمّ مرّوا بعد ذلك (عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قد رأيتم من العبر ، وسمعتم ما يكفيكم. ومضى فأنزلهم موسى منزلا وقال لهم : أطيعوا هارون فإنّي قد استخلفته عليكم ، فإنّي ذاهب إلى ربّي ، وأجّلهم ثلاثين (١) يوما أن يرجع إليهم فيها ، فلمّا أتى ربّه [أراد](٢) أن يكلّمه في ثلاثين يوما ، وقد صامهنّ : ليلهنّ ونهارهنّ ، وكره أن يكلّم ربّه وريح فيه ريح فم الصّائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه ، فقال له ربّه حين أتاه : لم

__________________

(١) في الأصل «ثلاثون».

(٢) ما بين المعقوفتين ليست في الأصل ، وهي في الروايات الأخرى.

٥٥

أفطرت؟ ـ وهو أعلم بالّذي كان ، قال : يا ربّ إنّي كرهت أن أكلّمك إلّا وفمي طيّب الرّيح ، قال : أو ما علمت يا موسى أنّ ريح فم الصّائم أطيب من ريح المسك؟ ، ارجع فصم عشرا ، ثمّ ائتني ، ففعل موسى عليه‌السلام ما أمره به ، فلمّا رأى قوم موسى أنّه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنّكم خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك ، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم ، ولا أحلّ لكم وديعة استودعتموها ، ولا عارية ، ولسنا برادّين إليهم / شيئا من ذلك ، ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كلّ قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثمّ أوقد عليه النّار فأحرقه ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم.

وكان السّامريّ من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضي له أن رأى أثرا فأخذ منه قبضة ، فمرّ بهارون فقال له هارون عليه‌السلام : يا سامريّ ألا تلقي ما في يدك؟ وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرّسول الّذي جاوز بكم

__________________

قوله «عوارى» جمع عارية ، وهي ما يستعار للانتفاع به ثم يرد إلى صاحبه.

قوله «رأى أثرا» أي وقع القدم من المشي.

٥٦

البحر ، فلا ألقيها بشيء (١) إلّا أن تدعو الله إذا ألقيت أن يكون ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال أريد أن تكون عجلا ، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار.

قال ابن عبّاس : لا والله ما كان له صوت قطّ ، إنّما كانت الرّيح تدخل من دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصّوت من ذلك.

فتفرّق بنو إسرائيل فرقا ، فقالت فرقة : يا سامريّ ، ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربّكم ، ولكنّ موسى أضلّ الطّريق ، فقالت فرقة : لا نكذّب بهذا (٢) حتّى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربّنا لم نكن ضيّعناه وعجزنا فيه حين رأينا ، وإن لم يكن ربّنا فإنّا نتّبع قول موسى. وقالت فرقة : هذا عمل الشّيطان ، وليس بربّنا ، ولن نؤمن به ، ولا نصدّق ، وأشرب فرقة في (٣) قلوبهم الصّدق بما قال السّامريّ في

__________________

(١) سقطت من الأصل وألحقت بالهامش وكتب فوقها «صح».

(٢) في الأصل : «فقالت فرقة لا يكون نكذب بهذا» وقد ضرب على كلمة «يكون» بالأصل.

(٣) في الأصل : «من» والتصحيح من تفسير ابن كثير وغيره.

__________________

قوله خوار هو صوت البقر.

قوله أن رأي أثرا فأخذ منه قبضة قال ابن كثير في تفسيره : قال مجاهد : من تحت حافر فرس جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف.

٥٧

العجل وأعلنوا التّكذيب به ، فقال لهم هارون : يا قوم إنّما فتنتم به ، وإنّ ربّكم الرّحمن ، [هكذا](١) قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثمّ أخلفنا؟ هذه أربعون قد مضت. فقال سفهاؤهم : أخطأ ربّه فهو يطلبه ويتبعه ، فلمّا كلّم الله موسى عليه‌السلام وقال له ما قال ، أخبره / بما لقي قومه من بعده ، فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا ، قال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثمّ إنّه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له ، فانصرف إلى السّامريّ فقال له ما حملك على ما صنعت ، قال : قبضت قبضة من أثر الرّسول وفطنت إليها ، وعميت عليكم ، فقذفتها (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قالَ : فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ ، وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ

__________________

(١) زيادة في الأصل.

__________________

قوله وعميت عليكم التبس عليكم أمرها فلم تعرفوها.

قوله سولت لي زينت لي الأمر وحببته إلي ، والتسويل على وزن تفعيل من السول وهو الأمنية التي يتمناها الإنسان ، فتزين للإنسان أمنية الباطل وغيره من غرور الدنيا.

قوله أن تقول لا مساس أي عقوبتك أن لا تطيق مس أحد ولا أن يمسك أحد.

وقال ابن كثير في تفسيره : أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه. ومسه من أثر الرسول فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس ، أي لا تماسّ الناس ولا يماسّونك.

٥٨

عَلَيْهِ عاكِفاً ، لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) ، ولو كان إلها لم نخلص إلى ذلك منه ، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الّذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا : ـ لجماعتهم ـ يا موسى سل لنا ربّك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفّر عنّا ما عملنا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألوا الخير ، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التّوبة ، فرجفت بهم الأرض واستحيا نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل ، فقال (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) وفيهم من كان الله اطّلع منه على ما أشرب قلبه من حبّ العجل وإيمان به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : (رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ).

فقال : يا ربّ سألتك التّوبة لقومي فقلت : إنّ رحمتي كتبتها لقوم غير قومي فليتك أخّرتني حتّى تخرجني في أمّة ذلك الرّجل المرحومة ، فقال له : إنّ توبتهم أن يقتل كلّ رجل منهم كلّ (١) من لقي / من والد وولد ، فيقتله بالسّيف لا يبالى من قتل في ذلك الموطن ، ويأتي

__________________

(١) في الأصل : «على» والتصويب من رواية أبي يعلى.

__________________

قوله اغتبط أي من الفرح والسرور والنعمة.

٥٩

أولئك الّذين كان خفي على موسى وهارون ، واطّلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول ، ثمّ سار بهم موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجّها نحو الأرض المقدّسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالّذي أمر به أن يبلّغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقرّوا بها ، فتتق الله عليهم الجبل كأنّه ظلّة ، ودنا منهم حتّى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصطفّون ، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم ، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ، ثمّ مضوا حتّى أتوا الأرض المقدّسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبّارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكر من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها فقالوا : يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون ، قال رجلان من الّذين يخافون ـ قيل ليزيد هكذا قرأه؟ قال : نعم ـ من الجبّارين آمنا بموسى (١) ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا ، إن كنتم إنّما تخافون [من](٢) ما رأيتم من

__________________

(١) رسمت في الأصل هكذا «آمنا يا موسى» والتصحيح من رواية ابن كثير وأبي يعلى.

(٢) زيادة من الأصل : وعليها تضبيب.

__________________

قوله الوظائف أي ما يقدّر من عمل وكذلك العهود والشروط.

قوله نتق هو أن تقلع الشيء فترفعه من مكانه لترمي به.

قوله كأنه ظلة كأنه غاشية أو سحابة فوقهم.

٦٠