تفسير النسائي - ج ١

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي

تفسير النسائي - ج ١

المؤلف:

أبي عبدالرحمن ابن شعيب بن علي النسائي


المحقق: صبري بن عبدالخالق الشافعي وسيّد بن عبّاس الجليمي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ١٠٢](يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء : ١](يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب : ٧٠ ، ٧١].

أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ـ وبعد :

فإن الله سبحانه وتعالى قد منّ علينا بخدمة هذا السّفر المبارك ، للإمام الحافظ أبي عبد الرحمن النّسائي والذي لم ير النور بهذا الثوب القشيب قبل الآن وكان لاختيار هذا السّفر المبارك عدة أسباب منها :

١ ـ أهمية هذا الكتاب الذي يعتبر أصلا من الأصول الستة التي هي أمهات كتب السنة.

٢ ـ ليعم نفع الكتاب بعد إخراجه محققا مدققا.

٣ ـ حرصنا الشديد على تقديم دراسة شاملة عن الإمام النّسائي بالرغم من أن هنا من سبقنا في هذه الدراسة إلّا أننا أبينا إلّا أن نكون مكملين لما فاتهم ولهم فضل السبق.

هذا وقد سرنا في خدمة هذا الكتاب على النحو التالي : قسمنا العمل إلى أربعة أقسام كالتالي :

٣

* القسم الأول : يتعلق بمقدمة هذا السّفر ، قدمنا له بمقدمة موجزة جاءت في ثلاثة أبواب :

الباب الأول : علم التفسير ... ويشتمل على ثلاثة فصول.

الباب الثاني : ترجمة الإمام النّسائي ، ويشتمل على تسعة فصول.

الباب الثالث : دراسة كتاب التفسير في سبعة فصول.

 ـ صور النسخ الخطية.

 ـ بعض الرموز المستخدمة.

* القسم الثاني : نص الكتاب محققا مدققا.

* القسم الثالث : ذيل مستدرك التفسير.

* القسم الرابع : فهارس علمية فنية لخدمة الكتاب تساعد الباحث على الاستفادة من الكتاب.

فدونك يا أخي جهد المقل ، نرجو أن نكون قد وفقنا فيه ، فما كان فيه صواب فمن الله وله الحمد والفضل والمنّة ، وما كان من خطأ فمنا ، ز نستغفرك الله ونسأله العفو والعافية ، فرحم الله امرأ تجنب الاعتساف ، ونظر نظرة تجرّد وإنصاف ؛ فإن وجد خيرا حمد الله وشكر ، وإن وجد عيبا ستر ، ولم يبخل علينا بالنصيحة.

ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ عليا بقبوله وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وأن يجعله في ميزان حسناتنا (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) [الشعراء : ٨٨].

«جعلنا الله ممن تكلف الجهد في حفظ السنن ونشرها ، وتمييز صحيحها من سقيمها ، والتفقه فيها والذّب عنها ، إنه المأنّ على أوليائه بمنازل المقربين والمتفضل على أحبابه درجة الفائزين والحمد لله رب العالمين» (١).

__________________

(١) عن خاتمة الثقات لابن حبان.

٤

الباب الأول

علم التفسير

الفصل الأول : تعريفه في اللغة والاصطلاح.

الفصل الثاني : أقسام التفسير.

الفصل الثالث : نشأة علم التفسير وتطوره.

المبحث الثاني : التفسير في عهد الصحابة رضي الله عنهم.

المبحث الثالث : التفسير في عهد التابعين.

المبحث الرابع : التفسير في عهد أتباع التابعين.

٥

الفصل الأول

تعريف التفسير في اللغة والاصطلاح

أ ـ في اللغة :

يطلق التفسير في اللغة على الإبانة والتوضيح ، وهو مصدر (فسر).

قال في المصباح : «فسرت الشيء فسرا ..... بينته وأوضحته ، والتثقيل مبالغة.»

وقال في لسان العرب : «والتفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل».

فهو في اللغة يطلق على التوضيح والكشف والإبانة والإظهار لكل شيء سواء أكان. بإظهاره ماديّا أم معنويا ، بتوضيحه وبيانه. وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً)(١)

ب ـ في الاصطلاح :

أما تعريف التفسير في الاصطلاح ، فقد عرّفه الزركشي بأنه :

__________________

(١) الفرقان (ص ٣٣).

٦

«علم يعرف به فهم كتاب الله المنزّل على نبيّه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه والقراءات. ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ» (١)

فعلم التفسير في الاصطلاح : علم يكشف به عن معاني القرآن ، عن طريق العلم بنزول الآيات القرآنية وشئونها وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيّها ومدنيّها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصّها وعامّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومفصّلها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها .... إلخ (٢).

* * *

__________________

(١) البرهان في علوم القرآن (١ / ١٣).

(٢) انظر حول هذا التعريف الأخير البرهان للزركشي (٢ / ١٤٨) ، والإتقان للسيوطي (٢ / ١٧٤).

٧

الفصل الثاني

أقسام التفسير

يقسّم التفسير إلى تقسيمات متعددة باعتبارات معينة :

١ ـ فباعتبار العناية باللفظ والمعنى يقسّم إلى نوعين : لفظي ، ومعنويّ.

٢ ـ وباعتبار معرفة الناس له يقسم إلى أربعة أقسام :

* وجه تعرفه العرب من كلامها ،

* وتفسير لا يعذر أحد بجهالته ،

* وتفسير يعلمه العلماء ،

* وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى.

٣ ـ وباعتبار مذاهبه ينقسم إلى :

* تفسير بالمأثور ،

* وتفسير بالرأي ، كما سنعرضه فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى.

٤ ـ ومن حيث جوازه وعدم جوازه ينقسم إلى قسمين :

* جائز ،

* وغير جائز (وهو ما كان بالهوى ويحمّل الآيات أكثر مما تتحمل.

٨

الفصل الثالث

نشأة علم التفسير وتطوره

لما كان علم التفسير مرتبطا بالقرآن الكريم ؛ كان تاريخه مرتبطا بنزول القرآن الكريم ، ثم أخذ ينمو ويتوسع حتى أصبح علما قائما بذاته تخصّص له علماء وألفوا فيه الكتب.

ونستطيع أن نلم بتطوره باستعراض الأدوار التاريخية التي يمر بها هذا العلم على الوجه الآتي :

* المبحث الأول : التفسير في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

على الرغم من أن القرآن قد نزل بلغة عربية على قوم اهتموا بالفصاحة والبيان ، نجد في القرآن صورا من التعبيرات التي تتردد بين الحقيقة والمجاز ، والتصريح والكناية ، والإحكام والتشابه ، والإجمال والتفصيل ... وغير ذلك.

وعلى ذلك فقد فهموا القرآن إجمالا دون تفصيل. ولمّا كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو مهبط الوحي ومبلّغ الرسالة ، فقد فهمه جملة وتفصيلا ، فكان ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ هو المرجع الوحيد لشرح معانيه واستنباط أحكامه.

وقام بالأمر خير قيام ، وبلّغ الرسالة ؛ تحقيقا لقوله تعالى :

٩

(وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فالآية تشير إلى إحدى وظائف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أنزل عليه القرآن ، أن يعلمه للناس.

* كيفية التفسير في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

أ ـ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزلت عليه آية بادر أحيانا بتوضيح ما خفي منها ؛ إذ لمّا نزل قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) قال : «عدلا» [وهو عندنا هنا برقم ٢٦]

ب ـ كان سيرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حياته وعبادته تفسيرا لما حمله القرآن.

إذ فسر معنى الصلاة بعمله ، وقال : «صلّوا كما رأيتموني أصلي» [رواه البخاري] وفسّر معنى الحجّ بعمله ، فقال : «خذوا عني مناسكك» [رواه مسلم] وهكذا فسّر الأحكام والجهاد حتى الآيات المتعلقة بالأخلاق ، فقد فسّرها تطبيقا بعمله ، سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله تبارك وتعالى عنها عن خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن. [رواه مسلم].

ج ـ كان السائل يأتيه فيسأله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء مما في القرآن ، فأحيانا يجيبه فورا ، وأحيانا يتوقف في الإجابة حتى يأتيه خبر السماء. وقد يأتي الوحي حالا ، وقد يتأخر بأمر الحكيم العليم ، سبحانه ، وقد يسألونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاختبار ، وللتأكد من صدق رسالته ، فيأتيه المدد من السماء (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)

١٠

وقد يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أمور يخبر الوحي أن علمها عند الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

* ميزة التفسير في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

١ ـ مصدر التفسير في هذه الفترة كان وحيا من السماء ، سواء ما نزل من آيات أو ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلاهما وحي ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» الحديث [رواه أحمد وأبو داود ، وهو صحيح].

٢ ـ كان هذا التفسير هو الفيصل في كل خلاف يمكن أن يقع.

٣ ـ الغالب أن هذا التفسير لم يكن مدوّنا وقتئذ. والله تعالى أعلم.

* المبحث الثاني : التفسير في عهد الصحابة رضي الله عنهم.

حين قضى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالتحق بالرفيق الأعلى صار الناس في حاجة لمعرفة كلام الله تعالى.

وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة وكانوا من المكثرين :

عليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب.

* مصادر التفسير في عهدهم رضي الله عنهم :

ونعني بالمصادر هنا تلك المراجع التي نقل عنها المفسرون وأدرجوا ما نقلوه عنها في تفاسيرهم :

١١

١ ـ القرآن الكريم : ويعتبر أهم مصدر من مصادر التفسير. ولهذا أطبقت الأمة سلفا وخلفا على أن أصحّ طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن ، كما ذكر ذلك ابن تيمية (١) وغيره من أساطين العلم.

وصورة هذا التفسير ؛ كأن تكون آية مجملة في موضع ، مفصلة ، في موضع آخر كقصص الأنبياء.

ومن هذا النوع حمل المجمل على المبيّن ، وحمل المطلق على المقيّد ، وهي كثيرة جدا ، كقوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) [الأعراف / ٢٢](فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [المجادلة / ٣](حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) [الأنعام / ١٥٢] وقوله : (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) [النساء / ٦].

٢ ـ السنة النبوية : فقد ساروا على تفسير ما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخبار وأفعال حول الآيات ، فكانوا يسألون بعضهم عما ورد عنه فيها.

٣ ـ الرأي [الاجتهاد والاستنباط في التفسير]. وذلك إذا لم يجدوا في ذلك آية أو حديثا يفسر لهم ما أرادوا فيجتهدوا في معرفة الأحكام وعدّتهم في ذلك الفهم الواسع والإدراك العميق والمعرفة المحيطة باللغة وأسرار البلاغة.

__________________

(١) مقدمة في أصول التفسير (ص ٩٣).

١٢

العزيز ، لاختلافهم في العلم والموهبة ، وبرز منهم رجال عظماء قد ذكر أشهرهم وأكثرهم تفسيرا.

* تنبيه على خطأ وشبهة بغيضة ، والرد عليها :

بعض المعاصرين (١) قرر أن الإسرائيليات كانت مصدرا رابعا من مصادر التفسير!! وهذا الذي قالوه مخالف للحق هادم لأصول التفسير في العصور الإسلامية. فما الجواب عن هذه الفرية؟!

وتفصيل ذلك يأتي بعد توضيح لأمر معين :

أولا : لا بد من تحديد الألفاظ قبل أن نلج في الموضوع ؛ أن نحدد معنى الإسرائيليات فنقول :

إن المتقدمين لم يصيغوا معنى اصطلاحيا لهذه الكلمة مما جعلهم يتناولون هذه الكلمة بمعايير ومعان مختلفة. فمنهم من يرى أنها مطلق الأخبار الواردة عن بني إسرائيل ، وبعضهم يخصّصها بالأخبار التي جاءت من طريق اليهود الذين دخلوا الإسلام ، وفريق ثالث يتحدث عنها على اعتبار أنها كل ما جاء عن أهل الكتاب سواء كانوا يهودا أو نصارى.

__________________

(١) كالدكتور محمد حسين الذهبي رحمه‌الله في كتابه «التفسير والمفسرون» (١ / ٣٧) وغيره.

١٣

ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتقاد ، فإنها على ثلاثة أقسام :

أ ـ ما وافق شرعنا : أي ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق ، فذلك صحيح.

ب ـ ما خالفه : أي ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.

ج ـ ما سكت عنه شرعنا : أي ما هو مسكوت عنه ، لا من هذا القبيل ، ولا من هذا القبيل. فلا نؤمن به ، ولا نكذبه ، وتجوز حكايته ، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني.

تناول الشيخ الذهبي رحمه‌الله الحديث عن الإسرائيليات بتفصيل. ثم إنه لما تكلم عن مصادر التفسير في عهد الصحابة قال : «كان الصحابة في هذا العصر يعتمدون في تفسيرهم للقرآن الكريم على أربعة مصادر : الأول القرآن الكريم. والثاني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. الثالث الاجتهاد وقوة الاستنباط. الرابع أهل الكتاب من اليهود والنصارى». ولقد حاولت جهدي أن أفهم من عبارة الذهبي خلاف ظاهر النص ، ولكن دون جدوى. فإن كان مراد الذهبي أن الروايات القليلة الواردة عن بعض الصحابة في أخبار الأمم السابقة ، والتي قد تكون مستقاة من مسلمة أهل الكتاب أصبحت مصدرا رابعا لمصادر التفسير ، فهذا لم يقل به أحد لمخالفته للحق. أما إن كان مراد الذهبي من عبارته أن يقرر وجود روايات في التفسير عن الصحابة من هذا النوع فلا ينكره

١٤

أحد ، ولعله مقصده كان ذلك ، وإن قصرت العبارة عن مراده. خاصة وأن الذهبي رحمه‌الله قرر بإسهاب في حديثه عن الإسرائيليات أن الصحابة لم يسألوا أهل الكتاب عن كل شيء ، ولم يقبلوا منهم كل شيء ، وأن الصحابة توقفوا فيما سمعوه منهم ، وأنهم لم يسألوا أهل الكتاب عن أشياء كانت مدعاة للهو والعبث ؛ كعدد ألواح سفينة نوح .... وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم لا يصدقون اليهود فيما يخالف الشريعة أو يتنافي مع العقيدة (١) ولكن المشكلة أن الذين نقلوا عن الذهبي في مؤلفاتهم الحديثة صرحوا بأن الإسرائيليات مصدر رابع.

استغل المستشرقون مثل هذه الكتابات وجعلوها مستندهم فيما أشاعوه من أن مصدر الفكر الإسلامي أو المتمم له على الأقل هو التوراة والإنجيل ، لذا لم يجد الصحابة بدّا من الرجوع إلى جذور هذا الفكر برجوعهم إلى الإسرائيليات في منهج التفسير : فيرجع القارئ إلى عشرات التّرهات التي أوردها تسيهر (٢) إذ قال : (إن ابن عباس اعتبر مصادر العلم المفضلة لديه : اليهوديّين اللّذين اعتنقا الإسلام وهما كعب الأحبار وعبد الله بن سلام) (٣) كما ادعى تسيهر أيضا : (أن ابن عباس كان يسأل كعب الأحبار عن التفسير الصحيح للتعبيرين القرآنيين : أم الكتاب ، والمرجان) (٤).

__________________

(١) التفسير والمفسرون (١ / ٧٠ ـ ٨٣ ، ١٦٥ ـ ١٩٠).

(٢) مذاهب التفسير الإسلامى (٧٣ ـ ٩٥).

(٣ ، ٤) نفس المصدر.

١٥

والذي نريد أن نركز عليه هنا أن أدلة تسيهر التي ساقها لتقرير هذا كتابات بعض المسلمين قديما وحديثا ، بمعنى أن تسيهر استغل السقطات العملية عند العلماء فاتخذها سلاحا ضد الحق وضد المسلمين مما يؤكد على المسلمين وجوب الحيطة فيما يكتبون.

كما أنه لا دليل لمن قال بأن الصحابة رغبوا في الوقوف على تفصيل ما أجمله القرآن ، إذا الثابت عكس ذلك ، إذ أورد السيوطي وغيره عشرات الآثار الدالة على أن الصحابة اكتفوا بفهم القرآن مجملا ، وتورعوا عن الخوض فيه بغير علم ، منها أن عمر بن الخطاب سأل عن الأبّ في قوله تعالى : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا)(١) ثم تراجع عن هذا المطمح وقال : إن هذا هو التكلف يا عمر (٢).

نعم لقد انتشرت الإسرائيليات ولكن ليس في عهد الصحابة ـ الذي نحن بصدده ـ بل في عهد التابعين وأتباعهم. ورويت كلها موقوفة على قائليها.

ثم إن الذين وقعوا في هذا الفهم الخاطئ ـ أعني جعل الإسرائيليات مصدرا رابعا من مصادر التفسير ـ هم أنفسهم يقررون أن ما نسب إلى ابن عباس وعلي ، وغيرهما من الصحابة من الروايات

__________________

(١) سورة عبس (الآية ٣١).

(٢) الإتقان (١ / ١١٣).

١٦

الضعيفة والموضوعة أضعاف ما صح عنهما ، فإن كان الأمر كذلك فهل تحققوا من أن الإسرائيليات المنسوبة إلى هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم ليست من هذا النوع الضعيف والموضوع؟

جاء في ميزان الاعتدال عند ترجمة مجاهد بن جبر ما يلي : (عن أبي بكر بن عياش قال : قلت للأعمش : ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟ قال : كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب) (١) : فإن كان التابعون يجرحون من يعتمد على أهل الكتاب في نقل الأخبار ويجعلون ذلك سببا كافيا للتجريح فما بالنا بالصحابة رضوان الله عليهم.

ثم إن الإسرائيليات لو كانت فعلا مصدرا معتمدا عند السلف في التفسير لأثرت في منهجه ، أو غيرت من وجهته ، ولكنها لم تؤثر على الفكر الإسلامي ولا على عقيدته وبقيت اللعنة على بني إسرائيل يتقرب المسلمون إلى الله بترديدها فيما يتلونه من القرآن. ولو أنها لعبت أدنى دور في المسيرة الإسلامية عقيدة أو منهجا لما تجرأنا ونحن في القرن الخامس عشر أن ندعوا لطرحها من تاريخنا الاسلامي غير متأسفين عليها. والله أعلم (٢).

__________________

(١) ميزان الاعتدال (٣ / ٤٣٩).

(٢) استفدنا معظم هذا التنبيه من كتاب «تفسير ابن عينية» (ص ٨٥ ـ ٨٧).

١٧

* ميزة التفسير في عهد الصحابة.

١ ـ لم يفسر القرآن كله ؛ لقرب عهدهم بالرسول وفهمهم له ولمعاصرتهم لنزوله.

٢ ـ قلة الاختلاف في فهم معانيه لنقاء عقيدتهم ، وتوحد اتجاهاتهم وتقارب أفكارهم ، وخلوها من التكلف والشطط.

٣ ـ الاكتفاء بالمعنى الإجمالي وعدم إلزام أنفسهم بتفهم معانيه على سبيل التفصيل.

٤ ـ كان التفسير في هذه المرحلة جزءا من الحديث النبوي وفرعا من فروعه.

٥ ـ لم يكن مرتبا حسب النزول ، بل كانت تفاسيرهم متناثرة كما كان الشأن في رواية الحديث.

٦ ـ ندرة الاستنباط الفقهي من الآيات لعدم جهلهم في الغالب بالأمور الفقهية.

٧ ـ خلو تفسيرهم من المذاهب الكلامية.

* حكم تفسير الصحابي.

قال النووي : وأما قول من قال تفسير الصحابي مرفوع ، فذاك في تفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحوه (١).

__________________

(١) تدريب الراوي (١ / ١٩٣).

١٨

وقال الزركشي : تفسير الصحابي بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قاله الحاكم في تفسيره (١).

لكن هناك تفصيل في هذه المسألة أورده السيوطي عن الزركشي ، قال السيوطي : قال الزركشي : إن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ، ومنه ما لا يتوقف ، ويكفي في تحصيله الثقة على الوجه المعتبر ... واعلم أن القرآن قسمان : قسم ورد تفسيره بالنقل ، وقسم لم يرد ، والأول : إما أن يرد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو الصحابة أو رءوس التابعين ، فالأول يبحث فيه عن صحة السند ، والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسر من حيث اللغة ، فهم أهل اللسان ؛ فلا شك في اعتماده ، أو بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه (٢).

وفصل في هذا كله الحافظ في نكته على مقدمه ابن الصلاح فقال (٢ / ٥٣١) :

والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه ولا منقولا عن لسان العرب فحكمة الرفع ، وإلا فلا كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء وعن

__________________

(١) البرهان (٢ / ١٥٧).

(٢) الإتقان (٢ / ١٨٣).

١٩

الأمور الآتية : كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها ، فيحكم لها بالرفع.

قال أبو عمرو الداني : «قد يحكي الصحابي رضي الله عنه قولا يوقفه ، فيخرّجه أهل الحديث في المسند ، لامتناع أن يكون الصحابي رضي الله عنه قاله إلا بتوقيف.

كما روي أبو صالح السمان عن أبي (١) هريرة رضي الله عنه قال : «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة ......» الحديث. لأن مثل هذا لا يقال بالرأي ، فيكون من جملة المسند. وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي فيحتمل أن يكون ذلك مستفادا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن القواعد ، فلا يجزم برفعه ، وكذا إذا فسر مفردا فهذا نقل عن اللسان خاصة ، فلا يجزم برفعه وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيح والإمام الشافعي وأبي جعفر الطبري (ت ٣١٠) وأبي جعفر الطحاوي (ت ٣٢١) وأبي بكر بن مردويه (ت ٤١٠) في تفسيره المسند ، والبيهقي وابن عبد البر في آخرين. إلّا أنه يستثنى من ذلك

__________________

(١) رواه مالك في الموطأ ، كتاب اللباس (٤٨) ، باب ما يكره من الثياب (رقم ٧) عن مسلم بن أبي مريم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ـ موقوفا.

٢٠