البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

ملازما لثبوت الحكم من الجهة الأخرى التي هي غير مقصودة بالبيان ، كما ورد من صحة الصلاة في ثوب فيه عذرة ما لا يؤكل لحمه من حيث النجاسة عند الجهل بها أو نسيانها ، فانّها تدلّ على صحّة الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه كوبره وشعره وغيرها من أجزائه المتصلة والمنفصلة عند الجهل بها أو نسيانها إذ بناء على جزئية العذرة للحيوان لا فرق في نظر العقل في الحكم بصحّة الصلاة بين العذرة وغيرها من الأجزاء ، وان كان الكلام ملقى إلى المخاطب لبيان حكم العذرة. هذا مثال الملازمة العقلية بين الجهتين.

واما مثال الملازمة الشرعية بينهما ، فكما إذا دل الدليل على وجوب قصر الصلاة الرباعية على المسافر فانّه يدل على وجوب إفطار الصوم عليه في المورد الذي يجب عليه قصر الصلاة الرباعية للملازمة الشرعية بين القصر والافطار إذ قال مولانا الصادق عليه‌السلام : «إذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت».

واما مثال الملازمة العادية بينهما فكما إذا دلّ الدليل على طهارة سؤر الهرة ، فإطلاق هذا الدليل الذي دلّ على طهارة سؤر الهرة يكون مقتضيا لطهارة سؤر الهرة مطلقا ، سواء طهر فمها أم لم يطهر سواء لاقى فمها قبل السؤر للميتة أم لم يلاق قبله لها ، فالملازمة العادية ثابتة بين طهارة السؤر مطلقا ، وبين طهارة السؤر إذا كان فمها ملاقيا قبل السؤر ، على حسب عادتها للنجاسة كما لا يخفى.

٥٤١

في حمل المطلق على المقيّد

قوله : فصل إذا ورد مطلق ومقيّد متنافيين ...

إذا ورد مطلق ومقيد من قبل الشرع فاما أن يكون التنافي بينهما بحيث لا يمكن الجمع بينهما مع حفظ اصالة الظهور فيهما مثل (اعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة) فصيغة الأمر ظاهرة في الوجوب ، وصيغة النهي ظاهرة في الحرمة ، والمراد بهما جملتا (اعتق ولا تعتق) فالأولى تدلّ على وجوب عتق مطلق الرقبة سواء كانت مؤمنة أم كافرة. والثانية تدلّ على حرمة عتق الرقبة الكافرة. فلا يمكن الجمع بين وجوب عتق الكافرة وحرمة عتقها للتنافي بينهما فلا بد أن يرفع اليد من ظهور إحداهما اما من ظهور الأمر واما من ظهور النهي. واما ان لا يكون التنافي بينهما بحيث يمكن الجمع بينهما مع حفظ اصالة الظهور في دليلهما ، نحو (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة) لا تنافي بينهما إذ دليل المطلق يدل على وجوب عتق الرقبة بما هي هي ، فهي تشمل المؤمنة والكافرة. والدليل المقيد يدلّ على وجوب خصوص عتق المؤمنة فلا تنافي بينهما في عتق المؤمنة. نعم يكون التنافي بينهما في عتق الكافرة. فاما يكونا مختلفين في الاثبات والنفي ، واما يكونا متوافقين فيهما ، أي يكون المطلق مثبتا والمقيد مثبتا أيضا ، أو يكون المطلق منفيا والمقيد منفيا أيضا ، فصارت الاحتمالات أربعة ، إذ يحصل من المختلفين قسمان :

الأوّل : ان يكون المطلق مثبتا والمقيد منفيا.

والثاني : بعكس الأوّل ، فيكون المطلق منفيا والمقيد مثبتا.

كما يحصل من المتوافقين قسمان أيضا كما ذكر.

والتفصيل : فان كانا مختلفين فيهما مثل (اعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة) فلا إشكال حينئذ في تقييد المطلق بالمقيد بواسطة قانون الجمع وأولويته بالإضافة

٥٤٢

إلى طرح ظاهر أحدهما ، فيرجع إلى قانون الجمع الذي يتحقق بحمل المطلق على غير المقيّد وبتقييده بغيره بواسطة اظهرية دليل التقييد عن دليل الاطلاق ، إذ دلالة دليل المطلق على كفاية عتق الكافرة تكون بالدلالة التضمنية ، ودلالة دليل المقيّد على عدم اجزاء الكافرة تكون بالدلالة المطابقية ، ولا ريب ان الثانية أظهر من الأولى فيحمل الظاهر على الأظهر ، فيكون المراد من المطلق غير المقيد ويعمل بهما من جهة الجمع بينهما ، وهو أولى من طرح ظاهر احدهما.

واما إذا كانا متوافقين ، فالمشهور فيهما الحمل والتقييد ، أي حمل المطلق على المقيد ، ويكون المقصود من المطلق المقيد. وتقييد المطلق بالمقيد كالمختلفين في الاثبات والنفي. واستدل المشهور بأن في حمل المطلق على المقيّد جمعا بين الدليلين ، وهو أولى من طرح ظاهر أحدهما.

واما توضيح الجمع بينهما فلأن المطلق يشمل المقيّد وغير المقيّد ، فمتى حمل المطلق على المقيد ويكون المراد من المطلق هو المقيد فيصير موضوع وجوب العتق رقبة مؤمنة فإذا اعتقت فعمل بالمطلق والمقيد معا.

واما لو لم يحمل المطلق على المقيّد ، بل يبقى على اطلاقه وهو يشمل باطلاقه غير المقيّد ، فإذن إذا عمل باطلاقه واعتقت الكافرة فيعمل بالمطلق وحده ولا يعمل بالمقيد ويطرح رأسا ، بخلاف ما إذا حمل المطلق على المقيد فيعمل حينئذ بهما معا.

وقد استشكل على هذا الجمع الذي يكون واجبا بين الدليلين لرفع التنافي بينهما بأنّه يمكن الجمع بينهما على وجه آخر مثل ان يحمل الأمر في المقيد على الاستحباب فيجمع حينئذ بينهما ويرتفع التنافي ، إذ لا منافاة بين كفاية عتق الكافرة وأفضلية عتق المؤمنة من الرقاب ، نعم تكون المنافاة بين كفاية عتق الكافرة وبين كفاية عتق المؤمنة فقط.

ولكن الظاهر انّه لا فرق بين المختلفين والمتوافقين ، إذ هما من واد واحد فإنّه

٥٤٣

ان حمل المطلق على غير المقيد في الأوّل بالاتفاق ففي الثاني يكون كذلك ، فلو حمل المقيد في الثاني على أفضل الأفراد ، والاستحباب متحقق برفع اليد عن ظهوره في الوجوب ، لحمل المقيد في الثاني على المرجوحية حيث ان ظهور الأمر في جانب المقيد في الوجوب ليس بأقلّ من ظهور النهي في الحرمة فما يقتضي رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب وحمله على الرجحان فهو يقتضي رفع اليد عن ظهور النهي في الحرمة وحمله على المرجوحية ، وكيف كان فالملاك في القسمين واحد فلا وجه للتفرقة بينهما.

مثلا إذا قال المولى (اعتق رقبة) و (لا تعتق رقبة كافرة) أو قال (صلّ) و (لا تصلّ فيما لا يؤكل لحمه) أو (لا تصلّ في النجس) أو نحو ذلك ، مثالا للمتخالفين.

أو قال (اعتق رقبة) و (اعتق رقبة مؤمنة) ، مثالا للمتوافقين. فلو حمل المطلق على غير المقيد في الأول ويكون دليل المقيد مقيدا له فيه ، لحمل عليه في الثاني ويكون دليل المقيد مقيدا له فيه أيضا ، للوجه الذي ذكر آنفا وهو جمع بين الدليلين وهو أولى من طرح ظاهر احدهما ، وعليه لا فرق بينهما من هذه الناحية أصلا.

وفي ضوء هذا ، فلو حمل المقيّد في الثاني على أفضل الأفراد وهو موجب لرفع اليد عن ظهور الأمر في جانب المقيد وهو (اعتق رقبة مؤمنة) ، في الوجوب لحمل النهي في الأول على المرجوحية إذ ظهور الأمر في الوجوب ليس بأقل من ظهور النهي في الحرمة. فلو رفعنا اليد عن ظهور الأمر لرفعنا اليد عن ظهور النهي. والتالي مردود بالإجماع ، إذ لا يرفع أحد من الاصوليين يده عن ظاهر النهي في الحرمة ، فكذا لا يرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب.

فالنتيجة لا بد من حمل المطلق على المقيد في الأول والثاني ، كما لا يخفى.

قوله : وأورد عليه بأن التقييد ليس تصرفا في معنى اللفظ وانما هو تصرف في ...

فانتصر المستشكل لدليل المشهور بقوله حمل الأمر المقيد وهو (اعتق رقبة

٥٤٤

مؤمنة) على الاستحباب تصرف في الأمر ، وارتكاب خلاف الظاهر في دليل المقيّد ، بخلاف تقييد المطلق بالمقيّد فإنّه ليس بخلاف الظاهر.

وعليه فحمل المطلق على المقيّد أولى من حمل الأمر في الدليل المقيد على الاستحباب في الثاني وذلك لأن حمل المطلق على المقيد لا يوجب تصرفا ومجازا في معنى لفظ المقيد إذ هو استعمل في معناه الحقيقي ، وهو الوجوب ، لما عرفت سابقا من ان ارادة المقيد انّما هو بتعدد الدال والمدلول ، لا باستعمال المطلق في المقيد كي يكون مجازا.

وعلى طبيعة الحال لا يلزم من حمل المطلق على المقيد تصرف في معنى لفظ المطلق ، بل هذا استعمل فيما وضع له ولفظ المقيّد استعمل في معناه الذي وضع له أيضا فلا رسم ولا أثر من المجاز في هذا المقام.

نعم يلزم من الحمل المذكور تصرف في وجه من وجوه المعنى ، حيث تجرد المطلق عن التقييد يقتضي سعة انطباقه على مصاديقه وافراده ، والتقييد يقتضي تضييق انطباقه عليها ، فالتقييد تصرف في هذا الوجه ، والاطلاق اقتضاه تجرد اللفظ المطلق عن القيد مع تخيل ورود اللفظ المطلق في مقام بيان تمام المراد بزعم المخاطب تمامية مقدّمات الحكمة موجبة لاطلاق المطلقات ، فلا يتعارض تقييد المطلق مع حمل الأمر في المقيد على الاستحباب ، إذ ليس التقييد بخلاف الظاهر وحمل الأمر على الاستحباب يكون خلاف الظاهر.

وفي ضوء هذا ، انقدح ان الجمع بين الدليلين ، إذا لم يستلزم خلاف الظاهر ، أولى من الجمع الذي يستلزم ارتكاب خلاف الظاهر في أحد الدليلين ، فمع امكان الجمع الأول لا تصل النوبة الى الجمع الثاني ، فانتصر قول المشهور في الثاني. إذ بعد الاطلاع على ما يصلح للتقييد وهو (اعتق رقبة مؤمنة) نعلم وجود ما يصلح للتقييد على وجه الاجمال لتردده بين كونه مقيّدا للاطلاق أو مستحبا من باب افضل الأفراد وأكملها ، فإذن لا اطلاق في اللفظ المطلق وهو (رقبة) في قول المولى (اعتق رقبة)

٥٤٥

حتى يستلزم التقييد تصرفا في اللفظ المطلق ، بخلاف حمل الأمر في المقيد على الاستحباب لأنّه يستلزم التصرف في الأمر ، فلا يعارض تقييد المطلق بالمقيد بحمل أمره على الاستحباب بالتصرف في المقيد كما سبق وجهه فلا نعيده ، فرارا من التكرار الممل.

قوله : وأنت خبير بأن التقييد أيضا يكون تصرفا في المطلق ...

ردّ المصنّف قدس‌سره جواب المجيب عن الاشكال الوارد في قول المشهور إذا كانا متوافقين من حمل المطلق على المقيد ، والاشكال الوارد عليه ، ان رفع التنافي بينهما لا ينحصر بالحمل المذكور ، بل يرفع بوجه آخر وهو حمل الأمر في المقيد على الاستحباب بوجهين :

الأول : ان دليل المقيّد لا يكشف عن كون المطلق في مقام بيان المراد ، بل يكون المطلق في مقام بيان الحكم الظاهري قاعدة وقانونا. نظير اطلاق كلام المجري لقانون الدولة ، إذ هو يقول : (لا بدّ أن يحضر كلّ الرعايا لخدمة النظام) فهذا البيان للحكم الظاهري قاعدة وضربا للقانون ، وإلّا فقد استثنى منه الطلاب والمرضى والعرج والعميّ مثلا. وعليه فإذا صدر من قبل المولى دليل التقييد. فالمطلق ظاهر في الاطلاق وفي مقام بيان الحكم الظاهري قاعدة وقانونا. غاية الأمر ان دليل القيد أظهر من اطلاق المطلق ، فهو ليس بحجّة في قبال دليل المقيّد والتقييد. وعلى طبيعة الحال فالتقييد خلاف الظاهر أيضا كما ان حمل الأمر المقيد على الاستحباب خلاف الظاهر ، كما سبق هذا. فظهر ان كلام المجيب ليس بتام.

الثاني : ان حمل الامر المقيّد على الاستحباب مجازا وخلاف الظاهر كما قال به المجيب غير تام ، لأن المراد من حمل الأمر المقيد على الاستحباب ، في باب المطلق والمقيد ليس الاستحباب الاصطلاحي بمراد وإلّا لزم اجتماع الضدين وهما (الوجوب والاستحباب) في موضوع واحد وفي محل فارد ، وهو محال عقلا. بل المراد من الاستحباب في باب المطلق والمقيّد كون المستحب أفضل افراد الواجب

٥٤٦

نظير اتيان الصلاة أوّل وقتها ، فأمر المقيد إذا استعمل في الاستحباب فليس المراد منه استحبابا اصطلاحيا متعارفا كي يلزم المجاز في صيغة الأمر ، ويلزم خلاف ظاهرها. فقول المجيب ان حمل الأمر على الاستحباب مجاز وخلاف الظاهر مردود.

وبقي في المقام أمران :

الأول : بيان الفرق بين العام والمطلق ، وهو ان العام يدلّ على الشمول والسريان بالوضع. والمطلق يدلّ على الشمول والسريان ببركة مقدّمات الحكمة لا بالوضع.

وقيل ان الفرق بينهما ان العام يكون من قبيل المعطوف بالواو نحو (اكرم العلماء) أي (اكرم زيدا العالم وعمروا العالم وبكرا العالم و ...) وان المطلق يكون من قبيل المعطوف بأو نحو (إذا ظاهرت فاعتق رقبة) أي (اعتق هذه أو هذه أو هذه).

والثاني : بيان الفرق بين الاستحباب في هذا الباب والاستحباب المتعارف وهو ان الاستحباب في المقام يكون بمعنى أكثر ثوابا كما يقال (صلاة الجماعة مستحبة) ، أي اتيان الصلاة الواجبة جماعة أكثر ثوابا من اتيانها فرادى ، فالاستحباب يكون بمعنى أفضل افراد الواجب في باب المطلق والمقيّد. واما الاستحباب المصطلح يكون بمعنى ذي ثواب ، كما يقال (غسل الجمعة مستحب) أي يكون ذا ثواب. ولكن يجوز الترك في كليهما ، إذ لا اشكال في جواز ترك عتق المؤمنة ، وفي جواز ترك الجماعة ، كما لا إشكال في جواز ترك غسل الجمعة مثلا.

وفي ضوء هذا ، فالظفر بالمقيد يكون كاشفا عن عدم كون الاطلاق الذي ينشئ عن تمامية مقدّمات الحكمة بمراد جدي فعلي للمتكلم ، ولا يكون كاشفا عن عدم ورود المطلق في مقام البيان ، كما تقدم وجهه.

غاية الأمر ان التصرف في المطلق الثابت بعدم كونه مرادا جديا للمولى لا يوجب التجوز في المطلق ، لما مرّ سابقا من وضع المطلق للماهية المهملة المبهمة على نحو الماهية اللابشرط المقسمي ، ولم يوضع للشيوع والسريان كي تكون ارادة غيرهما منه مجازا ، لأن المطلق إذا لم يكن مرادا جديا للمولى فهو لا ينافي استعماله

٥٤٧

فيما وضع له أعني الماهية المبهمة المهملة. نعم يكون التنافي بين الشيوع والسريان وعدم كونه مرادا جديا للمولى.

فحمل الأمر في المقيد على الاستحباب لا يوجب تجوزا فيه ، أي في الأمر ، فإن الأمر مستعمل في الايجاب ، لأن المقيّد الواجب إذا كان فيه ملاك الاستحباب ، وهو ارجحيته ، كان من أفضل أفراد الواجب ، ولا يكون مستحبا اصطلاحا يقابل الوجوب والاباحة ، لأن ملاك المطلق لا يقتضي استحباب المقيد فعلا ، فاستحبابه معناه كون المقيد وهو (عتق المؤمنة) أفضل أفراد الواجب ، فلا يلزم اجتماع الضدين وهما الوجوب والاستحباب في محل واحد وموضوع فارد ، بل يلزم اجتماع الوجوب والأفضلية والأرجحية في المقيد. ولا بأس نظير الصلاة جماعة أو في الحرم أي حرم الله تعالى ، وهو مكّة المكرمة ، زاد الله تعالى شرفها.

مثلا ، إذا اجتمع ملاك الاستحباب مع ملاك الوجوب ، وهذا الاجتماع المذكور يقتضي وجوب المقيد ، والمراد من ملاك الاستحباب أفضلية المقيد بمعنى كونه أكثر ثوابا من سائر أفراد المطلق ، ومن ملاك الوجوب كون المقيد من أفراد المطلق ، فهو واضح لا غبار عليه ولا سترة فيه كي يحتاج هذا المطلب إلى زيادة ايضاح وإلى كشف القناع ، كما لا يخفى.

قوله : نعم فيما إذا كان احراز كون المطلق في مقام بيان الأصل ...

نعم يصحّ جواب المجيب ، وهو عبارة (من ترجيح تقييد المطلق على حمل الامر المقيد على الاستحباب في المورد الذي أحرز بالأصل العقلائي) كون المتكلّم في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال كما هو معلوم لمن حضر محاورات العقلاء ومخاطباتهم ، إذ الكلام انّما يلقى للافادة والاستفادة.

وعليه فاذا ذكر المولى مطلقا في كلامه ثمّ ظفرنا بالمقيد فيمكن لنا أن نقول هذا المطلق لم يقع في كلام المولى في مقام البيان ، بل وقع في مقام الاجمال والاهمال ، فيرجع إلى قانون الجمع بين المطلق والمقيّد بحمل المطلق على انّه سيق

٥٤٨

في مقام الاهمال على خلاف الأصل المذكور ، إذ دليل المقيد يكشف عن عدم كون المطلق في مقام البيان ، فحينئذ يرجح التقييد على حمل الأمر المقيد على الأفضلية والاستحباب ، لأن الأصل المذكور متبع في احراز كون المتكلم في مقام البيان في صورة الشك في هذا الأمر ما لم يقم ما يصلح للقرينة على التقييد وعلى خلاف الأصل الكذائي.

قوله : فافهم ...

إشارة إلى انّه يدور الأمر دائما بين التصرف في الاطلاق ، والتصرف في الأصل المذكور الذي هو من مبادى الاطلاق ، والتصرف في المقيد بحمله على أفضل الافراد والاستحباب فتعين التوفيق المذكور يتوقف على المرجّح ، وهو ليس بموجود فعلا.

مثلا : إذا قال المولى (اعتق رقبة) أو قال (صلّ) ثم ظفرنا بالمقيد وهو قوله (اعتق رقبة مؤمنة) أو (لا تصلّ في النجس وفيما لا يؤكل لحمه) مثلا فيدور الأمر ، بسبب أولوية الجمع بين المطلق والمقيد المتنافيين ، بين التصرف في المطلق بحمله على المقيد ، وبين التصرف في الأصل المذكور بحمل المطلق في مقام الاهمال والاجمال ؛ وبين التصرف في المقيد بحمل أمره على الاستحباب. والحال ان الأمر ظاهر في الوجوب والايجاب.

قوله : ولعلّ وجه التقييد كون ظهور اطلاق الصيغة ...

فإذا ورد من قبل المولى مطلق ومقيّد فاما أن نحملهما على وجوب التخييري وبقي المطلق على اطلاقه. واما ان نبقي ظهور الامر المقيّد في الوجوب التعييني فلا يبقى المطلق حينئذ على اطلاقه ، لأنّه يحمل على المقيد ، فيكون المراد منه المقيد. وعليه فلما كان ظهور الصيغة أي صيغة الأمر وهي (فاعتق) في الوجوب العيني التعييني أقوى من اطلاق المطلق ، ولهذا بنينا على تقييد المطلق بالمقيد. وما بنينا على التصرف في الامر المقيد بحمله على الاستحباب والأفضلية.

٥٤٩

في عدم التقييد في المستحبات

قوله : وربما يشكل بانه يقتضي التقييد في باب المستحبات ...

بقي الكلام في الفرق بين المستحبات والواجبات حيث ان المشهور بين الأصحاب قدس‌سرهم تخصيص حمل المطلق على المقيد بالواجبات دون المستحبات ، نحو قول المعصوم عليه‌السلام : (زر الحسين عليه‌السلام) و (زر الحسين عليه‌السلام في ليلة الجمعة) فالكلام انّما هو في الفارق بينهما فإن الدليل المقيد إذا كان قرينة عرفية على التقييد فلم لا يكون الدليل المقيّد كذلك في المستحبات. وإذا لم يكن الدليل المقيد كذلك فلم يحمل المطلق على المقيد في الواجبات.

وعلى طبيعة الحال لا معنى للتفكيك بين الواجبات والمستحبات في هذا الأمر ، لأن الامر المقيد فيها يحمل على تأكد الاستحباب كما عليه بناء المشهور.

ومن هنا ذكر في وجه الفرق بينهما وجوها :

أحدها : تفاوت المستحبات غالبا من حيث المراتب ، بمعنى ان غالب المستحبات تتعدد بتعدد مراتبها من القوة والضعف على عرضهما العريض من القوّة العليا والمتوسطة والدنيا ، وكلّ واحد منها ذو مراتب ثلاث. ومن الضعف العالي والمتوسط والداني ، وكلّ واحد منها ذو مراتب ثلاث أيضا. فهذه الغلبة المذكورة قرينة على حمل الامر المقيد فيها على الأفضل والقوي من الأفراد ، والظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب.

ثانيها : ان ثبوت استحباب المطلق انما هو من ناحية قاعدة التسامح في أدلة السنن ، فإن عدم رفع اليد عن دليل استحباب المطلق بعد مجيء المقيد وبعد حمله على تأكد الاستحباب من التسامح فيها.

توضيح : وهو انه إذا صدر مطلق ومقيد في باب المستحبات كما إذا أمر المولى بالقنوت في الصلاة ، وأمر بالقنوت في الصلاة بكلمات الفرج ، وهي (لا إله إلّا

٥٥٠

الله الحليم الكريم) إلى (والحمد لله ربّ العالمين) فلا محيص من حمل المطلق على المقيّد ، كما إذا ورد مطلق ومقيّد من قبل المولى في الواجبات فيحمل المطلق عليه بلا اشكال نحو (ان ظاهرت فاعتق رقبة) ونحو (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) فبناء العلماء على حمل المطلق على المقيّد ، فيكون المراد من المطلق هو المقيد. ولهذا أفتوا بوجوب عتق المؤمنة في كفارة الظهار. فليكن الأمر كذلك في باب المستحبات.

والحال : ان بنائهم ليس على حمل المطلق على المقيد فيها ، ولهذا لم يفت أحد منهم باستحباب كلمات الفرج فقط في القنوت. بل حملوا الأمر في المقيد في باب المستحبات على تأكد الاستحباب.

وخلاصة الجواب : انّه قد ادّعى ان التفاوت بحسب المراتب موجود في غالب المستحبات ، ولا يخفى ان تفاوت المرتبة فيها انّما يكون بلحاظ كثرة الثواب والمثوبة والمحبوبية وقلتهما.

فهذه الغلبة قرينة على ان المراد من الأمر المقيد أفضل أفراد طبيعة المأمور بها ، ولكن هذا التفاوت بحسب المرتبة ليس بموجود في غالب الواجبات.

قوله : فتأمل ...

إشارة إلى ان التفاوت بحسب المراتب موجود في غالب الواجبات أيضا ، لأن الأحكام تابعة للمصالح الواقعية وهي مختلفة ثبوتا. أهمّ ومهما على عرضها العريض. واختلافها موجب لتفاوتها محبوبية ، هذا أولا.

وثانيا : قد ادعى التسامح في أدلّة السنن والمستحبات كما هو معروف عند العلماء قدس‌سرهم.

وعليه فإذا صدر مطلق من قبل المولى في باب المستحبات نحو (زر الحسين عليه‌السلام) و (اقنت في صلاتك) ومقيّد نحو (زر الحسين عليه‌السلام في ليلة الجمعة) و (اقنت في صلاتك بكلمات الفرج) فقاعدة وقانونا لا بد أن يحمل المطلق على

٥٥١

المقيّد في هذا المقام أيضا ، فالمطلق يكون دليلا على أفراد المقيد حينئذ ، ولكن بنى العلماء قدس‌سرهم على ان هذا المطلق دليل على غير افراد المقيد من باب التسامح في أدلّة المستحبات ، وهو وان لم يكن دليلا على افراد غير المقيد في الواجبات.

ثالثها : لم يحرز شرط وجوب حمل المطلق على المقيّد في المستحبات كي يحمل عليه ، لأن شرط الحمل وحدة المكلف به وإلّا ليس التنافي بين المثبتين أي المطلق المثبت والمقيّد المثبت نحو (اعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة) أو نحو (زر الحسين عليه‌السلام) و (زر الحسين عليه‌السلام في ليالي الجمعة) مثلا. هذا في الأحكام التكليفية.

واما الأحكام الوضعية مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) وورد ان البيع يكون ممضى مع القبض في المجلس فلا يحمل المطلق على المقيّد ، فلا يشترط في كلّ بيع القبض في المجلس لعدم احراز وحدة المكلف به والبيع الممضى لأنّا نحتمل احتمالا قويّا أن يكون المراد من البيع الممضى مطلق البيع سواء كان صرفا أم كان غير صرف.

والمراد من البيع الذي يشترط فيه القبض في المجلس هو خصوص بيع الصرف ، لا مطلق البيع حتى يحمل المطلق على المقيد فيها ، فصار بيع الصرف وغيره ممضيين إلّا ما خرج بالدليل المعتبر. ويحمل المطلق على المقيد في باب المستحبات إذا كانا في مقام بيان السبب الواحد نحو (إذا رأيت الهلال فادع) و (إذا رأيت الهلال).

في حمل المطلق على المقيّد

قوله : ثم ان الظاهر انه لا يتفاوت فيما ذكرنا ...

لا فرق في حمل المطلق على المقيّد بين كونهما مثبتين كقول المولى (إن ظاهرت فاعتق رقبة) و (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) وبين كونهما منفيين نحو (لا تأكل الرمان) ، ونحو (لا تأكل الرمان الحامض) بعد فرض كونهما متنافيين. والتنافي بين المطلق والمقيد انّما يكون بعد إحراز وحدة المكلف به واتحاد التكليف

٥٥٢

يستظهران من وحدة السبب تارة ، كالظهار مثلا. ولا يخفى أن حمل المطلق على المقيد على قسمين :

الأول : يقيد المطلق حال الاختيار والاضطرار ، مثل تقييد اطلاق الصلاة بالطهارة ، ولهذا افتى الفقهاء (رض) بسقوطها إذا لم يتمكن المكلف منها.

الثاني : يقيد المطلق حال الاختيار فقط مثل : اطلاق الصلاة بالستر ، ولذا أفتوا بعدم السقوط اذا لم يتمكن منه ، بل يصلي عاريا ايماء للركوع والسجود ، وليكن ايماء السجود أخفض من ايماء الركوع.

وأخرى : من قرينة الحال أو قرينة مقال.

وثالثة : من الاجماع فلا ينحصر استظهار وحدة التكليف والمكلف به بوحدة الموجب والسبب ، بل قد تستفاد من غيرها ، كما ذكر ، إذا لم يذكر الموجب في لسان الدليل حسبما يقتضيه النظر ، أي نظر شخص المحقق.

مثلا : لو افطر المكلف الصائم صومه الواجب لوجب عليه عتق رقبة مؤمنة ، وان أكل الطعام في يوم واحد متعددا ، تستفاد وحدة التكليف والتكفير من اجماع أو من قرينة مقالية ، كالدليل الدال على وحدة التكليف والمكلف به ، أو من قرينة حالية مثلا إذا اصطاد المحرم النعامة والعصفور والحمام مثلا فأمره المعصوم عليه‌السلام بالتكفير والكفارة مرّة واحدة ، ويعلم من حال المعصوم عليه‌السلام وحدة التكليف لأن الامام عليه‌السلام كان في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال.

وعليه فلو كان التكليف متعددا ثبوتا للزم عليه بيانه اثباتا ، وإلّا لزم نقض الغرض والاغراء بالجهل ، فالأول بالنسبة إلى المولى .. والثاني بالنسبة إلى العبد والمكلف ، وهما قبيحان لا يصدران من المولى.

قوله : فليتدبّر ...

اشارة إلى خلاف من قال بالمنفيين بعدم حمل المطلق على المقيّد وان اتحد موجبهما ، وهو كما ترى ، إذ يبقى التنافي بينهما بحاله. والحال انه لا محيص عن

٥٥٣

رفعه بينهما ، وهو يتحقق بحمله عليه من باب الجمع العرفي.

في حمل المطلق على المقيد في الحكم الوضعي

قوله : تنبيه : لا فرق فيما ذكر من الحمل في المتنافيين بين كونهما ...

لا فرق في وجوب حمل المطلق على المقيد إذا كان بينهما تناف مع احراز وحدة التكليف بين كونهما في بيان الحكم التكليفي ، كوجوب العتق مثلا ، وفي بيان الحكم الوضعي كما إذا قال المولى (البيع سبب للنقل والانتقال) و (البيع العربي سبب للملكية والنقل والانتقال) وعلم من الدليل الخارج ان مراد المولى من كلامه واحد ، وهو سببية البيع المطلق سواء كان عقده عربيا أم كان غير عربي ، أو سببية البيع الخاص للملكية والنقل ، كالبيع العربي فقط ، فلا بد حينئذ من التقييد إذا كان ظهور دليله أقوى في دخل القيد في الحكم من ظهور دليل الإطلاق فيه ، كما هو ليس ببعيد ، لتعارف ذكر المطلق وإرادة المقيّد منه ، كما تعارف ذكر العام وإرادة الخاص منه حتى قيل : (ما من عام إلّا وقد خصّ) و (ما من مطلق إلّا وقد قيّد) وليس ذكر المقيّد وإرادة المطلق منه بالغاء قيده وحمل القيد على انّه غالبي مع عدم دخل القيد في موضوع الحكم بمتعارف أصلا.

غاية الأمر انّه في الحكم التكليفي يدور الأمر بين الأخذ بظهور المطلق في الاطلاق. وبين الأخذ بظهور المقيّد في الوجوب العيني التعييني ، وحيث كان الثاني أظهر وأقوى من الأول قدّم عليه ، ولكن في الحكم الوضعي يدور الأمر بين الأخذ بظهور المطلق في الاطلاق وبين الأخذ بظهور القيد في الاحترازية ، كما هو معروف.

ولهذا قيل الأصل في القيود ان تكون احترازية ، وحيث ان الثاني أقوى من الأول لندرة كون القيد غالبيا توضيحيا لا احترازيا قدّم الثاني على الأول.

وعليه فيحمل المطلق على المقيد إذا كانا في بيان الحكم الوضعي سواء كانا مثبتين كالمثال المتقدّم أم كانا مختلفين نحو (أحل البيع) و (ما أحل البيع الربوي

٥٥٤

والغرري) فيحكم بحلية البيع غير الربوي والغرري ، كما يحكم في الأول بسببية البيع العربي للنقل من جهة حمل المطلق على المقيّد ، أم كانا منفيين نحو (لا يحل البيع) و (لا يحل البيع الكالي بالكالي) فيحكم في الثالث بعدم حليّة البيع الكالي فقط لا مطلق البيع.

قوله : أو على وجه آخر ...

مثل : كون القيد لدفع توهم انتفاء الحكم عن مورد القيد كما إذا قال المولى (البيع سبب للنقل) و (البيع من الكافر سبب للنقل والانتقال) فقيد الكافر ليس احترازيا من بيع غير الكافر ولا غالبيا توضيحيا ، بل يكون لدفع توهم انتفاء السببية عن بيع الكافر ، إذ هو سبب للنقل كالبيع من المسلم بلا فرق بينهما ، أي بين بيع المسلم وبين بيع الكافر في سببية كلّ واحد منهما للنقل والانتقال.

قضية مقدّمة الحكمة مختلفة

قوله : تبصرة لا تخلو من تذكرة وهي ان قضية مقدّمات الحكمة ...

ولا ريب ان مقدّمات الحكمة توجب حمل المطلق على الاطلاق كما هو معيار الفرق بين العام والخاص ، كما سبق هذا.

وقضيتها في المطلقات تختلف باختلاف المقامات ، فقد تقتضي العموم البدلي ، وقد تقتضي العموم الاستيعابي والاستغراقي ، وقد تقتضي صنفا خاصّا وقسما مخصوصا.

والتفصيل : ان المقدّمات المذكورة تقتضي في صيغة الأمر الوجوب العيني التعييني النفسي خاصة ، نظرا إلى ان كلّ واحد مما يقابله من الكفائي والتخييري والغيري يكون فيه التقييد والمؤن الزائدة ، إذ الوجوب الغيري مقيّد بوجوب ذي المقدمة. والوجوب التخييري مقيّد بما إذا لم يفعل بالعدل. والوجوب الكفائي مقيّد بعدم اتيان أحد الواجب ، كما تقدّم هذا المطلب في المبحث السادس من بحوث الأوامر.

وفي الأحكام الوضعية تقتضي العموم الاستيعابي كما في (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) و (أَنْزَلْنا

٥٥٥

مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع ، على نحو الاجمال لوجهين :

الأوّل : لكون المولى في مقام بيان طهارة ماء من المياه المنزلة من السماء.

والثاني : لمنافاته للامتنان.

وكذا لا معنى لتحليل فرد من البيع الذي اختاره المكلف لاحتياجه إلى البيان وإلى نصب قرينة عليه ولا يفهم هذا من اطلاق الكلام. فإرادة العموم البدلي لا يناسب الحكم الوضعي لانها تقتضي حلية فرد من البيع وطهارة فرد من الماء المنزل ، وهما محتاجان إلى البيان وهو ليس بموجود.

فيتعيّن العموم الاستيعابي الذي يقتضي ثبوت الحكم الوضعي لتمام أفراد البيع ومصاديقه إلّا ما خرج بالدليل نظير (أكرم كلّ عالم).

وفي الأحكام التكليفية : تقتضي العموم البدلي كما في نحو (ان ظاهرت فاعتق رقبة) فان الأمر يتعلّق بالطبيعة وهي تتحقق بتحقق فرد (اكرم عالما) و (اطعم فقيرا). وعليه يكتفى بتحقق أي فرد منها ولا يجب الاتيان بجميع افرادها ومصاديقها.

فانقدح ان مقتضاها ليس على نهج واحد ، فإن قيل المطلق الذي وقع عقيب الأمر يدلّ على العموم البدلي نحو (جئني برجل) إذ لا يجب على المكلف مجيء جميع أفراد الرجل ، لأنّه تكليف بغير المقدور ، وليس العهد بموجود بجميع أنواعه من الذكرى والحضوري والعهد الخارجي والذهني ، فكذا المطلق الذي وقع عقيب الحكم الوضعي ، كالبيع الذي وقع تلو (أحل الله البيع) فكما ان المطلق الذي وقع عقيب الأمر الذي دلّ على الوجوب دال ببركة مقدّمات الحكمة على العموم البدلي لا الاستيعابي ، فكذا المطلق الواقع عقيب الحلية في نحو (أحلّ الله البيع) فالمطلق سواء وقع تلو الحكم التكليفي أم وقع تلو الحكم الوضعي لا يدلّ على العموم الاستيعابي.

قلنا هذا القياس مع الفارق ، لامتناع إرادة العموم من المطلق في المقيس عليه ، إذ التكليف بمجيء جميع أفراد الرجل ومصاديقه تكليف بغير المقدور ، وهو

٥٥٦

قبيح ، ولا يصدر من المولى الحكيم ، فلا بد من إرادة العام البدلي منه حينئذ.

بخلاف المطلق الواقع عقيب الحكم الوضعي ، فإن مقتضي مقدّمات الحكمة مع تناسب الامتنان العموم الاستيعابي وارادته منه ، كما لا يخفى.

فإن قيل : نريد من المطلق الذي وقع تلو الحكم الوضعي فردا معينا ثبوتا مبهما ظاهرا لمصلحة.

قلنا : أوّلا هذا رجم بالغيب إذ ليس لنا العلم بالفرد المعين واقعا.

وثانيا : هذا مناف للحكمة والامتنان.

فخلاصة الكلام انّا اما أن نريد من البيع جميع مصاديقه وافراده ، واما أن نريد منه واحدا من مصاديقه على نحو الاجمال والاهمال. واما أن نريد منه واحدا من مصاديقه معينا ، واقعا اختاره المكلف.

فالأول صحيح ، والثانيان فاسدان لمنافاتهما للامتنان والحكمة ، ولكون المولى في مقام البيان ، كما هو مفروض الكلام ، إذ اطلاق المطلق ثبت بمقدّمات الحكمة ، ومن جملتها كون المولى في مقام البيان ، هذا إذا وقع تلو الحكم الوضعي.

واما إذا وقع المطلق عقيب الأمر ، فلا بد من ارادة العموم البدلي ، إذ غيره من ارادة الفرد الذي اختاره المكلّف أو الفرد المجمل مناف مع الاطلاق ، لأنّه يحتاج إلى قرينة تدلّ عليه. والمفروض عدمها ، مضافا إلى كون إرادة الفردين المذكورين مناف للامتنان والحكمة والمصلحة.

في المجمل والمبيّن

قوله : فصل في المجمل والمبين ...

لا يخفى ان المجمل والمبيّن هنا ، كالمطلق والمقيّد ، والعام والخاص ، مستعملان في معناهما اللغوي. وليس للاصوليين اصطلاح خاص فيهما ، فالمجمل اسم لما يكون معناه غير ظاهر ومشتبها. والمبين اسم لما يكون معناه ظاهرا غير متشابه.

٥٥٧

فالمبين هو الكلام الذي له ظهور في المعنى الخاص ، ويكون بحسب متفاهم العرف قالبا لمعنى خاص.

والمجمل هو الكلام الذي ليس له ظهور في المعنى الخاص ، وان علم بقرينة خارجية المعنى الذي أريد من الكلام نحو قول عقيل بن أبي طالب (رضي الله عنهما) «الا فالعنوه» والضمير فيه مجمل ظاهرا إذ لم يعلم إنه راجع الى أي شخصين معهودين ، فالقرينة الحالية تدلّ على ان المراد من ضمير فالعنوه معاوية إذ حال القائل يدلّ على هذا إذ تدينه واخوته يمنعانه عن لعن أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ونحو قول الكاشفي السبزواري قدس‌سره حين سأله شخص عن الخليفة بلا فصل (من بنته في بيته) والشاهد في كلمة (من) الموصولة إذ هي مجملة ظاهرا ، إذ لم يعلم ان المراد منها أبو بكر أم علي عليه‌السلام ولكن قرينة الحالية تدل على ان المراد منها هو علي عليه‌السلام والضمير في (بنته) راجع إلى الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ان ضمير (بيته) راجع إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلا تدلّ القرينة الخارجية على ان المراد من كلمة (من) الموصولة هو أبو بكر حتى يرجع ضمير (بنته) إليه وضمير (بيته) إلى الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ان المبيّن هو الكلام الذي له ظهور في المعنى الخاص ، وان علم بالقرينة الخارجية انّه ما أريد ظاهره وانه مؤول نحو (جاء ربك) ، و (اسأل القرية) ، فللآيتين ظهور في مجيء الربّ وفي سؤال القرية.

ولكن علم بالقرينة الخارجية العقلية ان ظاهرهما ليس بمراد لاستحالة مجيء الربّ جلّ وعلا عقلا ، ولاستحالة السؤال عن القرية عادة ، إذ لا يتعلّق الغرض العقلائي بالسؤال عن القرية والجبل والشجر وغيرها.

ثم المجمل تارة يكون حقيقيا ، وأخرى يكون حكميا. والمراد من الأول ما كان غير ظاهر في المراد الاستعمالي ، ومن الثاني ما كان ظاهرا في المراد الاستعمالي ، ولكن المراد الجدي منه غير معلوم.

مثال الأول : اللفظ المشترك ، إذ يكون اجماله بالذات إذا استعمل بلا قرينة

٥٥٨

معينة ، فالمراد الاستعمالي منه حينئذ غير معلوم لنا ، أو يكون اجماله بالعارض ، كالكلام المحفوف بما يصلح للقرينة ، فانّه يوجب اجماله وعدم انعقاد الظهور له في معناه الحقيقي.

ومثال الثاني : العام المخصص بدليل منفصل يدور أمره بين المتباينين ، كما إذا ورد (أكرم كل عالم) ثم ورد في دليل آخر (لا تكرم زيد العالم) وفرضنا ان زيدا العالم في الخارج مردد بين شخصين : (زيد بن خالد ، وزيد بن بكر) مثلا فيكون المخصص من هذه الناحية مجملا ، فيسري اجماله إلى العالم حكما لا حقيقة لفرض ان ظهوره في العموم قد انعقد ، فلا اجمال في العام ، ولكن الاجمال في المراد الجدي منه ولذلك يعامل معاملة المجمل والمتشابه ، إذ الاجمال والبيان انّما يكونان بنظر العرف ، فكل كلام كان ظاهرا في معناه وكاشفا عنه فهو مبين عندهم : وكل كلام ولفظ لا يكونان كذلك سواء كان الاجمال بالذات أو بالعرض بسبب الاعلال ك (مختار ومنقاد) فهو مجمل عندهم فلا واسطة بينهما.

فانقدح ان لكل واحد منهما في الآيات القرآنية والروايات المأثورة مصاديق كثيرة لا بحث فيها إلّا ان لهما افراد مشتبهة ، وقعت محل البحث بين الأعلام قدس‌سرهم ، أهي من أفراد المجمل أم هي من مصاديق المبيّن كآية السرقة في قوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما)(١) وكآية التحريم : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ)(٢) وكآية التحليل : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) ، ونحو (كل مورد أضيف التحليل إلى الاعيان الخارجيات والتحريم إلى النسوان) ، ونحو (لا صلاة إلّا بطهور) و (لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب). فادعى الاجمال في آية السرقة من حيث اليد ، بل من حيث القطع أيضا.

__________________

(١) ـ سورة المائدة : آية ٣٨.

(٢) ـ سورة النساء : آية ٢٣.

٥٥٩

واحتج القائل بالاجمال في اليد بأنّه يقع على العضو بكماله وتمامه تارة وأخرى على أبعاضه كما يقال (غوصت يدي في الماء إلى الاشاجع) (١).

وإلى الزند وإلى المرفق وإلى المنكب (٢).

واحتج القائل بالاجمال في القطع بانه يطلق تارة على الابانة كما يقال قطعت رجل الغنم أي فصلته ، وعلى الجرح أخرى كما يقال لمن جرح يده بالسكين انّه قطع يده كما جاء في سورة يوسف عليه‌السلام (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) يعني جرّحن أيديهن.

وفي ضوء هذا فقد ظهر الاجمال في اليد والقطع المذكورين في آية السرقة.

واستدل القائل بالاجمال في آيات التحليل والتحريم بامتناع تعلقهما بالاعيان ، إذ تحريم العين غير معقول ، فلا بد حينئذ من التقدير ، ولكن الصالح للتقدير متعدد ، لأن الصالح له افعال ، وهي كثيرة ، ولا يمكن اضمار الجميع إذ ما يقدر للضرورة يقدر بقدرها ، فتعيّن اضمار بعض ، ولا دليل على خصوصية شيء من الأفعال ، فدلالة الآيات المذكورة على البعض المراد غير واضحة ، وهو معنى الاجمال.

واستدل القائل بالاجمال في نحو (لا صلاة إلّا بطهور) وفي نحو (لا صلاة لمن لم يقم صلبه) وامثالهما من التراكيب التي صدرت بلا نفي الجنس بأنّه على القول بالأعم في ألفاظ العبادات ، كما يمكن تقدير الصحة أي لا صلاة صحيحة إلّا بطهور ، فكذاك يمكن تقدير الكمال أي (لا صلاة كاملة إلّا بطهور) ولا قرينة معينة لأحدهما بالخصوص في البين. فثبت الاجمال حينئذ ، كما لا يخفى.

ويمكن دفع الاجمال في آية السرقة بأن المتبادر من لفظة اليد عند الاطلاق

__________________

(١) والأشاجع جمع تكسير الأشجع بفتح الهمزة أو بكسرها وهو أصل الأصبع الذي يتصل بالكف.

(٢) والمرفق بفتح الميم وكسر الفاء أو فتحها وهو مجمع الساعد بالعضد ، والمنكب بفتح الميم وكسر الكاف محل التقاء العضد بالكتف والبدن.

٥٦٠