البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات هماى دانش
المطبعة: مهر
الطبعة: ١
ISBN: 964-94105-2-X
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٣٣٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله

تعالى على أشرف الأنبياء والمرسلين

محمّد المصطفى وعلى أهل بيته

المعصومين الذين أذهب الله عنهم

الرجس وطهّرهم تطهيرا واللعنة على

أعدائهم من الآن إلى يوم الدين آمين.

٣
٤

اصالة الاشتغال

قوله : فصل لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب والتحريم ...

لمّا فرغ المصنّف قدس‌سره عن بيان البراءة شرع في بيان الاشتغال. ولا يخفى أنّ أصالة الاشتغال إحدى أصول العملية الأربعة المشهورة تجري في المورد الذي يكون الشك فيه في المكلف به مع العلم بأصل التكليف من الايجاب ، أو التحريم ، مثلا إذا كان الوجوب معلوما لنا ولكن الواجب مردّدا بين المتباينين تارة ، وبين الأقل والأكثر الارتباطيين اخرى. فمورد جريان اصالة الاشتغال هو المورد الذي يكون العلم بنوع التكليف فيه حاصلا ، ولكن يكون المكلف به مردّدا بين المتباينين سواء كان تباين المكلف به بالذات كما لو علم إجمالا بوجوب عتق رقبة ، أو صيام شهرين ، أم كان بالعرض كما لو علم بوجوب القصر ، أو التمام فانّ القصر انّما يباين التمام بلحاظ أخذ بشرط لا في القصر بأن لا تكون الاخريين مع الاوليين وبشرط شيء في التمام بأن بأن تكونا معهما ، فلا ينطبق أحدهما على الآخر ؛ وهذا بخلاف الأقل والأكثر فانّ الأقل لا يباين الأكثر بل الأقل بعض الأكثر وهذا موجب لكون وجوده عين وجود الأكثر ، وذلك كالتسعة والعشرة مثلا.

وبتقرير آخر ؛ وهو أنّه لا بدّ في كل علم إجمالي قائم بالمتباينين من إمكان فرض قضيتين شرطيتين مقدّم احداهما أحد الأمرين وتاليهما نقيض الآخر ومقدم ثانيتهما عين الآخر وتاليها نقيض مقدم الاولى كقولنا : إن كان العتق واجبا فليس الصيام واجبا ، وإن كان الصيام واجبا فليس العتق واجبا ؛ وإن كان القصر واجبا فليس التمام واجبا. وإن كان التمام واجبا ؛ فليس القصر واجبا هذا كلّه في المتباينين بالذات وبالعرض ، الاول كالعتق والصيام ، والثاني كالتمام والقصر.

٥

ولكن لا يصح فرضهما في الأقل والأكثر. فلا يقال : إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة ؛ وإن كانت التسعة واجبة فليست العشرة واجبة لأنّ التسعة بعض العشرة. وعليه فوجوب العشرة وجوب التسعة وزيادة.

أمّا بعد فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل : في دوران الأمر بين المتباينين فالمكلّف به إمّا مردّد بين المتباينين اللّذين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا يحمل أحدهما على الآخر أصلا كصلاة الجمعة ، وصلاة الظهر مثلا ، إذ هما متباينان كما وكيفا وأجزاء وشروطا بحيث يكون كل واحد منهما عبادة مستقلة ؛ وكذا القصر والتمام حرفا بحرف وقد يكون الوجوب مسلما في دوران الأمر بين المتباينين والواجب مردّدا بين أمرين كصلاة الجمعة والظهر ، إذ وجوب الصلاة مسلّم والواجب مردّد بينهما ؛ وقد تكون الحرمة مسلمة والحرام مردّدا بين أمرين متباينين ، كما إذا اشتبه إناء الخمر بإناء الخل وقد يكون العلم الاجمالي حاصلا لنا بوجوب شيء ، أو بحرمة شيء آخر بحيث يكون متعلّق الوجوب والحرمة متفاوتا فيقال : إمّا هذا الشيء واجب ؛ وامّا ذلك الشيء حرام.

أما الفرق بين الاولى والثانية ان الترديد في الاولى يكون في الواجب والحرام ؛ والترديد في الثانية يكون في الوجوب والحرمة ، هذا أوّلا.

المقام الثاني : أن العلم في الاولى في نوع التكليف ؛ وفي الثانية في جنس التكليف مع تردّد نوعه بين نوعين وهما الوجوب والحرمة ، إذ نعلم بالالزام بالفعل ، أو الترك ولكن لا نعلم نوع الالزام من الوجوب ، أو الحرمة والفعل والترك.

قوله : واخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين ...

الأقل والأكثر نوعان :

الأوّل : استقلالي.

الثاني : ارتباطي

٦

أمّا الأقل والأكثر الاستقلاليان فلا إجمال في المكلف به لأنّ الأقل معلوم التكليف به والزائد مشكوك التكليف بدوا ، مثلا علمنا إنّنا مديونون بزيد بن أرقم مثلا ، ولكن لا نعلم ان الدين ثمانية دنانير ، أو عشرة دنانير فيكون الأقل متيقّنا والأكثر مشكوكا فنجري البراءة بالإضافة إليه للشك في التكليف به وهو مجرى البراءة.

وأمّا الأقل والأكثر الارتباطيان فيكون الاجمال في المكلف به ، مثلا لا نعلم أن الصلاة مركّبة من عشرة أجزاء وهي : النيّة والتكبيرة والقراءة للحمد والسورة والركوع والسجود والتشهّد والذكر للركوع والسجود والتشهّد والتسبيحات الأربع والتسليم ، أو من تسعة أجزاء بإسقاط السورة الكاملة.

أمّا بيان الفرق بينهما : فيقال : انّ امتثال البعض في الأوّل لا يكون مرتبطا بامتثال بعضه الآخر كالدين المردّد بين الأقل والأكثر بخلاف الثاني. فانّ امتثال البعض فيه مرتبط بامتثال بعضه الآخر ، إذ امتثال القراءة في الصلاة مرتبط بامتثال الركوع وامتثاله مرتبط بامتثال السجدة ، وهكذا ، هذا أوّلا.

وثانيا : ينحل العلم الاجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي في الاستقلالي دون الارتباطي.

ويتحقّق الامتثال في الاستقلالي بالأقل كما يتحقّق بالأكثر أمّا بخلاف الارتباطي فانّه لا يتحقّق الامتثال بالأقل ، بل يتحقّق بالاكثر فقط.

ومن هنا قد انقدح لك وجه تسمية الأقل والأكثر بالاستقلالي لاستقلال الأقل من حيث الامتثال بلا احتياجه إلى الأكثر ، وبالارتباطي لارتباط الأقل بالأكثر من حيث الامتثال واحتياجه إليه.

وممّا ذكرنا ظهر الفرق بين المتباينين والأقل والأكثر الارتباطيين من التباين في الأوّل ، وعدمه في الثاني ، فإنّ الأقل بعض الأكثر.

٧

قوله : لا يخفى أنّ التكليف المعلوم بينهما مطلقا ...

لا يخفى عليك ان نوع التكليف معلوم بين المتباينين ، كالوجوب مثلا أو جنس التكليف معلوم بينهما ، كالالزام ، ولكن لا يعلم ان الوجوب هل تعلق بالعتق ، أو بالصيام مثلا ، فالوجوب معلوم والواجب مردّد بينهما ، أو لا يعلم ان الالزام هل تعلق بفعل هذا الشيء كي يكون واجبا ، أو بترك ذاك الشيء حتّى يكون حراما. مثلا : يعلم إجمالا أنّه إمّا هذا المعيّن واجب ، أو ذاك المعيّن حرام ، فيكون هذا العلم الاجمالي كالعلم الاجمالي بحرمة أحد الأمرين ، أو بوجوب أحد الأمرين فالعلم الاجمالي يقتضي الاحتياط في الثاني ، وهو يتحقّق بترك الأمرين معا. وبفعل الأمرين جميعا ، فكذا يقتضيه في الأوّل ، وهو يتحقّق بإتيان محتمل الوجوب ؛ وبترك محتمل الحرمة.

ومن هذا البيان فقد ظهر الفرق بين المحذورين والمتباينين ، إذ في الأوّل تعلّق الوجوب والحرمة بشيء واحد ؛ وفي الثاني قد تعلّق الوجوب بشيء والحرمة بشيء آخر ؛ وقد يمكن أن يتعلّق الوجوب فقط بهذا الشيء ، أو بشيء آخر ، هذا معيار الفرق بينهما.

ولا يخفى عليك أيضا أن التكليف المعلوم بالاجمال إن كان فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث والزجر من الإرادة والكراهة المنقدحتين في نفس المولى على طبق الوجوب والحرمة ، كما تقدّم هذا المطلب في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي فهو منجّز يصح العقاب على مخالفته لا محالة وحينئذ تكون أدلّة البراءة الشرعية مخصّصة عقلا لأجل وضوح مناقضتها مع الإرادة والكراهة المحققتين على طبق التكليف المعلوم بالاجمال فلا تجري اصالة البراءة في أطراف العلم الاجمالي لا كلّا ولا بعضا إذا كان على طبقه الإرادة والبعث أو الكراهة والزجر وإن كان عموم أدلّة البراءة الشرعية الدالّة على الرفع والسعة والوضع والاباحة تشمل بعمومها لأطراف العلم الاجمالي أيضا كما تشمل

٨

للشبهات البدوية ، ولكن يلزم تخصيصها هنا عقلا في المورد الذي يكون التكليف المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات لأجل لزوم المناقضة لو لم نخصصها ، إذ يلزم من جريانها في هذا المورد عدم لزوم الإتيان وعدم لزوم الترك ويلزم من جهة فعليته من جميع الجهات لزوم الاتيان ، أو الترك فالجمع بينهما بالاضافة إلى التكليف المعلوم إجمالا تناقض صريح كما لا يخفى.

وإن لم يكن فعليا من جميع الجهات وإن كان فعليا من غير جهة العلم من البلوغ والعقل والقدرة على نحو لو تعلّق به العلم التفصيلي لتنجّز وحصل به البعث أو الزجر والإرادة ، أو الكراهة على طبقه لم يكن منجزا حينئذ وجرت أدلّة البراءة الشرعية في أطراف العلم الاجمالي جميعا فضلا عن جريانها في بعضها ولم يجب الاحتياط في شيء من أطرافه لا كلّا ولا بعضا لعدم المانع عن شمولها لها لا عقلا ولا شرعا.

أمّا عدم المانع عقلا فلأن العلم الاجمالي ليس علّة تامّة للتنجّز كالعلم التفصيلي حتى يمتنع الترخيص الشرعي في مخالفته إذ ليس هذا الترخيص بترخيص في المعصية كي يكون قبيحا في نظر العقل ، كما سبق هذا في مبحث القطع.

وأمّا عدم المانع شرعا فلأن المحتمل في المنع أحد أمرين :

الأوّل : أن موضوع أدلّة الاصول ما لم يعلم أنّه حرام وهذا العنوان ممّا لا يحرز في كل واحد من الأطراف ، لأنّ المعلوم بالاجمال لما كان معلوما أنّه حرام فمع احتمال انطباقه على كل واحد من الطرفين يكون كل واحد منهما ممّا يحتمل أنّه معلوم الحرمة. ولا يخفى أنّ احتمال معلوم الحرمة ينافي احراز أنّه لم يعلم أنّه حرام.

الثاني : لزوم التناقض في مدلول أدلّة الاصول لو بنى على تطبيق صدره على كل واحد من الطرفين لكان اللّازم تطبيق ذيله على المعلوم بالاجمال فيلزم التناقض لأنّ عدم حل المعلوم بالاجمال وحل كل واحد من طرفيه ممّا لا يجتمعان ،

٩

كما لا يخفى.

وبتقرير آخر أنّ مقتضى عموم كل شيء لك حلال حلية المشتبه بالشبهة البدوية ، وكل واحد من الأطراف في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي ؛ ومقتضى ذيله أعني منه قوله عليه‌السلام «حتى تعلم أنّه حرام» هو تنجّز الحرمة بالعلم الاجمالي ، لأنّ قوله عليه‌السلام : «تعلم» مطلق يشمل كل واحد من العلمين التفصيلي والاجمالي.

وعلى هذا يلزم الحكم بحرمة كل واحد من الطرفين بمقتضى الذيل كما يلزم الحكم باباحة الطرفين بمقتضى الصدر ، وهذا تناقض صريح. وهذه الشبهة ذكرها المصنّف قدس‌سره في مجهول التاريخ في مبحث الاستصحاب ولم يذكرها هنا مع عدم ظهور الفرق بين المقامين.

وحاصل الوجه في دفعها أنّ العلم ليس من الصفات التي تسري إلى ما ينطبق عليه موضوعها كالصفات الخارجية كالنجاسة والطهارة مثلا يوجب احتمال انطباق النجس الذي علم إجمالا على كل واحد من الأطراف احتمال نجاسة كل واحد منها ، أمّا احتمال انطباق المعلوم الحرمة إجمالا على كل واحد من الأطراف فلا يوجب لاحتمال كونه معلوم الحرمة لأنّ العلم قائم بنفس صورة المعلوم بحيث لا يتعداها إلى ما تتحد معه تلك الصورة خارجا.

والوجه في ذلك : أنّه لا ريب في مضادّة الشك للعلم ولهذا لا يحمل أحدهما على الآخر ، كما لا ريب في كون كل واحد من الأطراف مشكوك الحرمة فيمتنع أن يكون كل واحد منها معلوم الحرمة للزوم اجتماع الضدين في كل واحد منها ، وهذا وجه عدم سراية العلم من الصورة إلى ما تتحد معه تلك الصورة خارجا ، وهذا واضح بأدنى تأمّل.

وأمّا الدفع للتناقض ففيه : أنّ أدلّة البراءة لا تنحصر بكل شيء لك حلال كي يكون اجرائه مستلزما للتناقض المذكور ، بل يكون من جملتها حديث الرفع والسعة

١٠

والحجب.

وعليه فلا مانع من التمسّك بهذه الأحاديث لاجراء البراءة في أطراف العلم الاجمالي إذا لم يكن الحكم فعليا من جميع الجهات بأن لم يكن واجدا لإرادة المولى وكراهته وهما علّة البعث والزجر إذا لم يكن العلم التفصيلي بالحكم حاصلا فلا مانع من شمول أدلّة البراءة للأطراف لعدم استلزامها للتناقض من أجل عدم كونها مذيلة بالعلم إذا علم القسمان من الحكم الفعلي الحتمي والتعليقي فاعلم أن الإرادة التي تستلزم البعث والتحريك حتمية والكراهة التي تستتبع الزجر حتمية أيضا في الأول والإرادة والكراهة في الثاني تعليقتان بحصول العلم التفصيلي بالحكم.

وعلى طبيعة الحال ؛ فلا تجري الأدلّة النافية للتكليف في أطراف هذا القسم بعد فرض شمولها لأطراف العلم الاجمالي لأجل لزوم تخصيصها بالمخصص العقلي لاستلزام جريانها في هذا القسم من الحكم الفعلي للترخيص في المعصية لأنّ المعلوم بالاجمال فيه واجد للبعث الأكيد والزجر الشديد بحيث لا يرضى المولى بالمخالفة أصلا سواء علم المكلف بالحكم تفصيلا ، أم لم يعلم به كذلك.

وامّا القسم الثاني فلم يصل التكليف إلى حد البعث الأكيد والزجر الشديد لعدم تحقّق الشرط بعد وهو العلم التفصيلي به.

فاحراز كون الحكم من قبيل الأوّل إذا كان موضوعه من قبيل الدماء والفروج والأموال الكثيرة ، وإذا كان موضوعه من قبيل الخمر المردّد بين إناءين مثلا فيكون من قبيل الثاني ولهذا لا نجري البراءة فيهما ونجريها في الثاني.

قوله : ومن هنا انقدح أنّه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي ...

قد علم من تقسيم العلم الاجمالي بالتكليف الفعلي إلى قسمين عدم الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في القسم الأول في تنجّز التكليف ووجوب متابعته وحرمة مخالفته إلّا أنّه لا مجال للحكم الظاهري في مورد العلم التفصيلي بالحكم

١١

الفعلي ، إذ لا تجري الاصول العملية والبراءة الشرعية فيه كي يثبت الحكم الظاهري على طبقها في هذا المورد ، والوجه ظاهر.

وعلى طبيعة الحال ؛ فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات غير جهة العلم التفصيلي بالحكم وإذا تحقّق به فيصير حينئذ فعليا من جميع الجهات جهة الميل والشوق وجهة الإرادة وجهة البعث وجهة الكراهة والزجر فلا مورد لجريان الأصول العملية والبراءة الشرعية كي يثبت الحكم الظاهري على طبقها فيه. اما الحكم الظاهري فله مجال واسع مع العلم الاجمالي ، إذ يمكن أن لا يصير الحكم فعليا من جميع الجهات مع العلم الاجمالي لاقتران العلم الاجمالي بالشك والترديد وهو يوجب جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الاجمالي وإن كان الحكم فعليا من سائر الجهات غير جهة العلم الاجمالي.

وعلى ضوء هذا فقد حصل الفرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في القسم الثاني.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أنّه لا مجال للحكم الظاهري مع العلم التفصيلي لأنّ العلم التفصيلي لا يكون مقرونا بالشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري ، فلا يمكن جعل الحكم الظاهري معه أصلا ، أمّا بخلاف العلم الاجمالي فلاقترانه بالشك والترديد فيمكن جعل الحكم الظاهري معه كما لا يخفى.

ففي صورة حصول العلم التفصيلي بالتكليف يصير فعليا من جميع الجهات لأنّه علّة تامّة للبعث والزجر وهما علّتان للامتثال للتكليف فعلا ، أو تركا ، فالعلم التفصيلي علّة للامتثال لأنّ علّة العلّة علّة.

ومن الواضح بعد تحقّق العلّة يتحقّق المعلول بلا تخلل الزماني بينهما فلا جرم يكون امتثال التكليف قطعيا ؛ وامّا العلم الاجمالي فهو مقتض لثبوت التكليف لو لا

١٢

المانع عنه بموجود ، وامّا إذا كان المانع عنه موجودا ، وهو جعل الحكم الظاهري في مورد العلم الاجمالي فلا يؤثر المقتضى بالكسر ، وهو العلم الاجمالي بالتكليف في المقتضى بالفتح ، وهو امتثال التكليف فكم فرق بين العلمين التفصيلي والاجمالي.

عدم التفاوت بين المحصور وغير المحصور

قوله : ثم انّ الظاهر أنّه لو فرض ان المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات ...

ذهب المشهور إلى وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إذا كانت محصورة وعدم وجوبه إذا كانت أطرافه غير محصورة.

قال المصنّف قدس‌سره : إنّ الملاك في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي هو كون التكليف المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث والزجر أعني منها الإرادة والكراهة.

وعليه فالتكليف المعلوم بالاجمال إذا كان فعليا من جميع الجهات وجب الاحتياط عقلا في الأطراف سواء كانت محصورة ، أم كانت غير محصورة ، فالاحتياط إذا كان واجبا فهو واجب مطلقا ، وإذا لم يجب فهو ليس بواجب مطلقا.

وعليه فلا معنى للتفكيك بين المحصورة وغير المحصورة ، إذ العبرة بفعلية التكليف المعلوم بالاجمال من جميع الجهات وعدمها وليست العبرة بحصر الأطراف وعدمه.

نعم ؛ قد توجب كثرة الأطراف سقوط التكليف المعلوم بالاجمال عن الفعلية ، كما إذا كانت الأطراف كثيرة بحيث لو اجتنب عن كلّها لوقع في العسر الأكيد والحرج الشديد وهما رافعان للتكليف فلا يجب الاحتياط حينئذ لكن لا من جهة التفاوت في العلم الاجمالي من حيث قلّة الأطراف وكثرتها ، بل من جهة التفاوت

١٣

في ناحية المعلوم بالاجمال من حيث شدّة الاحتياج إلى ارتكابها وعدم شدّة الحاجة إليه. وسيأتي التنبيه عليه في التنبيه الثالث إن شاء الله تعالى.

وبالجملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها في التنجّز وعدمه.

وعليه فان كان العلم الاجمالي في المحصورة منجزا للتكليف كان منجزا له في غير المحصورة أيضا فيما كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث المولى نحوه فعلا إذا كان واجبا فعليا من جميع الجهات ، أو يزجر عنه فعلا إذا كان حراما مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.

قوله : هو أن عدم الحصر ربّما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم ...

يعني أن عدم حصر الأطراف قد يلازم وجود المانع من فعلية الحكم من سائر الجهات بحيث لو لا المانع الملازم لكان فعليا من سائر الجهات غير الجهة التي تضاد الترخيص ، ولأجل المانع لا يكون فعليا من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لما تنجز ؛ وذلك مثل الخروج عن محل الابتلاء ، أو الاضطرار إلى الارتكاب أو غيرهما كما سيجيء.

الشبهة غير المحصورة

الحاصل : انّ اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم الاجمالي ، إذ هو منجز للتكليف سواء كانت أطرافه محصورة ، أم كانت غير محصورة ؛ ولو أوجب اختلاف الأطراف تفاوتا من حيث التنجيز وعدمه فانّما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث ، أو الزجر مع الحصر وعدم الفعلية مع عدم حصر الأطراف ، إذ الواقع المعلوم إذا كان فعليا فيجب الاحتياط في الأطراف وإذا لم يكن فعليا فلا يجب الاحتياط فيها ، فالواقع فعلي إذا كانت الأطراف محصورة وهو ليس

١٤

بفعلي إذا كانت غير محصورة لأنّ الاحتياط في أطراف الشبهة غير المحصورة مستلزم للعسر والحرج وهما يمنعان عن فعلية التكليف المعلوم بالاجمال مع كونه فعليا لو لا المانع عن فعليته فلا يحصل التفاوت في العلم الاجمالي من حيث قلّة الأطراف وكثرتها كما عرفت آنفا ـ في قوله : ومن هنا انقدح انّه لا فرق ـ انّه لا تفاوت بين العلم التفصيلي والاجمالي في تنجيز الواقع ، إذ كلاهما ينجزان الواقع على المكلف ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم أيضا من حيث الفعلية وعدمها.

قوله : فتأمّل ...

تعرف العلم الاجمالي وانّه منجز للتكليف المعلوم بالاجمال إذا لم يجعل الشارع المقدّس في مورده حكما ظاهريا ، وأمّا إذا جعله فيه لأجل الاضطرار والحرج مثلا فالتكليف في مورده حينئذ لا يكون فعليا من جميع الجهات وإلّا فلا تفاوت بينه وبين العلم التفصيلي أصلا كما لا تفاوت في تنجيز الواقع به بين كون أطرافه محصورة ، أم كونها غير محصورة.

بطلان التفصيل بين المخالفة والموافقة القطعيتين

قوله : وقد انقدح أنّه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ...

وقد ظهر ممّا سبق من أن الملاك في وجوب الاحتياط في أطراف الاجمالي هو كون التكليف المعلوم بالاجمال فعليا من جميع الجهات بأن كان واجدا لما هو العلّة التامّة للبعث والزجر ، أي الإرادة والكراهة ، أنّه لا وجه للتفصيل بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية بأن تحرم الاولى ؛ ولا تجب الثانية فإنّ المعلوم بالاجمال إن كان فعليا من جميع الجهات وكان على طبقه الإرادة والكراهة والبعث والزجر

١٥

وجبت الموافقة القطعية قطعا ، وإلّا لزم تخلّف المعلول عن علّته وهو محال ، وإن لم يكن فعليا كذلك فلا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب الموافقة القطعية.

فالنتيجة : إن كان التكليف فعليا من جميع الجهات فتجب الموافقة القطعية وتحرم المخالفة القطعية ، وإن لم يكن فعليا كذلك فلا تجب ولا تحرم. وعلى ضوء هذا البيان فلا معنى للتفكيك بينهما.

هل يجب الاحتياط في الأطراف التدريجية

قوله : ومنه ظهر أنّه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا ...

وممّا ذكرنا من أنّ المناط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي هو فعلية التكليف المعلوم بالاجمال فعلية تامّة ، أي من جميع الجهات ، وليس المناط كون الأطراف محصورة بحيث إذا كانت غير محصورة لا يكون الاحتياط بواجب ظهر أنّه لو لم تعلم فعلية التكليف المعلوم بالاجمال من جميع الجهات.

إمّا من جهة عدم الابتلاء ببعض أطراف العلم الاجمالي كما سيأتي شرحه في التنبيه الثاني.

أو من جهة الاضطرار إلى بعض الاطراف معينا ، أو مردّدا كما سيأتي شرحه في التنبيه الأوّل.

أو من جهة تعلّق التكليف بموضوع يعلم بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر وذاك الشهر ولا يعلم بتحقّقه فعلا كي يكون التكليف فعليا ، وذلك كأيّام حيض المستحاضة مثلا ، ولكن بتحقّق الشرطين :

الأول : أن يكون الدم مستمرا من أوّل الشهر إلى آخره.

الثاني : أن تكون المرأة ناسية الوقت سواء كانت ناسية العدد أيضا ، أم لم تكن ناسية له.

١٦

ولكن لا بأس بازدياد الشرط الثالث في هذا المقام ، وهو أن تكون فاقدة للتميز على نحو لا يمكنها الرجوع إلى الصفات التي بيّنت في الفقه الشريف من صفات دم الحيض ودم الاستحاضة.

فالموضوع هو دم الحيض : وحرمة الصلاة والصوم والوطى والطواف مثلا حكم شرعي يتعلّق به تعلّم المرأة إجمالا بتحقّق دم الحيض على حسب عادته وطبيعته لأنّها تحيض مرّة في كل شهر لم تجب الموافقة القطعية ولم تحرم المخالفة العملية القطعية.

وأمّا بيان الأمثلة فمثال عدم الابتلاء كما علم المكلف أن هذا الاناء امّا نجس ، واما الاناء الذي يكون في أقصى بلاد الهند نجس فيكون هذا الاناء خارجا عن محل الابتلاء وهو ظاهر.

وامّا مثال الاضطرار فالمكلّف إذا اضطر إلى ارتكاب بعض الاطراف معينا كما إذا كان الاناءان من الماء موجودين بحيث يكون أحدهما باردا والآخر حارّا وهو اضطر إلى شرب البارد منهما لرفع العطش ، أو اضطر إلى ارتكاب بعض الأطراف مخيّرا امّا هذا وامّا ذاك لرفع العطش كما إذا كان الإناءان من الماء باردين معا ، فعدم فعلية التكليف المعلوم بالاجمال إمّا يكون لخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء ، وإمّا يكون لاضطراره إلى ارتكاب بعض الأطراف ، وامّا يكون لعدم تحقّق الموضوع تفصيلا ، بل يعلم بتحقّقه اجمالا مثلا يعلم الزوج أن زوجته حائض في ثلاثة ليال وأيّام من الشهر ويكون وطيها حراما. يعني إذا ابتلى الزوج بزوجته في أثناء الشهر فوجدها مستمرّة الدم حال كونها فاقدة للتمييز وناسية للوقت فقط ، وإن كانت ذاكرة لعدد أيّام الحيض أنّه سبعة أيّام مثلا فانّه يعلم بأنّ لها أيّام الحيض يحرم وطيها فيها لكن لا يدري انّها فيما مضى من أيّام الشهر ، أو في الحال ، أو فيما يأتي.

أمّا لو علم بفعليته ولو كان بين أطراف تدريجية بأن يكون وجود بعض

١٧

الأطراف مترتّبا زمانا على وجود بعض الآخر ؛ كما لو نذر أن يصوم يوم الجمعة أو يوم السبت وهو يعلم إجمالا بوجوب صوم أحد اليومين المذكورين بالنذر وهما مترتّبان زمانا ، ولكن لا يقدح ترتبهما في وجوب الاحتياط ، وهو يتحقّق بصوم كليهما ، إذ في هذه الصورة يكون التكليف فعليا ، ودعوى أن ما بعد يوم الجمعة مستقبل فلا يصح التكليف به لعدم القدرة عليه قبل وجوده وتحقّقه.

وعليه فلا علم إجمالي بالتكليف مندفعة بأنّه يصح التكليف بالاستقبالي ؛ كما يصح بالحالي ، كما في الواجب المعلق ، إذ الوجوب فيه حالي فعلي والواجب استقبالي ، كما قد سبق تفصيله في بحث مقدّمة الواجب.

ونظيره هو التكليف بالحج في الموسم ، وهو أيّام الحج من شهر ذي الحجّة الحرام ، إذ بعد حصول الاستطاعة يجب الحج قبل الموسم والواجب استقبالي ، إذ لا بد من فعله في ظرف الموسم وبعد تحقّقه كما لا يخفى.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن قول المصنّف قدس‌سره ، أو من جهة تعلّقه بموضوع يقطع بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر «كأيّام حيض المستحاضة» يصح إذا كان موضوع التكليف هو الحائض ، إذ الحيض ممّا يقطع حينئذ بتحقّقه إجمالا في هذا الشهر وذلك كشهر صفر المظفر ، مثلا ولكن لا يعلم بتحقّق الحيض فعلا ، إذ يحتمل أن يكون فيما مضى ، أو فيما يأتي.

وأمّا إذا كان موضوع التكليف هو النساء ، كما يظهر هذا من قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) فالمثال المذكور يكون من قبيل الواجب المعلق كالحج بعد الاستطاعة قبل الموسم ؛ فيكون التكليف فيه حاليا والواجب استقباليا.

١٨

الاضطرار إلى بعض الأطراف معيّنا ، أو مردّدا

قوله : تنبيهات الأوّل : أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف ...

اعلم أن الاضطرار إلى مخالفة العلم الاجمالي في بعض الاطراف ؛ تارة يكون إلى واحد معيّن. واخرى يكون إلى واحد غير معيّن ؛ وكل منهما إمّا يكون حال العلم ، وامّا يكون عارضا بعد العلم ، وكل منهما إمّا أن يرتفع الاضطرار بحيث يحسن التكليف به حال العلم معلقا على ارتفاع الاضطرار ، أولا اما لاستمرار الاضطرار إلى آخر العمر ، أو لارتفاعه في زمان بعيد عن العلم بحيث لا يحسن التكليف به. ولا بأس للتعرّض لأحكام كل واحدة من الصور تفصيلا ، فنقول :

إذا كان الاضطرار إلى معيّن حال العلم مستمرّا ، أو مرتفعا بحيث لا يحسن التكليف به حال العلم معلّقا على رفع الاضطرار فلا ينبغي التأمّل في عدم وجوب الاحتياط في بقيّة الاطراف لعدم العلم بالتكليف ، فإنّ الفرد المضطر إليه ممّا يعلم بعدم التكليف به والفرد الآخر ممّا يشك في كونه موضوعا للتكليف فيكون التكليف به مشكوكا بدوا ونتمسك بأصالة البراءة فيه ، هذه الصورة الاولى.

وإذا كان الاضطرار إلى المعيّن حال العلم يعلم بارتفاعه بحيث يحسن التكليف بالفرد المضطر إليه بعد رفع الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف الآخر للعلم الاجمالي بالتكليف بالأمر المردّد بينه وبين المضطر إليه بعد ارتفاع الاضطرار مثلا إذا حدث العلم بغصبية أحد الإنائين يوم الخميس مع الاضطرار إلى استعمال الأبيض منهما في صباح يوم الجمعة فانّه يعلم بوجوب الاجتناب إمّا عن الأبيض يوم الجمعة لو كان هو النجس ، أو الأسود من الآن فيجب الاجتناب عن الأسود لأنّه أحد الفردين المعلوم وجوب الاجتناب عن أحدهما ، هذه الصورة هي الثانية.

وإن حدث الاضطرار إلى معيّن بعد حدوث العلم مستمرا بحيث لا يحسن التكليف به معلّقا حال العلم وجب الاحتياط في الطرف الآخر لأنّ العلم الاجمالي

١٩

حين حدوثه لما نجّز المعلوم بالاجمال المحتمل الانطباق على الطرف الآخر.

كما يحتمل انطباقه على الفرد المضطر إليه قبل زمان طروء الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف غير المضطر إليه لأصالة الاشتغال والاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني وهو لا يتحقّق إلّا بالاحتياط في الطرف غير المضطر إليه ، هذه الصورة هي الثالثة.

الاضطرار إلى واحد معيّن

وإن كان الاضطرار إلى المعين طارئا بعد حدوث العلم ولكن يعلم بارتفاعه في زمان يحسن التكليف بالمضطر إليه حال العلم معلّقا برفع الاضطرار وجب الاحتياط في الطرف الآخر لاصالة الاشتغال أوّلا. وثانيا للعلم الاجمالي بالمردّد بينه وبين المضطر إليه بعد العلم بالتكليف كما عرفته في الصورة الثانية ، هذه الصورة هي الصورة الرابعة. فهذه صور أربع للاضطرار إلى معين.

وعلى ضوء هذه انقدح لك أنّه لا يجب الاحتياط في الاولى منها ويجب الاحتياط في الثلاث الأخيرة في الطرف الآخر غير المضطر إليه ، هذا حكم صور الاضطرار إلى المعيّن.

أمّا إذا كان الاضطرار إلى غير المعيّن فصورة أربع أيضا وهي الجارية في الاضطرار إلى معيّن حرفا بحرف ، ففي الصورة الاولى لا يجب الاحتياط هنا ويجب في الثانية والثالثة والرابعة ، والوجه كما ذكر في الصور الأربع للاضطرار إلى المعيّن كما لا يخفى.

والتفصيل ؛ أنّه لا فرق بين الاضطرار إلى الطرف المعيّن ؛ وإلى الطرف المخيّر إذ جواز الارتكاب ، أو ترك الارتكاب مع العلم بحرمة الفعلية والوجوب الفعلي متنافيان وهما لا يجتمعان فالاضطرار موجب لسقوط التكليف ، وكذا لا فرق بين أن

٢٠