البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

(رقبة ورجل) مثلا حيث انهما مرسلان من قيد الايمان والعلم والعدالة ومن قيد الطول والقصر ومن قيد البياض والاحمرار يشملان مصاديقه على نحو البدل لا على نحو الاستيعاب لما كان اسم الجنس والنكرة من الفاظ المطلق ومن مصاديقه لفقدان قيد الشمول فيهما إذ اسم الجنس وضع للماهية المبهمة بلا لحاظ قيد معها فلهذا يصدق على القليل والكثير على حد السواء مثل لفظ (الماء والتمر) مثلا.

والنكرة قد وضعت للماهية المقيدة بالوحدة فليس الشمول فيهما الّا ان الكلام في صدق هذه النسبة فالمتحصل مما ذكر ان اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني التي وضعت للحصة من جنسها المقيدة بالوحدة مطلقان حقيقة عند العلماء قدس‌سرهم إذ هما مرسلان ليس لهما قيد والمطلق في اللغة بمعنى المرسل فهو يصدق حقيقة عليهما.

والحال ليس لهم اصطلاح جديد في معنى المطلق. نعم ان صحّ نسبة القول إلى العلماء انهم قالوا المطلق هو اللفظ الذي وضع للطبيعة المفيدة بالاطلاق الشياع والسريان التي تكون ماهية لا بشرط القسمي فلا يصدق المطلق عندهم على اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني وليسا من اقسام المطلق ولكن لم تثبت نسبة هذا القول إلى العلماء إذ يعاملون معهما معاملة المطلق في المقامات الكثيرة ، هذا مضافا إلى ان المطلق بهذا المعنى ليس بقابل للتقييد ، لان الاطلاق الذي هو قيد معنى المطلق يوجب السعة والتقييد يوجب التضييق فالسعة والتضييق متقابلان.

ومن الواضح عدم قابلية احد المتقابلين لقبول المتقابل الآخر ولا ريب في صحة تقييد المطلقات عندهم فهذا يكشف كشفا قطعيا عن ان المراد من المطلق هو المعنى اللغوى بمعنى الارسال وإذا كان المطلق بهذا المعنى الذي هو بشرط المقسمى فيمكن ان لا يكون التقييد مجازا لان المولى أراد من المطلق معناه ومن القيد معناه فيكون المراد حينئذ من مجموع المطلق والقيد معنى خاصا ، مثلا إذا قال المولى (اعتق رقبة مؤمنة) فالرقبة استعملت في معناها ، وهو طبيعة الرقبة والمؤمنة

٥٢١

في معناها فالمجموع يدل على نحو طريق تعدد الدال والمدلول على ان مراد المولى من كلامه هذا عتق الرقبة المؤمنة لا الكافرة.

وعليه ، لا مجاز في التقييد أصلا لامكان ارادة معنى لفظ المطلق من المطلق ، وارادة معنى قيده من قرينة الحال ، أي حال المولى يدل على ارادته خصوص الرقبة المؤمنة ، أو من قرينة المقال ، كأن تكلم المولى قبلا بأن عتق الرقبة المؤمنة فقط يكفي في كفارة الظهار مثلا ، فقال (إذا ظاهرت فاعتق رقبة).

نعم لو وضع المطلق لمعنى المطلق بقيد الاطلاق فلا محالة يكون مجازا في المثال المتقدم إذ هو استعمل في المقيد الخاص وهو (رقبة مؤمنة) فالاطلاق ينافي القيد ، كما سبق هذا.

نعم إذا استعملت الرقبة في الرقبة المؤمنة فيلزم التجوز على كلا القولين ، اما على القول بكون الموضوع له المطلق بقيد الاطلاق فمن الواضح ان المطلق ما استعمل في معناه ، بل استعمل في المقيد. واما على القول بكون الموضوع له مطلق الطبيعة بلا قيد الاطلاق ، فمن الواضح ايضا ان المطلق ما استعمل في معناه لفقدان الارسال والشمول البدلي لجميع افراد الرقبة أعم من المؤمنة والكافرة ، بل تشتمل حصة منها ، وهي المؤمنة فقط.

فاستعمال المطلق في المقيد مجاز على القولين سواء كان التقييد بمتصل أم كان بمنفصل خلافا لبعض ، حيث قال التقييد بمتصل لا يوجب التجوز واما التقييد بمنفصل فيوجب التجوز ، وقد عرفت ضعف هذا التفصيل ، إذ لا فرق بين اتصال القيد وانفصاله ، لان لفظ المطلق قد استعمل في معناه الحقيقي ، وان التقيد قد استفيد من دال آخر. غاية الأمر ، انه ان كان القيد متصلا بالمطلق فقد بيّن المتكلم تمام مراده دفعة واحدة ، واما إذا كان منفصلا عن المطلق فقد بيّنه تدريجا بدليلين منفصلين لحكمة مقتضية لذلك.

٥٢٢

في مقدمات الحكمة

قوله : فصل : قد ظهر لك انه لا دلالة لمثل رجل الاعلى الماهية المبهمة ...

أي قد ظهر لك ان رجلا من اسماء الاجناس موضوع للماهية بما هي مبهمة مهملة بنحو اللابشرط المقسمي ولا تدل اسماء الاجناس بنفسها على الشياع والسريان والعموم والخصوص فهي خارجة عن حريم الموضوع له ، والمستعمل فيه كسائر الطوارئ والعوارض. فاسماء الاجناس إذا دلت على العموم أو الاطلاق فلقرينة خارجية سواء كانت حالية أم كانت مقالية أم كانت حكمة باعثة على دلالتها في مثل (جئني برجل) على العموم أو الاطلاق بحيث إذا لم نكن قرينة الحكمة بموجودة فلا يدل نحو (رجل) على العموم ولا على الاطلاق واما القرائن الحالية والمقالية فمعلومتان.

واما قرينة الحكمة فهي مركبة من مقدمات ، وتتوقف عليها ، وتسمى بالقرينة العامة.

أولاها : ان يكون المتكلم متمكنا من البيان والاتيان بالقيد ، وإلّا فلا يكون لكلامه اطلاق في مقام الاثبات حتى يكون كاشفا عن الاطلاق في مقام الثبوت ولا يكون في مقام الاهمال وفي مقام بيان المراد في الجملة مثل أن يكون في بيان سنخ موضوع الحكم كما إذا قال الطبيب للمريض انك محتاج إلى شرب الدواء في ايام الربيع فانه ليس في مقام بيان تمام مراده ، بل يكون في مقام بيان سنخ مراده ولا يكون في مقام الاجمال وفي مقام أصل التشريع فاذا كان المتكلم في مقام اصل التشريع وفي مقام الاهمال او لاجمال فليس له قبيح أن يقول المطلق ولم يكن بمراده ولكن لم ينصب قرينة على تعيين مراده ، ولا يلزم نقض الفرض حينئذ بخلاف ما إذا كان في مقام بيان تمام مراده فيلزم نقض الفرض إذا لم ينصب قرينة

٥٢٣

على تعيين مراده الخاص.

ثانيتها : انتفاء ما يوجب التعيين أى لا تكون القرينة الحالية أو القرينة المقالية دالّة على تعيين رقبة مؤمنة من نحو (اعتق رقبة).

فاذا ذكر مطلقا وكان غرضه منه مقيدا ، ولم ينصب قرينة على التقييد اعتمادا على القرينة الحالية أو المقالية الدالة على المراد ، فلا يلزم نقض الفرض إذ بيّن غرضه الذي هو المقيد بتلك القرينة المذكورة ، كما لا يخفى.

ثالثتها : انتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب بين المتكلم والمخاطب فاذا كان القدر المتيقن في مقام التخاطب بينهما فيصح ان يعتمد عليه ويذكر المطلق في كلامه ولكن يكون مراد المولى من المطلق هو المقيد الخاص ، كما إذا قال المولى (اكرم عالما) فالعالم ، وان كان يشمل العادل والفاسق ولكن القدر المتيقن منه هو العالم العادل الفقيه بحيث يصير هو متيقن الارادة في مقام التخاطب وينصرف ذهن المخاطب من اطلاق لفظ العالم اليه ، فيصح حينئذ ان يذكر المتكلم مطلقا ، ويريد منه المقيد الخاص اعتمادا عليه ، ولا يلزم نقض الغرض. نعم إذا كان القدر المتيقن خارجا عن مقام التخاطب فهو لا يضرّ باطلاق المطلق ، إذ لكل مطلق لا بد ان يكون له قدر متيقن خارج عن مقام التخاطب. فالمضر بالاطلاق هو القدر المتيقن في مقام التخاطب لانه قرينة على مراد المتكلم من كلامه.

فاذا تمت المقدمات الثلاث المذكورة ، أي إذا كان المولى في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال ولم تكن قرينة على التعيين ولم يكن القدر المتيقن في مقام التخاطب ، واذا ذكر مطلقا في كلامه فيحمل حينئذ على اطلاقه ، إذ لو لم يكن الاطلاق مراد المولى ، مع كونه في مقام بيان تمام مراده ، فاما يفعل نقض الغرض ان لم يكن الاطلاق بمراد ، وإما أن يكون الاطلاق مرادا ، ولما كان نقض الغرض قبيحا فلا بدّ أن يكون مراده الاطلاق.

فهذه المقدمات الثلاث تكون قرينة عامة على ان مراد المولى من المطلق هو

٥٢٤

الاطلاق. واما إذا انتفى احدها فلا يحمل المطلق على اطلاقه لانه إذا لم يكن في مقام بيان تمام مراده وذكر مطلقا فلا يلزم نقض الغرض إذا مراده من كلامه الاهمال أو الاجمال لا البيان لمراده. وكذا إذا كان في مقام البيان ولكن نصب القرينة على مراده الخاص فلا يلزم نقض الغرض بذكر المطلق في كلامه اعتمادا عليها.

وكذا إذا كان القدر المتيقن في مقام التخاطب وذكر مطلقا في الكلام فلا يلزم نقض الغرض أيضا اعتمادا على القدر المتيقن في مقام التخاطب.

٥٢٥

المطلق

لو كان المتيقن تمام مراد المولى فان الفرض ان المولى بصدد بيان تمام المراد ، وقد بين تمام مراده بسبب وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بين المتكلم والمخاطب ، فمراد المتكلم هو القدر المتيقن في مقام التخاطب وذهن المخاطب ينصرف اليه فلا نقض للغرض ولا الاغراء بالجهل. نعم ان كان غرضه مطلقا وذكر في الكلام مطلقا والحال انه يكون القدر المتيقن في مقام التخاطب فيلزم حينئذ نقض الغرض ، إذ من جهة وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب لا بد من الحكم بكون غرضه هو القدر المتيقن ، وليس الأمر كذلك ، إذ غرضه من كلامه هو المطلق لا القدر المتيقن.

وليس المتيقن بما هو متيقن تمام مراده كي ينحل ببيان مراده يعنى تارة يحرز ان المتكلم في مقام بيان تمام مراده ، واخرى يحرز أن المتيقن بما هو متيقن تمام مراده ، فإذا احرز أن المتكلم في المقام الأول كان وجود القدر المتيقن مانعا من الاطلاق ، بل يحمل المطلق على القدر المتقين لان القدر المتيقن إذا كان تمام مراده فهو مبين فلا مقتضي للحمل على الاطلاق.

واما إذا احرز ان المتكلم في المقام الثاني فوجود القدر المتيقن غير مانع عن الحكم بالاطلاق ، لان اليقين بوجوده ليس بيانا لكونه تمام المراد فلا بد أن يكون تمام المراد هو الطبيعة المطلقة.

هذا ، مثلا إذا قال المولى (إذا ظاهرت فاعتق رقبة) والقدر المتيقن من الرقبة هو الرقبة المؤمنة ، فاذا احرزنا ان المتكلم في مقام بيان تمام المراد اعتمادا على القدر المتيقن ذكر (رقبة) في كلامه مطلقا ، فيحمل على المقيد الخاص وهو عتق رقبة مؤمنة ، وإذا احرزنا ان المتيقن تمام مراده فوجود القدر المتيقن ليس بمانع عن

٥٢٦

الحكم بعتق مطلق الرقبة ، سواء كانت مؤمنة أم كانت كافرة ، إذ اليقين بوجوده ليس بيانا لكونه تمام المراد ، فليكن حينئذ تمام المراد هو طبيعة الرقبة من حيث هي هي.

قوله : فافهم ...

اشارة إلى انه إذا كان اليقين بوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب بين المتكلم والمخاطب بيانا لتمام المراد ، كما في المقام الاول ، فلا بد من أن يدل بالالتزام على ان القدر المتيقن تمام المراد فيكون وجوده بيانا لتمام المراد.

فلا فرق حينئذ بين المقام الاول والمقام الثاني فوجوده فيها مانع عن حمل المطلق على الاطلاق.

قوله : ثم لا يخفى عليك ان المراد بكونه في مقام بيان تمام مراده ...

ثم انه لا بد من بيان أمرين :

الاول : ما المراد من كون المتكلم في مقام البيان.

الثاني : فيما إذا شك في ان المتكلم في مقام البيان أم لا؟

اما الاول : فليس المراد من كونه في مقام البيان من جميع الجهات والنواحي لأن مثل ذلك لم يتفق في شيء من الآيات والروايات وإذا اتفق في مورد فهو نادر جدا كما انه ليس المراد من عدم كونه في مقام البيان أن لا يكون في مقام التفهيم اصلا كما إذا تكلم بلغة لا يفهم المخاطب منها شيئا ، كما إذا تكلم للعرب بلغة الفرس أو تكلم للفرس بلغة العرب.

والحاصل : ان المراد من كونه في مقام البيان هو انه يلقى كلامه إلى المخاطب على نحو ينعقد له ظهور في الاطلاق بحيث يكون حجة على المخاطب على سبيل القاعدة والقانون.

واما الأمر الثاني : فالمعروف بين الاصحاب هو استقرار بناء العقلاء على حمل كلام المتكلم على كونه في مقام البيان إذا شك في ذلك ومن هنا قالوا ان الاصل في كل كلام صادر عن متكلم هو كونه في مقام البيان فعدم كونه في هذا

٥٢٧

المقام في مقام البيان يحتاج إلى دليل (اعلم) ان البيان على قسمين :

الاول : بيان الحكم الواقعي كما يقال : «تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيح» ، أي بيان الحكم الواقعي عنه قبيح.

والثاني : ان يكون البيان أعم من بيان الحكم الواقعي ، ومن بيان الحكم الظاهري القانوني ، كما ان الأمر في غالب العمومات والمطلقات يكون هكذا ، إذ المولى في مقام بيان الحجة للعبد بحيث إذا لم يصل إلى العبد من قبل المولى حجة اقوى سندا أو دلالة ، فلا بد له أن يعمل به ، أي بالمطلق ، فاذا كان البيان في المطلقات اعم من بيان الحكم الواقعي والحكم الظاهري القانوني فدليل التقييد يكشف عن ان المطلق لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي فليس للطلق اطلاق من اول الامر ، بل يكون المطلق في مقام بيان الحكم الظاهري القانوني فمتى لم يجئ المقيد فالمطلق حجة على العبد.

نعم ، إذا كان المراد بيان الواقعي فالدليل المقيد يكشف عن ان المطلق لم يكن في مقام بيان الحكم المذكور وليس الاطلاق للمطلق بثابت من اول الامر.

هذا فلا يكون الظفر بالمقيد أي الحكم الظاهري القانوني كاشفا عن عدم كون المتكلم في النفي والاثبات في مقام البيان ، بل كان في مقام بيان الحكم الظاهري القانوني وان لم يكن في مقام بيان الحكم الواقعي لان المولى كان في مقام جعل القانون وضرب القاعدة ليرجع اليه العبد حين الشك حتى يكون حجة ظاهرة في الافراد المشكوكة إلى ان تقوم حجة اقوى من قبل المولى على خلافه ، أي خلاف المطلق.

فالنتيجة : إذا كان المراد من (بيان تمام المراد) بيان الحكم الواقعي على نحو الجد والجزم فالدليل المقيد الذي وصل من قبل المولى إلى العبد بعد المطلق يكشف عن انه ليس للمطلق اطلاق بثابت من اول الأمر.

واما إذا كان المراد من بيان تمام المراد بيان الحكم على نحو الاطلاق اعم

٥٢٨

من الواقعي والظاهري القانوني فالدليل المقيد يكشف عن ان الاطلاق ثابت للمطلق من اول الامر ضربا للقانون والقاعدة ، ولذا لا ينثلم بالمقيد اطلاق المطلق وصحة التمسك بالاطلاق ، بالاضافة إلى الافراد المشكوكة.

كافراد الرقاب الكافرة مثلا إذا قال المولى (ان ظاهرت فاعتق رقبة) ثم قال (ان ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) فالمولى لا يخلو اما أن يكون في مقام بيان الحكم الواقعي عن جد ، واما أن يكون في مقام بيان الحكم مطلقا اعم من الواقعي والظاهري القانوني ، فاذا كان في مقام الاول فالدليل المقيد يكشف عن عدم الاطلاق للمطلق من اول الامر ، وإذا كان في مقام الثاني فالدليل المقيد يكشف عن ثبوت الاطلاق للمطلق من اول الأمر ضربا للقانون والقاعدة كي يرجع العبد إلى المطلق في مقام العمل بالاضافة إلى الافراد المشكوكة ولا يتحير حين الشك ما لم تقم حجة اقوى على خلافه ، أي خلاف المطلق.

قوله : فتأمل جيدا ...

اشارة إلى ان المقيد اما مخالف للمطلق في النفي والاثبات نحو (اعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة) ولا ريب في كونه مقيدا له أو يحمل المقيد على الاستحباب والافضلية فيه احتمالان مذكوران ، كما سيأتي تفصيله عن قريب ان شاء الله تعالى.

قوله : وقد انقدح بما ذكرنا ان النكرة في دلالتها على الشياع والسريان أيضا ...

نحن قلنا ان اسم الجنس لا يدل الاعلى الماهية المبهمة المهملة وضعا وان الشياع والسريان يكونان خارجين عما وضع له فلا بد في الدلالة عليهما من قرينة حالية أو مقالية او حكمة تتوقف على المقدمات الثلاث ، فكذا نقول في النكرة بالمعنى الثاني هذه المقالة أيضا ، فلا بد في دلالتها على الشياع والسريان من قرينة حال أو مقال أو من مقدمات الحكمة ، وإلّا فلا تدل عليهما فلا تغفل.

بقى بيان الفرق بين اسم الجنس والنكرة بالمعنى الثاني ، وهو الطبيعة المقيدة

٥٢٩

بالحصة ، كما في نحو (جئنى برجل) وبقى توضيح الشياع والسريان المذكورين آنفا. قلنا : الفرق بينهما ان اسم الجنس يدل على الماهية المبهمة من حيث العدد والكمية كلفظ (انسان) و (رجل) فالاول يدل على ذات ثبتت لها الانسانية بلا دلالة على عدده وكميته وخاصيته ، والثاني يدل على ذات ثبتت لها الرجولية بلا دلالة على كيفيته وكميته وآثاره و ... فلفظ انسان حال كونه مجردا عن التنوين وخاليا عن اللام فهو اسم جنس ، وإذا نوّن فلا يخلو اسم الجنس ، اما ان يقع تلو كلام خبري نحو (جاءني رجل) مثلا فهو نكرة بالمعنى الاول ، يدل على فرد معين واقعا غير معين عند المخاطب. واما ان يقع عقيب الكلام الانشائي كالأمر والنهي نحو (جئني برجل) فهو نكرة بالمعنى الثاني ، اعني الطبيعة المقيدة بالوحدة المعبر عنها بالحصة. وإذا عرف باللام فهو تابع للام ، فاذا كان للجنس فهو يدل على الجنس ، نحو (الرجل خير من المرأة) ، أي جنسه وطبيعته خير من جنسها وطبيعتها ، وإذا كان للاستغراق فهو يدل على الاستغراق نحو (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، أي ان كل افراده لفي خسر ، وإذا كان للعهد بجميع انواعه فهو يدل عليه ، نحو (جاءني القاضي) و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) و (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) و (إِذْ هُما فِي الْغارِ). إذا علم هذا فالفرق بين اسم الجنس والنكرة واضح لا غبار عليه ، كما سبق هذا آنفا.

واما توضيح الشياع والسريان فيقال : ان الشياع هو الانتشار ، وهو خلاف الامساك ، فعنوان الرجل والرجولية منتشر في جميع افراد الرجل ومصاديقه. والسريان هو الجريان ، وهو خلاف الركود فعنوان الرجل جار في كل رجل ، وكذا الحال في سائر اسماء الاجناس حرفا بحرف ، واما الاعلام الشخصية فلا شياع ولا انتشار ولا جريان فيها ، لان زيدا لا يصدق على عمرو وبكر و ... بل فيها الامساك والركود ، كما لا يخفى.

٥٣٠

الاصل كون المتكلم في مقام البيان

قوله : بقي شيء وهو انه لا يبعد ان يكون الأصل فيما ...

فاذا احرز ان المتكلم كان في مقام بيان تمام المراد فلا اشكال حينئذ في التمسك بالاطلاق إذا ذكر مطلقا في كلامه. واما إذا شككنا في كون المتكلم في مقام بيان المراد بتمامه أم في مقام الاهمال والاجمال ، فلا يبعد ان يكون الاصل والقاعدة كونه في مقام البيان ، فيصح التمسك بالاطلاق حتى يعلم انه في مقام الاهمال والاجمال.

ووجه هذا الاصل والقاعدة ان سيرة اهل المحاورات والمخاطبات التمسك باطلاق المطلقات وبعموم العمومات ما دام لم تكن القرينة على خلافهما بموجوده فهذه السيرة تدل على هذه القاعدة وهذا الأصل. ولهذا ترى ان المشهور يتمسكون باطلاقات الآيات والروايات مع عدم احراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده من المطلقات والعمومات ، ومع عدم احراز كون المطلقات والعمومات في مقام البيان ومع عدم احراز كون مطلق المطلقات بصدد البيان.

فإن قيل : يحتمل أن يكون تمسك العلماء والفقهاء بمطلقات الآيات والروايات مع عدم احراز المذكور بلحاظ وضعها للشياع والسريان عندهم ، لا بلحاظ قرائن الحالية أو المقالية أو الحكمة التي تتوقف على المقدّمات الثلاث. فالنتيجة ليس تمسكهم بالاطلاقات على ثبوت الحكم الفلاني للموضوع الفلاني مستندا إلى الأصل المذكور ، بل يكون مستندا إلى وضعها للشياع والسريان ، فلا حاجة حينئذ إلى احراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده لا في مقام الاهمال والاجمال بالأصل والقاعدة المتعارفين عند أهل المحاورات والمخاطبات.

قلنا : هذا الاحتمال بعيد لما مرّ سابقا من وضع ألفاظ المطلق للماهية المبهمة المهملة التي لم يلاحظ معها شيء ولا قيد فالشيوع والسريان خارجان عمّا وضعت

٥٣١

له ، بل هما من خصوصيات الاستعمال وأطواره إذا وقعت النكرة عقيب الكلام الانشائي نحو (جئني برجل) مثلا.

قال المصنّف قدس‌سره : وان كان ربما نسب وضع الفاظ المطلق للشياع والسريان إلى المشهور بلحاظ تمسكهم بالاطلاقات بلا احراز كون مطلقها ومتكلمها في مقام البيان أو في مقام الاهمال والاجمال.

والحال انّه لا وجه للتمسك بها بدون الاحراز المذكور إلّا كون الفاظ المطلق موضوعة للشياع والسريان ، ولكن هذه المقالة صدرت عن قائلها غفلة لا تحقيقا ودقة ، وسبب الغفلة أمران :

أحدهما : ملاحظة تمسكهم بالاطلاقات بلا احراز كون مطلقها في مقام البيان. والحال يلزم الاحراز المذكور في التمسك بها.

ثانيهما : غفلة المتوهم عن وجه تمسكهم بها ، إذ المتوهم زعم ان وجه التمسك بها وضعها للشياع والسريان بلا احراز كون المتكلّم في مقام البيان. وهذا التوهم فاسد جدّا لأن وجه التمسك بها بلا احراز مزبور هو بناء أهل المحاورات والعقلاء على كون المتكلم بصدد بيان تمام المراد من كلامه إذا تكلّم به ، فسيرة أهل المحاورات والعقلاء قد استقرت على التمسك بها بلا توقف أصلا ، إذا لم تكن القرينة على خلاف الاطلاقات مشيا على هذا الأصل المذكور آنفا ، فالتوهم المذكور فاسد ، كما لا يخفى على أولي النهى.

قوله : فتأمّل جيّدا ...

اشارة إلى انّه يلزم كون احراز المتكلم في مقام البيان لا في مقام الاهمال والاجمال في جميع أبواب الظواهر من دون اختصاص بباب الاطلاقات فقط. بحيث لو لا احراز كون المتكلم في مقام بيان تمام مراده لما جاز لنا الأخذ بظاهر كلامه وان كان الظهور مستندا إلى الوضع فضلا عن القرائن العامة كمقدمات الحكمة لأنه يجوز أن يريد المتكلم من كلامه خلاف الظاهر وقد اعتمد في بيان مراده على

٥٣٢

قرينة يأتي المتكلم بها بعدا ، وهذا واضح.

إلى هنا قد استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة : وهي أن المتكلم إذا كان متمكنا من الاتيان بقيد ، والحال انّه كان في مقام البيان ومع ذلك لم يأت بقرينة على خلاف ظاهر كلامه لا متصلة ولا منفصلة يكشف ذلك عن كون مراده من المطلق الذي ذكره المتكلم في كلامه هو الاطلاق في مقام الثبوت والواقع.

وهذا المطلب مما قامت السيرة القطعية من العقلاء بما هم عقلاء على ذلك الممضاة شرعا ، ولا حاجة إلى التمسك بالاطلاق إلى أزيد من المقدّمات الثلاث فهي قرينة عامة على اثبات الاطلاق.

واما القرائن الخاصة من الحالية والمقالية فهي تختلف باختلاف الموارد فلا ضابط لها أصلا. بقي في المقام توضيح أمرين :

الأوّل : ان القدر المتيقن في مقام التخاطب هل يمنع عن التمسك بالاطلاق أم لا. فيه وجهان اختار المحقّق صاحب الكفاية انه يمنع منه.

والتفصيل : انّه يريد به تارة القدر المتيقن الخارجي ، أي انّه متيقن بحسب الإرادة خارجا من جهة القرائن. منها مناسبة الحكم والموضوع كمناسبة الحرمة مع شرب الخمر مثلا والاباحة مع شرب الماء.

ومن الواضح ان مثل هذا المتيقن لا يمنع عن التمسك بالاطلاق ، مثلا إذا قال المولى (اكرم عالما) فالمتيقن منه هو العالم الهاشمي العادل الورع التقي النقي إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه ، واما احتمال أن يكون المراد منه ذلك دون غيره فهو موجود قطعا.

ولا يخفى ان قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) من قبيل (اكرم عالما) إذ القدر المتيقن منه هو البيع الموجود بالصيغة العربية الماضوية إذ لا يحتمل أن يكون المراد منه غيره دونه وان احتمل أن يكون المراد هو دون غيره.

وأخرى يريد به القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهذا هو مراد المصنّف قدس‌سره

٥٣٣

دون الأول ولا يخفى ان المراد من القدر المتيقن في مقام التخاطب هو ان يفهم المخاطب من الكلام الملقى إليه ان هذا المعنى مراده جزما واما غيره فاحتمالا ، كما في موثقة ابن بكير ، قال : سأل زرارة أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن الصلاة في الثعالب والفنك والسنجاب وغيره من الوبر فأخرج كتابا زعم انّه املاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أن الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فاسدة فالصلاة في وبره وشعره وجلده وبوله وروثه وكلّ شيء منه فاسدة لا تقبل تلك الصلاة حتى يصلّي في غيره مما أحلّ الله أكله» (١).

فالمتيقن بحسب التخاطب هو مورد السؤال لأن الامام عليه‌السلام أراد غير مورد السؤال ايضا بقرينة كل شيء هو جلد الاشياء المذكورة في السؤال ووبرها وشعرها مفصلا ، وأما غيره فمحتمل ، واما العكس أي أراد الامام عليه‌السلام مورد السؤال دون غيره فهو محتمل ، فيكون القدر المتيقن في مقام التخاطب وبر الثعالب والفنك والسنجاب وجلدها وشعرها وبولها وروثها ، واما وبر غيرها وكذا شعر غيرها و ... فمحتمل ايضا أن الامام عليه‌السلام يريده.

لا اطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف

قوله : ثمّ انّه قد انقدح بما عرفت من توقف حمل المطلق ...

فانقدح مما سبق ان حمل ألفاظ المطلق على الاطلاق يتوقف على تمامية مقدّمات الحكمة ، وان الشياع والسريان يكونان خارجين عمّا وضع له لفظ رجل وانسان وشجر مثلا كسائر الطوارئ والعوارض ، وهذا التوقف ثابت إذا لم تكن القرينة الحالية أو المقالية موجودتين على الاطلاق.

وعليه فلا اطلاق للمطلق فيما كان له الانصراف إلى خصوص بعض الأفراد أو إلى خصوص بعض الأصناف ، إذ من جملة مقدّمات الحكمة التي يتوقف إطلاق

__________________

(١) ـ الوسائل الجزء الثالث ، الباب ٢ من أبواب لباس المصلّي ، ح ١.

٥٣٤

المطلق عليها انتفاء ما يوجب تعيين مراد المتكلّم من اطلاق كلامه : وانتفاء القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ولكن الانصراف إلى بعض مراتب الاطلاق مما يوجب التعيين ومما يوجب القدر المتيقن في مقام التخاطب والمحاورات وسيأتي تفصيل مراتب الانصراف ، إن شاء الله تعالى.

فلا يجوز التمسك في هذا المقام بالاطلاق ، لأن المتكلم أراد من هذا المطلق المنصرف إليه ، وليس المتكلّم بناقض للغرض حين تكلّم بالمطلق لظهور المطلق إلى المنصرف إليه أو لكون المنصرف إليه متيقنا من المطلق في مقام التخاطب.

وهذا اشارة إلى أنواع الانصراف وهي كثيرة :

الأول : الانصراف الخطوري ؛ بمعنى محض خطور بعض الأفراد أو بعض الأصناف في الذهن من دون أن يكون موجبا للتردد والشك أصلا ، كخطور (ماء الفرات) من لفظ (الماء) لمن كان نزيل الفرات ك (أهالي النجف الأشرف والكوفة) مثلا ، و (ماء دجلة) من لفظ (الماء) لمن كان نزيلها ك (أهالي بغداد) وهكذا.

الثاني : التشكيك البدوي وهو ما يوجب الشك ، لكن يزول بالتأمّل.

الثالث : ما يوجب الشك المستقر ، وهذا يوجب الاجمال والتوقف عند المعارضة مع أصالة الحقيقة ، وفي المقام يوجب القدر المتيقن في مقام التخاطب.

الرابع : ما يوجب الظهور بحيث يرجح على اصالة الحقيقة ، وفي المقام يكون الانصراف قرينة على التقييد.

الخامس : ما يوجب الاشتراك.

السادس : ما يوجب النقل.

ولا يخفى ان هذه الأنواع مترتبة في القوة والضعف ، فالأولان لا يقدحان في الاطلاق ، والبواقي تقدح فيه. والأخيران يوجبان مع ذلك رفع صلاحية اللفظ للاطلاق ولا بأس بذكر مثال لتوضيح الممثّل.

اما مثال القسم الأوّل فقد ذكر سابقا.

٥٣٥

واما مثال القسم الثاني ، فمثل انصراف اطلاق لفظ (رجل) في نحو (جئني برجل إلى ذي رأس واحد) فهو لا يشمل رجلا ذا رأسين ، مثلا بعد التأمل.

واما مثال القسم الثالث : فمثل لفظ (دابة) لأنّه ينصرف اطلاقه إلى فرس وهو وضع لغة لكل ما يدبّ على وجه الأرض ، فالقدر المتيقن منه هو الفرس.

واما مثال القسم الرابع : فمثل لفظ (النبي) ولكن ينصرف إطلاقه إلى نبينا محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. من باب ان الشيء إذا ذكر مطلقا ينصرف إلى الفرد الكامل ، فهذا الانصراف يكون قرينة على التقييد أي تقييد النبي.

واما مثال القسم الخامس فكالمجاز المشهور بحيث يترجح المجاز على الحقيقة حتى صار حقيقة ثانوية توجب اشتراك اللفظ بين الحقيقي الأوّل وبين الحقيقي الثاني ، ولهذا إذا ذكر هذا اللفظ مطلقا وبلا قرينة وجب التوقف ، كصيغة الأمر على القول بكونها حقيقة في الوجوب ولكن صار استعمالها في الندب مجازا مشهورا ، بحيث ساوى احتماله لاحتمال الحقيقة أو يرجح عليه على اختلاف بين الأعلام.

واما مثال القسم السادس : فكلفظ الفعل لأنّه وضع لغة للمعنى المصدري ، (وهو كردن وبجاه آوردن في الفارسية) ثم نقل في عرف النحاة إلى نوع خاص من الكلمة التي تدلّ على معنى في نفسها مقترن معناها بأحد الأزمنة ، ولذا ينصرف بسبب النقل من اطلاقه هذا النوع الخاص من الكلمة.

فإن قيل قد سبق ان تقييد المطلقات لا يوجب تجوزا فيها على الأظهر ، بحيث تستعمل في غير ما وضعت له ، إذ بيّن المولى مراده بتعدد الدال والمدلول فاستعمل المطلق في أصل معناه ، كما إذا قال المولى (إذا ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة) فاستعمل رقبة في معناها وهو طبيعة الرقبة بما هي هي و (مؤمنة) في معناها وهو ذات ثبت له عنوان الايمان ، فألقى المتكلم مراده إلى المخاطب بسبب تعدد الدال وهو لفظ رقبة ومؤمنة ، وتعدد المدلول وهو الماهية اللابشرط المقسمي أي طبيعة الرقبة وعنوان وصف الايمان ، فالرقبة استعملت في معناها دائما ، وخصوصية

٥٣٦

الايمان تستفاد من القيد على نحو تعدد الدال والمدلول.

وعليه ، فإذا كان للمطلق انصراف إلى بعض الأفراد أو إلى بعض الأصناف فليس استعماله في غير ما وضع له أوّلا كي يلزم الاشتراك إذا لم يهجر استعماله فيما وضع له أوّلا بوضع الأول. أو يلزم النقل إذا هجر استعماله فيما وضع له أوّلا فلا اشتراك ولا نقل في المطلق أصلا.

فالقسمان المذكوران للانصراف أي الخامس والسادس فاسدان فانّه يقال مضافا إلى ان التقييد للمطلق لا يستلزم التجوز فيه لأن المتكلّم يفهم مراده على نحو تعدد الدال والمدلول وليس معناه أي معنى عدم الاستلزام المذكور عدم امكان التقييد على نحو يوجب التجوز في المطلق إذ من الممكن ان يستعمل المتكلم المطلق في المقيد مجازا من غير تعدد الدال والمدلول بحيث يكثر هذا الاستعمال إلى ان يصل حدّ الاشتراك أو النقل.

والفرق بين الاشتراك والنقل : ان اللفظ المشترك قد يستعمل في المعنى الأول الذي وضع له بالوضع الأول. وقد يستعمل في المعنى الثاني الذي وضع له بالوضع الثاني ، كلفظ (القرء) مثلا ، إذ يستعمل هو في الطهر والحيض.

وان اللفظ المنقول يستعمل في المنقول إليه بحيث هجر استعماله في المنقول عنه ، كلفظ الاسم والفعل ، ولفظ الغائط ، فإن الأوّل قد وضع لغة لعلو ، والثاني قد وضع لغة لاتيان شيء ، والثالث قد وضع لمكان منخفض ، ثم نقل الأوّل والثاني إلى المعنى الثاني وهو نوع خاص من الكلمة واستعملا فيه فحسب دون المعنى الأوّل ولهذا يتبادر منهما المعنى الثاني دون المعنى الأول.

ونقل الثالث إلى المعنى الثاني وهو غائط الانسان واستعمل فيه دون الأول وهجر استعماله ، ولأجل هذا يتبادر منه المعنى الثاني دون الأول. هذا أوّلا.

وثانيا : ان استعمال المطلق في المقيد وان كان بنحو تعدد الدال والمدلول لكن يمكن أن يكثر إلى حدّ يحصل بسبب ذلك الاستعمال مزية أنس بين اللفظ والمعنى

٥٣٧

أي مزية انس بين اللفظ والأفراد الخاصة أو الصنف الخاص حتى توجب هذه المزية الاشتراك ، بحيث يحتاج استعمال اللفظ ، أي لفظ المطلق ، كلفظ (الرقبة) في الطبيعة المهملة إلى قرينة معينة.

ويحتاج استعماله في الافراد الخاصة ، أو الصنف الخاص المعين ، كاستعمال لفظ الرقبة في المؤمنة أو كاستعماله في الرومي أو الزنجي مثلا إلى القرينة المعينة أيضا ، نظير المجاز المشهور مثل استعمال لفظ الدابة في الفرس مثلا ، مجازا بقرينة صارفة ، وكثر استعماله فيه حتى وصل إلى حد الاشتراك بحيث يفتقر استعماله في كلّ ما يدبّ على وجه الأرض إلى قرينة معينة ، كما يفتقر استعماله في الفرس إليها أيضا ، أو وصل إلى حدّ النقل بحيث يتبادر من اللفظ المطلق الافراد الخاصة أو الصنف الخاص المتعين إذا ذكر مطلقا نحو لفظ (الصلاة) مثلا على القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعية في ألفاظ العبادات ، في عصر الشارع المقدّس ، واستعمل مجازا في الأركان مع القرينة الصارفة حتى وصل إلى حدّ النقل بسبب كثرة الاستعمال واستغنى عن القرينة.

ولأجل هذا يتبادر منه المعنى الثاني وهو الاركان ، لا الدعاء الذي هو معنى الأول للفظ الصلاة وهذا سمي ب (المنقول للغلبة) أي غلبة الاستعمال ، نظير لفظ (الأعشى) صار علما بالغلبة للشاعر المعروف الذي لا يرى في الليل شيئا ، بحيث إذا ذكر مطلقا في المحاورات والمخاطبات يتبادر منه إلى الأذهان هذا الشاعر المذكور لا مطلق الشخص الذي لا يرى في الليل شيئا أصلا ، كما هو المعنى اللغويّ الأوليّ له.

قوله : فافهم ...

اشارة إلى الفرق بين المجاز المشهور والمنقول بالغلبة ، وهو ان مزية الانس بين اللفظ والمعنى الثاني في المجاز المشهور لم تصل إلى حدّ الوضع والحقيقة ، ولهذا يقال ان هذا مجاز مشهور ، وان مزية الانس بينهما الحاصلة من كثرة استعمال

٥٣٨

اللفظ في المعنى المنقول إليه وصلت إلى حدّ الحقيقة والوضع ، ولهذا لا يحتاج استعمال اللفظ في المعنى المنقول إليه إلى قرينة صارفة.

فالانس المذكور في المجاز المشهور كامل العبارة ، ولهذا يتوقف فيه بحيث لا يحمل اللفظ على معناه الحقيقي من باب اصالة الحقيقة. والانس المذكور في المنقول بالغلبة أكمل العبارة ، ولهذا لا توقف فيه ، إذ يحمل اللفظ على المعنى الثاني الذي نقل إليه بلا توقف.

في جهات المطلق

قوله : تنبيه (١) ...

ولا يخفى ان حمل المطلق على الاطلاق مشروط بشرطين :

احدهما : عدمي أي لا يكون له الانصراف إلى بعض الأفراد أو إلى بعض الأصناف.

وثانيهما : إذا كان للمطلق جهات عديدة فيشترط في حمله على الاطلاق ان يكون واردا في مقام بيان تلك الجهة بخصوصها ، فلا يجوز الاعتماد على الاطلاق في الجهة التي لم يرد المطلق في بيانها نحو (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) إذ هو مطلق بالاضافة إلى أنواع البيع وأنواع الربا.

واما من جهة الفسخ وبعد الفسخ فهو مهمل ومجمل إذ لم يبيّن فيه سببية البيع للملكية وعدمها بعد الفسخ للعيب أو لغبن مثلا أو ينفسخ البيع قهرا لأجل العيب أو الغبن فيصح التمسك باطلاق احلّ بالاضافة إلى أنواع البيع من الحاضر والنسيئة

__________________

(١) وهو اما مرفوع خبر لمبتدا مقدّر أي هاهنا تنبيه واما منصوب مفعول به لفعل مقدر أي أذكر لك تنبيه. واما مسكّن ذكر للتنبيه نظير لفظ (الأسد) إذا ذكر في مقام التحذير فيقول المحذّر (بالكسر) للمحذّر (بالفتح) (أسد أسد) كي يحذّر المخاطب منه. وهو في اللغة بمعنى الايقاظ. وفي العرف بمعنى استحضار ما سبق وانتظار ما سيأتي.

٥٣٩

والسلف والسلم ، ولا يصح التمسك بالاطلاق بالاضافة إلى الفسخ كي نحكم بسببيته للملك بعد الفسخ ، كما نحكم بسببيته له قبل الفسخ.

فبالنتيجة : يصح التمسك بالاطلاق إذا كان في مقام البيان من جميع الجهات.

واما إذا كان المطلق في مقام البيان من جهة وفي مقام الاهمال والاجمال من جهة أخرى فيصح التمسك بالاطلاق من الجهة التي يكون في مقام بيانها ولا يصح التمسك به من الجهة التي لا يكون المطلق في مقام بيانها. مثلا : لا ريب في ان القيد الذي يحتمل اعتباره في موضوع الحكم تارة يكون واحدا. وأخرى يكون متعددا ، فموضوع الحكم في الأوّل يكون ذا جهة واحدة. وفي الثاني يكون ذا جهات متعددة بتعدد القيود.

وعلى هذا ، فإذا كان المتكلم في مقام البيان بالنظر إلى جميع القيود ولم تكن قرينة على أحدها كان الكلام مطلقا من جميع الجهات.

وإذا كان في مقام البيان بالنظر إلى بعض القيود دون بعض كان مطلقا بالنظر إلى ذلك البعض دون غيره ، فلا يكون الكلام مطلقا بالنظر إلى جميع القيود بمجرد كون المتكلم في مقام البيان بالنظر إلى بعض القيود.

فاذا دلّ الدليل على العفو عمّا لا تتمّ الصلاة به من المتنجس كالجورب وطاقية الرأس مثلا لا يستفاد منه جواز الصلاة فيه إذا كان مما لا يؤكل لحمه ، أو كان مغصوبا أو حريرا خالصا حيث ان هذا الدليل ليس إلّا في مقام بيان العفو عن النجاسة لا غير.

وكذا ما دلّ على العفو عمّا دون الدرهم البغلي من الدم لا يدلّ على جواز الصلاة فيه إذا كان الدم مما لا يؤكل لحمه إلّا إذا كان بينهما ملازمة عقلا أو شرعا أو عادة بأن كان ثبوت الحكم من الجهة المقصودة يقتضي ثبوته للجهة غير المقصودة ، فإن الكلام يكون حجّة بالإضافة إلى الجهتين معا لأن ما هو حجّة على أحد المتلازمين يكون حجّة على الملازم الآخر ، بحيث يكون البيان من إحدى الجهتين

٥٤٠