البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

جعله ، وإذا شاء أن لا يجعله مستمرّا لا يجعله. فالمتروك من هذه الحيثية ، أي ترك الزنا ، مقدور ، وان كان ترك الزنا ، من حيث هو ترك ازلي ، غير مقدور ، إذ هو سابق على قدرة المكلف ، بل هو سابق على المكلف نفسه ، ومن الواضح انه لا تأثير للقدرة في الأمر السابق لأن القدرة انما تتعلّق بالأمر الحالي ، ولا يعقل تعلقها بالأمر السابق المتصرّم زمانه ، فضلا عن الأمر الأزلي ، فلا داعي حينئذ ان يقال ان المطلوب بالنهي هو امر وجودي الذي هو كفّ النفس عن المنهي عنه ، إذ الترك ، أي ترك المنهي عنه ، من حيث الابقاء والاستمرار ، ومن حيث عدمهما ايضا ، مقدور للمكلف. فنسبة القدرة إلى وجود الزنا وإلى عدم الزنا نسبة واحدة ، بمعنى انه إذا كان احدهما مقدورا فلا بد أن يكون الآخر كذلك ، أي مقدورا. والقدرة على احدهما خاصّة دون الآخر اضطرار لا قدرة.

فبالنتيجة : فاذا اعترف الخصم بان وجود الزنا مقدور لزم أن يعترف بان العدم ، أي عدم الزنا ، مقدور ، فيصح كون العدم موردا للتكليف ، فيكون المطلوب بالنهي هو الترك ، لا الكف كما توهم.

٨١

الدوام والتكرار وعدمه

قوله : ثم انه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار ...

اشارة المصنف قدس‌سره إلى المورد الثاني من الخلاف بين الاعلام إذ قال بعض بدلالة صيغة النهي على الدوام والتكرار ، وقال الأكثر بعدم دلالتها عليهما ، ومنهم المصنّف قدس‌سره واستدل بأنه فكما لا تدل صيغة الأمر على المرّة ولا على التكرار ، لا بمادتها ولا بهيئتها ، فكذلك لا تدل صيغة النهي عليهما لا بمادتها ، ولا بهيئتها ، لأن الأول لطلب ايجاد الطبيعة ، والثاني لطلب تركها ، ولكن مقتضاهما عند العقل السليم مختلف ، وان كان متعلق الأمر والنهي متحدا ، مثل : (اشرب الماء يوم الأربعاء في السوق) ، ومثل : (لا تشرب الماء يوم الاثنين في المسجد) مثلا ، إذ يحصل طلب ايجاد الطبيعة بايجاد فرد منها ، لأن الطبيعة تتحقق بتحقق فرد ، كتحقق طبيعة الانسان بتحقق زيد بن ارقم مثلا ، ولكن طلب ترك الطبيعة يحصل في الخارج بترك جميع افرادها ومصاديقها ، مثلا إذا أمر المولى عبده بالنكاح الدائم فيحصل مطلوب المولى بايجاد العقد الواحد في الخارج ، وإذا نهاه عنه فلا يحصل مطلوبه إلا بترك جميع افراده ومصاديقه فيه فيمتثل أمر المولى بايجاد فرد واحد من الطبيعة المأمور بها ، ويمتثل نهيه بترك جميع افراد الطبيعة المنهي عنها ، وليس هذا المطلب من اجل دلالة الأمر على المرّة ، ومن اجل دلالة النهي على التكرار كما توهم ، بل المطلب المذكور ثابت بحكم العقل ، وهو يحكم بان طلب الطبيعة يحصل بايجاد فرد واحد منها ، وبأن طلب ترك الطبيعة لا يحصل إلا بترك جميع افرادها ومصاديقها في الخارج.

قوله : ومن ذلك ظهر ان الدوام والاستمرار ...

قد يكون متعلق النهي طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال نحو (لا تقتل

٨٢

مسلما) ، فانه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة في الخارج ، إلا بعدم جميع افرادها الدفعية ، أي عرضيا ، كقتله بالسكين وبالسيف و ... وإلّا بعدم جميع افرادها التدريجية ، أي طوليا ، كقتله في الساعة الثامنة من النهار او التاسعة منه و ... مثلا إذ لو لم يقتله بالسكين ولكن قتله بالخنجر لما كان ممتثلا لنهي المولى ، كما أنه لو لم يقتله في الساعة الثامنة أو التاسعة ، بل قتله في الساعة العاشرة ، لما كان ممتثلا أيضا ، ووجهه ظاهر لا يحتاج إلى تفصيل ، لأنه وجداني عقلي ، والعقل يحكم بهذا المطلب. ولا يكون بلحاظ مادة النهي مثل : نهى ينهى نهيا ، فالمراد بمادته ، مادة الاشتقاق كما ذكرت آنفا ، وليس بملاحظة صيغته مثل (لا تشرب الخمر) مثلا.

قوله : بالجملة ...

أي خلاصة الكلام : وهي ان مقتضي صيغة النهي ليس إلا ترك الطبيعة التي تكون متعلقة للنهي سواء كانت مطلقة غير مقيّدة بزمان أو حال مثل (لا تزن) و (لا تشرب الخمر) مثلا ، أم كانت مقيّدة باحدهما كما لو قال (لا تضرب زيدا يوم الجمعة) أو (عند قيام زيد) فالأول هو مثال التقييد بزمان ، والثاني هو مثال التقييد بحال ، اقتضى النهي استمرار الترك في ذلك الزمان أو في تلك الحالة والحال.

أما الاستمرار فيهما فلما تقدّم آنفا ، وأما سقوط النهي في غير ذاك الزمان وفي غير تلك الحال فلأنه مقتضي التوقيت ، فقضية ترك الطبيعة عقلا ، أي بحكم العقل ، انما هو ترك جميع افرادها ومصاديقها في جميع الازمان والحالات إذا كانت مطلقة غير مقيدة بزمان او حال. وترك جميع افرادها ومصاديقها في ذلك الزمان وفي تلك الحال إذا كانت مقيدة باحدهما ، ولا يقتضي الترك في غيرهما كما ذكر وجهه.

قوله : ثم انه لا دلالة للنهي ...

يعني إذا عصى المكلف وخالف النهي بفعل المنهي عنه في زمان ، فهل يجب عليه تركه في الأزمنة اللاحقة المتأخرة ، أم لا؟ قال المصنّف : لا دلالة للنهي على احد الأمرين بل لا بد من الرجوع في الدلالة على احدهما إلى دليل آخر ، سواء كان

٨٣

اطلاق المنهي عنه نحو (لا تشرب الخمر) مثلا ، أم كان دليلا آخر من الدليل الاجتهادي ومن الدليل اللبي كالاجماع.

فهذا يحتاج إلى التوضيح ، وهو ان الطبيعة المنهي عنها تلحظ على نحوين :

الأوّل : تلحظ الطبيعة تارة بنحو صرف الوجود ، بمعنى قلب العدم إلى الوجود وبمعنى نقض العدم ، واخرى تلحظ بنحو الطبيعة السارية إلى مصاديقها ، فان لوحظت على النحو الأول سقط النهي بالمخالفة ، لأن صرف الوجود لا يتعدّد انطباقه ، وإلّا يلزم انطباق شيء واحد من جميع الجهات في محلّين في آن واحد وهو محال عقلا ، فاذا انطبق على الفعل الذي هو مخالفة نهي المولى وعصيانه ، فقد امتنع انطباقه ثانيا على غير ذاك الفعل ، فلا معنى لبقاء النهي بعد امتناع تحقّق موضوع في ذلك الغير.

وان لوحظت على النحو الثاني كانت كل حصة من الطبيعة المنهي عنها داخلة تحت كراهة مستقلّة ومبغوضية منفردة في قبال الحصة الأخرى منها.

فبالنتيجة : اذا عصى المكلف بفعل المنهي عنه كان عصيانه في الحقيقة عصيانا للكراهة التي تتعلّق بذاك الفرد المأتي به ، فتسقط هذه الكراهة والمبغوضية.

أما الكراهة والمبغوضية فتتعلقان بسائر الحصص ، فهما يبقيان على حالهما في سائرها ، إذ هما مقتضيتان المنع والزجر عن بقية الحصص كما لا يخفى.

فيكون حال النهي مثل حال العام الافرادي في اقتضائه كل فرد فرد من نفسه مع قطع النظر عن غيره ، مثل (اكرم العلماء) لأنه يقتضي وجوب اكرام كل فرد فرد من افرادهم ، فلو عصى المكلف اكرام فرد فلا يسقط وجوب اكرام الفرد الآخر منهم ، فكذا الحال في النهي طابق النعل بالنعل ، يعني أنه لو عصى المكلّف بايجاد الحصة الأدنى من الطبيعة المنهي عنها لسقطت ، واما الكراهة التي تتعلّق ببقية الحصص فهي باقية على حالة الكراهة والمبغوضية في اقتضاء صيغة النهي ، المنع والزجر عنها ، كما لا يخفى.

٨٤

ولكن الطريق إلى معرفة انها ملحوظة على ، أي النحوين المذكورين يمكن أن يكون اطلاق الطبيعة المنهي عنها ، إذ مقتضاه كونها ملحوظة بنحو صرف الوجود ، فيكون النهي نظير الأمر ، إذ كما ان اطلاق قول المولى (اضرب زيدا) يقتضي البعث إلى صرف وجود المأمور به في الخارج ، ولا يقتضي التكرار كما سبق في بحث الأوامر. كذلك اطلاق قوله (لا تضرب زيدا) يقتضي الزجر عن صرف الوجود بعد الوجود إذ هو زجر عن الوجود بعد الوجود وليس عن العدم بعد الوجود ، وهذا محال.

نعم ، يكون الغالب في المفسدة ان تكون قائمة بكل حصة حصة ، وفي المصلحة ان تكون قائمة بصرف الوجود ، كما علم من المثالين المذكورين. فلأجل هذا نقول ان مقتضي الاطلاق هو الثاني ، واحتمال الأول يحتاج إلى مزيد بيان.

قوله : ولو كان اطلاق المتعلق من هذه الجهة ...

فنحتاج في الحكم بعموم حرمة المنهي عنه بعد العصيان بالفرد الأول وبالحصة الأولى من الحصص المنهي عنها إلى اطلاق الطبيعة المنهي عنها ، ولا يكفي في هذا الحكم العموم ، والاطلاق من الجهات الأخر مثل الاطلاق من حيث الزمان والمكان ومن حيث آلة الضرب كالعصا والسوط وغيرهما ، والسرّ في ذلك الأمر أن الملحوظ حال الطلب بترك الطبيعة المنهي عنها هو فناؤها في ترك كل فرد من افرادها فقط ، لا فناؤها في ترك كل فرد منها في كل آن من الآنات ، وفي كل زمان من الأزمنة ، وفي كل مكان من الأمكنة ، ولأجل هذا ينحلّ النهي من الناحية الاولى إلى نواه متعددة ، مثلا إذا قال المولى (لا تشرب الخمر) فهو ينحل إلى قوله : (لا تشرب هذا الخمر ولا تشرب ذاك الخمر ولا تشرب ذلك الخمر و ...) ولا ينحلّ إلى (لا تشرب الخمر يوم السبت ولا تشربه يوم الأحد و ...) ولا إلى (لا تشرب الخمر في السوق ولا تشربه في المنزل) مثلا.

قوله : فتدبّر جيّدا ...

وهو تدقيقي ، فان المقام لا يخلو عن الدقة.

٨٥

مسألة اجتماع الأمر والنهي

قوله : فصل اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه ...

اختلف الاصوليون في جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامتناعه على اقوال ثلاثة :

أولها : جوازه فيه عقلا وعرفا. وثانيهما امتناعه عقلا وعرفا ، وثالثها جوازه عقلا وامتناعه عرفا.

وقال المحقّق صاحب الكفاية قدس‌سره وقبل الخوض في المقصود نقدّم أمورا عشرة لزيادة البصيرة في المقصود المهمّ.

أوّلها : ان مراد الاصوليين بلفظ الواحد الذي أخذ في عنوان المسألة مطلق الواحد الذي يكون ذا عنوانين وذا وجهين ، يتعلق الأمر بأحد العنوانين ، والنهي يتعلق بالعنوان الآخر ، سواء كان جزئيا مثل صلاة زيد مثلا يوم الجمعة في الدار المغصوبة ، وهي تشتمل على الحركة الشخصية الصادرة عن زيد في الوقت الخاص مثل قيامه وقعوده حال الصلاة ، فينطبق عليها عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية ، فهي تكون مأمورا بها من اجل انطباق عنوان الصلاتية عليها ، ومنهيا عنها بلحاظ انطباق عنوان الغصبية عليها ، والحال انها لا تصدق على الكثيرين ، فهي جزئية ، وقد تكون كلية ، كالصلاة في المكان المغصوب مع قطع النظر عن صلاة زيد وعمرو وبكر ، فهي تشتمل على الحركة الكلية من باب اشتمال الملزوم الذي هو الصلاة على لازمه الذي هو الحركة التي هي القيام والقعود الكليين ، إذ تصدق الصلاة الكلية على صلاة زيد وعلى صلاة عمرو و ... فكذا الحركة تصدق على حركة زيد وعلى حركة عمرو و ... فيها.

ولكن ينطبق عليها عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية فهي مأمور بها بلحاظ العنوان الأول ، ومنهي عنها من اجل العنوان الثاني.

٨٦

إذا علم هذا فقد علم ان المراد من الواحد يكون اعم من الجزئي والكلي ، فقيد الواحد في عنوان المسألة لم يكن لاخراج الواحد الكلي مثل الواحد الصنفي كالرومي. ومثل الواحد النوعي كالانسان ، ومثل الواحد الجنسي كالحيوان ، إذ كلها داخلة في محل الخلاف ، بل يكون المراد من قيد الواحد اخراج المورد الذي يتعلّق الأمر والنهي بالشيئين اللّذين لا يجتمعان معا في الوجود الخارجي ولو كانا متحدين من حيث المفهوم مثل السجود لله تعالى ، وللصنم والوثن.

فالأوّل يكون مأمورا به ، والثاني منهيا عنه ، ولكن لا يجتمعان في الخارج اصلا لكمال المباينة بينهما ، ويدل على مباينتهما عدم صحة حمل احدهما على الآخر ، فلا يصح ان السجود لله تعالى هو السجود للصنم وكذا العكس ، ولكن يتحدان من حيث مفهوم السجود إذ مفهومه وضع الجبهة على الأرض بقصد التذلّل وهو يشملهما ، ففي هذا المورد يجوز اجتماعهما بالاتفاق ، فظهر ان المراد بلفظ الواحد عبارة عن الواحد الذي يكون مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا سواء كان جزئيا أم كان كليا كما ذكر سابقا.

فالمعيار في الواحد هو اتحاد المصداقيّ والمفهومي معا ، لا الاتحاد المفهومي فقط كما ذكر في السجود والحركة في الدار المغصوبة.

توضيح لا يخلو من فائدة : وهو ان الواحد يكون على اربعة اقسام وانواع :

الأول: الواحد الشخصي كزيد وعمرو ونحوهما.

الثاني : الواحد الصنفي كالانسان النجفي والرومي وما شابههما.

الثالث : الواحد النوعي كالانسان.

والرابع : الواحد الجنسي كالحيوان والجسم والجوهر ، إذا علم هذا فقد ظهر ان واحدا منها جزئي لا يصدق على كثيرين ، وان ثلاثة منها كلي يصدق على كثيرين.

٨٧

بيان امثلتها

مثال الأول : كما يقول الأب لابنه (جئني بزيد من حيث كونه نجفيا ، ولا تجيئني بزيد من حيث كونه بغداديا) ، والحال ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون على القول بالجواز ، ويمكن أن يكون زيد النجفي وزيد البغدادي شخصا واحدا ، والحال انه يجتمع فيه الأمر والنهي لتعدد العنوان ووحدة المعنون.

ومثال الثاني : نحو (اكرم روميا من حيث كونه حاضرا في الدرس ، ولا تكرم روميا من حيث كونه غائبا عن الدرس والبحث).

ومثال الثالث : نحو (اكرم انسانا من حيث كونه متدينا ، ولا تكرم انسانا من حيث كونه تاركا للصلاة) ،

ومثال الرابع : نحو (اذبح حيوانا من حيث كونه سمينا ، ولا تذبح حيوانا من حيث كونه نحيلا) ، فكل هذه الامور المذكورة داخلة في محل النزاع لوجود الملاك فيها ، كما لا يخفى.

وبالجملة : فان قلنا ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، فالقول بالجواز اظهر ، وان قلنا ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فالقول بالامتناع اقوى. فالنزاع في المسألة انما هو في الصغرى لا في الكبرى ، فالقائل بالجواز ذهب إلى الأول لتعدد المجمع حينئذ ، أي مجمع الأمر والنهي يكون متعددا ، والتركيب بين متعلق الأمر والنهي انضمامي ، والقائل بالامتناع ذهب إلى الثاني لاتحاد المجمع حينئذ ، والتركيب بينهما اتحادي.

وبعبارة اخرى : ان القائل بالامتناع يقول بسراية النهي كقول (لا تغصب) إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصلاة المأمور بها في الخارج فيتحد المجمع ، وان القائل بالجواز يقول بعدم سراية النهي اليه فحينئذ يتعدّد المجمع ، فهذا نقطة الخلاف فيها بين الاعلام والمحققين قدس‌سرهم.

٨٨

الفرق بين مسألة الاجتماع ومسألة النهي عن العبادات

قوله الثاني : الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادات ...

زعم الأكثر انه لا فرق بين هذه المسألة وبين مسألة النهي في العبادات ، لأن الأمر والنهي تعلّقا في شيء واحد ذي عنوانين ، فيهما مثال الاجتماع نحو (صلّ ولا تغصب).

بيان كيفية اجتماعهما فيه هو ان الأمر بالصلاة أمر باجزائها كالتكبيرة والقراءة والركوع ونحوها ومن جملتها الكون ، أي كون المصلي في مكان من الأمكنة فهو مما تعلّق به الأمر. وعن ان النهي عن الغصب انما هو نهي عن الكون إذ مفهوم لا تغصب يكون (لا تكن في الدار المغصوبة) فهو باعتبار الكون الصلاتي مأمور به ، كما انه بلحاظ الكون الغصبي منهي عنه.

ومثل النهي في العبادات ، نحو (لا تصلّ في الدار المغصوبة) ، فالنهي عنها فيها نهي عن جميع اجزائها فيها ، ومن جملتها الكون ، أي (لا تكبّر في الدار المغصوبة ولا تقرأ ولا تركع فيها ، ولا تكن فيها حال الصلاة). فقد ظهر تعلّق الأمر والنهي في الكون في الدار المغصوبة في المسألتين.

فلا فرق بينهما من هذه الناحية فلا وجه لجعلهما مسألتين بل هما مسألة واحد ، لكن تعرض المصنف قدس‌سره لبيان الفرق بينهما وقال بان امتياز مسألة عن المسألة الأخرى يكون باختلاف جهة البحث لا باختلاف الموضوع فيهما ، مثلا بحث الاصوليون إن صيغة الأمر حقيقة في الوجوب أم لا؟ وبحثوا أيضا انها إذا لم تكن حقيقة فيه أفتكون ظاهرة فيه أم لا؟ فهما مسألتان مع وحدة الموضوع ، وهو صيغة الأمر ، لاختلاف جهة البحث ، إذ في الاولى يكون البحث من جهة الحقيقة وعدمها. وفي الثانية يكون البحث من جهة الظهورية وعدمها ، فالمعيار في امتياز

٨٩

المسائل بعضها عن بعض هو اختلاف جهة البحث لا اختلاف الموضوع وتعدّده ، كي يقال ان الموضوع في مسألة الاجتماع ، وفي مسألة النهي عن العبادات واحد وهو الكون ، فقد تعلق الأمر والنهي به بلحاظ العنوانين فلا موجب لجعلهما مسألتين.

بيان نقطه الفرق بينهما : ان جهة البحث مختلفة فيهما لأن جهة البحث في مسألة الاجتماع ان تعدد العنوان في الفعل الخارجي مثل الحركة في الدار المغصوبة يوجب كون متعلق الأمر والنهي متعددين ، بحيث لا يجتمعان في محل واحد ، وبحيث ترتفع لأجل هذا التعدد غائلة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من وجه واحد وعنوان فارد ، فكما يجوز توجه الأمر إلى موضوع وتوجه النهي إلى موضوع آخر ، فكذلك يجوز توجه الأمر والنهي إلى واحد ذي عنوانين ، لأنا فرضنا ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، فيكون حال العنوانين مثل حال الموضوعين ، أو ان تعدد العنوان في الفعل الخارجي ، كالحركة في الدار المغصوبة ، لا يوجب تعدد المعنون ، ولا ترتفع بذاك التعدد غائلة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وفي محل فارد ، فيكون حال الواحد ذي عنوانين مثل حال الواحد ذي عنوان واحد ، فكما لا يجوز الأمر والنهي عنه كالأمر باكرام زيد من حيث كونه عالما والنهي عن اكرامه من حيث كونه عالما ، فكذا لا يجوز الأمر والنهي عن الحركة في الدار المغصوبة وان انطبق عليها عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية.

ففي الحقيقة : النزاع في تلك المسألة كبروي ، فان البحث فيها انما هو عن ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة ، بعد الفراغ عن ثبوت الصغرى التي هي عبارة عن تعلق النهي بالعبادة ، واما في مسألة الاجتماع هذه فالنزاع صغروي لأن البحث فيها في سراية النهي عن متعلقه إلى متعلق الأمر ، وفي عدم سرايته منه اليه ، فالمانعون يقولون بالأول ، والمجوّزون بالثاني ، فالفرق بينهما في غاية الوضوح ، كما لا يخفى ، لأنه اوضح من ان يخفى. قيل في المقام بفروق أخر لا طائل تحتها لفسادها ، ومن أراد ان يطّلع عليها فعليه بالمطوّلات.

٩٠

قوله : نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي ...

فاذا قلنا ان اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي عنوانين ممتنع جدا مع ترجيح جانب النهي على جانب الأمر في مسألة الاجتماع فتكون هذه المسألة متعرضة لتنقيح صغرى المسألة الآتية ، لأن الامتناع مبتن على سراية كل من الامر والنهي إلى متعلق الآخر ، فيكون متعلق كل منهما موضوعا للأمر والنهي معا.

والحال : انه ممتنع لاستحالة اجتماع الضدين : الوجوب والحرمة في شيء واحد ، نحو (الصلاة في الدار المغصوبة) ، فاذا رجّحنا جانب النهي فقد سقط الأمر عن الفعلية.

فبالنتيجة : يكون موضوع الأمر موضوعا للنهي ، فالصلاة في الدار المغصوبة تكون منهيا عنها ، ولا تكون مأمور بها أصلا ، فاذا كان الأمر كذلك فقد تعلق النهي بها قطعا ، فتصير هذه المسألة من صغريات مسألة النهي في العبادات. إذا علم ما ذكرنا فقد ظهر لك الفرق بين المسألتين وهو في غاية الوضوح.

بيان الفرق على قول صاحب الفصول

قوله : وامّا ما افاده في الفصول من الفرق ...

لمّا فرغ المصنف من بيان الفرق الذي اختاره بينهما ، شرع في بيان الفرق الذي اختاره صاحب الفصول قدس‌سره بينهما.

بيان الفرق الفصولي :

ان النزاع في هذه المسألة فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة والذات سواء كان بينهما عموم من وجه ، كالصلاة والغصب ، (مادّة اجتماعهما في الصلاة في المكان المغصوب ، ومادة الافتراق من جانبها في الصلاة في المكان المباح كالمسجد مثلا ، ومادة الافتراق من جانب الغصب في تصرف مال الغير عدوانا) ، أم كان بينهما عموم مطلقا كالأمر بالحركة والنهي عن القرب في مكان

٩١

مخصوص ، فعنوان الحركة وعنوان القرب متغايران بالذات ، ولكن النسبة بينهما ، بحسب الخارج ، عموم مطلق (مادة اجتماعهما في القرب في المكان المخصوص ، لأن القرب اليه يستلزم الحركة اليه ، ومادة الافتراق من جانب الأعم وهو الحركة المطلقة في الحركة في غير القرب إلى المكان المخصوص الذي نهى عنه).

فالمعيار بتغاير متعلق الأمر والنهي ، وليس المعيار كون النسبة بينهما عموما من وجه ، كما قال به المحقّق صاحب القوانين قدس‌سره ، وان النزاع في المسألة الآتية فيما إذا كان متعلق الأمر والنهي متحدين بالذات والحقيقة ، ومختلفين بمجرد الاطلاق والتقييد بان تعلق الأمر بالطبيعة المطلقة كالصلاة مثلا ، والنهي بحصة خاصة منها كالصلاة في الدار المغصوبة ، كما قال : (صلّ ولا تصلّ في الدار المغصوبة).

توضيح : لا يخفى ان أحكام الاسلام ثلاثة :

الأول : العبادات بالمعنى الأعم الذي يشمل العباديات التي يشترط فيها قصد القربة كالطهارات الثلاث والصلاة والصيام ونحوها. والتوصليات التي لا يشترط فيها قصد القربة كالمحرّمات وسائر التوصليات في الشريعة البيضاء.

والثاني : المعاملات بالمعنى الأعم الذي يشمل مطلق الأفعال التي لا يشترط فيها قصد القربة كالبيع والشراء والزواج و ...

والثالث : السياسات كالحدود والقصاص والديات والتعزيرات التي لا يشترط فيها قصد القربة ايضا.

اما في العبادات فيكون الأمر المولوي والنهي المولوي موجودين من قبل المولى فيها ، ولأجل هذا يستحق فاعلها ثوابا في العقبى ومدحا في الدنيا ، ويوجب فعلها قربا بالمولى ، وتركها بعدا عنه وعقابا.

وأما في المعاملات فلا يكون الأمر المولوي والنهي المولوي موجودين فيها ، فلهذا لا يستحق فاعلها ثوابا وتاركها عقابا.

نعم ، يكون الأمر الارشادي والنهي الارشادي موجودين فيها مع قطع النظر

٩٢

عن الأدلة التي تدل على حرمتها ، كالنهي عن البيع الربوي مثلا ، إذ يكون النهي فيه مولويا كالأمر بترك البيع في وقت النداء وكالنهي عن بيع الأكفان مثلا.

وفي ضوء هذا فلا تشتبه مسألة النهي في المعاملات مع مسألة اجتماع الأمر والنهي ، كي يحتاج إلى بيان الفرق بين المسألتين في المعاملات ، وهذا معنى قول صاحب الفصول وهو : (اما في المعاملات فظاهره ، ما نقله المصنف في هذا الموضع ، فانقدح ان محل البحث يكون في الأمر المولوي والنهي المولوي لا الارشادي منهما). انتهى موضع الحاجة من كلام صاحب الفصول.

فساد قول صاحب الفصول

قوله : ففاسد فان مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها لا يجزي ...

ردّ المصنف قول الفصول بأن المناط في تمايز المسائل هو اختلاف جهة البحث فيها ، لا تعدد الموضوع فيها ، فاذا اختلفت جهة البحث في المسألتين ، سواء كان موضوعهما متحدا أم كان متعددا ، فينبغي ان تجعل المسألتين في هذا الفرض ، وان كان موضوعهما متحدا. كما ينبغي أن تجعلا مسألة واحدة في صورة عدم اختلاف جهة البحث فيهما ، وان كان الموضوع متعددا فيهما. فتعدد جهة البحث يوجب تعدد المسائل وان كان موضوعها واحدا كما مرّ هذا في بحث الأوامر ، كما ان وحدة جهة البحث توجب وحدة المسائل وان كان موضوعها متعددا كما لا يخفى. مثلا : إذا قلنا : (ان الخمر حرام) و (ان الخمر نجس) فهما مسألتان مع وحدة الموضوع ، وهو الخمر فيهما لاختلاف جهة البحث. وإذا قلنا ان (زيدا معرب) و (ان عمروا معرب) فهي مسألة واحدة مع تعدد الموضوع ، وهو (زيد) و (عمرو) فيها ، لاختلاف جهة البحث في الأول ، ولعدم اختلاف جهة البحث في الثاني ، وكذا مسائل جميع العلوم.

٩٣

قوله : ومن هنا انقدح ايضا فساد الفرق ...

هذا اشارة إلى الفرق الذي ذكره بعض الاصوليين بين المسألتين ، وإلى فساده.

بيان الفرق : ان النزاع في مسألة الاجتماع يكون في جواز اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذي العنوانين عقلا وعدم جوازه عقلا ، أي أيجوّز العقل اجتماعهما فيه أم لا يجوّزه فيه؟ وان النزاع في المسألة الآتية في دلالة النهي على فساد المنهي عنه وعدم الدلالة عليه ، أي أيدل النهي على الفساد أم لا يدل عليه؟ فمسألة الاجتماع عقلية والمسألة الآتية لفظية.

أما بيان فساد هذا الفرق فبوجهين :

الأول : انه ما دام لم يكن تعدد جهة البحث موجودا في البين لم يوجب اختلاف دلالة العقل ودلالة اللفظ تعدد المسألة وجعلها مسألتين ، بل يوجب هذا الاختلاف : أن نقول في هذه المسألة ، أي مسألة الاجتماع ، بالتفصيل وهو جواز اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذي العنوانين ، كالصلاة في الدار المغصوبة بالدقة العقلية ، لأن العقل يرى ذاك الواحد اثنين ، وهما عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية ، فلا يلزم اجتماعهما في محل واحد وموضوع فارد ، وعن دلالة النهي على الحرمة والفساد. فالصلاة في الدار المغصوبة لا تكون مأمورا بها لأنها فاسدة ومحرّمة لدلالة النهي عليها على الفرض ، وكلّ محرّمة لا تكون مأمورا بها ، فهذه لا تكون مأمورا بها ، فبالدقة العقلية يجوز الاجتماع وبالمسامحة العرفية وبالدلالة اللفظية لا يجوز الاجتماع.

الثاني : ان النزاع في مسألة النهي في العبادات لا يختص بدلالة لفظ النهي على الحرمة والفساد ، إذ مطلق الحرمة ، سواء استفيد من الدليل اللفظي الاجتهادي كصيغة النهي المولوي أم استفيد من الدليل اللبّي كالاجماع أو من الضرورة ، ينافي عبادية الشيء ، وينافي كونه مأمورا به ، كما سيأتي هذا ان شاء الله تعالى.

٩٤

في كون المسألة اصولية

قوله : الثالث : انه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق ...

ولا يخفى ان مسألة الاجتماع تكون مسألة من المسائل الاصولية ، فزعم بعض انها مسألة من المسائل الكلامية ، وتوهم الآخر انها من مبادئ الأحكام ، أي من المبادئ الاحكامية ، وتوهم الثالث انها من المبادئ التصديقية ، وقال الرابع انها من المسائل الفقهية.

واستدلّ المصنف على مختاره (وهو كونها من المسائل الاصولية) بان نتيجة هذه المسألة تقع في طريق استنباط الحكم الفرعي.

بيان ذلك : انه إذا قلنا بجواز الاجتماع عقلا فتستنبط صحة الصلاة في الدار المغصوبة ويستنبط عدم وجوب اعادتها ثانيا ، وإذا قلنا بالامتناع فيستنبط منه فساد الصلاة في الدار المغصوبة ووجوب اعادتها ثانيا. فنتيجة هذه المسألة توصلنا إلى الحكم الفرعي كما ذكر ، فاذا كانت كذلك فلا وجه لجعلها من المسائل الكلامية ، أو من المبادئ الاحكامية ، أو من المبادئ التصديقية ، أو من المسائل الفقهية ، ونلتزم بذكرها في الاصول استطرادا ، بل هي من اهم مسائل علم الاصول كما مرّ في اول الكتاب.

واحتجّ من قال بانها من المسائل الكلامية بأن البحث فيها يكون عن استحالة اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد وامكانه عقلا.

ومن الظاهر ان البحث عن الاستحالة والامكان يناسب المسائل الكلامية دون المسائل الاصولية ، لأن الاصولي يبحث عن الأشياء التي يترتب عليها اثر شرعي مثل البحث عن كون صيغة (افعل) حقيقة في الوجوب وعن كون صيغة (لا تفعل) حقيقة في الحرمة ، ولكن يترتب على الأول وجوب الصلاة المأمور بها ، وعلى الثاني حرمة شرب الخمر المنهي عنه ، وهكذا سائر الموارد ، ولا يكون

٩٥

المناسب للاصولي ان يبحث عن امكان الأشياء واستحالتها.

وأما الجواب عنه : فهو ان القانون في كون المسألة كلامية هو ان يكون البحث فيها عن احوال المبدإ والمعاد وعن الاستحالة والامكان ، ومسألتنا وان كانت عقلية ولا صلة لها بعالم اللفظ ، إلا ان البحث فيها انما يكون في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به ، وعدم السراية. ولا يكون البحث فيها اصلا من احوال المبدإ والمعاد ، فلا ربط لها على كلا القولين بالعقائد الدينية والمباحث الكلامية.

واستدلّ من قال : انها من المسائل الفقهية بأن البحث فيها عن عوارض فعل المكلف ، وهي صحة العبادة والصلاة في المكان الغصوب وفسادها فيه ، فينطبق ضابط المسائل الفقهية عليها ، لأنا نبحث في علم الفقه الشريف عن عوارض افعال المكلف وعن احوالها.

وفيه : ان البحث فيها ابتداء انما يكون في سراية النهي من متعلقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته.

ومن الواضح ان البحث من هذه الناحية لا يرتبط بعوارض افعال المكلف ، بل الصحة ، أي صحة الصلاة في المكان المغصوب ، تترتب على القول بعدم السراية ، كما ان فسادها يترتب على القول بالسراية ، فملاك كونها مسألة اصولية موجود فيها ، فلا وجه لجعلها من المسائل الفقهية ، ونلتزم بذكرها استطرادا.

واحتجّ ، من قال انها من المبادئ الاحكامية ، والمراد بها ما يكون البحث فيه عن حال الحكم ، كالبحث عن انّ وجوب شيء أيستلزم وجوب مقدّمته أو حرمة ضده أم لا؟ بأن البحث في مسألتنا بحث عن حال الاحكام من حيث امكان اجتماع اثنين منها في شيء واحد ، ومن حيث عدم امكانه ، وعليه فتكون المسألة هذه من المبادئ الاحكامية.

وفيه : ان المبادئ لا تخلو من ان تكون مبادئ تصورية ، أو مبادئ تصديقية

٩٦

فلا ثالث لهما.

فالأولى : هي تصور نفس الموضوع والمحمول بذاتهما وحقيقتهما وبذاتياتهما كتصور جنسهما وفصلهما ، والثانية : هي الصغرى والكبرى المؤلّف منهما القياس الذي ينتج للعلم بالنتيجة.

وعليه : تكون المسائل الاصولية مبادئ تصديقية للمسائل الفقهية باعتبار أنها واسطة العلم بثبوت الأكبر للاصغر ، وبلحاظ انها تقع في كبرى القياس الذي يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار تكون المسائل الاصولية مبادئ تصديقية لعلم الفقه لوقوعها في كبرى القياسات التي تستنبط منها المسائل الفقهية ، ولا نعقل المبادئ الاحكامية في مقابل المبادئ التصورية والتصديقية ، وهذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

واستدلّ من قال : ان هذه المسألة من المبادئ التصديقية ، بأن هذه المسألة ، على كلا القولين ، لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الشرعي بلا واسطة ضمّ كبرى اصولية ، والحال ان الضابط في كون المسألة اصولية هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة.

توضيح ضم كبرى اصولية إلى هذه المسألة : ان فساد الصلاة في الدار المغصوبة ، على القول بالامتناع ، لا يترتب على هذا القول فقط ، بل لا بد من ضم كبرى اصولية إلى هذا القول التي هي عبارة عن قواعد كبرى مسألة التعارض ، فان هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى مسألة التعارض ، وتكون مسألة الاجتماع من احدى صغريات مسألة التعارض.

وفي ضوء هذا : ففساد الصلاة انما يترتب بعد اعمال قواعد التعارض وهي الرجوع إلى المرجحات الدلالية ثم السندية حتى يتشخص الكاذب من الصادق في هذه المسألة لا مطلقا ، وهذا شأن كون المسألة من المبادئ التصديقية دون المسائل الاصولية ، كما ان هذه المسألة على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم ،

٩٧

فصحة الصلاة في الدار المغصوبة انما يترتب بعد اعمال قواعد التزاحم وبعد تطبيقها في تلك المسألة.

أما بيان الفرق بين التعارض والتزاحم وبيان قواعدهما فسيأتي في بحث التعادل والتراجيح ان شاء الله.

وفيه : انّه مرّ غير مرّة من انه يكفي في كون المسألة اصولية وقوعها في طريق الاستنباط وتعيين الوظيفة باحد طرفيها وان كانت لا تقع فيه بطرفها الآخر ، وإلا لخرج كثير من المسائل عن كونه مسألة اصولية مثل مسألة حجية خبر الواحد ، فانها لا تقع في طريق الاستنباط على القول بعدم حجّيته ، وكذا حجّية ظاهر الكتاب على القول بعدم حجّيته مع انه لا شبهة في كونهما من المسائل الاصولية ، فمتى أمكن كون المسألة اصولية لا يلتفت الاصولي إلى الجهات الأخر فيها ، كمسألتنا ، لأنه يصح أن تجعل كلامية وفقهية لوجود الجهة الخاصة فيها ، أي بسبب وجود الاستحالة والامكان في هذه المسألة تكون الجهة الكلامية ومحمول مسائل علم الكلام موجودين فيها.

وعليه : فيمكن أن تكون من المسائل الكلامية ، ولوجود الصحة والفساد فيها يكون محمول علم الفقه موجودا في مسألتنا هذه فتكون من المسائل الفقهية.

ولكن قد عرفت في اول كتاب كفاية الاصول انه تكون في المسألة الواحدة جهات من البحث بحيث تدخل بلحاظها في مسائل علم ، ولأجل هذا نقول سابقا بتداخل بعض المسائل في العلمين ، كمسألة التجري إذ هي مسألة كلامية من جهة قبح عقاب المتجري وحسن عقابه.

تفصيل هذا : إذا قلنا في التجري بالقبح الفعلي فيقبح عقابة ، وإذا قلنا فيه بالقبح الفاعلي فيحسن عقابه ، فمحمول المسألة إذا كان عنوان الحسن والقبح ، فهي مسألة كلامية ، وهي مسألة فقهية من جهة ان فعل المتجري حرام أم لا ، فمحمول المسألة إذا كان عنوان الحرمة وعدمها ، فهذه المسألة فقهية ، كما لا يخفى.

٩٨

توضيح لا يخلو من فائدة : هو ان كل مسألة من مسائل العلوم مركبة من موضوع ومحمول ، مثلا إذا كان عنوان الرفع والنصب والجر والاعراب والبناء محمولا كما نقول : (زيد مرفوع ، وعمروا منصوب ، وبكر مجرور ، وحسن معرب ، والمراد هو العلمي منه ، وهذا مبني) ، فهذه من مسائل علم النحو. وإذا كان المحمول عنوان الثلاثية والرباعية والماضوية والمضارعية والمعلومية والمجهولية كما تقول :

(ضرب فعل ثلاثي ماض ، يضرب فعل ثلاثي معلوم مضارع ، يضرب فعل مضارع ثلاثي مجهول ، دحرج فعل ماضي رباعي معلوم) ، فهذه من مسائل علم الصرف.

والفرق بين مسائل علم النحو والصرف ان المحمول يعرض على الموضوع بعد تمام الكلمة في الأول ، ويعرض عليه قبل تمام الكلمة في الثاني ، أي في علم الصرف.

وإذا كان عنوان الظاهر والحقيقة والمجاز والحجة وعنوان التعارض والتزاحم ، كما يقال ان صيغة الأمر حقيقة في الوجوب ومجاز في الندب ، وان صيغة النهي حقيقة في الحرمة ، ومجاز في الكراهة ، وان الجمع المعرّف باللام ظاهر في العموم مثل (اكرم العلماء) وان العام بعد التخصيص وخبر الواحد حجة فهما متعارضان او متزاحمان ، أي اجتماع الأمر والنهي ، على القول بالامتناع متعارضان ، وعلى القول بالجواز متزاحمان ، حجة فيما بقي تحت العام ، فهذه من مسائل علم الاصول.

وإذا كان المحمول على القول عنوان الصحة والفساد وعنوان الوجوب والحرمة والكراهة والاستحباب ، مثل أن يقال هذه الصلاة صحيحة ، وهذه فاسدة ، والصلاة واجبة ، وقتل المسلم بغير حق حرام ، والصلاة في المسجد مستحبة ، والصلاة في الحمام مكروهة ، فهذه من مسائل الفقه.

وإذا كان عنوان الحسن والقبح والامكان والاستحالة كما تقول العدل حسن والظلم قبح ، والدور محال ، والتسلسل مستحيل ، والسؤال في القبر ممكن عقلا ، فهذه من مسائل علم الكلام.

من هذا كلّه : ظهر المطلب في التجرّي ، وهو ان المراد من جهة خاصة في

٩٩

كلام المصنف هو محمولات المسائل ، وان المراد من جهتين عامتين في كلامه قدس‌سره عبارة عن غرضين علميين ينطبقان على المحمولات ، مثلا ان الغرض من علم الفقه معرفة عوارض افعال المكلفين من حيث الصحة ومن حيث الاقتضاء والتخيير ، وهذا الغرض ينطبق على مسائله ، وكذا سائر العلوم والفنون كما لا يخفى. فتذكّر حتى لا تقع في الاشتباه بين المسألتين ، أي مسألة الاجتماع ومسألة النهي عن العبادات ، وحتى لا تظن انهما مسألة واحدة كما وقع فيه بعض الأعلام ، وهو صاحب الفصول قدس‌سره.

في كون المسألة عقلية

قوله الرابع : قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه ان المسألة عقلية ...

قد ظهر عما سبق من ان النزاع في سراية النهي إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدمها ، فان قلنا بالأول فالعقل يحكم باستحالة اجتماع الأمر والنهى في شيء واحد لاتحاد المجمع في مورد التصادق والاجتماع كالصلاة في المكان المغصوب.

وان قلنا بالثاني فالعقل يحكم بامكان اجتماعهما فيه لتعدّد المجمع في مورد التصادق والاجتماع ، ومن الواضح ان الحاكم باستحالة الاجتماع او بامكانه هو العقل ، فالمسألة عقلية ولا ترتبط بعالم اللفظ اصلا ، كما انها مسألة اصولية ، قال بعض انها مسألة لفظية ترتبط بعالم اللفظ ، واستدلّ بوجهين :

الأول : تعبير الاصوليين في هذا المقام بلفظ الأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول ، فهما يدلان على الوجوب والحرمة ، فالأول مدلول لفظ صيغة الأمر ، والثاني مدلول لفظ صيغة النهي ، فهي بهذا الاعتبار لفظية ، فمحور البحث في جواز اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد ذي عنوانين ، وامتناع اجتماعهما فيه ، فالوجوب والحرمة مدلولان للفظ الأمر والنهي.

والثاني : تفصيل بعض الأعلام في هذه المسألة بين العقل والعرف وقال

١٠٠