البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

الاكثر ، واما بالاضافة إلى الطرف الاقل فهو ساكت عنه ، نحو (تصدق بخمسة دراهم) لا تدل الا على وجوب التصدق بها ، واما بالاضافة إلى الاقل منها فهي ساكتة نفيا واثباتا ، يعني لا تدل على نفي وجوب التصدق عن الاقل ولا على اثباته.

واما عدم الاجزاء بالاقل فهو من ناحية ان المأمور به في هذه القضية لا ينطبق على الاقل كالاربعة مثلا ، واما بالاضافة إلى الزائد على الخمسة فان قامت قرينة على ان المولى في مقام التحديد ولحاظ العدد بشرط ، بالاضافة اليه فتدل القضية على نفي الوجوب عن الزائد ، فالتصدق بستة غير واجب بل هو مضرّ نظير الزيادة في الصلاة ، أو ناظرا إلى الطرفين نحو قول الطبيب لمريض (اشرب من هذا المعجون خمس قطرات) كما تقدم هذا. فالتحديد بالعدد يكون على انحاء ثلاثة ، كما علم سابقا.

وفي ضوء هذا ظهر حال العدد ، إذ حاله كحال اللقب من هذه الناحية ، إذ عدم الاجتزاء بغير العدد المذكور انما يكون بسبب عدم انطباق المأمور به على المأتي به وليس من جهة مفهوم العدد كما لا يخفى ، نظير ما إذا قال المولى (صلّ إلى القبلة) فصلى إلى جهة اخرى هذا تمام الكلام في اللقب والعدد ، والله سبحانه هو الموفق.

٣٨١

العام والخاص

قوله : فصل قد عرف العام بتعاريف ...

منها : العام هو اللفظ الشامل بمفهومه لجميع ما يصلح انطباق عنوان العام عليه في ثبوت الحكم له ، مثلا إذا قال المولى (اكرم العلماء) فلفظ العلماء يشمل بمفهومه وهو ذات ثبت له العلم لجميع الافراد التي تصلح لانطباق عنوان العالم عليها في ثبوت وجوب الاكرام لهذه الافراد.

ومنها ان العام هو اللفظ الموضوع لاستغراق اجزاء معناه ، أو لاستغراق جزئيات معناه ، فالاول نحو (قرأت الكتاب كله لا نصفه ولا ثلثه). والثاني نحو (جاءني القوم كلهم) أي جاءني جميع افراده.

ومنها ان العام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له ، لكن قد وقع من الاعلام قدس‌سرهما في التعاريف المذكورة النقض بعدم الاطراد ، وبعدم مانعية الاغيار تارة ، وبعدم الانعكاس ، وبعدم جامعية الافراد اخرى.

اما الاول فلدخول لفظ العشرة مثلا في تعريف العام ، لانه وضع لمفهوم يصلح لاستغراق جميع جزئيات مفهومها نحو (اكرم عشرة رجال) ولاجل هذا الانطباق تخيّر المكلف بين اكرام هذه العشرة وتلك العشرة. وكذا سائر اسماء العدد كالمائة والالف وما شابههما.

ولدخول المثنى والجمع نحو (اطعم مؤمنين) أو (اطعم مؤمنين) لان لفظ المثنى والجمع وضعا لمفهوم يصح انطباقه على جميع ما يصلح له ، أي هذا من المؤمنين ، و ... مثلا ، وفي التثنية ، أي هؤلاء من المؤمنين مثلا ، وأولاء من المؤمنين و ... ، وفي الجمع ولدخول المشترك فيه كلفظ العين لانه يشمل جميع ما يصلح له أي يشمل جميع افراد احد معانيه.

٣٨٢

واما الثاني فلخروج جمع المعرف باللام نحو : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) لانه لا يشمل جميع ما يصلح له ، إذ لفظ الرجال جمع والجمع لا يصلح للمفرد فلا يشمل رجلا رجلا بل يشمل رجالا رجالا.

اما بيان صلاحيته لرجل رجل فلان الجمع لا يتحقق بدون المفرد بل يتشكل منه فلا يكون داخلا في التعريف. فأجيب عن الاشكال :

اوّلا : بان صيغ العموم وضعت للدلالة على سراية الحكم إلى جميع ما ينطبق عليه مدخولها ومتعلقها ، منها هيئة الجمع المحلّى باللام التي ترد على المادة ، نحو (اكرم العلماء) فانها موضوعة للدلالة على سراية الحكم ، وهو وجوب الاكرام إلى جميع افراد مدخولها وهو العالم ، وكذا الحال في كلمة (كل). وعليه فتخرج الامور المذكورة عن التعريف إذ لا سراية للحكم فيها ، مثلا إذا قال المولى (اكرم عشرة رجال) فلا تدل على سريان الحكم إلى كل من ينطبق عليه مدخول العشرة وهو الرجل ، بل المكلف مخير في تطبيق عشرة رجال على أيّ صنف منهم من العلماء أو الفقراء أو السادات. وكذا إذا قال (اضف مؤمنين) فيحصل الامتثال بضيافة اثنين أو الثلاثة من المؤمنين. وكذا مثل (جئني بعين) لانه يحصل الامتثال بمجيء فرد من الذهب أو الفضة مثلا ، ولا يجب ضيافة كل من صدق عليه عنوان المؤمن والايمان ، كما لا يجب مجيء كل ما صدق عليه عين ويكون من مصاديق العين من افراد الذهب والفضة وغيرهما.

وثانيا : لا يرد الطرد ولا العكس في المقام ، لان التعاريف كلها لفظية تقع في جواب السؤال عن العام بما الشارحة ، ولا تقع التعاريف اللفظية في جواب السؤال ب (ما) الحقيقة ، بل يقع تمام ماهية المسئول عنه في جواب السؤال بما الحقيقية ، فالاول نحو (ما السعدانة) فيجاب بانها نبت ، والثاني نحو (الانسان ما هو) فيجاب بانه حيوان ناطق.

ولا باس بالاشارة إلى الفرق بين التعريف اللفظى والتعريف الحقيقي. ولا بد

٣٨٣

في المقام من تمهيد مقدمة وهي :

انا إذا سمعنا لفظ (السعدانة) مثلا نسأل بمقتضى الطبيعة الانسانية أوّلا ب (ما) الشارحة فيجاب هي نبت ثم يستعلم ب (هل) البسيطة عن وجوده ، فيقال هل هي موجودة فيجاب بالاثبات ، ثم يستكشف ب (ما) الحقيقية عن تمام ماهية الشيء. فاذن لا بد ان يقع الحد التام في الجواب. فيجاب : هي نبت مسهل للصفراء.

ثم يسأل ب (هل) المركبة عن أوصاف الشيء وعناوينه فيقال : (هل هي حارة مرّة) مثلا ، فاذا تمهد هذا. فيقال لا يعتبر في اللفظية منها ان لا تكون اخفى ولا أعم ، ولا يعتبر فيها الاطلاع على كنه المعرف بأنه نبت ، أي ليست بكتاب ولا أرض مثلا.

بخلاف الحقيقي منها فانه يعتبر فيه ان يكون أجلى من المعرف ومساويا له في الصدق ، ويعتبر فيه الاطلاع على حقيقة المعرف بتمامها ان كان حدا تاما وهو مركب من الجنس القريب والفصل القريب ، كتعريف الانسان بالحيوان الناطق ، أو امتيازه عما عداه ان كان حدا ناقصا كتعريف الانسان بالناطق وحده ، أو رسما تاما كتعريفه بالحيوان الضاحك ، أو رسما ناقصا كتعريفه بالضاحك وحده ، ويعتبر فيه الطرد والانعكاس.

ثم بقي في المقام وجه تسمية عدم مانعية الأغيار بعدم الاطراد ، وهو يشترط في الحد ان يكون مساويا للمحدود في الصدق ، بحيث كلما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد. اما إذا لم يكن مساويا له فيه فلا يطرده ، لأن الحد يصدق على شيء ولا يصدق المحدود عليه ، كتعريف الانسان بانه (جسم قابل للابعاد الثلاثة) لصدق الحد على الاشجار والجماد.

واما وجه تسمية عدم جامعية الافراد بعدم الانعكاس فلأن عكس قضية (كلما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد) قضية (كلما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود) فلو لم يصدق الحد على ما صدق عليه المحدود لما كان الحد جامعا لافراد المعرف ، ولما انعكس الحد.

٣٨٤

وثانيا : اجاب المصنّف عن عدم الاطراد وعن عدم الانعكاس بان هذه التعاريف لفظية لا يشترط فيها الاطراد ولا الانعكاس فلا موقع لهذا الاشكال كما لا يخفى.

واستدل المصنّف رضى الله عنه على كونها لفظية بوجهين :

الأول : ان المعنى المذكور في أذهان اهل اللسان من لفظ العام ، وهو الشمول لغة وعرفا ، أوضح مما عرّف به من التعاريف المذكورة مضمونا ومصداقا ، فلو كان حقيقيا للزم ان يكون اجلى من المعرّف والأمر هنا بالعكس كما علم.

الثاني : الاحاطة بحقيقة الأشياء مختص بعلّام الغيوب جلّ ذكره ، وكذا الاطلاع بخواصها بحيث تمتاز عما عداها مختص به ايضا ، فلا يمكن للبشر تعريف الاشياء لا بحدها ولا برسمها.

قال المصنّف قدس‌سره لأجل كون معنى لفظ العام اوضح من التعاريف بجعل صدق ذلك المعنى على الشيء وعدم صدقه على شيء آخر مقياسا في اشكال عدم الطرد وعدم الانعكاس.

فان قيل : إذا كان مدلول العام واضحا بحسب ارتكاز الاذهان فلا يحتاج إلى التعريف اصلا فلم تعرض الاصوليون تعريفه؟

قلنا : الظاهر ان افراد العام ليست محتاجة إلى التميز كي يقصد من تعريف العام تميزها ، فيكون تعريفه رسما ، ولا حقيقة الافراد من حيث هي موضوعة للحكم كي يقصد من تعريف العام بيانها ويكون تعريفه حدا. وانما المقصود من تعريفه بيان مفهوم يشار به إلى الافراد التي هي موضوع الأحكام في مثل قولهم (إذا خصص العام فهل يكون حجة في الباقي أم لا؟) أو (ان العام المخصص بالمخصص المجمل هل يصير مجملا أم لا؟) و ...

ويكفي في هذا المقدار تعريف العام لفظيا لامكان الاشارة به إلى تلك الافراد التي هي موضوع الأحكام ، نحو (اكرم العلماء واطعم الفقراء) فافراد العلماء والفقراء موضوعات الحكم ، وهو وجوب الاكرام والاطعام ، وليس الغرض من تعريفه بيان

٣٨٥

حقيقته وماهيته لعدم تعلق غرض معتدّ به بها بعد وضوح افراده ومصاديقه التي هي محل لورود الحكم ، إذ العام بمفهومه وحقيقته ليس محلا للحكم ، فالأحكام تتعلق بالافراد لا بمضمونه وحقيقته حتى يقصد من تعريفه بيان حقيقته وماهيته كي يكون تعريفه حقيقيا ، وافرادها واضحة لا تحتاج إلى التعريف.

في اقسام العام

وهو ينقسم إلى العام الاستغراقي ، والعام المجموعي ، والعام البدلي. ولا ريب ان منشأ هذا التقسيم هو اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام ، حيث ان الحكم يتعلق بالعام تارة على نحو يكون كل فرد موضوعا على حدة للحكم. واخرى يكون الجميع موضوعا واحدا بحيث يكون كل فرد جزء الموضوع لا تمامه. وثالثة يكون كل فرد موضوعا على البدل.

فالأول هو الأول والثاني هو الثاني والثالث هو الثالث.

توضيح التقسيم : ان العام ينقسم أولا إلى قسمين بدلي وشمولي ، والأول ما يكون الحكم فيه لواحد من افراده على البدل. والثاني ما يكون الحكم فيه لجميع الافراد ، وهو على قسمين :

أ ـ هو الاستغراقي وهو ما يكون كل واحد من افراده تحت حكم مستقل في مقام الثبوت والسقوط.

ب ـ المجموعي وهو ما يكون مجموع الافراد فيه تحت حكم واحد بحيث يكون كل واحد من الافراد تحت حكم ضمني ملازم لحكم غيره من الافراد في مقام الثبوت والسقوط. ولازم الأول ان يطاع حكمه بفعل واحد من الافراد ويعصى بترك الجميع. ولازم الثاني ان يطاع بفعل واحد ويعصى بترك آخر. ولازم الثالث عكس الأول فيطاع بفعل الجميع ويعصى بترك واحد.

فانقدح ان التقسيم انما يكون بلحاظ اختلاف كيفية تعلق الحكم بالعام ،

٣٨٦

وليس من جهة اختلاف مفهوم العام ، إذ مفهومه واحد في جميع الاقسام ، وهو الشمول لجميع ما يصلح أن ينطبق عليه.

فاذا قال المولى (اكرم كل فقيه) مثلا فاذا اكرم فقيها واحدا فقد اطاع العبد وامتثل الأمر على كون العام بدليا ، ولكن أطاع بالاضافة إلى الفرد المكرم وعصى بالاضافة إلى الفرد غير المكرم بناء على كون العام استغراقيا ، وعصى بناء على كونه مجموعيا بالاضافة إلى المكرم وغير المكرم. كما يظهر هذا المطلب لمن أمعن النظر ، أي دقق في النظر وتأمّل ، فهذه الامور نقطة الفرق بينها.

في خروج الأعداد من التعريف

قوله : وقد انقدح ان شمول عشرة وغيرها من اسماء الأعداد لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم المصطلح ، لعدم صلاحية العشرة بمفهومها للانطباق على كل واحد منها ، لأن آحادها كواحد واثنين و ... اجزاؤها وليست افرادها ومصاديقها ...

ومن الواضح ان الكل لا يصدق على اجزائه لعدم صلاحية انطباق العشرة على الواحد والاثنين والثلاثة و ... فلا ينتقض التعريف بعدم الطرد.

فان قيل : اشكال عدم الطرد على تعريف العام لا يختص باسماء العدد ، بل هو جار في موارد أربعة ، الاول : التثنية. والثاني : الجمع. والثالث : لفظ المشترك. والرابع : اسماء الأعداد ، كالعشرة والمائة والألف مثلا ، فلم اختصها بالذكر؟

قلنا : لعل هذا اقوى بنظر المصنّف من الكل ، فلهذا اختصّه بالذكر من بين الجميع هذا أولا.

وثانيا : هذا من باب التمثيل لا الحصر.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى ان تعريف العام لا يشمل الجمع المحلى باللام ، ك (العلماء)

٣٨٧

لأنه يستغرق جميع أفراد العالم ، مع انه لا يصلح ان ينطبق على كل فرد من افراد العالم ، فان الجمع لا يصدق على اقل من ثلاثة أو اثنين ، على اختلاف بين الاعلام في اقل الجمع مع انه من صيغ العموم بالاجماع إذا كانت اللام للاستغراق ، فينتقض عليه بعدم الانعكاس. ويمكن ان يكون اشارة إلى ان تعريف العام ينطبق على العشرة والمائة والألف ، لأن الأول لا ينطبق على آحاده من الواحد والاثنين ، ولكن ينطبق بمفهومه على هذه العشرة وعلى تلك العشرة ، وكذا سائر اسماء العدد ، فينتقض على التعريف حينئذ بعدم الطرد ، ولكن الجواب عنه قد علم مما سبق آنفا. ولا بأس بالاشارة اليه ، وهو ان التعريف لفظي لا يعتبر فيه الطرد.

وثانيا ان العشرة اسم جنس وشموله بدلي لهذه العشرة وتلك العشرة ، والعام شموله دفعي ، فالعشرة بالاضافة إلى اجزائها ليست بعام. واما بالاضافة إلى آحادها فليست بعام أيضا ، كما ذكر وجهه.

في أن للعموم صيغة تخصّه

قوله : فصل لا شبهة في ان للعموم صيغة تخصّه لغة وشرعا ...

مثل لفظ : كل واجمع وأكتع وابتع وابصع ، ومثل لفظ قاطبة ، وفي ان للخصوص صيغة تخصه ايضا ، كالاعلام الشخصية ، كما يكون ما يشترك بين العموم والخصوص ، كالمعرف باللام فانه مع العهد يكون للخصوص سواء كان عهدا خارجيا نحو (جاءني القاضي) أم كان ذهنيا نحو (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) ، أم كان ذكريا نحو (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) أم كان حضوريا نحو (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) ، ومع عدم العهد يكون للعموم نحو (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، أي كل انسان لفي خسر ، لان مثل لفظ (كل) وما يرادفه في أية لغة كان ، وذلك مثل لفظ (هر) و (همه) في اللغة الفارسية يخص العموم ليس مما يشترك بين العموم والخصوص.

٣٨٨

ولا ينافي اختصاص مثل لفظ (كل) بالعموم استعماله احيانا في الخصوص عناية بادعاء ان الخصوص هو العموم أو بعلاقة العموم والخصوص. مثلا إذا قلنا (زيد كل الرجل) فاستعمل لفظ (كل) في الخصوص في هذا المثال اما بادّعاء ان زيدا يكون جميع افراد الرجل ادّعاء وتنزيلا ، واما مجازا بعلاقة العموم والخصوص ، والذوق السليم يجدها من العلائق المصحّحة للتجوز.

فالأول مذهب السكاكي والثاني مذهب المشهور ، إذ المراد من الاختصاص بالعموم ليس عدم جواز الاستعمال إلّا في العموم ، بل المراد من الاختصاص به عدم الظهور إلّا فيه فيكون استعمال مثل لفظ (كل) في العموم بلا عناية وبلا رعاية علاقة. واستعماله في الخصوص يحتاج إلى عناية ورعاية علاقة. فمع قيام الضرورة على اختصاص بعض الصيغ بالعموم لا مجال لدعوى كون ذلك البغض مختصا بالخصوص ، بتقريب ان الخصوص متيقن الارادة سواء كانت مستعملة في العموم أم كانت مستعملة في الخصوص.

أما على الثاني فظاهر. واما على الأول فلأن الخصوص بعض العموم ، وارادة الكل تقتضي ارادة البعض ، وإذا كان الخصوص متيقنا كان أولى بالوضع من العموم ، ولكن لا يصغى إلى هذا التقريب لأنه خلاف الضرورة. وكذا لا يصغى إلى ما قد اشتهر وشاع حتى قيل (ما من عام إلّا وقد خصّ) والظاهر يقتضي كون مثل لفظ ال (كل) حقيقة للغالب تقليلا للمجاز.

ووجه عدم الاصغاء اليه كونه خلاف الضرورة مع ان تيقن الخصوص لا يوجب اختصاص وضع لفظ (كل) للخصوص ، إذ لا ملازمة بين تيقن الارادة وبين وضع اللفظ للمتيقن ، مع ان لفظ (كل) يستعمل في المحاورات ويراد منه العموم كثيرا. فلا وجه للوجه الأول من الاستدلال.

وأما كثرة التخصيص فهي لا توجب كثرة المجاز لعدم الملازمة بين التخصيص والمجازية كما سيأتي توضيح ذلك ، مع ان كثرة المجاز مما لا محذور فيه

٣٨٩

إذا كان الاستعمال المجازي مع القرينة الصارفة ، فلا نسلم أولا : ان يكون استعمال العام في الخاص مجازا ، لأن العام استعمل في العموم ولكن المراد منه هو الخاص بدالين ومدلولين.

وثانيا : لو سلّمنا مجازية استعمال العام لما كان المحذور فيها إذا كان الاستعمال مع القرينة التي هي مخصص اعم من المتصل والمنفصل ، فهذا لا يوجب اجمال اللفظ بل يحمل على المعنى المجازي ، إذ القرينة الصارفة لازم المعنى المجازي ، ويستكشف من تحقق اللازم تحقق الملزوم كما يستكشف من وجود النهار طلوع الشمس.

نعم ، إذا استعمل اللفظ في المعنى كثيرا بلا قرينة على الفرض فهذا يوجب الاجمال ولم يعلم انه في المعنى الحقيقي أو المجازي إذا كان له معنى مجازي واستعمل فيه.

توضيح في طي الدالين والمدلولين

وهو كاستعمال الرجل في المعهود الخارجي مثلا في قولنا (اكرمت الرجل) فاللام دال استعمل في مدلول وهو المعهود الخارجي ، و (الرجل) دال آخر استعمل في معناه ومدلوله ، وهو ذات ثبت له الرجولية ، فكذا نحو (اكرم العلماء إلا الفسّاق) في مدلوله ، فانقدح ان لفظ (العلماء) استعمل في العموم ، ولكن المراد خصوص عدولهم بقرينة الاستثناء وهذا واضح.

في النكرة في سياق النفي والنهي

قوله : فصل ربّما عدّ من الألفاظ الدالة على العموم ...

النكرة إذا وقعت في سياق النفي نحو (لا تؤذي أحدا) او سياق النهي نحو (لا تؤذ احدا) ، ودلالتها عليه لا ينبغي ان ينكر عقلا لبداهة انه لا تكون الطبيعة معدومة

٣٩٠

إلا إذا لم يكن فرد منها بموجود في الخارج ، وإلا كانت موجودة لتحقق الطبيعة في ضمن فرد من افرادها.

ولكن لا يخفى ان النكرة انما تفيد العموم إذا أخذت مرسلة لا مبهمة قابلة للتقييد. وليعلم ان صفتي الاطلاق والتقييد طارئتان على ذات واحدة تسمى بالطبيعة المهملة ، فاذا طرأ عليها الاطلاق الذي يحرز بمقدمات الحكمة سميت الطبيعة مطلقة تارة ومرسلة اخرى ، كما انها إذا طرأ عليها التقييد سميت الطبيعة المقيدة. فالطبيعة مهملة إذا لم يطرأ عليها الاطلاق ولا التقييد ، وإذا طرأ عليها الاطلاق فهي مطلقة تارة ومرسلة أخرى ، وإذا طرأ عليها التقييد فهي مقيدة.

وفي ضوء هذا المقال ، فعدم الطبيعة انما يكون بعدم جميع الافراد ، وهذا يقتضي كون النكرة التي في سياق النفي أو النهي للعموم إذا كان المراد بها الطبيعة المطلقة والمرسلة ، فان نفي الطبيعة المطلقة انما يكون بنفي جميع الافراد ، اما إذا كان المراد بها الطبيعة المقيدة فدخول النفي عليها لا يقتضي عموم النفي لافراد الطبيعة المطلقة ، بل يقتضي نفي افراد ذلك النوع لا غير ، كما انه لو اريد بها الطبيعة المهملة لكان نفيها مجملا صالحا لأن يكون لعموم النفي لجميع الافراد وان يكون لنفي بعض الافراد ، حيث لا يعلم المراد منها هل هو الطبيعة المطلقة أو المقيدة.

وان لم تؤخذ مطلقة مرسلة اخذت مبهمة مهملة ، فسلب الطبيعة لا يقتضي عموم النفي لجميع افرادها ، بل يقتضي عموم النفي ولما اريد من الطبيعة المبهمة من بعض الأفراد يقينا ، لأن الواقع لا يخلو من احتمالين : اما نفي جميع الافراد واما نفي بعض الافراد ، فنفي بعض الافراد متيقن ، ونفي الجميع مشكوك ، ولذا قال اهل المنطق المهملة والجزئية متلازمتان إذ كلما صدق نفي الحكم عن افراد الموضوع في الجملة ، صدق عن بعض افراده وبالعكس ، فصارت المهملة في قوة الجزئية وليست قسما آخر في قبال المحصورات الأربع ، ولا يقتضي استيعاب ما تصلح النكرة لانطباقها عليه من افرادها.

٣٩١

واستيعاب السلب لخصوص ما أريد منها يقينا ، وهو بعض الافراد ، لا ينافي كون دلالة النكرة على العموم عقلية ، أي العقل السليم حاكم بان انعدام الطبيعة انما يكون بانعدام جميع افرادها في الخارج. فان الدلالة المذكورة انما تكون بالاضافة ، أي افراد ما يراد من النكرة ، لا الافراد التي تصلح من حيث الانطباق عليها ، كما لا ينافي دلالة مثل لفظ (كل) على العموم وضعا كون عموم لفظ (كل) بحسب ما يراد من مدخوله ، ولذا لم يتوهم احد ان كلمة (كل) لو اضيفت إلى ماهية مقيدة نحو (اكرم كل رجل عالم) اقتضت عموم الحكم لجميع افراد الرجل حتى ما ليس بعالم ، بل يقتضي عموم الحكم لافراد العالم لا غير ، وكذا ما نحن فيه ، إذ الفرق واضح ايضا بين قولنا (لا تضرب رجلا) و (لا تضرب رجلا هاشميا) وكذا الفرق واضح بين قولنا (اكرم كل رجل) و (اكرم كل رجل عالم) ، ولأجل كون دلالة لفظ (كل) على العموم بحسب ما يراد من مدخوله لا ينافي العموم تقييد المدخول بقيود كثيرة ، نحو (اكرم كل رجل عالم هاشمي نجفي) مثلا.

وعلى طبيعة الحال لا فرق بين اطلاق المدخول وتقييده في معنى العموم ، لأن المراد من العموم عموم ما يراد من المدخول ، وهو يختلف سعة وضيقا بحسب الاطلاق والتقييد بقيد أو بقيدين أو بقيود ، كما لا يخفى.

نعم ، تفترق كلمة ، (كل) عن أداة النفي والنهي بان الاداة مع اهمال مدخولها يكون النفي والنهي مهملين من حيث العموم والخصوص ، وذلك نحو (لا تكرم فاسقا) ونحو (لا املك شيئا) إذا لم يكن المتكلم في مقام بيان جميع الافراد ، أي افراد الفاسق أو بعض افراده كالبخلاء منهم مثلا ، وكذا الكلام في ناحية الشيء ، بل يكون في مقام بيان خساسة عنوان الفسق ، وفي مقام اظهار عدم ملكية شيء من دون ان يكون متعرضا لجميع مصاديق الشيء أو بعض مصاديقه ، وكلمة (كل) مع اهمال مدخولها ومع عدم اقترانه بما يقتضي تقييده أو اطلاقه رافعة لاهماله وموجبة لاطلاقه. كما ان الفرق بين لفظ (كل) وأداة النفي أو النهي من ناحية اخرى وهو ان

٣٩٢

لفظ (كل) يدل على العموم بالوضع وهي تدل عليه بالعقل.

فيستفاد العموم بأمرين من النكرة الواقعة تلو النهي او النفي :

الأول : بسبب مقدمات الحكمة والاطلاق.

الثاني : بسبب وقوعها عقيب النفي أو النهي ، فاذا انتفى احدهما ، كأن تكون مبهمة مهملة ولم تكن مطلقة ، أو لم تقع تلوهما ، فلا تدل على العموم نحو (لا تكرم فاسقا) ونحو (لا املك شيئا) ، ونحو (رأيت رجلا) ، فاطلاق مدخول الاداة يحرز بمقدمات الحكمة ، فاذا لم تحرز المقدمات المذكورة فلم يحرز الاطلاق.

وهذا هو الحال في المحلّى باللام جمعا كان ، نحو (العلماء) أو مفردا نحو (العالم) ، بناء على القول بافادة المفرد المعرّف باللام عموما ، فان العموم المستفاد من المحلّى باللام هو عموم افراد ما يراد منه ، لا عموم جميع الافراد التي يصلح للانطباق عليها ، كما يشهد بهذا المطلب جواز تقييده بالوصف أو بغيره من الشرط نحو (اكرم العلماء إذا كانوا عادلين) او الاستثناء نحو (اكرم العلماء إلا الفسّاق منهم) فكلها يوجب التخصيص بلا منافاة لعمومه نحو (اكرم العلماء العدول أو العادلين) ، ونحو (اكرم العالم العادل) ، فان قيل التقييد بالوصف ، أي تقييد المحلّى باللام بالوصف ينافي العموم من جهة تسميته تخصيصا ، إذ التخصيص عبارة عن تضييق دائرة العموم في فرض ثبوته ، فيكون التخصيص منافيا للعموم.

قلنا : ان المراد من التخصيص بالوصف والشرط والاستثناء حدوث العام مخصّصا من أول الأمر ، نظير قول العرب (قبل احداث الركية (١) ضيّق فم الركية) ، أي أحدثه ضيّقا ، وليس المراد طروء التخصيص بعد العموم ليكون منافيا للعموم له. ولكن يستعمل للاستدراك الناشئ ، ومن الكلام السابق وهو يفيد المحلّى باللام العموم فيتوهم منه وضعه له ، ولذا قال المصنّف قدس‌سره لكن دلالة المحلّى باللام على

__________________

(١) الركية ك (عطية) وزنا وهي بئر ، والجمع المكسر منها ك (عطايا) وزنا منها أيضا.

٣٩٣

بحسب الوضع محل منع ، لأن ما وضع للعموم اما نفس اللام وإما مدخوله وإما مجموعهما.

أما الأول : فممنوع لوضع اللام للجنس تارة ، وللعهد اخرى ، وللاستغراق ثالثة ، فهي مشتركة ، وإذا لم تكن القرينة المعيّنة موجودة في الكلام فهي تكون مجملة لا تحمل على شيء منها.

وأما الثاني : فممنوع أيضا لأن المدخول اما مفرد واما جمع وكلاهما لم يوضعا للعموم ، إذا الأول وضع لذات صدر عنه المبدأ ك (ضارب) مثلا أو لذات قام به المبدأ ك (عالم) ؛ والثاني وضع لجمع يطلق على الثلاثة وما فوقها ولم يوضع للعموم.

وأما الثالث فممنوع أيضا إذا لم يثبت وضع الثالث للمركبات بعد وضع مفرداتها ، كما تقدم في طيّ الأمر السادس في الامور الثمانية في صدر الكتاب ، بل انما يفيده في المورد الذي اقتضته فيه مقدمات الحكمة كما في قوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) أو اقتضته قرينة اخرى ، كالاستثناء نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) الآية. وربّما يأتي ان شاء الله تعالى في بحث المطلق والمقيّد بعض الكلام الذي يناسب المقام.

هل العام المخصص حجة في الباقي أم لا؟

قوله : فصل لا شبهة ...

في ان العام المخصّص بالمخصّص المتصل من الاستثناء والشرط والوصف والغاية ، أو المنفصل ، حجة فيما بقي تحت العام من الافراد بعد التخصيص في الجمع ، وفي الفرد الذي علم عدم دخوله في المخصّص في المفرد ، ولو كان المخصص المتصل مانعا عن انعقاد الظهور للعام في العموم ، وفي الفرد الذي احتمل دخوله في المخصص إذا كانت الشبهة مفهومية ، وإذا كان المخصص منفصلا ، لا في

٣٩٤

الشبهة المصداقية ، ولا إذا كان المخصص متصلا ، لما سيأتي في الفصل الآتي.

فالمتحصل من كلام المصنّف قدس‌سره ان المخصص للعام ، إما متصل ، أي يكون العام والمخصّص كلاما واحدا ، واما منفصل ، أي يكون العام والمخصص كلامين ، سواء كان مذكورا تلو العام بلا فصل بينهما نحو (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) أم كان مذكورا بعده مع الفصل المفرط بينهما ، وعلى التقديرين اما ان يعلم بعدم دخول الباقي في المخصّص ، ك (العلم) بعدم دخول العالم العادل في الفسّاق في نحو اكرم العلماء إلا الفسّاق منهم واما يحتمل دخول الباقي في المخصّص كما في مرتكب المعاصي الصغيرة.

مثلا إذا قال المولى (اكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق منهم) فمفهوم الفسق مردد بين ارتكاب مطلق العصيان وبين ارتكاب الكبائر منه ، فاذا ارتكب شخص الكبيرة فهو فاسق يقينا ، واما إذا ارتكب الصغيرة من العصيان فهو مردد بين الدخول في العام وبين الدخول في المخصّص.

فصارت الصور في المقام اربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين ، لأن الباقي اما معلوم عدم دخوله في المخصص ، واما محتمل دخوله في المخصص والمخصص اما متصل واما منفصل ، فاذا علم هذا فقد حكم المصنّف رضى الله عنه بحجية العام في الباقي في ثلاث منها :

الأول : ما علم عدم دخوله في المخصص إذا كان متصلا.

الثاني : ما علم عدم دخوله فيه إذا كان منفصلا.

الثالث : ما احتمل دخوله فيه إذا كان منفصلا.

وأما الرابعة : وهي ما احتمل دخوله فيه إذا كان المخصص متصلا فلا يحكم بحجية العام فيه. وسيأتي تفصيل هذا عن قريب ، ان شاء الله تعالى.

كما هو المشهور بين الأصحاب ، بل لا ينسب الخلاف إلى احد منهم إلا إلى بعض العامة ، وربّما فصل بين المخصص المتصل فقيل بحجية العام في الباقي ، وبين

٣٩٥

المنفصل فقيل بعدم حجيته فيه ، فالأقوال في المسألة ثلاثة :

الأول : وهو مختار المصنّف ، حجيته في الباقي في ثلاث من الصور الأربعة كما علم آنفا. وعدمها في واحدة منها.

الثاني : عدم حجّيته فيه مطلقا.

الثالث : قول بالتفصيل بين المتصل والمنفصل.

واحتج النافي بان حقيقة اللفظ هي العموم ولم يرد العموم منه لفرض ورود التخصيص عليه ، وإذا لم ترد الحقيقة فتعددت المجازات على حسب مراتب الخاص فيصير اللفظ مجملا ، فلا يحمل على شيء منها للزوم الترجيح بلا مرجّح ، فيبقى اللفظ مترددا بين جميع مراتب الخصوص وبعضها فلا يكون حجة في شيء منها.

فان قيل : إذا تعذرت الحقيقة وتعددت المجازات فاقرب المجازات إلى الحقيقة أولى بالارادة من غيره وعليه يكون تمام الباقي أولى بالارادة إذ هو اقرب اليها. مثلا إذا كان افراد العلماء مائة فالمخصص اخرج من تحت العام عشرين فردا فالثمانون اولى بالارادة من غيره ، فيكون حجة فيه.

قلنا : تعين تمام الباقي من بين مراتب الخاص بلا معين ترجيح بلا مرجح إذ لا فرق بينه وبين غيره من مراتب الخصوص من حيث المجازية هذا مضافا إلى أن أولوية الأقرب ذوقي استحساني لا يفيد إلا الظن والأصل حرمة العمل به إلّا ما خرج بالدليل ، كالظن الحاصل من ظاهر الكتاب مثلا.

في جواب المصنّف قدس‌سره

والتحقيق في الجواب ان يقال تخصيص العام لا يستلزم كونه مجازيا حتى يلزم الاجمال فيه ويسقط عن الحجّية ، لأن العام المخصّص استعمل في الموضوع له ، والتخصيص انما يكون باعتبار المراد الواقعي للمولى ، ولا يكون التخصيص عن المعنى المستعمل فيه.

٣٩٦

وبيان هذا المطلب ، ان التخصيص اما متصل نحو (اكرم كل رجل عادل) مثلا. واما منفصل نحو (اكرم العلماء ولا تكرم النحاة منهم) مثلا ، واما في المتصل منه فلانا نذكر سابقا ان لفظ (كل) قد استعمل في المثال المذكور فيما هو الموضوع له ، وهو العموم لأن عمومه في كل مورد تابع للمضاف اليه والمدخول فاذا اريد من لفظ (كل) جميع افراد المدخول فاستعماله يكون على نحو الحقيقة فظهر عدم الفرق في كونه حقيقة بين (اكرم كل رجل). وبين (اكرم كل رجل عالم) ، وبين (اكرم كل رجل عادل) ، وان كان افراد المدخول في الأول اكثر ، وفي الثاني قليل ، وفي الثالث أقل ، إذ افراد الرجل العالم قليلة بالاضافة إلى افراد مطلق الرجل ، بل افراد العالم في نفسها قليل مع قطع النظر عن ملاحظتها بالاضافة إلى افراد الرجل. فانقدح ان تقييد المطلق لا يستلزم تجوزا فيه ، لأن التجوز يتوقف على احد أمرين :

الأول : ان يكون عنوان الاطلاق داخلا في معنى المطلق على نحو الشرطية ، حتى يستلزم التقييد الغاء قيد الاطلاق ، فيكون من باب اللفظ الموضوع للكل واستعمل في الجزء بعلاقة الكل والجزء ، وهذا غير مشروط بشيء ، كما اشترط الأمران في عكسه ، وهو اللفظ الموضوع للجزء واستعمل في الكل مجازا ، وذلك نحو لفظ الرقبة مثلا ، واما الأمران فقد مرّا في بحث الحقيقة والمجاز فلا حاجة إلى الاعادة وهذا خلاف التحقيق لأن اسماء الأجناس قد وضعت للطبيعة بما هي مبهمة مهملة لا بما هي مرسلة مطلقة.

الثاني : ان تكون الخصوصية داخلة فيما استعمل فيه اللفظ ، ويكون لفظ القيد قرينة على دخولها فيه ، وهذا خلاف التحقيق ايضا ، لأن لفظ المطلق ، كلفظ رجل قد استعمل في معناه الحقيقي من الطبيعة بما هي هي. والخصوصية كخصوص (الرجل العالم) قد استفيدت من لفظ القيد على نحو تعدد الدال والمدلول قد استعمل كل واحد من الدالين في معناهما الحقيقي ، فظهر انه لا تخصيص اصلا في المتصل ، إذ أدوات العموم قد استعملت في العموم ، وان كانت دائرة العموم تختلف سعة وضيقا

٣٩٧

كما رأيت في (كل رجل) وفي نحو (كل رجل عالم) باختلاف ذوي الأدوات (١) سعة وضيقا. والموضوعات التي تدخل عليها الأدوات فتقتضي عمومها.

واما في المنفصل فلأن ارادة الخصوص الواقعية الجدية الباعثة على جعل الأحكام لا تستلزم استعمال العام في خصوص الخاص في ظرف الانشاء ، ولا تستلزم كون الخاص قرينة على الخصوص ، أي الارادة الواقعية الجدية ، لا تستلزم الارادة الاستعمالية حتى يلزم المجاز والتجوز ويكون ذكر الخاص في نظم الكلام قرينة عليه ، أي على المجاز ، ويصير اللفظ مجملا ، إذ ظهور لفظ العام في العموم علامة استعماله فيه قبل ورود المخصّص المنفصل ، فاذا ورد الخاص المنفصل فهذا قرينة على عدم ارادة العموم جدا وواقعا ، ولا وجه لقرينيته على عدم ارادة العموم من اللفظ العام استعمالا وقاعدة قبل وروده على نحو الحقيقة ، إذ ملاكها هو كون استعمال اللفظ في المعنى على طبق مقتضي الوضع ، كما ان ملاك المجاز استعمال اللفظ في المعنى على خلاف طبق مقتضي الوضع من جهة قرينة صارفة تدل على المجاز ، فهذا القانون ينطبق على استعمال اللفظ العام في العموم قبل ورود المخصص المنفصل ، فالمخصص المنفصل كاشف عن عدم ثبوت الحكم لجميع افراد العام في الواقع ونفس الأمر ، ولا يكون كاشفا عن كون استعمال العام استعمالا مجازيا ، وبعبارة اخرى ان المخصص المنفصل كاشف عن المراد الجدي الباعث على جعل الأحكام وتشريعها وتقنينها ، ولا يكون كاشفا عن المراد الاستعمالي ، كما ذكر وجهه آنفا.

فان قيل : المخصص المنفصل إذا كان كاشفا عن المراد الجدي ، وعن أنّ المراد الجدي غير مطابق للمراد الاستعمالي ـ وهو العموم ، فما فائدة التكلم بالعام ، وفائدة استعمال اللفظ في العموم؟ وما الأثر المترتب على عموم المراد الاستعمالي

__________________

(١) المراد من ذوي الادوات هو الموضوعات نحو (رجل) و (رجل عالم عادل) مثلا.

٣٩٨

بعد ما لم يكن مرادا جدا وواقعا؟

قلنا : فائدة التكلم به انما هو ضرب للقاعدة والقانون ، حيث انه لا يجوز التعدي عن العموم إلّا بقيام دليل على خلافه كما في موارد التخصيص ، فالعام حجة بهذا العنوان العام بالاضافة إلى جميع موارده وصغرياته إلّا ما قام الدليل على خروجه عن تحته فنأخذ به ، لكون الخاص مانعا عن حجّية ظهور العام في العموم ، وليس بمانع عن اصل الظهور ، فالخاص المنفصل لا يمنع عن اصل ظهور العام في العموم ، بل يمنع عن حجيته في العموم من جهة تحكيم النص على الظاهر ، أو من جهة تقديم الأظهر على الظاهر ، وهو المسمى بالجمع العرفي بين الدليلين. فالخاص المنفصل إما نص وإما اظهر بالاضافة إلى العام ، لأن دلالته على الخصوص مطابقية ودلالة العام عليه تضمينه. ولا ريب ان الأول نص بالاضافة إلى الثاني ان لم يكن احتمال الخلاف موجودا فيه ، أو ان الأول اظهر ان كان احتمال الخلاف اضعف فيه بالاضافة إلى الثاني ، وفي الزائد نرجع إلى عمومه قاعدة وقانونا.

فانقدح ان الارادة على قسمين : جدية واستعمالية ، وان الحقيقة والمجاز منوطان بالاستعمال لا بالواقع ، وليس الخاص مصادما لاصل ظهوره في العموم ، أي لا يكون الخاص المنفصل موجبا لانقلاب ظهور العام في العموم إلى ظهوره في الخصوص المردد بين مراتبه ، كي يكون مجملا ، كما يدعيه النافي للحجية مطلقا. لا يقال تحكيم الخاص على العام مجرد احتمال ، وكذا مجرد احتمال استعمال العام في المعنى الذي وضع له من العموم على طريق تعدد الدال والمدلول ، وليس بمعلوم لنا ان المتكلم استعمل العام على هذا الطريق ، بل نحتمل ان يستعمله في نفس الخاص مجازا ، والقرينة عليه ذكر الخاص بعده ، فالاستدلال الذي اقيم من النافي يبقى بحاله.

فانه يقال : مجرد احتمال استعمال العام في الخاص مجازا لا يوجب اجمال العام بعد استقرار ظهور العام في العموم ، فان العام قبل ورود الخاص قد استقر ظهوره في العموم ويحكم بانه مستعمل فيه إذا ورد الخاص ، فمقتضى دليل حجيته

٣٩٩

ان يحكم بعدم مطابقة الارادة الجدية للحكم العام ، ويرفع بذلك اليد عن اصالة مطابقة الكلام الانشائي بما له من المعنى الظاهر للارادة الجدية ، أما أصالة كون اللفظ مستعملا في المعنى الظاهر وهو العموم فلا موجب لرفع اليد عنها ، بل يجب الأخذ بها.

وبالجملة : إذا ورد (اكرم كل عادل) فلا بد أولا : من معرفة معنى هذا الكلام ومن معرفة ما يعد الكلام قالبا له.

وثانيا : من معرفة ان هذا المستعمل فيه الكلام مطابق للارادة الجدية بان يكون في نفس المتكلم ارادة اكرام جميع العلماء أو مخالف لها.

وثالثا : من معرفة ان اللفظ مستعمل في معناه أو في غير معناه ولو بلا قرينة عليه. والمتكفل لمعرفة الأول هو اهل العرف ، فانهم المرجع في تشخيص معنى الكلام. والمتكفل لمعرفة الأخيرين هو الاصول العقلائية ، إذا الأصل في كل كلام ان يكون مستعملا في معناه لا في غيره ، كما ان الاصل في كل كلام مستعمل في معنى أن يكون معناه مطابقا لارادة المتكلم.

وفي ضوء هذا ، فاذا ورد الخاص بعد العام نحو (لا يجب اكرام العالم الفاسق) فمقتضى دليل حجّيته وجوب رفع اليد عن المقام الثاني ، فيحكم بعدم كون الارادة الجدية متعلقة بنحو العموم.

أما وجوب رفع اليد عن المقام الثالث ليحكم بعدم كون الكلام مستعملا في العموم الذي هو معنى اللفظ العام فلا موجب له ، كما انه لا موجب لرفع اليد عن المقام الأول ليحكم بعدم كون العموم معنى للفظ ، فان ذلك مما لا يقتضيه دليل حجّية الخاص ، كيف وكون المعنى معنى للكلام مما لا مجال للتعبّد فيه لكونه من الامور الوجدانية ، وهو ظاهر.

فالثابت من مزاحمة الخاص المنفصل للعام انما هو بحسب حجّية الخاص على الارادة الواقعية الجدية ، فيقدم الخاص على العام في دلالة الخاص المنفصل

٤٠٠