البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

بذاته.

غاية الأمر ان العدم استند إلى عدم المقتضي الذي هو اسبق العلتين ، إذ العلة ، أي علة فعل الصلاة ارادته ، وهي اسبق العلتين ، والعلة السابقة لفعلها هي وجود شرطه وفقد مانعة ، فالوجود لا يخرج عن كونه علّة للعدم بذاته ، وهذا محال لأنه يؤدي إلى كون الشيء بذاته علّة لنفسه.

فوجود الازالة علّة لعدم الصلاة على تقدير وجود المقتضي ، ووجود الشرائط بذاته ، والعدم ، أي عدم الصلاة ، علة لوجود الازالة ، فيلزم كون الشيء الواحد علّة ومعلولا ، وهو محال.

قوله : والمنع عن صلوحه لذلك بدعوى ان ...

وهذه اشارة إلى دفع التوهم في المقام ، وهو انه يمتنع ان يكون عدم الصلاة ذا المقدمة للازالة ، إذ تصدق هذه القضية الشرطية وهي انه لو كان المقتضي لفعل الصلاة موجودا لتوقف عدمها على فعل الازالة ، ولكن من الواضحات ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق المقدّم مثلا ، إذا قيل : «لو كان هذا الشيء انسانا لكان ناطقا» فهذه القضية صادقة ، ولكن لا يستلزم ان يكون هذا الشيء انسانا بالفعل ، فكذا يصدق انه لو كان المقتضي للصلاة أي لفعلها موجودا لكان عدم الصلاة في الخارج موقوفا على الازالة ، ولكن من الواضح الذي لا يحتاج إلى اقامة البرهان ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق المقدم وتحققه في الخارج ، بل فيها فرض وتقدير وجود المقدّم في الخارج.

فبالنتيجة لا تستلزم هذه وجود المقتضي لفعل الصلاة بالفعل كي يلزم توقف عدم الصلاة على فعل الازالة وان توقف فعل الازالة على عدمها ، فثبت توقف الازالة بالفعل على عدم الصلاة ولم يثبت توقف عدم الصلاة على الازالة ، إذا منعنا صلاحية توقف عدمها على فعلها بالفعل لمقتضي القضية الشرطية منعنا صلاحية ذي المقدمة عدم الصلاة للازالة ، فثبت توقف الازالة على عدم الصلاة ، ولم تثبت صلاحية توقف

٢١

عدم الصلاة على الازالة ، فلا دور في البين.

قوله : مساوق لمنع مانعية الضد ...

وهو يوجب رفع التوقف رأسا ، فاذا منعنا صلاحية توقف عدم الصلاة على الازالة قيل حينئذ ان الصلاة ليست ضدا للازالة ، ولا تكون مانعة عنها ، والحال ان نفي مانعية الضد يستلزم رفع التوقف من الطرفين ، فلا يتوقف وجود احدهما على عدم الآخر ، ولا يتوقف عدم احدهما على وجود الآخر.

وبعبارة اخرى فلو كان التضاد بين الصلاة والازالة باعثا للتمانع بينهما فلا بد ان يكون التوقف فعلا أو شأنا من الطرفين ، والحال ان منع صلاحية التوقف مساوق لمنع مانعية الضد عن الضد الآخر فلو لم يكن مانعا فلا وجه لمقدمية عدم الضد لفعل الضد الآخر ، والحال ان عدم المانع يكون من المقدمات قطعا. مثلا عدم الصلاة يكون مقدمة لفعل الازالة.

فردّ المصنف جواب المشهور عن اشكال الدور ، فيبقى الدور على حاله كما لا يخفى ، فكلمة مساوق خبر للفظ المنع في التركيب النحوي.

قوله : ان قلت التمانع بين الضدين كالنار على المنار ...

فهنا مقدمتان واضحتان كالنار على المنار بل كالشمس في رابعة النهار :

اولاهما : ثبوت التمانع والتضاد بين الضدين ، ولأجل هذا لا يجتمع الضدان في محل واحد.

وثانيتهما : كون عدم المانع من مقدمات وجود الشيء.

وعليه يكون قول المشهور شبهة في مقابل البداهة وهي لا تسمع كالاجتهاد في مقابل النص الصحيح.

قوله : قلت التمانع بمعنى التنافي والتعاند ...

فأجاب المصنف قدس‌سره عن هذا الاشكال : ان مقتضي التضاد بين الضدين هو التمانع في الوجود ، بحيث لا يجتمع وجود احدهما مع وجود الآخر ، بل يجتمع مع

٢٢

عدم الآخر ، ولكن يكون عدم احدهما في مرتبة وجود الآخر ولا يكون مقدما زمانا ورتبة عليه.

مثلا : عدم الصلاة يكون مع الازالة ، كما ان عدمها مع عدمها ، ولأجل هذا ليس عدم احدهما مقدمة لوجود الآخر.

فبالنتيجة عدم المانع ليس بمقدمة لوجود الضد الآخر.

الحاصل هو التمانع الوجودي بين الضدين لا يقتضي إلا امتناع اجتماعهما في الوجود ، كامتناع اجتماع الصلاة والازالة معا ، فيكون عدم احدهما في مرتبة وجود الآخر ، ولا يكون مقدما عليه حتى يكون مقدمة للآخر ، والحال انه لا بد ان تكون المقدمة مقدّمة على ذيها طبعا كتقدم الشرط على المشروط ، مثل تقدم الوضوء على الصلاة ، فليس كل عدم المانع من مقدمات وجود الشيء ، إذ الضد صلاة في زمان الازالة ، فعدمها يكون عدم المانع في زمان الازالة ، ولا يكون عدم الصلاة في زمان قبل الازالة ، لأن الصلاة قبل الازالة منتفية كي يقال ان عدمها يكون عدم المانع قبلها للازالة ، فليس كل عدم المانع من مقدمات وجود الشيء.

مثلا : عدم الصلاة لا يكون من مقدّمات وجود الازالة في الخارج لتقارنه معها في الزمان ولاتحاده معها في الرتبة ، فينبغي ان يقال انه مقارنها ، ومن مقارنتها لا من مقدمتها.

قوله : نعم العلة التامة لأحد الضدين ربّما تكون مانعا عن الآخر ...

هذا استدراك عما تقدم من كون عدم احد الضدين دائما مستندا إلى عدم مقتضيه لا إلى وجود المانع وهو الضد الآخر ، وحاصل الاستدراك انه قد تكون العلة التامة لاحد الضدين مانعة عن وجود الضد الآخر ، وهذا النحو من عدم المانع يكون من المقدمات الوجودية لضد الآخر.

مثلا : المحبة القلبية علة تامة لانقاذ الولد الغريق ، وكذا المحبة علة تامة لانقاذ الأخ الغريق ، ولكن شدة محبة الولد مانعة عن تأثير محبة الأخ في مقام التزاحم ،

٢٣

والمزاحمة ، يعني لو اشرفا معا على الغرق والهلاك ، والزمان لا يسع لانقاذهما معا ، ففي هذا المورد والمقام يصح أن يقال ان شدّة محبّة الولد مانعة عن انقاذ الأخ ومزاحمة لمقتضي انقاذ الأخ الذي هو محبّة الأخ إذ وقع الحبّ الشديد للولد في مرتبة مقتضي انقاذ الأخ الذي هو محبّة الأخ ، فيصحّ ان يقال إنّ عدم هذا النحو من المانع يكون من مقدمات انقاذ الأخ ، ولا يصح أن يقال ان عدم كل مانع من مقدمات وجود الضد الآخر ولو كان في مرتبة الضد ، كعدم الصلاة الذي يكون في زمان الازالة وفي مرتبتها.

فالمانع ، الذي يكون موقوفا عليه وجود المأمور به ، أي يكون وجود المأمور به كالازالة موقوفا على عدم المانع بحيث يكون عدم المانع من مقدّمات وجود المأمور به ، هو المانع الذي ينافي ويزاحم مقتضي ضد الآخر في تأثيره ، بان كان منافيا لعلّة ضد الآخر ، فلعدمه دخل في قابلية المقتضي للتأثير ودخل في تحقّق المقتضي (بالكسر) لمقتضاه ، كشدة محبة الولد التي تزاحم محبة الأخ ، فعدمها دخيل في انقاذ الأخ. فهذا النوع من عدم المانع يكون من مقدمات وجود انقاذ الأخ لتحقق مقتضيه ، وهو محبته على الفرض ، لا ما يعاند الشيء ولا ما يزاحمه ، أي ولا ما يزاحم وجود المقتضى (بالفتح) كالصلاة التي تعاند الازالة وتزاحم مقتضاها الذي هو وجودها في الخارج وتحققها فيه ، فلا بد ان يكون عدم الصلاة مقارنا للازالة وليس مقدما عليها كي يقال ان عدمها يكون من مقدمات وجودها في الخارج. فتلخّص مما ذكر عدم مقدمية عدم احد الضدين لوجود الضد الآخر.

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو تدقيقي ، لأنّ المقام يليق بالدقة والتدقيق كما لا يخفى.

القول بالتفصيل

٢٤

قوله : ومما ذكرنا ظهر انه فلا فرق بين الضد الموجود والمعدوم ...

قال بعض الأعلام في هذا المقام بالتفصيل وهو انه إذا كان احد الضدين موجودا ، مثل ان يوجد السواد في قرطاس ، فلا محالة يكون وجود الضد الآخر فيه الذي هو البياض موقوفا على عدم السواد في القرطاس ، إذ هما ضدان لا يجتمعان في محل واحد ، فيتوقف وجود احد الضدين على عدم الضد الآخر ، ويكون عدم احدهما مقدمة لوجود الضد الآخر في الخارج على هذا الفرض.

واما إذا لم يكن احد الضدين موجودا في محل ، بان لم يكن القرطاس مشغولا بالسواد وملوّنا به ، فلا يتوقف وجود البياض فيه على عدم السواد ، فعدم المعدوم ليس بمقدمة لوجود الضد الآخر.

فأجاب المصنف عن هذا التفصيل بانه قد ظهر مما سبق ان عدم الضد لا يكون من المقدمات الوجودية للضد الآخر ، إذ عدم الضد مقارن من حيث الزمان لوجود الضد الآخر وليس متقدّما عليه ، إذ لا تكون الازالة قبل الازالة كي يقال ان عدم الصلاة يكون مقدّما عليها حتى يصح ان يقال انه مقدمة لها ، وانه لا فرق في هذا المطلب بين الضد الموجود وبين الضد المعدوم في أن عدم الضد الذي يلائم وجود الضد الآخر ويناقض هذا العدم ، أي عدم الضد لوجوده كملاءمة عدم الصلاة لوجود الازالة في الخارج ، إذ هما مجتمعان في زمان واحد ، ولكن يناقض عدم الصلاة وجود الصلاة إذ نقيض كل شيء عدمه ورفعه ، ويعاند وجود الصلاة وجود الازالة ، فاذن يجتمع عدم الصلاة مع وجود الازالة من غير مقتض لسبق عدم الصلاة على وجود الازالة حتى يكون مقدمة لها ، والحال انه لا بد في مقدمية المقدمة من تقدمها على ذيها طبعا وزمانا ، وهكذا الحال في عدم السواد ووجود البياض.

فعلم ان عدم احد الضدين لا يكون مقدمة لوجود الضد الآخر سواء كان احدهما موجودا أم لم يكن موجودا بل كان معدوما.

فظهر من هذا فساد تفصيل المحقق الخونساري قدس‌سره حيث قال : انه يتوقف ضد

٢٥

الموجود على رفع الضد الآخر الموجود ، كتوقف وجود البياض على رفع السواد الموجود في قرطاس ، وبعدم توقف وجوده على رفع السواد المعدوم ، وقال بالمقدمية في الأول دون الثاني.

فتلخّص مما ذكر عدم حرمة الصلاة من باب ان عدمها مقدمة للازالة وهي واجبة وجوبا فوريا ، فلا بد ان يكون ترك الصلاة واجبا من باب المقدّمية للواجب المطلق الفوري ، فلا محالة من أن يكون فعل الصلاة حراما. لكن عرفت ان المقدمية مردودة عند المصنف قدس‌سره ، فتأمل في اطراف ما ذكرناه فانه دقيق لكون المسألة عقلية وجدانية وليست تعبدية محضة ، ولأجل هذا يكون المطلب أولى بالدقة.

قوله : وأما من جهة لزوم عدم اختلاف المتلازمين في الكم ...

قال المصنف قدس‌سره : انا سلّمنا ان عدم الضد ليس بمقدمة للضد الآخر كعدم الصلاة لا يكون من المقدمات الوجودية للازالة كما سبق هذا مفصلا.

وهنا لا محالة يكون عدم احد الضدين ملازما لضد الواجب ، والحال ان ملازم الواجب واجب ، كالقيام الذي يكون ملازما للصلاة الواجبة.

مثلا عدم الصلاة ملازم للازالة الواجبة وجوبا فوريا ، وكل ملازم الواجب واجب فاذا كان عدم الصلاة واجبا فلا محالة يكون فعلها حراما ومنهيا عنه.

والحال ان النهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه ، فهي باطلة قطعا.

فأجاب المصنف قدس‌سره بقوله : (وأما من جهة عدم اختلاف المتلازمين في الوجود في الحكم) يعني غاية ما يقال في المقام من اجل الملازمة بين عدم الصلاة وبين وجود الازالة في الوجود الخارجي انه لا يجوز ان يكون احد المتلازمين في الوجود الخارجي محكوما فعلا بحكم على خلاف حكم المتلازم الآخر ، مثل ان تكون الازالة واجبة وان يكون عدم الصلاة حراما ، واما انه فلا بد أن يكون احدهما محكوما بمثل حكم المتلازم الآخر بحيث إذا كان احدهما واجبا كان الآخر واجبا ايضا وإذا كان احدهما حراما كان الآخر حراما ايضا فلا يكون عليه دليل لا عقلا

٢٦

ولا شرعا ، كما في النظر إلى المرأة الاجنبية والمعاشرة معها فانهما متلازمان نوعا ، والحال ان الاول حرام لأنه ملازم للواجب ، واما انه لا بد ان يكون واجبا بالفعل لأجل التلازم بينه وبين الازالة الواجبة فلا يكون عليه دليل اصلا ، بل قام الدليل على خلافه وذلك لأن الشارع المقدس إذا أمرنا باحد المتلازمين فالأمر بالملازم الآخر لغو وبلا فائدة.

مثلا : إذا أمرنا باستقبال القبلة فالأمر باستدبار الجدي بلا فائدة ، وكذا إذا امر بالازالة فالأمر بعدم الصلاة ، أي الامر بتركها ، يكون لغوا ، فانه من ملازمات وجود المأمور به في الخارج سواء كان متعلقا للامر أم لم يكن من متعلقاته ، وما كان كذلك فلا يمكن تعلق الأمر به. نعم يلزم أن لا يكون عدم الصلاة حراما ومنهيا عنه ، وإلا لا نجرّ إلى تكليف ما لا يطاق ، لأنه لو كان كذلك لكان فعلها واجبا في زمان الازالة وهو غير مقدور للمكلف.

فبالنتيجة ان عدم الصلاة الذي يلازم الواجب الفوري حكمه الواقعي حرمة ، ولكنها ليست فعلية منجزة من اجل الملازمة بينها وبين والواجب الأهم وهو الازالة ، فعدمها في الظاهر يكون بلا حكم فعلي ، فان قيل انه يلزم عليه خلو الواقعة عن الحكم وهو مستحيل على مذهب الخاصة ، قلنا ان المستحيل انما هو خلوها عن الحكم الواقعي الاولي ، أما خلوها عن الحكم الظاهري الفعلي فليس بمستحيل ، كما ورد في المعتبر ان الله تعالى سكت عن اشياء ولم يسكت عنها نسيانا.

وحيث لا وجوب لعدم الصلاة فلا حرمة للصلاة من جهة التلازم والملازمة ايضا ، كما انه لم تكن الحرمة لها من اجل المقدمية ، بل هي باقية على الحكم الواقعي الاولي من الوجوب ، لكنه لا يبعث المولى نحوها لاقوائية ملاك الازالة عند المولى ، وعليه فلا حكم لعدم الصلاة بحسب الظاهر كما انه لا حكم للصلاة من جهة التلازم فعلا أيضا ، أي فلا حرمة للصلاة من جهة تلازم عدمها مع الازالة الواجبة كي يكون عدمها واجبا ويكون فعلها حراما ومنهيا عنه ، بل هي على ما هو عليه في الواقع

٢٧

لو لا الابتلاء بالمضاد الواجب الفعلي الذي هو عبارة عن الازالة من الوجوب الذي هو عبارة عن الحكم الواقعي الأولي ، فابتلاؤها بالضد الواجب يعرض عليها عدم الحكم الظاهري الفعلي ، ولكن حكمها الواقعي الاولي محفوظ لا يتغيّر اصلا كما عليه المخطئة.

قوله : الأمر الثالث : انه قيل بدلالة الأمر بالشيء بالتضمن ...

قال صاحب المعالم قدس‌سره في كتابه في بحث الضد : يدل الأمر بالشيء عن النهي عن الضد العام بمعنى الترك تضمنا.

بيان ذلك : ان الأمر موضوع للوجوب الذي هو مركب من طلب الفعل والمنع من الترك ، فالأمر يدل على الوجوب مطابقة وعلى المنع من الترك تضمنا ، من باب دلالة اللفظ على جزء الموضوع له ، وهو ظاهر.

فأجاب المصنف عنه : بأن الوجوب الذي يكون مدلول الأمر هو الطلب الأكيد قد انشئ بداعي الارادة الحتمية ، فهو أمر بسيط ليس له جزء حتى يدل لفظ الأمر عليه تضمنا ، فالوجوب مقابل الاستحباب لأنه طلب ضعيف قد انشئ بداعي الارادة غير الحتمية.

نعم ، يكون لازم الطلب الأكيد المنع من الترك ، كما ان لازم الطلب الضعيف عدم المنع من الترك ، فالوجوب طلب واحد ، وهو الطلب الأكيد ولا يكون طلبين أحدهما طلب الفعل والآخر طلب المنع من الترك.

نعم ، في مقام تحديد تلك المرتبة وفي مقام تعيين هذه المرتبة ربما يقال ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، ويتخيل ان القائل في مقام بيان الحد التام الذي هو مركب من الجنس القريب والفصل القريب للوجوب ، وجنس التعريف هو طلب الفعل ، إذ هو القدر المشترك بينه وبين الندب ، كما ان جواز الفعل مشترك بينهما. والاباحة والكراهة وفصل التعريف هو المنع من الترك.

فالمتخيّل تخيّل ان الوجوب بحسب الماهية مركب من الجنس والفصل كلفظ

٢٨

الانسان ، لأن ماهيته عبارة عن الحيوان والناطق. وهو فاسد ، لأن القائل متى قال ان الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فليس مراده بيان الحد التام للوجوب حتى يكون مركب من الجنس والفصل ماهية ، بل يكون غرضه من هذا الكلام بيان لازمه العقلي وذكر خاصته ، لا بيان حقيقته وماهيته.

فالمنع من الترك ليس من اجزاء الوجوب ومن مقوّماته ومحصّلاته ، بل هو من خواصه ومن لوازمه ، والملازمة تقتضي الاثنينية ، بمعنى ان الوجوب شيء ، والمنع من الترك شيء آخر.

فبالنتيجة ، فاذا طلب المولى ايجاد الفعل في الخارج طلبا اكيدا ينشأ عن الارادة الحتمية ، فلو التفت الآمر الطالب إلى الترك لما كان راضيا بالترك ، وكان مبغوضا لديه قطعا.

فعلم ان المنع من الترك ليس جزء معنى الوجوب ، بل هو لازم معنى الوجوب عقلا ، وعلم ايضا ان الأمر بالشيء ليس عين النهي عن الترك ، إذ منع الترك يكون لازم معنى الوجوب الذي هو الطلب الأكيد.

والحال ان المتلازمين يقتضيان الاثنينية بحيث يكون الملزوم شيئا ، واللازم شيئا آخر ، لا الاتحاد والعينية ، كطلوع الشمس ووجود النهار مثلا.

نعم ، يمكن أن يكون المراد من العينية عينية عناية ومسامحة ، لا حقيقة بأن يقال ان المراد في مثل ازل النجاسة طلب واحد متعلّق بفعل الازالة ، ولكن هذا الطلب كما يكون طلبا وبعثا بالوجود ، أي بوجود الازالة ، وتحققها حقيقة ، كذا يكون طلبا وبعثا بالترك ، أي ترك الازالة ، مجازا ومسامحة ، فمعنى ازل النجاسة هو لا تترك الازالة.

وكذا معنى صلّ لا تترك الصلاة ، من باب ذكر الملزوم ، أي من باب ذكر اللفظ الذي وضع للملزوم ، أعني منه الطلب الأكيد الذي ينشأ عن الارادة الحتمية ، واستعماله في لازم معناه ، اعني منه المنع من الترك والنهي عنه ، والعلاقة المصحّحة

٢٩

للتجوّز هي العلاقة الملازمة.

ومن الواضح ان هذه العينية المجازية لا تنفع بحال القائل بها ، إذ هو قائل بالعينية الحقيقية ، أي يقول ان مدلول ازل النجاسة هو لا تترك الازالة بعينه ، ولا يقول بها من باب التجوّز والمجازية.

قوله : فافهم ...

وهو إشارة إلى أن العبارة لا تخلو من مسامحة ، لأن الطلب لا ينسب إلى الترك ، بل المنسوب اليه المنع والزجر ، لأن الترك ازلي سابق على قدرة المكلف وحاصل قبل المكلف ، فالطلب لو تعلق به للزم طلب أمر حاصل ، بل طلب غير المقدور ، وهو لا يجوز ، فلا بدّ أن يتعلق بالمنع عن الترك والزجر عنه ، وهو ليس سابقا على قدرته ولا حاصلا قبلها. فتعلق الطلب بالترك غير جائز.

قوله : الأمر الرابع : تظهر الثمرة في أن نتيجة المسألة وهي ...

قد حكى عن بعض الأعلام قدس‌سره ثلاث ثمرات لمسألة الضد :

الأولى : ترتب العقاب واللوم على فعل الضد وعدمه ، فان قلنا بالاقتضاء فيترتب العقاب على فعل الضد ، وإلا فلا.

الثانية : حصول العصيان بفعل الضد على القول بالاقتضاء وعدمه على القول بعدمه.

الثالثة : وهي أهم الثمرات واشهرها عند القائلين بالاقتضاء ، فساد الضد إذا كان عبادة كالصلاة بالاضافة إلى الازالة على القول بالاقتضاء ، وعدمه على القول بعدمه.

والتفصيل : انه إذا قلنا بالاقتضاء ، والحال انه إذا قلنا ان النهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه كما هو الأصح ، فالضد العبادي باطل.

ولكن قد انكر الثمرة الثالثة شيخنا البهائي قدس‌سره حيث اثبت بطلان الضد العبادي على القول بعدم الاقتضاء نظرا إلى أن الأمر بالشيء كالازالة مثلا يقتضي

٣٠

عدم الأمر بضده ، كالصلاة ـ إذ الأمر به ـ يستلزم التكليف بالمحال لامتناع الاجتماع عقلا بين الضدين في زمان واحد ، كالأمر بالازالة والصلاة معا ، فيبطل الضد العبادي إذ صحته متوقفة على تعلق الطلب والأمر به.

فأجاب عنه المصنف قدس‌سره بقوله : (وفيه : انه يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى) ، أي لا يلزم وجود الأمر في صحة قصد التقرب بالعبادات ، بل يكفي مجرد الرجحان والمحبوبية للمولى في صحة قصد التقرب بها ، فانه يصح من المكلّف ان يتقرّب إلى المولى بالضد العبادي ، إذ المزاحمة ، أي مزاحمة الصلاة والازالة انما ترفع الأمر المولوي بالضد العبادي ، ولا ترتفع محبوبيته ورجحان ذاتيته ، بل يبقى على ملاكه الواقعي لعدم التضاد بين ملاكي الوجوب في الصلاة والازالة ، لأنه يمكن أن يكون وجوب الصلاة ذا مصلحة ووجوب الازالة ذا مصلحة كما هو مذهب العدلية من تبعية الأحكام للمصالح الواقعية والمفاسد الواقعية ، أو يكون ملاكهما غيرهما كما يقول به الأشاعرة منكرين الحسن العقلي والقبح العقلي ، فملاك الأحكام عندهم منوط بأمر الشارع المقدّس ونهيه ، لأن الحسن عندهم ما حسّنه الشارع ، والقبيح ما قبّحه الشارع المقدّس.

فالمعروف من مذهب الأشاعرة ان الأفعال كلها على السواء ، ولا فرق بين الصدق والكذب ولا بين العدل والظلم عند العقل ، وانّما الفارق أمر الشارع ونهيه ، فالضد العبادي ذو مصلحة وذو رجحان وان لم يتعلق به الأمر فعلا من أجل المزاحمة مع الواجب الأهم كالازالة.

فخلاصة الكلام : انه إذا قلنا ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاص ، فالصلاة تكون منهيا عنها ، ولا يمكن شرعا قصد التقرب بفعلها ، إذ هي مبغوضة عند المولى والمبغوض لا يكون مقربا ، بل مبعدا ، وتقع باطلة ، إذ النهي في العبادات يقتضي فساد المنهي عنه.

اما إذا قلنا ان الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضده ، إذ الضد الذي هو الصلاة

٣١

لأجل مزاحمتها مع الازالة ، ولأجل تضادها معها ، لا يكون لها أمر حين أمر الازالة ، فرجحانيتها محفوظة ، فهي محبوبة عند المولى ، وهي كافية في صحة قصد التقرب بها ، ولا يكون وجود الأمر بلازم فيه ، فنحتاج في فسادها إلى وجود النهي عنها ، إذ في صورة عدم الأمر بها وفي صورة عدم النهي عنها تقع صحيحة بلا اشكال خلافا للقدماء قدس‌سرهم حيث اشترطوا في صحة العبادات ورود الأمر بها ، فثمرة المسألة تامّة ولا يرد اشكال البهائي قدس‌سره عليها.

نعم ، يرد اشكاله على مذهب القدماء ، فالصلاة محبوبة للمولى على القول بعدم الاقتضاء ، وهي مبغوضة على القول بالاقتضاء إليه ، فالمصنف قائل بكفاية المحبوبية في صحة العبادات وان لم يكن لها أمر بالفعل.

والبهائي قدس‌سره يقول : بعدم كفاية المحبوبية عند المولى في صحتها بل لا بد في صحتها من وجود الأمر كما قال به القدماء ، أي قدماء الأصحاب.

قوله : ثم ان تصدى جماعة من الأفاضل الأمر بالضد بنحو الترتب ...

«فظهر مما سبق : ان الامر بضدين لا يجوز لافضائه إلى التكليف بالمحال ، كالأمر بالازالة والصلاة معا ، ولكن قال جماعة من الأفاضل ، كالمحقق الكركي وكاشف الغطاء والميرزا الشيرازي والمحقق النائيني ، ان في نحو الازالة والصلاة اللتين تكونان ضدين ، وكانت الازالة أهم فالأمر موجود في كليهما ، غاية الأمر على نحو الترتب ، بمعنى ان للصلاة التي تكون مهمة ، امرا موجود حين الأمر بالازالة التي تكون أهم.

ولكن أمرها مترتّب على عصيان أمر الازالة ، أو على ارادة عصيانه ، فأمر الازالة مطلق وهو ثابت في جميع الأحوال والازمان ، وأمر الصلاة مشروط بعصيان أمر الازالة على نحو شرط المتأخر ، نحو : (ان عصيت أمر الازالة فصلّ) فالعصيان ، أي عصيان أمر الازالة ، لا يتحقّق إلا بعد الصلاة ، فتحقّق العصيان من حيث الوجود متأخّر عن زمان الصلاة ، فالعصيان لا محالة يكون على نحو الشرط المتأخر ،

٣٢

وامكان الشرط المتأخر وتصويره قد مرّ في بحث مقدمة الواجب فلا حاجة إلى التكرار ، وقيل هناك ان رجوع الشرط المتأخر إلى تصوره ولحاظه مثل تصور الاجازة في صحة بيع الفضولي بعد العقد ، فيتصور المولى الاجازة قبل العقد ولكن تحقّقه في الخارج يكون بعد العقد فهي مقدمة على المشروط الذي هو صحة البيع تصورا ولحاظا وان كانت مؤخرة عنها وجودا وتحققا ، فيكون الشرط وجود تصوره لا وجود خارجه ، فلا يلزم حينئذ اشكال تأخير الشرط عن المشروط ، فكذا عصيان الأمر الأهم يكون مقدما من حيث التصور على الأمر المهم وان كان مؤخرا عنه ، أي عن الفعل المهم ، وجودا. فالأمر موجود لضدين : الأهم والمهم ، أي يكون احدهما أهمّ والآخر مهما على نحو الترتب.

أو يكون الأمر المهم مشروطا بارادة عصيان الأمر الأهم ، فارادة العصيان من المكلف اما أن يكون مقدما من حيث الوجود على فعل المهم ، او يكون مقارنا له ، فارادة العصيان اما أن يكون على نحو الشرط المتقدم كالوضوء للصلاة ، أو على نحو الشرط المقارن كالستر لها ، وهذا النحو من الأمر ليس بمحال لأنه وقع كثيرا عرفا مثل قول الوالد لولده : (تعلّم العلم وان عصيت أمر التعلم فاشتغل بكذا وكذا).

فخلاصة الكلام : انه يصحّ ان يقول الآمر : (ازل النجاسة عن المسجد وإن عصيت الأمر بالازالة فصلّ) أو (ان بنيت على عصيان الأمر بالازالة فصلّ) على نحو الشرط المتأخر ، إذ لو كان الأمر بالمهم مشروطا بالعصيان بنحو الشرط المتقدم كان خارجا عما نحن فيه من الأمر بالضدين في وقت واحد ، لأنه إذا تحقق العصيان في الزمان السابق فقد سقط الأمر بالأهم ، ويثبت بعده الأمر بالمهم وحده ، فيكون الأمر بهما في زمانين.

وكذا لو كان بنحو الشرط المقارن ، لأن العصيان إذا قارن الأمر بالمهم كان سقوط الأمر بالأهم الملازم للعصيان مقارنا للأمر بالمهم ، فلا يقترن الأمران بهما في زمان واحد.

٣٣

أما البناء على المعصية فلما لم يكن ملازما لسقوط الأمر بالأهم كان اشتراط الأمر بالمهم بالعصيان ، متقدما أو متأخرا ، أو مقارنا لا يمنع من اقتران الأمرين في زمان واحد.

فبنحو الترتب يمكن تصحيح العبادات ، والحال انه قلنا سابقا ان الأمر لا بدّ منه في صحة العبادات ، ولا يكفي فيها مجرد رجحانها ومحبوبيتها ، فبناء على صحة الترتب ، فالصلاة إذا فعلت في حال وجوب الازالة تكون صحيحة ، وكذا الصلاة في حال وجوب انقاذ الغريق ، أو في حال وجوب اطفاء الحريق.

غاية الأمر ان المكلف إذا عصى امتثال الأمر الأهم فهو عاص بلا اشكال ، واما الصلاة فصحيحة ومأمور بها. فهذا حاصل الترتب أي خلاصته.

قوله : قلت ما هو ملاك استحالة طلب الضدين ...

قال المصنّف قدس‌سره : في مقام انكار الترتب ان ملاك استحالة الأمر بالضدين في آن واحد موجود في هذا الترتب ، إذ كون الأمر الأهم مطلقا ، وكون الأمر المهم مشروطا بعصيان الأهم او بارادة عصيان الأهم ، لا يرفع هذه الاستحالة لأن الأمر بالمهم وان لم يكن في عرض الأمر بالأهم ، ولكن الامر بالأهم من حيث كونه مطلقا على الفرض فهو وإن لم يسقط فلا محالة يجتمع مع الأمر بالمهم ، لأنه بمجرد عصيان امتثال أمر الأهم فالأمر بالمهم يكون فعليا ، والحال ان الأمر بالأهم لا يسقط بمجرد ارادة عصيانه إلى أن يتحقق العصيان ، وتحققه انما يكون بفعل المهم ، فيجتمع الأمران في آن واحد بضدين ، وكون الأمر بالمهم مشروطا بارادة عصيان الأمر الأهم لا ينفع في رفع هذه العويصة والمحذور ، إذ في حال كون الأمر بالمهم فعليا كان الأمر بالأهم كالازالة وانقاذ الغريق واطفاء الحريق ، باقيا على حاله ، فليزم اجتماع أمرين بضدين في آن واحد ، وهو محال عقلا كما لا يخفى ، لتحقق شرط فعلية الأمر بالمهم ، وهو عصيان أمر الأهم أو العزم على عصيانه كما سبق.

قوله : لا يقال نعم ولكنه بسوء اختياره ...

٣٤

بعد ما علم انكار المصنف الترتب اعترض عليه ، أي على المصنف ، القائل به أي بالترتيب ، بان اجتماع أمرين بضدين في آن واحد : إذا كان بسوء اختيار المكلف فهو لا يضرّ ، لأنه ربما لا يريد المكلف عصيان امتثال الأمر الأهم ، وان لا يلقى نفسه موردا لاجتماع التكليفين ، لأنه بالاختيار يحقّق شرط الأمر بالمهم الذي هو عصيان الأمر الأهم ، فهو اراد بالاختيار عصيان الأمر الأهم ، ولهذا يتوجه اليه التكليف بالضدين في آن واحد وفي زمان واحد ، فامتنع المكلف بالاختيار مع ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، واجتماع الأمر بضدين يكون محالا إذا كان المولى يطلب الضدين في زمان واحد من عبده ، ولكن إذا كان المكلف موجبا بسوء اختياره طلبهما فهو حينئذ ليس بمحال اذ هو باختيار المكلف أي بسوء اختياره.

قوله : فانه استحالة طلب الضدين ليست إلّا لأجل ...

وأجاب المصنف قدس‌سره : عن الاشكال القائل بالترتب الذي اورده على المصنف بان اصل طلب الضدين يرجع إلى طلب النقيضين نحو (تحرّك الآن واسكن الآن) إذ يكون لازم طلب كلّ ضدّ عدم طلب الضد الآخر.

فطلب الازالة يستلزم عدم طلب الصلاة لما سبق من ان المزاحمة بينهما لو لم توجب النهي عن الضد فلا اقل من اقتضائها عدم الأمر بالضد.

وكذا طلب الصلاة يستلزم عدم طلب الازالة ، ولازم ذلك مطلوبية الازالة وعدمها ، ومطلوبية الصلاة وعدمها ، ولا يكون هذا إلّا طلب الجمع بين النقيضين. فالمعنى الالتزامي ب (أزل النجاسة) يكون (لا تصلّ) كما ان المعنى الالتزامي ل (صلّ) يكون (لا تزل النجاسة) او يكون المعنى الالتزامي ل (ازل النجاسة) ان الصلاة التي هي ضد الازالة غير مأمور بها ، كما ان المعنى الالتزامي ـ ل (صلّ) ان الازالة التي هي ضد الصلاة غير مأمور بها ، والحال ان الجمع بين طلب النقيضين محال في نفسه لا يصدر من المولى الحكيم سواء كان بسوء اختيار المكلف أم لم يكن بسوء اختياره فطلب الضدين يكون مثل اجتماع الضدين ، او مثل اجتماع النقيضين في المحالية

٣٥

والاستحالة.

ويشهد على أن سوء الاختيار لا يكون مصححا لطلب الضدين أن المولى إذا أمر بالضدين وعلّقه على فعل العبد الاختياري مثل ان يقول له : (إذا دخلت في المسجد فازل النجاسة وصلّ في آن واحد) (وإذا لم تدخله فلا تكليف عليك) والحال انّه لا شك ولا ريب في قبح هذا ، بل في استحالته. والتعليق على الأمر الاختياري لم يرفع قبحه ولا استحالته.

فخلاصة الكلام : ان هذا النحو من الترتب الذي يتصور في المقام من أن الأمر الأهم المطلق ثابت في جميع الأحوال ، وأن الأمر المهم يكون مشروطا بعصيان الأمر الأهم ، أو مشروطا بارادة عصيانه ، كما سبق هذا ، فيلزم فيه طلب الضدين في آن واحد وهو محال ، فلا ينفع الترتب المذكور في رفع طلب الضدين في آن واحد وزمان فارد بل يبقى معه مناط استحالة طلبهما كما لا يخفى.

فسوء الاختيار والفعل الاختياري سيان ، أي مثلان ، في عدم رفعهما استحالته ولو على نحو الترتب ، كما هو ظاهر.

قوله : ان قلت فرق بين الاجتماع في عرض واحد والاجتماع كذلك ...

اعترض القائل بالترتب على منكر الترتب (وهو المصنف ومن تبعه) بان الفرق موجود بين اجتماع الأمرين بضدين في عرض واحد ، مثل أن يقول المولى : (انقذ الغريق وصلّ) ، وبين اجتماعهما بهما على نحو الترتّب المذكور سابقا نحو أن يقول المولى : (ازل النجاسة فإن عصيت أمر الازالة فصلّ) إذ في الأول يكون للمولى طلبان في عرض واحد :

أحدهما : طلب الأهم وهو الانقاذ.

وثانيهما : طلب المهم وهو الصلاة.

والحال كل واحد من الطلبين والأمرين يطارد الآخر ويمانعه كمال الممانعة ، فاذا كانا كذلك فهما لا يجتمعان ، إذ طلب الضدين عرضي لا طولي.

٣٦

وأما في الاجتماع على نحو الترتب فلا يكون للمولى إلا ارادة واحدة وطلب فارد يتعلق بالأهم الذي هو الانقاذ.

واما ارادته ، بالاضافة إلى المهم الذي هو الصلاة على الفرض ، فمشروطة بشرط عدم الانقاذ ، وبشرط عدم تحقّقه في الخارج ، فاذا انقذ العبد الغريق فلا يكون للمولى إلا طلبه فقط ، واما إذا لم ينقذه فحينئذ يطلب منه فعل الصلاة مثلا.

فبالنتيجة لا يكون للمولى طلب الضدين في عرض واحد في زمان فارد ، بل له طلبهما على نحو الطلب الطولي لا العرضي ، فلا يكون تمانع الارادتين موجودا على هذا الفرض.

قوله : ليت شعري كيف لا يطارد الأمر بغير الأهم ...

واجاب المصنف عنه : بانه ليتني اعلم كيف لا يتمانع أمر الصلاة وامر الانقاذ مع ان موجب التمانع من تعلق أمر الصلاة بضد الانقاذ موجود في المقام ، فاذا تعلقت ارادة المولى بالصلاة التي هي ضد الانقاذ فلا محالة يكون أمره هذا متمانعا مع أمره بالانقاذ ، لأن الصلاة والانقاذ ضدان ، وكل ضدين متمانعان.

ومن الواضح ان حال ايجاد الصلاة لم يسقط أمر الانقاذ ، إذ لم يتحقق عصيان أمره ، ومجرد ارادة العصيان لا يسقط الأمر الأهم ، ففي حال ارادة عصيان الأمر الأهم قصد فعل المهم يكون للمولى أمران ، الأمر بالأهم فعلا لأنه مطلوبه الأولي ، والأمر بالمهم فعلا لتحقق شرطه وهو عصيان الأمر الأهم ، والحال انهما متمانعان مطاردان ، فيكون صدورهما محالا في آن واحد من المولى.

ولو تنزّلنا عن ان الأمر بالمهم لا يطارد الأمر بالأهم فيكفي مطاردة وممانعة الأمر الأهم للأمر بالمهم ، فالمولى أراد الأهم فعلا وهو مانع عقلا عن ارادة ضدّه ، ولا يلزم ان يكون الأمر بالمهم مانعا عن الأمر بالأهم ، فمن اجل ارادة الأهم ومن اجل ابقاء أمره لا مجال للأمر بالمهم. مع ان المطاردة تكون من الطرفين ، طرف الأهم وطرف المهم ، وهو ظاهر كما لا يخفى.

٣٧

فالترتّب محال لوجود المطاردة والمعاندة بين الأهم والمهم.

قوله : وعدم ارادة غير الأهم على تقدير الاتيان به ...

زعم المتوهم : بأن المطاردة والممانعة بين الضدين ، كالازالة والصلاة مثلا ، مسلّمتان إذا فعل المكلف المهم كأن صلّى ، لأنه حينئذ يجتمع الأمران ، الأمر بالأهم أوّلا ، والأمر بالمهم ثانيا ، وليس كذلك إذا فعل الأهم كما لو أزال النجاسة أو أنقذ الغريق ، لأن الأمر بالمهم منتف حينئذ ، أي حين فعل الأهم ، فلا مطاردة في البين أصلا.

في جواب المصنف

اجاب المصنف عن هذا التوهم بان عدم ارادة المولى للمهم على فرض اتيان الأهم لا يوجب عدم طرد طلب المهم لطلب الأهم ، بل المطاردة بينهما محفوظة سواء طلب المهم بالفعل أم لم يطلبه بالفعل.

هذا مضافا إلى تحقق طلب المهم على تقدير عصيان الأمر الأهم وعلى فرض عدم اتيانه ، فيلزم اجتماع الطلبين على فرض الاتيان بالمهم مع الأهم ، كالانقاذ والصلاة ، من جهة المضادة بين متعلق الأمر الأهم ، كالازالة والانقاذ ، وبين متعلق الأمر المهم ، كالصلاة ، مع انه يكفي الطرد والمنع من طرف الأمر بالأهم باستحالة الترتب ، وان لم تكن المطاردة من الطرفين ، إذ المفروض كون الأمر الأهم فعليا مطلقا من دون اشتراطه بشيء ، وقبل تحقق عصيان الأمر الأهم الذي يصدق باتمام المهم على نحو كامل يتوجه إلى المكلف تكليفان : تكليف بالأهم وتكليف بالمهم ، نعم يصدق التكليف بالمهم بعد سقوط التكليف بالأهم ، فالمهم وان لم يطارد الأهم في تقدير عدم العصيان لأنه منتف على هذا الفرض ، ولكن في تقدير العصيان يكون الأمر بالمهم فعليا ، ويكون الأمر بالأهم ايضا فعليا لوضوح عدم سقوطه بمجرد فرض تحقق المعصية فيما بعد ، أو بمجرد تحقق العزم على المعصية قبلا أو فعلا ما لم تتحقق المعصية بنفسها في الخارج.

فاذا كان الأمران فعليين وقعت المطاردة بين الطرفين أي طرف الأهم وطرف

٣٨

المهم ، نحو طلب الضدين في عرض واحد مثل (اقعد الآن وقم الآن) ، بل يكفي الطرد من طرف الأهم فقط ، إذ هو يطرد طلب المهم في حال ايجاد المهم ، كما يطرد كل ضد في حال ايجاد المهم ، وفي حال عدم ايجاده ، فلا يكون للأمر بالمهم مع الأمر بالأهم مجال أصلا.

فالمصنف أنكر الترتّب انكارا شديدا ، فالأمر الأهم طارد الأمر بالمهم في حال العصيان وفي حال ايجاد المهم وفي حال عدم العصيان وفي حال عدم ايجاد المهم وهو ظاهر.

قوله : ان قلت فما الحيلة فيما وقع كذلك من طلب الضدين ...

اعترض القائل بالترتّب على المصنف الذي انكره كمال الانكار بانه وقع الأمر بضدين على نحو الترتب في العرفيات كثيرا ، كما يقول الأب لولده : (اذهب هذا اليوم إلى المعلم فإن عصيت فاكتب في الدار ، ولا تلعب مع الصبيان) فيكون هذا أمر بضدين على نحو الترتب ، فالأدب أراد الضدين وطلبهما من ولده ، ومثله كثير عند أهل العرف والعقلاء كما لا يخفى.

قوله : قلت لا يخلو إما أن يكون الأمر بغير الأهم بعد التجاوز ...

فأجاب المصنّف عنه : بأنّ الأمر بغير الأهم أي بالمهم في العرفيات لا يخلو من أحد وجهين :

اولهما : ان المولى صرف النظر عن الأمر بالأهم ، وبعد صرف النظر عنه أمر بالمهم أمرا مولويا ، ولا يكون للمولى حينئذ الأمران : الأمر بالأهم والأمر بالمهم ، بل له الأمر بالأهم فقط أولا ، وبعد صرف النظر عنه لمصلحة يراها او لعدم اتيان العبد اياه أمر بالمهم لمصلحة ، فالأمر الشرعي والأمر العرفي يفترقان ، لأن الشارع لم يصرف النظر عن الأمر الأهم إذ لا يسقط أمره إلّا بتحقق العصيان كما سبق.

فالأوامر العرفية لا دخل لها بمسألة الترتب ، بل هي خارجة عما نحن فيه. لأن المفروض ، فيما نحن فيه ، ان الشارع المقدس لم يتجاوز عن الأمر بالأهم ولم

٣٩

يسقط أمره إلا بالعصيان الذي لم يتحقق قبل اتيان المهم كاملا وتماما ، فالأمر بالأهم باق حال الاشتغال بالمهم ، فيكون طلب الضدين في آن واحد وهو محال عقلا.

ثانيهما : انه يكون الأمر بالمهم ارشاديا لا مولويا في الأمثلة العرفية ، ارشد المولى عبده إلى مصلحة المهم ، ولا يتوهم أن مصلحته من حيث مزاحمته الأهم انعدمت ولم تبق اصلا.

وعليه فلو ترك الأهم فيستحق عليه العقاب وتفوته مصلحته ، وحينئذ ينبغي أن يفعل المهم كي يدرك مصلحته ويخفّف عقابه.

فبالنتيجة : الأمثلة العرفية خارجة عن محل البحث ، لأنه يكون في الأمرين المولويين المتعلقين بضدين على نحو الترتب لا في غيرهما.

قوله : فافهم وتأمل جيدا ...

وهو تدقيقي من اجل تعقيبه بالتأمل على النحو الجيد ، وكذا التأمل ظاهر في التدقيق والدقة لتعقيبه بكلمة (الجيّد). وهذا ذوقي لا يحتاج إلى اقامة البرهان.

قوله : ثم انه لا اظن ان يلتزم القائل بالترتب بما هو لازمه ...

قال المصنف : لا اظن ان يلتزم القائل بالترتب بلازمه وهو تعدد العقاب لو ترك المكلف كلا المأمور بهما ، ولم يمتثل الأمرين معا ، لتوجه امرين فعليين إلى المكلف.

والحال انه يشكل الالتزام بصحة العقابين على المكلف ، إذ هو لا يقدر في آن واحد على فعل الواجبين : الأهم والمهم ، والعقاب على غير المقدور قبيح لا يصدر من المولى الحكيم.

فاذا لم يصح اللازم لم يصح الملزوم ، فتعدد العقاب لا يصح ، فالترتب لا يصح أيضا.

اللهم إلا أن يقال ان المكلف بسوء اختياره اوجب التكليفين على نفسه ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار كما سبق ، ومن اجل هذا الاشكال ، أي تعدد

٤٠