البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

العقاب ، لم يلتزم الشيرازي قدس‌سره بالترتب ، أي بلازمه ، وان كان يلتزم به ، أي بالترتب ، في المرحلة الأولى ، ثم عدل عن رأيه لأجل هذا الاشكال على ما هو ببالي ، وكنا نورد عليه بسبب هذا الاشكال على صحة الترتّب ، وكان بصدد تصحيح الترتب كي لا يرد عليه اشكال تعدد العقاب ، والحال انه لا سبيل له إلى تصحيح الترتّب الذي هو سالم عن الاشكال المذكور ، كما لا يخفى.

قوله : فقد ظهر انه لا وجه لصحة العبادة مع مضادتها ...

قال المصنف : علم مما سبق منا ان الترتب لا ينفع في رفع الأمر بضدين في آن واحد ، بل يلزم الأمر بضدين في آن واحد ، ولو على نحو الترتب. وعلم ايضا ان الأمر بهما في زمان واحد محال.

وعليه : فلو عصى المكلف الأمر الأهم وتركه ، كالازالة والانقاذ ، وفعل المهم كالصلاة ، مع انها ليس لها أمر مولوي ، فهي لا محالة فاسدة ، بناء على اشتراط الأمر الشرعي في صحتها وفي قصد القربة فيها كما عليه المشهور.

وأما إذا قلنا انه يكفي في صحة العبادات رجحانها الذاتي الذي هو مناط الأمر الشرعي المولوي فهي صحيحة ، إذ مصلحتها ورجحانيتها وعموديتها محفوظة ، ولا تذهب من البين لأجل مزاحمتها الأهم الذي هو الازالة مثلا.

فعلى المشهور هي باطلة ، وان لم نقل باقتضاء الأمر بالشيء على نحو الايجاب النهي عن ضده ، ولكن هو يقتضي عدم الأمر بضده من اجل النكتة التي مرت سابقا.

فالصلاة لا يكون لها أمر حين الأمر بالأهم كالانقاذ والازالة.

قوله : نعم فيما إذا كانت موسعة وكانت ...

اعلم ان الأهم والمهم تارة يكونان موجودين بحيث يكون الأهم مضيقا كانقاذ الغريق ، ويكون المهم موسعا كالصلاة ، فالانقاذ يزاحم الصلاة في اول الوقت ، فاذا ترك المكلف الأهم الذي هو انقاذ الغريق والازالة وفعل المهم الذي هو الصلاة

٤١

فيمكن ان يفعل الصلاة بداعي أمرها ، لأن الصلاة بسبب المزاحمة مع الانقاذ لم يسقط أمرها ، وان لم يكن أمرها في أول الوقت الذي هو وقت المزاحمة مع الأهم فعليا ، ويؤخر أمرها في الجملة ، أي لم يصلّ أمرها في زمان يسع فعل الأهم بمرتبة الفعلية ، ولكن لما كانت الصلاة في اول الوقت مثل سائر افرادها التي تحققت في زمان غير المزاحمة إلى آخر الوقت في وجود المصلحة ، فالعقل يحكم بأن هذا الفرد من الصلاة ، وان لم يكن له أمر فعلي لأجل المزاحمة مع الأهم ، ولكن لما كان لطبيعة الصلاة أمر ، إذ متعلق الأوامر والنواهي يكون الطبائع لا الافراد ، واسقاط التكليف به ، فلا يقدح ان يشمل الأمر بالطبيعة هذا الفرد ، فلا بأس أن يفعل هذا ، أي الفرد ، بداعي الأمر بالطبيعة.

فبالنتيجة يمكن أن يفعل المكلف الصلاة في هذه الصورة والفرض بداعي امر طبيعة الصلاة ، ويتمشى منه قصد القربة.

بخلاف ما إذا كان الواجبان مضيقين ، أي كان الأهم والمهم بحيث يكون كلاهما مضيقين كانقاذ النبي وانقاذ المؤمن ، إذ عند المزاحمة يسقط امر المهم رأسا وبالكلية فلا يكاد أن ينقذ المؤمن في صورة المزاحمة مع انقاذ النبي المعصوم بداعي الأمر الذي يتعلق بطبيعة الإنقاذ ، فظهر الفرق بين المهم الموسع كالصلاة ، وبين المهم المضيق كانقاذ المؤمن بالاضافة إلى انقاذ المعصوم كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوصي عليه‌السلام.

قوله : ودعوى ان الأمر لا يكاد يدعو إلا إلى ما هو من افراد ...

ولا يخفى ان أمر المولى لا يدعو المكلف إلا إلى المأمور به مثلا. إذا قال المولى لعبده : (اشتر اللحم) وهذا يدعوه إلى اشتراء اللحم ، ولا يدعوه إلى اشتراء الكتاب او الخبز ، وهذا مسلم عند الكل. فالصلاة في حال التزاحم مع الانقاذ او الازالة وان كانت من افراد الصلاة بما هي صلاة ، ولكن ليست بما هي فرد طبيعة الصلاة بما هي مأمور بها ، لأجل المزاحمة مع الأهم ، وإلا يلزم الأمر بضدين في آن واحد ، فاذا لم يكن هذا الفرد الذي أتي به في أول الوقت مع عصيان الأمر الأهم من

٤٢

جملة افراد المأمور به ، فلا يكون أمر الصلاة داعيا ومحرّكا إلى إتيان هذا الفرد من الصلاة ، ولا يتمشى من المكلف قصد القربة لعدم تعلق الأمر بالفرد المأتي به.

فبالنتيجة تكون الصلاة باطلة ، ولذا قلنا فيما سبق ان مزاحمة المهم الأهمّ في بعض الوقت ، أي اول الوقت ، لا في تمام الوقت ، أي لا في تمام وقت المهم ، وإلا سقط طلب المهم رأسا كما سبق ، أي وإذا زاحم المهمّ الأهمّ في تمام الوقت.

قوله : فاسدة فانه انما يوجب ذلك إذا كان ...

اجاب المصنف عنه : بأن خروج هذا الفرد عن طبيعة الصلاة التي أمر بها ، ان كان بعنوان التخصيص ، بمعنى ان هذا الفرد لا تكون فيه مصلحة كما تكون في سائر افراد الطبيعة المأمور بها ، فقول المستشكل مسلّم تام مقبول ، والحال ان خروجه عن تحتها انما يكون لأجل المزاحمة بالأهم ، ففيه ليس قصورا إذ هو مثل سائر الأفراد في المصلحة والرجحان.

غاية الأمر من اجل المزاحمة بالأهم لا يكون أمره فعليا ، ولم يصل إلى مرتبة الفعلية ، بل ملاك الأمر محقق فيه بلا اشكال.

فلا فرق في نظر العقل بين الفرد المزاحم وبين سائر الأفراد ، إذ ملاك الأمر الذي هو عبارة عن المصلحة موجود فيه ، أي في الفرد الخارج ، إذ خروجه يكون خطابا لا ملاكا ، إذ لا قصور في الملاك ، ولكن من حيث ان المكلف لا يقدر في مقام الامتثال لعدم القدرة على الجمع بين الأمرين بالضدين في آن واحد ، كالجمع بين الانقاذ والصلاة ، لا يكون أمره فعليا منجّزا لأجل ما ذكر ، وعلى كل حال فالعقل لا يرى تفاوتا في مقام الامتثال وفي مقام اطاعة الأمر بالطبيعة بين الفرد المزاحم وبين سائر الافراد الذي لا يزاحم الأهم ، إذ هو فرد الطبيعة المأمور بها ومحصّل للغرض ، كسائر الأفراد. فظهر انه يمكن اتيان الفرد المزاحم بداعي الأمر.

قوله : هذا على القول بكون الأوامر متعلقة بالطبائع ...

لا يخفى انه يصح اتيان الفرد المزاحم بداعي الامر على القول بتعلق الاوامر

٤٣

الشرعية بالطبائع الكلية ، لأن الفرد المزاحم الاهمّ يكون فردا من افرادها ، فالمكلف مخيّر بين ايجادها في ضمن هذا الفرد ، وفي ضمن غير ذلك الفرد ، لأن الكلي الطبيعي غير موجود في الخارج الّا في ضمن افراده ، فيصح الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الامر الذي يتعلق بالطبائع ، إذ هو فردها كسائر الافراد ، أي افرادها.

قوله : واما بناء على تعلقها بالافراد فكذلك ...

وكذا يصح اتيان الفرد المزاحم بداعي الأمر وايجاده متقربا إلى المولى على القول بتعلق الأوامر الشرعية بالافراد كما هو رأي بعضهم ، كما ان تعلقها بالطبائع رأي الأكثر.

بيانه : ان هذا الفرد المزاحم ، وان لم يكن له أمر فعلي ، ولكن هذا الفرد من حيث اشتماله على المصلحة والرجحان يكون مثل سائر الأفراد ، فالمأتي به ، وهو الفرد الذي زاحمه الأهم ، يكون مثل المأمور به عند العقل في اشتمال كل واحد منهما على المصلحة من العمودية للدين والمعراجية للمؤمن والقربانية للتقي.

وعليه : فلا مانع عند العقل ، ان يؤتى بالفرد المزاحم في أول الوقت بداعي الأمر الذي تعلق بالأفراد التي يؤتى بها في غير اول الوقت لاتحاد حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز ، كما يجوز اتيان الأفراد غير المزاحمة مع الأهم بداعي أمرها وبداعي مصلحتها ورجحانها. كذا يصح اتيان الفرد المزاحم بداعي أمر الافراد وبداعي مصلحته وملاك الأمر الموجود فيه ، إذ لم نشترط في صحة العبادات وفي صحة قصد التقرب إلى المولى بفعلها ورود الأمر المولوي بها ، بل يكفي رجحانيتها ومحبوبيتها ، ولكن الافراد جزئيات ، وهي متباينات ، ولأجل هذا يكون المأتي به مباينا للمأمور به بحيث لا يمكن شموله له بذاته.

أما على القول بالطبائع فيمكن شمول المأمور به للمأتي به بذاته وأن لم يشمله بما انه مأمور به ، ولأجل هذا المقدار من الاختلاف كان جريان الداعي بالفرد المزاحم اخفى من جريانه به على القول بالطبائع ، فالفرد لا يشمل الفرد الآخر نحو

٤٤

(زيد) لا يشمل (عمرا) والطبيعة تشمل الفرد نحو (انسان) يشمل افراده من (زيد) وأمثاله كما لا يخفى.

قوله : فتأمل ...

وهو اشارة إلى انه ان اعتبرنا في صحة العبادات الأمر الفعلي بها فلا يصح حينئذ الاتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة أو بداعي الأمر بالفرد الآخر ، إذ ليس له أمر فعلي اصلا لأجل المزاحمة بالأهم. وإن لم نعتبره يصح الاتيان به بداعي رجحانه ومصلحته سواء قلنا بتعلقها بالطبائع أم قلنا بتعلقها بالأفراد.

قوله : ثم لا يخفى انه بناء على امكان الترتّب وصحته ...

فبناء على امكان الترتّب عقلا وصحته لا بد من الالتزام بوقوعه حيث يحرز ملاك الأمر في كل من الضدين فلا نحتاج إلى الدليل الآخر الذي يدل على وقوعه ، وذلك لوضوح ان المزاحمة على صحة الترتّب لا تقتضي عقلا إلا امتناع اجتماع طلب الضدين في عرض واحد ، وأما إذا كان طلبهما على نحو الترتب وعلى نحو الطولية لا العرضية فنحكم حينئذ بصحة الصلاة في حال تزاحم الأهم من الازالة والانقاذ ، إذ لها أمر مولوي وتكون مأمورا بها ، هذا بناء على القول بأنه لا يكفي الملاك في صحة العبادات وفي صحة قصد التقرب إلى المولى بها ، فاذا ترك الأهم وفعل المهم ، كالصلاة ، فهي صحيحة لثبوت الأمر المولوي بها في حال ترك الأهم ، مثل الموضع الذي لم تكن الصلاة فيه مضادة للإزالة والانقاذ. أما في صورة عدم مزاحمة الأهم ، كما إذا دخل المكلف المسجد ولم يكن المسجد ملوّثا بالقذارة والنجاسة ، فالصلاة مأمور بها أمرا مولويا بلا اشكال ، ويصح الاتيان بها بداعي أمرها ، وكذا يصح اتيانها في زمان مزاحمة الأهم بداعي أمرها بناء على صحة الترتّب عقلا ، إذ يكون لها امر فعلي على هذا المبنى كما لا يخفى. والحمد لله كما هو أهله.

قوله : فصل لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ...

اختلف بين الأعلام في أنه هل يجوز أمر الامر مع علم الآمر بانتفاء شرط

٤٥

الأمر والوجوب أم لا؟ فيه خلاف ، قال اكثر الامامية بعدم الجواز ، وقال اكثر مخالفينا بالجواز.

مثلا : إذا كان وجوب الصلاة مشروطا بالحياة والمولى يعلم بموت زيد في الغد مثلا ، هل يجوز للمولى أن يأمره باقامة الظهرين في الغد أو يأمره بالصوم فيه ، أم لا؟ واستدلوا عليه ، أي استدلال أكثر الإمامية ، بان كل موجود يحتاج إلى العلة فلا يوجد في الخارج بدون وجود علته ، بل وجوده بدونها محال ، ولا ريب في ان الشرط يكون من اجزاء العلة ، إذ هي المقتضي والشرط وعدم المانع ، ولا يخفى ان العلّة تنتفي بانتفاء أحد اجزائها ، فاذا انتفى الشرط انتفت العلة ، فاذا انتفت انتفى المعلول ، فهذه الامور من البديهيات لا تقبل الانكار اصلا.

فظهر مما ذكر ان أمر الآمر ينتفي بانتفاء شرطه ، وهو غير جائز ، لأن المركب ينتفي بانتفاء احد اجزائه ، كما تنتفي بانتفاء جميع اجزائه. وزعم بعضهم ان المراد من الجواز وعدم الجواز الثابتين في محل النزاع هو امكان الذاتي وامتناع الذاتي ، فالنزاع بين الأعلام في ان أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط الأمر والوجوب ، هل يمكن ذاتا او يمتنع ذاتا ولو بالعرض لعدم وجود علّته ولكن يمكن ذاتا؟ أو يكون مثل اجتماع النقيضين او مثل ارتفاعهما محالا ذاتا؟

وبتقرير أوضح : وهو انه يمكن ذاتا او يمتنع ذاتا ويستحيل ذاتا كاجتماع الضدين والنقيضين وكارتفاع النقيضين؟ او يمكن ذاتا ويمتنع عرفا لفقد بعض اجزاء علته وهو شرطه الذي يكون من اجزاء علة؟

والمصنف قدس‌سره قال ان مثل هذا النزاع بعيد عن شأن الأعلام وعن محل الخلاف بينهم ، ويبحثون عن امكان ذاتيه وامتناع ذاتيه ، إذ من الواضح الذي لا ينكره احد من الفحول والأعاظم امكان ذاتيه ، ولكن يمتنع بالعرض لعدم وجود علته ، فلا بحث في امكان ذاتيه ، وانما البحث في امكان وقوعه ، قال المجوّزون بوقوعه ، أي ان هذا واقع في الشريعة المقدسة فوق الامكان الذاتي ، واستدلوا عليه بانه لو لم يصح الأمر

٤٦

بالشيء مع العلم بانتفاء شرطه لم يعلم ابراهيم عليه‌السلام بوجوب ذبح ولده اسماعيل لانتفاء شرطه عند وقته وهو عدم النسخ ، وقد علم ، وإلّا لم يقدم على الذبح ولم يحتج إلى الفداء ، فامكانه مسلم عند الكل فلا مورد للبحث فيه ، وانما النزاع في امتناعه عرضا ، وعدم امتناعه بالعرض من اجل فقدان شرطه.

قوله : نعم لو كان المراد من لفظ الأمر بعض مراتبه ...

اعلم ان لأمر المولى اربع مراحل :

الأولى : الاقتضاء ، أي اقتضاء المصالح الواقعية والمفاسد الواقعية لتقنين الأحكام الالزامية وغير الالزامية.

الثانية : الانشاء.

الثالثة : الفعلية.

الرابعة : التنجز.

قال المصنف : انه يجوز النزاع في انه هل يجوز انشاء الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرط الأمر بمرتبة فعليته بان كان المراد من لفظ الأمر في عنوان البحث مرحلة انشائه ، ومن الضمير الراجع اليه الثابت في لفظ شرطه مرحلة فعليته على سبيل الاستخدام ، مثل : (رأيت اسدا وهو يرمي) ، إذ أريد من لفظ (الأسد) حيوان مفترس ، ومن ضمير (هو) الراجع اليه رجل شجاع بقرينة كلمة (يرمي) أم لا؟

فالنزاع في جواز انشائه مع علم الآمر بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية والبعث والتحريك لفقد شرطه ، ولكان جائزا بلا اشكال ، وهو ظاهر.

فاذا تنازعوا فيه ، فالأظهر هو الجواز ، لأنه يجوز للمولى انشاء الأمر بلحاظ الدواعي والأغراض التي تكون عنده مع علمه بأن هذا الخطاب والأمر لا يصير فعليا في حق المكلف لعدم شرط علية الامر ، كما إذا أمر المولى زيدا بصوم غد وهو يعلم موته فيه ، أو قبله ، والشرط هو حياة العبد ، فانشاء هذه الأوامر في الشريعة المقدسة كثير مثل الاحكام الواقعية في موارد الامارات والاصول التي قامت على

٤٧

خلافها ، إذ كلها حينئذ احكام انشائية ، وشرط فعليتها ، الذي هو قيام الحجة الشرعية عليها ، مفقود.

ومثل الاحكام الشرعية التي تودع عند الامام الثاني عشر عليه‌السلام والحال ان شروط فعليتها مفقودة.

ومثل غالب الأحكام الشرعية في أوائل الاسلام ، وهي تنشأ ويبلغها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب اقتضاء المصالح ، إذ تبين تدريجا بحسب اقتضاء الوقت لا دفعة ، فوقوع هذه الأحكام يغنينا عن اقامة الدليل والبرهان على انشائها وعلى عدم وصولها إلى المرتبة الفعلية ، إذ وقوع الشيء ادل دليل على امكانه ، وقد عرفت سابقا ان داعي الانشاء لا ينحصر بالبعث والتحريك قطعا ، فلا تكون صحة الانشاء دائرة مدار البعث والفعلية ، كما علم سابقا ان الأمر انشاء الطلب بأي داع كان ، وهو مختلف ، إذ قد يكون بعثا وتحريكا ، وقد يكون امتحانا ، وقد يكون تخسيرا وتعجيزا وتهديدا ، وقد يكون غيرها ، كما سبق في اول بحث الأوامر.

فان قيل : ان انشاء الطلب إذا لم يكن بداعي البعث والتحريك فليس بأمر حقيقة فكيف يطلق عليه انه أمر.

قلنا : انه يطلق عليه أمر مسامحة وتجوّزا ، ولا بأس به بعلاقة المشابهة صورة ، إذ الأمر الجدي والأمر غير الجدي يكون كل واحد منهما أمرا صورة ، غاية الأمر ان الأمر إذا لم يكن جديا فهو يحتاج إلى قرينة صارفة من إرادة الحقيقة. كما لا يخفى هذا.

قوله : وقد ظهر بذلك حال ما ذكره الأعلام في المقام ...

وقلنا سابقا : ان للأمر مراتب اربعة : الاقتضاء ، والانشاء ، والفعلية ، والتنجز.

فالقائل بالجواز يقول ان الأمر الانشائي يجوز انشاؤه مع عدم وجود فعلية الأمر. والقائل بعدم الجواز يقول : ان الامر الفعلي لا يجوز مع عدم شرط فعلية الأمر والحكم. وفي ضوء هذا ، يظهر أمران :

٤٨

الأول : انه يندفع الاشكال الذي أورد في هذا المقام.

بيانه : أن أمر الآمر لو جاز مع انتفاء شرط الامر لانجرّ هذا إلى التكليف بغير المقدور ، وهو قبيح ، والقبيح يستحيل صدوره من المولى الحكيم.

هذا مضافا إلى انه تلزم لغوية الأمر حينئذ ، فهذا الاشكال مندفع من بيان ما سبق ، لأن القبيح يلزم إذا كان مراد القائل بالجواز هو الأمر الفعلي ، وليس كذلك. إذ المراد هو الأمر الانشائي الذي لم يصل إلى مرتبة الفعلية ، وهو ليس بقبيح.

والثاني : انه ربما يقع التصالح بين الجانبين لتعدد مورد النفي والاثبات ، لأن مراد القائل بالجواز هو الأمر الانشائي ، ولأن مراد القائل بعدم الجواز هو الأمر الفعلي ، فكل واحد من الطرفين يقبل قول الطرف الآخر ، فلا نزاع في البين.

قوله : فتأمل جيدا ...

وهو اشارة إلى دقة الشرط لأنه على قسمين :

الأول : شرط المأمور به المعبر عنه بشرط الوجود.

والثاني : شرط الأمر المعبر عنه بشرط الوجوب ، كأن يقول المولى ، مع علمه بعدم الاستطاعة : (حجّ ان استطعت) والاستطاعة شرط الوجوب ، والمراد هو الثاني ، لأنه يصح أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط المأمور به كالطهارة مثلا ، فالصلاة واجبة على زيد سواء تطهر أم لم يتطهر ، وهو واضح لا غبار عليه أصلا.

قوله : فصل الحق ان الاوامر والنواهي تكونان ...

اختلف الاصوليون في ان متعلق الاوامر والنواهي هل هو طبائع بحيث يكون المأمور به في (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) طبيعة الصلاة ، وبحيث يكون المنهي عنه في نحو (لا تشرب الخمر) مثلا ، طبيعة الخمر أم الافراد ، أي افراد الطبائع ، فالخصوصيات الفردية الزائدة على وجود الطبائع ، واللازمة للافراد ، ولا ينفك الوجود الخارجي للطبائع عنها ، فداخلة في المأمور به. كما انها ، على المبنى الأول ، خارجة عن المطلوب وعن المأمور به ، ولا تكون دخيلة فيه ، بحيث انه لو امكن وجود الطبائع

٤٩

في الخارج بدون الخصوصيات لحصل المطلوب والغرض.

والمختار عند المصنف هو القول الأول ، ولذا قال الحق ، كما لا يخفى على الناقد البصير.

قوله : ولا يخفى ان المراد ان متعلق الطلب في الأوامر هو صرف الايجاد ...

ولا يخفى ان معنى تعلق الأوامر بالطبائع ليس بأن الطبيعة بما هي هي مأمور بها ، إذ الطبيعة من حيث هي ليست إلّا هي ولا يكون لها وجود إلّا في الذهن.

بل معنى تعلق الأوامر بها ان الأمر طلب ايجاد الشيء ، فالأمر بالطبيعة يكون بمعنى طلب ايجادها ، فوجودها ملحوظ في ضمن الأفراد ، لا الطبيعة بما هي.

والشاهد عليه ، أي على كون الأمر بمعنى طلب ايجاد الشيء يكون نهي المولى ، إذ هو طلب ترك الشيء ، وعن طلب اعدام الشيء ، فالأمر والنهي متضادان فمقتضاهما ايضا متضادان ، كالماء والنار إذ هما متضادان فمقتضاهما أيضا متضادان ، فمتعلق الأوامر والنواهي ، أي متعلق الايجاد في الأمر ومتعلق الترك في النهي ، هو الطبيعة المحدودة بحدود ذاتية ، كالحيوان الناطق بالاضافة إلى الانسان.

فطبيعة الانسان محدودة بالجنس القريب وهو الحيوان ، وبالفصل القريب وهو الناطق. والمقيدة بقيود خارجية كالضاحكية والماشية بالنسبة إلى الانسان في قولنا (الانسان ماش ضاحك).

فكذا تكون الطبيعة المحدودة بحدود ذاتية ، والمقيدة بقيود خارجية ، موافقة للغرض والمطلوب ، ففي (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) تكون الصلاة ، المحدودة بحدود ذاتية مثل التكبيرة والقراءة والركوع والسجود وغيرها ، والمقيدة بقيود خارجية مثل الطهارة والستر والاستقبال وغيرها ، موافقة للغرض والمقصود ، لا الصلاة من حيث هي صلاة المعراة عن حدود وقيود من دون تعلق غرض باحدى الخصوصيات التي تكون لازمة للوجودات الفردية ، مثل كونها في المسجد أو في غيره ، ومثل كونها أول الوقت أو وسطه أو آخره ، بحيث لو كان الانفكاك ممكنا ، أي انفكاك الطبائع عن

٥٠

الخصوصيات الوجودية الفردية ، لما كان مضرّا بالغرض ومخلا بالمقصود اصلا ، فمعنى تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع ان الخصوصيات الفردية خارجة عن المأمور به ، بل هي مميزات الافراد بعضها عن بعضها الآخر ، كما ان معنى تعلقهما بالافراد ان الخصوصيات الفردية داخلة في المأمور به ودخيلة في المطلوب.

قوله : كما هو الحال في القضية الطبيعية ...

اعلم ان القضية الحملية بلحاظ حال الموضوع تنقسم إلى اربعة اقسام الشخصية والطبيعية والمهملة والمحصورة.

بيان ذلك : ان الموضوع ، اما جزئي ، وأما كلي.

فالأوّل : هو الشخصية نحو زيد قائم.

والثاني : لا يخلو من وجهين ، لأن الحكم ، اما يترتب على نفس حقيقة هذا الكلي ، أو على افراده ومصاديقه ، فالأول هو الثاني نحو الانسان نوع والحيوان جنس ، لأن النوعية والجنسية ثابتتان لماهية الإنسان لا لأفرادهما.

وعلى الثاني ، فاما أن تبيّن كمية افراد الموضوع والمحكوم عليها ، او لا يتبين ذلك اصلا.

فالأول هو الرابع نحو كل انسان حيوان ناطق.

والثاني : هو الثالث نحو مساجد هذا البلد معمورة إذ لم تتبين كمية أفراد المساجد لا كلا ولا بعضا فعلم ان الحكم في الطبيعية والمحصورة يترتّب على الطبيعة الموجودة في ضمن أي فرد من افراد الموضوع ، لا الطبيعة من حيث هي ، إذ هي من حيث هي ليست إلّا هي ، فالانسان نوع والحيوان جنس يكونان مثل (أقيموا الصلاة ولا تشربوا الخمر) في ترتب الحكم على الطبيعة المتحققة في ضمن الأفراد.

بل العكس أي (اقيموا الصلاة) مثل (الانسان نوع) والشاهد على تعلق الأوامر والنواهي بالطبائع لا الافراد ، ان الانسان إذا رجع إلى وجدانه في مطلوباته يجد انه يحتاج لأجل رفع العطش إلى شرب الماء البارد ، فيأمر عبده بقوله : (جئني بالماء

٥١

البارد) ، مع انه يعلم ان الماء بقيد البرودة رافع للعطش ، والعبد يعلم ايضا ان غرض المولى يكون ايجاد الماء البارد واحضاره عنده بقيد البرودة ، واما سائر مشخصاته الوجودية ككونها في أي ظرف ومن أي الماء فهو خارج عن مطلوبه ، كما لا يخفى ، فايجاد طبيعة الماء المقيدة بقيد البرودة وان كان لا ينفك في الخارج عن الخصوصية لأن الماء البارد إذا وجد في الخارج ، يكون في ظرف كذا ومن الماء كذا.

وكذا يكون غرض المولى الحكيم في قوله اقيموا الصلاة طبيعة الصلاة المحدودة بحدود مثل التكبيرة وغيرها ، والمقيدة بقيود خارجية مثل الطهارة وغيرها ، وأما سائر الخصوصيات مثل كونها في المسجد وغيره ، فلا يكون مطلوبا للمولى وان كان ايجاد طبيعة الصلاة في الخارج لا ينفك عن خصوصية من الخصوصيات ، فالقيد الذي يكون دخيلا في المطلوب والغرض ملحوظ في المأمور به ، كقيد البرودة في طلب الماء لرفع العطش. وكقيد الايمان في الأمر يعتق الرقبة المؤمنة ، واما سائر قيودها ومشخصاتها الوجودية مثل طول القامة واللون الكذائي مثلا ، فهو خارج عن المطلوب كما لا يخفى.

قوله : فانقدح بذلك ان المراد بتعلق الأوامر بالطبائع ...

فظهر مما سبق ان تعلق الأوامر بالطبائع دون الافراد باعتبار وجودها في ضمن كل فرد ، أي وجودها الذي فيه سعة ، حيث ان وجود الكلي يتحد مع وجود كل فرد في الخارج ، بخلاف وجود الفرد ، فالطبائع التي تكون متعلقة الطلب والأمر تكون مطلوبة بقيد الوجود ، وان كان بحسب الظاهر متعلق الطلب نفس الطبيعة ، ولكن علم ان معنى الأمر طلب ايجاد الطبيعة ، فالقائل بكون الأمر متعلقا بالطبائع لا الافراد ، يقول انها مطلوبة باعتبار الوجود لا بما هي هي ، إذ ليست بما هي إلّا هي أي لا تكون مطلوبة ولا غير مطلوبة. فبعد هذا التكرار اتضح المراد بالطبائع.

فمتعلق الأمر على هذا المبنى يكون من طبيعة موجودة في ضمن كل فرد من افرادها ، ولا يكون متعلق الأمر خصوص وجود فرد فرد كما يقوله القائل بتعلق

٥٢

الأمر بالافراد.

قوله : كما ربما يتوهم فانها كذلك ليست إلا هي ...

وزعم بعض ان المراد بكون الأوامر متعلقة بالطبائع انها من حيث هي مطلوبة ، وهو فاسد ، إذ هي من حيث هي ليست إلا هي ، ليست مطلوبة ولا غير مطلوبة ، إذ لا وجود لها حينئذ في الخارج ، وموطنها من حيث هي الذهن فقط.

نعم ، الطبيعة من حيث هي تكون متعلقة للأمر بحسب الظاهر ، إذ الأمر بمعنى طلب الوجود ، فيكون مدلول الأمر بالطبيعة مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، طلب وجودها في ضمن كل فرد من الأفراد مع قطع النظر عن الخصوصيات الفردية ، والعوارض العينية كما مرّ آنفا وكذا الأمر في (آتُوا الزَّكاةَ).

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى الاشكال بين الطلب والأمر من حيث دخل الوجود في مفهوم الثاني دون الأول كما عرفت سابقا ، فالأمر بالطبيعة وطلب الطبيعة يكونان بمعنى ايجادها في ضمن فرد من الأفراد ، أي افرادها بلا تفاوت بينها اصلا ، بل الأمر يكون بمعنى ايجادها في ضمن فرد من الأفراد بخلاف الطلب.

قوله : دفع وهم ...

فاذا علم معنى تعلق الأوامر بالطبائع ، وعلم ايضا ان الأمر بمعنى طلب ايجاد الشيء سواء تعلق بالطبائع أم تعلق بالافراد ، وعلم ايضا ان النهي بمعنى طلب الترك وبمعنى طلب اعدام الشيء سواء تعلق بالطبائع أم تعلق بالافراد ، فليلحظ الوجود في الأمر والترك في النهي على القولين.

فتوهم في المقام. وتقريب التوهم ان الطلب إذا كان متعلقا بالوجود كان الطلب عارضا على الوجود ، وحينئذ فاما ان يكون عروضه عليه قبل تحققه أو بعده ، فعلى الأول يلزم وجود العارض بدون المعروض ، مثل وجود البياض بدون الجسم وهو محال. وعلى الثاني يلزم تحصيل الحاصل وهو قبيح ، والقبيح لا يصدر من

٥٣

المولى الحكيم.

فأجاب المصنف عنه : بان المراد من تعلق الطلب والأمر بالوجود ، أي بوجود الطبيعة ، ليس تعلقهما بوجود الطبيعة الثابتة في الخارج ، مثل ان يقول المولى لعبده : (أريد منك في الخارج وجود فرد من افراد الطبيعة الموجودة) كي يلزم طلب الحاصل ، بل المراد تعلقهما بايجاد الطبيعة ، ولا يلزم طلب الأمر الحاصل ، لأن كيفية امر المولى تكون على هذا النحو ، وهو ان المولى يتصور في نفسه الطبيعة المحصّلة لغرضه ، ثم يأمر عبده بايجادها في ضمن فرد من افرادها بعد ان لم تكن موجودة في الخارج ، فالغرض لا يحصل إلا بوجود خارجي هذا الشيء ، فيطلب ايجاد هذا الشيء في الخارج ولا يطلب بأمر الشيء الموجود في الخارج ، بقيد الوجود وايجاده ثانيا ، حتى يلزم طلب الحاصل. فالطبيعة المقيدة بقيد الوجود في ضمن فرد يتصورها المولى ويطلبها وتكون متعلقة للطلب ، قبل الأمر ، فهي غير موجودة في الخارج في ضمن فرد ، فالغرض من الأمر هو اعطاء الوجود لهذا الشيء ، أي اعطاء العبد الوجود للشيء المأمور به في الخارج.

مثلا : أراد المولى بقوله (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) إيجاد الصلاة في الخارج بملاحظة الغرض ، فيتصور وجود خارجي هذه الطبيعة المأمور بها ، ثم يأمر بايجادها في الخارج ، فالصلاة بلحاظ الوجود مطلوبة فهي قبل الطلب والامر لا وجود لها وبعد الطلب موجودة ، فلا اشكال في البين.

هذا بناء على اصالة الوجود في دار التحقق. واما بناء على اصالة الماهية في دار التحقق فاختلف الحكماء.

قال المشاءون منهم : ان الاصل هو الوجود ، ويكون الصادر هو الوجود ، وقال الشيخ شهاب الدين السهروردي شيخ الاشراقيين ومن تبعه : ان الاصل هو الماهية والوجود أمر انتزاعي ، وماهية الشيء حدود الوجود المميّزة لهذا الوجود عن وجود الآخر ، كحدود وجود الانسان المميزة لوجوده عن وجود العصفور مثلا.

٥٤

فاذا قلنا : ان الأصل هو الوجود علم ان معنى الأمر بالطبيعة يكون بمعنى طلب ايجادها في الخارج ، إذ الطبيعة من حيث هي ليست بمطلوبة ، بل هي باعتبار الوجود مطلوبة.

واما إذا قلنا ان الأصل هو الماهية فالطبيعة بما هي ليست بمطلوبة ايضا ، بل بلحاظ كونها من الأعيان الخارجية الثابتة مطلوبة ، فعلى هذا المبنى (أي مبنى أصالة الماهية) يكون معنى ايجاد الطبيعة جعلها من الأعيان الخارجية ، فالطلب على القول باصالة الوجود يتعلق بايجاد الطبيعة في الخارج في ضمن فرد من افرادها.

وعلى القول باصالة الماهية تعلق بجعل الماهية والطبيعة من الخارجيات ومن الأعيان الثابتات.

فالطبيعة ملحوظة بخارجيتها على هذا القول لا بوجودها في ضمن الافراد ، كما انها ملحوظة بوجودها في الخارج على القول باصالة الوجود.

وكيف كان سواء كان الوجود اصيلا وكانت الماهية اعتبارية ، أم كانت الماهية اصيلة وكان الوجود اعتباريا ، يلحظ الآمر مطلوبه من الماهية الخارجية على القول باصالة الماهية أو الطبيعة الموجودة في الخارج في ضمن فرد من افرادها على القول باصالة الوجود ، فيطلبه ويبعث عبده نحوه ليصدر ذاك المقصود من العبد في الخارج ، ويكون فيه بعد ما لم يكن فيه ، أي في الخارج.

وليعلم ان المراد من الأوامر اعم من الأوامر الوجودية ومن النواهي التنزيهية كالمكروهات.

قوله : فافهم وتأمل جيدا ...

وهو تدقيقي اشارة إلى دقة المطلب المذكور سابقا لوجهين : الأول : لظهور كلمة (فافهم) في التدقيق كما ان كلمة (وتأمل) ظاهرة في التمريض.

والثاني : لأن كلمة (فافهم) سابقة ، وكلمة (فتأمل جيدا) مسبوقة ، وهذا قرينة على كون (فافهم) ظاهرا في التدقيق لا سيّما (الجيّد) ، أي لا سيما بلحاظ كلمة

٥٥

(الجيّد).

في نسخ الوجوب

قوله : فصل إذا نسخ الوجوب فلا دلالة لدليل الناسخ ...

إذا أوجب المولى اكرام العلماء بقوله : (اكرم العلماء يوم الجمعة) ، ثم نسخ وجوبه بقوله : (ولا تكرم العلماء يوم الجمعة).

قال المصنف : فلا دلالة لدليل الناسخ ، وهو (لا تكرم العلماء) ولا لدليل المنسوخ وهو (اكرم العلماء) على بقاء الجواز بالمعنى الأعم الذي يشمل المباح والمندوب والمكروه ، ولا على بقاء الجواز بالمعنى الأخص الذي يشمل المباح فقط. كما لا دلالة للناسخ ولا المنسوخ على ثبوت غير الجواز من خصوص الكراهة والحرمة.

(وجه عدم الدلالة على الامور المذكورة أي على احدها) :

ان جملة (اكرم العلماء) يدل على الوجوب فقط ، وهو قد نسخ قطعا ، ولا يدل على شيء آخر ، وان جملة (لا تكرم العلماء) تدل على نسخ الوجوب الثابت ولا يدل شيء منهما على الاباحة بالمعنى الأعم ، ولا الاباحة بالمعنى الأخص ، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما.

اما المطابقة والتضمن فظاهران.

واما الالتزام فلأنه مشروط باللزوم العقلي او اللزوم العرفي ، والحال انه لا ملازمة عقلا ولا عرفا بين نسخ الوجوب وبقاء الجواز بالمعنى الأعم ، أو بالمعنى الأخص ، فاذن نحتاج إلى الدليل الآخر الذي يدل على حكم اكرم العلماء ، فان قيل انا نتمسك باستصحاب بقاء الجواز.

بيانه : انه كان جواز اكرامهم ثابتا قبل النسخ ، لكن مع المنع من الترك ، إذ الوجوب هو جواز الفعل مع المنع من الترك ، فالجواز كان في ضمن الوجوب ، فاذا

٥٦

نسخ الوجوب قطعا فنشك بعد النسخ ان الوجوب نسخ بتمام مراتبه ، أو نسخ مرتبة شديدة وأكيدة والجواز باق. فبالاستصحاب نحكم بان الاكرام جائز وراجح على تركه فتتم اركانه.

قلنا : ان هذا النحو من الاستصحاب من القسم الثالث من الاستصحاب الكلي. ومن الواضح انه ليست للفرد حالة سابقة حتى يستصحب عند الشك في بقائه.

مثلا إذا كان الفيل موجودا في البيت ونشك في وجود بغل معه ، وبعد مدة صار الفيل معدوما قطعا ، فحينئذ نشك في ان مقارن اعدام الفيل ومقارن خروجه من البيت ، أيوجد بغل في البيت أم لا؟ فباستصحاب بقاء الحيوان ، نحكم ان في البيت حيوانا ، ومن الواضح ان هذا النوع من الاستصحاب اصل مثبت لا نقول بحجيته ، إذ وجود البغل في البيت مقارنا لخروج الفيل منه لازم عادي للمستصحب ، ولا يكون لازما شرعيا له.

هذا : مضافا إلى انه ليست لهذا الفرد حالة سابقة كي يستصحب بقاؤه عند الشك في بقائه وزواله ، فلا يصدق الشك في البقاء الذي هو مجرى الاستصحاب مع تعدد الوجود لأن الفيل والبغل متباينان ، وكل متباينين يكون وجود كل واحد منهما غير وجود الآخر وللبغل ليست حالة سابقة متيقنة كي يستصحب بقاؤه عند الحالة المشكوكة.

نعم ، إذا كان الفرد الباقي بالاستصحاب من مراتب وجود الفرد المعدوم كاللّون الأصفر بالنسبة إلى اللون الأحمر مثلا ، كان القرطاس ملونا بالأحمر الشديد وهو زائل قطعا ، ولكن نشك في انه انعدم بتمامه أو انعدمت مرتبته الشديدة وبقيت مرتبته الضعيفة وهي الصفرة ، لا يبعد في هذا المورد ان يجري الاستصحاب ونحكم ببقاء الصفرة عند الشك في بقائها ، إذ لها حالة سابقة يقينية ، وتتم اركان الاستصحاب حينئذ وهي اليقين السابق والشك اللاحق ، والحال انه من المعلوم ان كل واحد من

٥٧

الأحكام الشرعية التكليفية ، سواء كانت الزامية من الوجوب والحرمة ، أم كانت غير الزامية من الندب والكراهة ، مباين لحكم الآخر عقلا وعرفا كالجزئيات الخارجية من زيد وعمرو وغيرهما ، فاذا ارتفع الوجوب بالنسخ كان الجواز امرا حادثا ، فلا يبقى موضوع كي يستصحب بقاؤه عند الشك ، فلا مجال للاستصحاب لاشتراط بقاء الموضوع فيه.

نعم يكون الوجوب والاستحباب متحدين من حيث الطلب في نظر العقل ، وان كان بينهما التفاوت في نظره بالشدة والضعف ، حيث يرى العقل أنّ الوجوب هو الطلب الشديد ، والاستحباب هو الطلب الضعيف.

وعليه : فاذا ارتفع الوجوب بالنسخ استصحبنا الاستحباب ، أي بقاءه ، إذ هما متحدان من حيث الطلب ، وقبل النسخ كان كلاهما موجود في نظر العقل ، وبعد النسخ ارتفع الوجوب قطعا ، ونشك في بقاء الاستحباب وارتفاعه ، فنستصحب بقاءه.

قلنا ان الملاك في باب الاستصحاب نظر العرف ، لا نظر العقل ، فالوجوب والاستحباب في نظر العرف متباينان ومتضادان ، فلا مجال للاستصحاب إذا شك في تبدل احدهما بالآخر لتباينهما في نظر العرف ، فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى القواعد المقررة كما ستأتي في بحث الاستصحاب ، إن شاء الله تعالى.

٥٨

بحث الواجب التخييري

قوله : فصل إذا تعلق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء ...

إذا تعلّق الأمر الشرعي بالشيئين مثل : (ان افطرت عامدا ، فاعتق رقبة مؤمنة ، أو فصم ستين يوما) ، أو تعلق بالاشياء نحو : (إذا افطرت صومك عامدا عالما ، فاعتق رقبة مؤمنة ، أو فصم ستين يوما أو فأطعم ستين مسكينا).

فهذا واجب تخييري بحيث لا يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الاتيان بالجميع ، فللمكلّف الخيار في تعيين ما شاء من الأمرين أو الامور ، فاذا أتى بالواحد فقد فعل الواجب ، وحصل غرض المولى ، فالوجوب التخييري يكون نحوا من الوجوب الشرعي ، ولكن يمتاز عن غيره بحسب الفرض والثواب والعقاب ، كما سيأتي عن قريب.

فالأقوال هنا كثيرة :

أوّلها : ان الواجب يكون الأمرين أو الامور معا ولكن تخييرا ، بالمعنى الذي ذكر سابقا.

وثانيها : ان الواجب واحد لا على التعيين ، فالواجب كلي يشمل الجميع على البدل ، فالتخيير عقلي في مقام الامتثال وفي مرحلة العمل ، وهو شرعي على الأول ، وكما ان الخطاب على الأول متعدّد ، وعلى الثاني واحد ، هذا فرق بينهما.

وثالثها : ان كل واحد من الامرين أو الامور واجب بالوجوب التعييني ، ولكن امتثال واحد منها محصّل الغرض ، مثل ما إذا كان للمولى غرضان كلاهما واجب التحصيل ، ولكنهما متنافيان بحيث لا يمكن للمكلف تحصيلهما معا ، إلا تحصيل أحدهما ، ففعل واحد لا محالة محصّل للغرضين ، كما إذا أمر المولى باحضار التفاح والخبز لرفع الجوع الشديد ، ولكن لا يمكن للمكلف احضار التفاح فاحضار الخبز

٥٩

كاف ومحصل للغرض بل للغرضين من احضارهما ، وهو سد الجوع وحفظ الرمق ، ويكون مسقطا لأمر نفسه وبديله وعدله ، كما لا يخفى ، فكذا الأمر هنا ، أي في الواجب التخييري.

ورابعها : ان الواجب واحد معين عند الله تعالى ، غير معين عندنا ، ولكن الله تعالى يعلم ان المكلف يختار الواجب ، فهذه في الواجب التخييري.

في مذهب المصنف

قوله : والتحقيق ان يقال انه ان كان الأمر باحد ...

فبيّن المصنف ، بعد نقل الأقوال ، مذهبه ومختاره في المقام وهو أنّ أمر المولى لا بد أن يكون ناشئا عن الغرض ، فاذا كان للمولى غرض واحد نحو رفع العطش مثلا ، فكل واحد من الماء وعصير الفاكهة رافع للعطش ومحصّل للغرض ، فحينئذ يكون الجامع بينهما وهو المشروب المائع الذي يرفع العطش واجبا ، والتخيير يكون بينهما عقليا ، أي بحكم العقل ، إذ كل واحد منهما محصل للغرض بتمامه.

ويدل على كون الجامع بينهما واجبا ان الواحد لا يصدر من الاثنين من حيث انهما اثنان متى لم يكن بين الاثنين جامع في البين لاعتبار نحو من السنخية بين العلة والمعلول والسبب والمسبب ، ولو لم تعتبر السنخية بينهما لاثّر كل شيء في كل شيء كما قيل.

وعليه : فالمعلول الواحد لا يصدر إلّا من العلة الواحدة ، إذ الواحد لا يصدر إلا من الواحد ، فرفع العطش لا يصدر إلا من الجامع الكلي وهو المائع الرافع للعطش ، ولا يصدر من الماء والعصير حتى يكونا واجبين ، ولكن العقل لا يلتفت إلى الجامع ، فلهذا أمر الشارع المقدس بالفردين أو بالافراد من الجامع ، فالجامع واجب عيني والتخيير بين الفردين أو الافراد عقلي.

وأما إذا كان الغرض متعددا ، ولكن على نحو لا يمكن تحصيله مجموعا فلا

٦٠