البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

من هذا القبيل فإنّه لو جاز بخبر الواحد لبان واشتهر بين الخاصّة والعامّة بحيث يكون غير قابل للانكار والخلاف فمن عدم اشتهاره بينهم يكشف كشفا قطعيا عن عدم وقوعه وانّه لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد ، فلو دلّ خبر الواحد على نسخة فلا بد من طرحه أو حمله على كذب الراوي أو على خطائه أو سهوه ، فحاله حال اثبات قرآنية القرآن حيث انّها لا تثبت بخبر الواحد حتى عند العامة.

ولذا لا تثبت بأخبار عمر بن الخطاب (الشيخ والشيخة إذا زنيا رجما) ، بل تثبت بالخبر المتواتر عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

توضيح في طي الأخبار المخالفة لظاهر الكتاب المجيد

منها ما ورد من ان الصلاة في قوله تعالى (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) هو المسجد.

ومنها ما ورد من ان البحرين في قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) علي وفاطمة عليهما‌السلام ومن ان البرزخ هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن ان اللؤلؤ هو الحسن والمرجان هو الحسين عليهما‌السلام.

ومنها ما ورد من ان المشكاة في قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) محمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمصباح قلبه الطيّب والزجاجة صدر علي عليه‌السلام والكوكب الدرّي هو الزهراء المرضية عليها‌السلام وأولادها الأحد عشر عليهم‌السلام والشجرة المباركة إبراهيم الخليل عليه وعلى نبيّنا وآله الصلاة والسلام ولا شرقية ولا غربية أي لا نصرانية ولا يهودية لأن النصارى تصلّي إلى المشرق واليهود تصلّى إلى المغرب أي إبراهيم الخليل لأن أكثر الأنبياء من صلبه ، ليس نصراني ولا يهودي.

ومن ان (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) أي يكاد العالم من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل نور على نور أي امام مؤيّد بنور العلم

٤٨١

والحكمة في إثر إمام من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير ذلك مما لا يقبل الإنكار.

فكلّها مخالف لظاهر الكتاب وشارح لمراد الواقعي من كلامه تبارك وتعالى فلا تشملها الأخبار الآمرة بالطرح والضرب على الجدار.

في اختلاف حال الخاص ناسخا ومخصصا ومنسوخا

إذا ورد عام وخاص متخالفين في الحكم نحو (اكرم الناس ولا تكرم كفار الناس) ودار الأمر بين التخصيص والنسخ ففيه صور :

الأوّلى : أن يكون الخاص متصلا بالعام ومقارنا له بأن صدرا من المعصوم عليه‌السلام في زمان واحد احدهما بالقول والآخر بغير القول من الكتابة أو الإشارة المفهمة حتى تتحقق المقارنة بينهما من حيث الزمان أو صدرا من معصومين عليهما‌السلام بالقول في زمان واحد. ففي هذه الصورة لا يعقل النسخ إذ هو عبارة عن رفع الحكم الثابت في الشريعة المقدسة. ولكن المفروض فيها ان الحكم العام في العام المتصل بالمخصص غير ثابت حتى يكون الخاص رافعا له ، بل لا يعقل جعل الحكم ورفعه في آن واحد وفي دليل فارد. فالخاص يكون مخصصا له في هذه الصورة.

الثانية : أن يكون الخاص متأخرا عن العام ولكن كان تأخّر الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام ففيها يحتمل أن يكون الخاص مخصصا له ، وهو الأظهر.

ويحتمل أن يكون ناسخا للعام وان قيل بعدم جواز التخصيص لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الخطاب ، والقائل ليس بمعلوم لنا. وبعدم جواز النسخ نظر إلى اشتراط جواز النسخ بحضور وقت العمل بالمنسوخ.

هذا ، مضافا إلى انه لا يعقل جعل الحكم من المولى الملتفت إلى عدم فعليته في الخارج وإلى عدم تحققه فيه بفعلية موضوعه لأنّه مع علم المولى بانتفاء شرط فعليته كان جعله لغوا محضا إذ الفرض من جعله صيرورة الجعل داعيا للمكلف

٤٨٢

جانب الفعل ، فإذا علم المولى بعدم بلوغه إلى المرتبة الفعلية من جهة انتفاء شرطه فيكون جعله بهذا الداعي لغوا فيستحيل أن يصدر من المولى الحكيم جلّ وعلا. ولكن قال المصنف قدس‌سره بجواز كليهما في هذه الصورة.

اما جواز التخصيص فلأن تأخير البيان عن وقت الخطاب إذا كان المصلحة داعية له جائز عقلا ولا محذور فيه أصلا. واما جواز النسخ فلأنه في الشرعيات يكون بمعنى أمد الحكم وغايته.

ومن الواضح ان النسخ بهذا المعنى جائز قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ وبعد حضور وقته به. غاية الأمر إنّه إذا كان بعد حضور وقت العمل به فالأمر الأوّل كان أمرا جديا ناشئا من مصلحة في متعلقه ، وإذا كان قبل حضور وقت العمل به فالأمر الأول كان صوريا مسببا عن مصلحة في نفس الأمر لا في متعلقه نظير الأوامر الامتحانية نحو الأمر بذبح اسماعيل النبي عليه‌السلام.

الثالثة : ان يكون الخاص المتأخر واردا بعد حضور وقت العمل بالعام ، فهل مثل هذا الخاص يكون مخصصا له أو ناسخا له فيه وجهان ، بل قولان.

فقد ذهب جماعة إلى الثاني بدعوى ان تأخر البيان عن وقت الحاجة والعمل قبيح لاستلزامه الاغراء بالجهل وهو قبيح ، فالتأخير عن وقت الحاجة قبيح أيضا ، إذ مستلزم القبيح قبيح.

وعليه فيتعين كونه ناسخا لا مخصصا ولكنهم وقعوا في اشكال بالاضافة إلى عمومات الكتاب الكريم والسنة الشريفة ، حيث ان مخصصاتها التي صدرت عن الأئمة الأطهار عليهم‌السلام قد وردت بعد حضور وقت العمل بها ، ومع ذلك كيف يمكن الالتزام بتخصيصها بها. والالتزام بالنسخ في جميع ذلك بعيد جدّا ، بل نقطع بخلافه لأن لازم ذلك نسخ كثير من الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة. هذا ، مضافا إلى ان النسخ لا يمكن بعد زمن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لانقطاع الوحي بعد انقراض عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٨٣

ذهب المصنف قدس‌سره إلى الأوّل بدعوى ان هذه العمومات التي وردت مخصصاتها بعد حضور وقت العمل بها قد صدرت بأجمعها متكفلة للأحكام الظاهرية ضربا للقاعدة والقانون فيكون الناس مكلفين بالعمل بها ما لم يرد عليها مخصص ، فإذا ورد عليها المخصص كان ناسخا بالإضافة إلى الأحكام الظاهرية. ومخصصا بالنسبة إلى الارادة الجدية والاحكام الواقعية إذ لا ملازمة بين كون العموم مرادا بالإرادة الاستعمالية ، وبين كونه مرادا بالإرادة الجدية ، كما لا ملازمة بين كون العموم مرادا ظاهرا ضربا للقانون والقاعدة ، وبين كونه مرادا واقعا وجدا.

وعليه فلا مانع من كون العموم في هذه العمومات مرادا ظاهرا ويكون الناس مأمورين بالعمل به في مقام الظاهر إلى أن يجيء المخصص له فإذا جاء فيكون مخصصا بالإضافة إلى الارادة الجدية والاحكام الواقعية وناسخا بالاضافة إلى الحكم الظاهري والإرادة الاستعمالية.

الصورة الرابعة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل به ففي هذه الصورة يتعيّن كون الخاص المتقدّم مخصصا للعام المتأخّر إذ لا مقتضي للنسخ أصلا وإلّا لزم كون جعل الحكم لغوا محضا وهو لا يمكن صدوره من المولى الحكيم عزّ اسمه.

الصورة الخامسة ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل به ، ففي هذه الصورة يقع الكلام في ان الخاص المتقدّم مخصص للعام المتأخّر أو ان العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم.

وتظهر الثمرة بينهما حيث انّه على الأول يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة هو حكم الخاص دون العام ، وعلى الثاني ينتهي حكم الخاص أمدا بعد ورود العام فيكون الحكم المجعول في الشريعة المقدسة بعد ورود العام هو حكم العام.

قال المصنّف قدس‌سره ان الأظهر كون الخاص مخصّصا له وأفاد في وجه ذلك ان كثرة التخصيص في الأحكام الشرعية حتى اشتهر (ما من عام إلّا وقد خص) وندرة

٤٨٤

النسخ فيها جدّا أوجبتا كون ظهور الخاص في الدوام والاستمرار وان كان بالاطلاق ومقدّمات الحكمة أقوى من ظهور العام في العموم وان كان بالوضع. وفي ضوء هذا فلا مناص من تقديم الخاص على العام ومن كونه بيانا له. هذا أي خذ ذا هذا كلّه فيما إذا علم تاريخهما ، فيقدم الأقوى ظهورا على الأضعف كما هو الوجه في تقديم الخاص على العام عند التعارض بينهما. واما إذا جهل تاريخهما أو تاريخ احدهما وتردّد الخاص بين وروده بعد حضور وقت العمل بالعام حتى يكون الخاص ناسخا للعام ، وبين وروده قبل حضور وقت العمل بالعام كي يكون الخاص مخصصا للعام ولم يكن ترجيح ثابت لأحد الاحتمالين على الآخر فيحكم حينئذ بإجمالهما ويرجع بالنسبة إلى ما بين زمان العام وزمان الخاص لو كان هذا البين موردا لابتلاء المكلف لا بالنسبة إلى الأزمنة المتأخرة عن زمان ورود الخاص إذ لا شك في ثبوت حكم الخاص لافراده في تلك الأزمنة سواء كان الخاص ناسخا أم كان مخصّصا إلى الاصول العملية من الاستصحاب والبراءة على اختلاف الموارد.

فإذا وجدنا عامّا وخاصا في كلام المولى ولم نعلم ان الخاص مقدّم على العام كي يكون العام ناسخا له أو أن العام مقدّم عليه والخاص وارد بعد حضور وقت العمل بالعام حتّى يكون ناسخا للعام أو وارد قبل حضور وقت العمل بالعام كي يكون مخصصا للعام. أو أنه وارد مقارنا للعام ليكون مخصصا له قطعا أيضا.

ومن الواضح انهما مجملان حينئذ ، فيرجع بالنسبة إلى افراد الخاص إلى الاستصحاب إذا كان لها حالة سابقة من وجوب الاكرام ومن عدم وجوبه مثلا ، أو يرجع بالاضافة إليها إلى البراءة إذا لم يكن لها حالة سابقة بالنسبة إلى ما بين زمان العام وزمان الخاص إذا كان موردا للإبتلاء كما سبق هذا آنفا.

مثلا : قال المولى (اكرم العلماء ولا تكرم شعراءهم) وتاريخهما مجهول فيرجع بالنسبة إلى افراد الشعراء إلى الاستصحاب أو البراءة من حيث وجوب الاكرام وعدمه هذا في الاستصحاب أو البراءة من حرمة إكرام الشعراء من العلماء.

٤٨٥

وتوهم بعض ان صورة الجهل بالتاريخ لا تخلو من ان يكونا مقارنين صدورا أو متلاحقين صدورا وعلى الثاني اما ان يتقدّم العام على الخاص واما ان يتقدّم الخاص على العام وعلى كلا التقديرين اما ان يرد المتقدّم قبل حضور وقت العمل بالمؤخر واما ان يرد بعد حضور وقت العمل به وعلى صورة التقارن يكون الخاص مخصصا للعام بلا خلاف. هذه الصورة هي الصورة الأولى.

الصورة الثانية : هي ما إذا قدم العام على الخاص وتأخر الخاص عنه ولكن كان تأخره قبل حضور وقت العمل بالعام فالأظهر فيها ان يكون الخاص مخصّصا للعام.

الصورة الثالثة : ان يكون تأخّر الخاص عن العام بعد حضور وقت العمل بالعام ، فالحق أن يكون الخاص مخصصا للعام إذ لا مانع عنه إلّا تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو ليس بمانع عنه أي عن كون الخاص مخصّصا للعام.

إذ لا مانع من تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا اقتضته المصلحة الملزمة التي تكون أقوى من مفسدة التأخير أو كان في تقديم البيان مفسدة أقوى من مفسدة تأخيره فلا يكون حينئذ قبيحا ومن هنا قد ورد في بعض الروايات المعتبرة ان أحكاما قد بقيت عند صاحب الأمر والنهي عجّل الله تعالى فرجه الشريف. وهو عليه‌السلام بعد ظهوره يبيّن تلك الأحكام للناس. ومن المعلوم ان هذا التأخير انّما هو لمصلحة ملزمة فيه أو لمفسدة في البيان. ولا فرق في ذلك بين تأخيره في زمان قليل كساعة مثلا وفي سنين.

الصورة الرابعة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وقبل حضور وقت العمل بالخاص متطاولة.

ففيها يتعيّن كون الخاص مخصصا للعام وليس العام بناسخ له ، كما تقدّم وجهه.

الصورة الخامسة : ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد حضور وقت العمل بالخاص.

٤٨٦

قال المصنّف قدس‌سره فالأظهر أن يكون الخاص المتقدّم مخصصا للعام المتأخر وليس العام بناسخ للخاص لكثرة التخصيص وشيوعه وندرة النسخ في الأحكام الشرعية ، والظن يلحق الشيء بالأعم الأغلب.

قال المتوهم صورة الجهل يمكن أن تكون كالصورة الخامسة في الحكم بالتخصيص لا النسخ للوجه المتقدّم إذ كثرة التخصيص وندرة النسخ يوجبان الظن بالتخصيص أيضا ، أي كما انهما يوجبان الظن به في صورة تأخر العام عن وقت العمل بالخاص في صورة العلم بتاريخهما وهما يوجبان كون ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص فمجهول التاريخ يكون مثل معلوم التاريخ في كون الخاص المتقدّم مخصصا للعام المتأخر الحاقا للشيء بالغالب الذي هو التخصيص. فهذا القول متين إلّا انّه لا دليل على اعتبار الظن الخارج عن ظواهر الألفاظ المستند إلى الغلبة أي غلبة التخصيص بالاضافة إلى النسخ النادر في ترجيح التخصيص على النسخ ما لم يوجب الأظهرية كما في صورة تأخر العام عن العمل بالخاص ، إذ قد انعقد للخاص المتقدم ظهور في استمرار الحكم وإن ثبت هذا الاستمرار بالاطلاق وبمقدمات الحكمة فيصير الخاص في الدوام أظهر من العام في العموم لكثرة التخصيص ، وهذه الكثرة والغلبة توجبان اقوائية هذا الظهور.

ومن الواضح تقدّم الأقوى ظهورا على الأضعف ظهورا ، بخلاف المجهول التاريخ فإنّه لم ينعقد فيه ظهور للخاص في الاستمرار ودوام الحكم إذ يحتمل في صورة الجهل بالتاريخ أن يرد العام قبل حضور وقت العمل بالخاص كي لا ينقص فيه ظهور في استمرار الحكم وان يرد بعد حضور وقت العمل بالخاص حتى ينعقد له ظهور في دوام الحكم.

وبالجملة : فقياس الخاص المجهول تاريخا على الخاص الذي علم تقدّمه صدورا وعملا على العام مع الفارق إذ في صورة العلم بالتاريخ قد انعقد الظهور للخاص المتقدّم في الاستمرار والدوام ويصير هذا الظهور أقوى بسبب الظن

٤٨٧

الحاصل من شيوعية التخصيص في الأحكام الشرعية.

فالترجيح مستند إلى قوة الدلالة الناشئة من الظن لا إلى الظن محضا حتى يعمل عليه في المقام بخلاف الخاص المجهول تاريخا فانّه لا ينعقد له ظهور في الاستمرار والدوام كي يصير الأقوى بالظن المذكور فمجرد الظن بالتخصيص ما لم يوجب الأظهرية ليس بحجّة أصلا. وفي ضوء هذا فقد ظهر الفرق بين الصورتين كما لا يخفى إذ الظن الحاصل من ظواهر الألفاظ حجّة ببناء العقلاء لا الظن الحاصل من الغلبة والكثرة لعدم بنائهم على حجّيته.

قوله : فتدبر جيّدا ...

وهو اشارة إلى ان شيوعية التخصيص إذا كانت موجبة لظهور الخاص في استمرار الحكم فلا فرق حينئذ في ظهوره فيه بين ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد العمل به وبين ما إذا ورد الخاص بعد العام وبعد العمل بالعام كما في الجهل بالتاريخ.

فإذا قلنا بكون الخاص مخصصا للعام فلا بدّ من أن نقول به في الموردين المذكورين آنفا فلا ينبغي التفكيك بينهما بمعنى ان نقول بالنسخ في ما إذا ورد العام بعد الخاص وبعد العمل به أي يكون العام ناسخا لحكم الخاص ، وبالتخصيص في ما إذا ورد الخاص بعد العام وبعد العمل به ، بل لا محيص من ان نقول بالتخصيص فيهما كما هو الحال في غالب العمومات والخصوصات في الآيات والروايات لأنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال عامّا ، وقال الباقر أو الصادق عليهما‌السلام خاصّا فيكون مخصصا للعام الذى قال به مولانا الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام وكذا قال الله تعالى عامّا في كتابه الكريم وبيّن مخصّصه مولانا الباقر أو مولانا الصادق أو الكاظم عليهم‌السلام. فتأخير البيان عن وقت الحاجة لمصلحة ملزمة أو لمفسدة في البيان جائز عقلا ، كما سبق هذا.

في بيان شرط النسخ

قوله : ثم ان تعين الخاص للتخصيص إذا ورد قبل حضور وقت العمل ،

٤٨٨

فظهر مما سبق ان الخاص يكون متعيّنا للتخصيص في صورتين ...

الأولى : إذا ورد الخاص المتأخر قبل حضور وقت العمل بالعام.

الثانية : إذا ورد العام المتأخر قبل حضور وقت العمل بالخاص المتقدّم. واما إذا ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام فهو ذو احتمالين ، الاحتمال الأول :

كونه مخصصا له الاحتمال الثاني كونه ناسخا له. واما إذا ورد العام بعد حضور وقت العمل بالخاص فهو ذو احتمالين أيضا :

الاحتمال الأول : كون الخاص المتقدّم مخصصا للعام المتأخر.

الاحتمال الثاني : كونه منسوخا بالعام المتأخر.

فهذه أربع صور وبقيت صورة واحدة وهي تقارنهما صدورا ففي ثلاث صور من الصور الخمس يتعيّن كون الخاص مخصصا للعام لا ناسخا إذا اشترطنا في النسخ حضور وقت العمل بالمنسوخ ، وإلّا فلا يتعيّن الخاص للتخصيص ، بل يدور أمر الخاص بين كونه مخصصا وناسخا في الأول. ومخصصا ومنسوخا في الثاني.

والمراد من الأول هو ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام ومن الثاني هو ورود العام قبل حضور وقت العمل بالخاص ، ولكن الأظهر عند المصنّف قدس‌سره كون الخاص مخصصا في هاتين الصورتين أيضا ، ولو فيما كان ظهور العام في عموم الأفراد بالوضع وكان ظهور الخاص في الدوام والاستمرار بالاطلاق وبمقدّمات الحكمة لما اشير إليه سابقا في ضمن الصورة الخامسة من شيوع التخصيص وندرة النسخ جدّا في الأحكام الشرعية.

القول في النسخ

قوله : ولا بأس بصرف الكلام إلى ما هو نخبة (١) القول في النسخ ...

__________________

(١) والنخبة مفرد والجمع نخبات أي المنتخبون من الناس.

٤٨٩

أي متى انجز الكلام إلى النسخ في هذا المقام فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى ما هو منتخب القول في النسخ فاعلم ان النسخ في اللغة بمعنى الإزالة ومنه نسخت الشمس الظل ، أي ازالته ، وفي الاصطلاح هو رفع أمر ثابت في الشريعة المقدّسة بارتفاع أمده وزمانه ولا يفرق فيه بين أن يكون الامر الثابت في الشريعة المقدسة حكما تكليفيا أو وضعيا فارتفاع الحكم بارتفاع موضوعه ، كارتفاع وجوب الصلاة بخروج وقتها وكارتفاع وجوب الصوم بانتهاء شهر رمضان المبارك ليس من النسخ في شيء فالنسخ وان كان رفع الحكم الثابت اثباتا أي رفع الحكم الواقعي الأولي أو رفع الحكم الواقعي الثانوي في مقام الاثبات لكن النسخ في الحقيقة دفع له لكشفه عن عدم المقتضي لثبوت الحكم واقعا على نحو الدوام بعد النسخ.

فالدليل اقتضى استمرار الحكم ودوامه في مقام الاثبات فالناسخ كشف عن عدم المقتضي لدوام الحكم ثبوتا وان أمده ينقضي وان كان ظاهر الدليل يقتضي دوامه واستمراره ولكن انّما اقتضت الحكمة اخفاء أمد الحكم في بدو الأمر مع انه بحسب الواقع له أمد وغاية إذا كان النسخ بعد حضور وقت العمل أو اقتضت أصل انشاء الحكم واقراره مع انه في الواقع ليس للحكم قرار وثبات إذا كان النسخ قبل حضور وقت العمل ، فالنسخ دفع ثبوتا وان كان رفعا اثباتا.

وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصادع أي القاضي للشرع ربما يلهم من قبل الله تبارك وتعالى أو يوحى اليه أن يظهر الحكم وان يظهر استمراره للناس مع علمه على حقيقة الحال وانه سينسخ في الاستقبال أو مع عدم اطلاعه ومع عدم علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نسخ الحكم في الاستقبال.

وذلك لعدم إحاطة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتمام ما جرى في علم الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون من قبيل اظهار الحكم وانشائه بسبب الرؤيا فقد أمر الله إبراهيم الخليل بذبح ولده اسماعيل النبي عليهما‌السلام مع عدم كون المأمور به مرادا جديّا للمولى في الواقع ومع عدم علم الخليل بالنسخ.

٤٩٠

وحيث عرفت ان النسخ بحسب الحقيقة والواقع يكون دفعا وان كان بحسب الظاهر رفعا فلا بأس به مطلقا أي سواء كان قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ أم كان بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ لعدم لزوم البداء المحال في حقه تبارك وتعالى بالمعنى المستلزم لتغيّر إرادته تبارك وتعالى ، مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة.

وهذا إشارة إلى دفع الاشكال الوارد على النسخ.

بيانه : ان النسخ يستلزم أحد محذورين لا يمكن الالتزام بشيء منهما اما عدم حكمة الناسخ ، وهو الله تعالى ، واما جهله بهما وكلاهما مستحيل في حقه تبارك وتعالى ، بل يحتمل أن يكون المراد من الذبح مقدّماته كالاضطجاع وتناول السكين وسد الرجل بقرينة قوله تعالى للخليل (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا).

والسبب في هذا الاستلزام ان تشريع الأحكام وجعلها من الله تعالى يكونان على طبق الحكم والمصالح لبداهة ان جعل الأحكام جزافا وبدون مصلحة ينافي حكمة الباري تعالى. فلا يمكن صدوره منه تبارك وتعالى. فالأحكام الشرعية والقوانين الالهية لا بد أن تكون تابعة للحكم والمصالح ، كما عليه العدلية.

وفي هذا الضوء ، فرفع الحكم الثابت في الشريعة المقدّسة لرفع موضوعه لا يخلو من أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من جهة المصلحة وعلم الناسخ بها أو يكون من جهة البداء وكشف الخلاف كما يقع ذلك الأمر المذكور غالبا في الأحكام العرفية وقوانينها ، والأول ينافي حكمة الحكيم المطلق إذ مقتضي حكمته استحالة صدور الفعل منه جلّ وعلا جزافا. ومن المعلوم ان رفع الحكم الثابت مع بقاء مصلحته وحكمته أمر جزاف فيستحيل صدوره منه عزّ اسمه.

والثاني يستلزم الجهل منه تعالى ، وهو محال في حقّه سبحانه وتعالى.

فالنتيجة ان وقوع النسخ في الشريعة المقدّسة يستلزم المحال فهو محال لا محالة إذ مستلزم المحال محال أيضا ، كما ان الدور مستلزم المحال وهو تقدّم الشيء على نفسه وتأخره عن نفسه ، فهذا محال فالدور محال أيضا لأنّه مستلزم المحال.

٤٩١

والجواب ان الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة من قبل الحكيم تعالى على نوعين :

أحدهما : ما لا يراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين مثل الأحكام الصادرة لغرض الامتحان أو ما شاكله. ومن الواضح انّه لا مانع من اثبات هذا النوع من الأحكام أولا ثم رفعه حيث ان كلا من الاثبات والرفع في وقته قد نشأ عن مصلحة وحكمة فلا يلزم من رفعه خلاف الحكمة لفرض ان حكمته ، وهي الامتحان ، قد حصلت في الخارج ومع حصولها فلا يعقل بقاء الامتحان ولا يلزم من رفعه كشف الخلاف المستحيل في حقّه تعالى حيث لا واقع لهذا الحكم غير الامتحان.

وثانيهما : ما يراد منه البعث أو الزجر الحقيقيين ومع كون المجعول حكما حقيقيا لا مانع من نسخه بعد زمان إذ المراد من النسخ انتهاء الحكم الشرعي بانتهاء أمده يعني ان المصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان فلا مصلحة للحكم بعد ذلك.

وعليه فبطبيعة الحال يكون الحكم المجعول في الشريعة المقدّسة على طبق المصلحة بحسب مقام الثبوت مقيدا بذلك الزمان الخاص المعلوم عند الله تعالى المجهول عند الناس ، فيكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لانتهاء أمده الذي قيد به في الواقع وحلول أجله الواقعي الذي أنيط به وليس المراد منه رفع الحكم الثابت في الواقع ونفس الأمر حتّى يكون مستحيلا على الحكيم تعالى العالم بالواقعيات ، وكي يلزم تغيّر إرادته مع اتحاد الفعل ذاتا وجهة ، أي مصلحة. إذ مع تغيّر الفعل ذاتا أو جهة لا يكون تغيّر الإرادة بمستحيل ، هذا أوّلا.

وثانيا : استشكل على النسخ بأن الأفعال تابعة للحسن والقبح. وعليه فإذا كان في الفعل مفسدة لما أمر به أوّلا. وإذا كان فيه مصلحة لما نهى عنه ثانيا.

وثالثا : استشكل عليه بأنّه يستلزم الجهل لأن جعل الحكم ناشئ عن العلم بالمصلحة فيه فإذا نسخ فهو يكشف عن عدم العلم بالمصلحة وعن الجهل بها.

٤٩٢

رابعا بأن جعل الحكم تابع للارادة فنسخ الحكم مستلزم لتغير الارادة وهو محال في حقّه تبارك وتعالى إذ ارادة الباري عزّ اسمه عين ذاته المقدّسة ، وذاته لا تتغير أصلا.

والجواب عن كلّها ان النسخ عبارة عن انتهاء الحكم بانتهاء أمده فالمصلحة المقتضية لجعله تنتهي في ذلك الزمان ، فلا مصلحة للحكم بعد ذلك ، فالنسخ دفع كاشف عن عدم المقتضي الذي هو مصلحة الحكم لدوامه واستمراره.

فلا يلزم حينئذ بعد ورود الناسخ البداء المحال في حقّه سبحانه وتعالى. لأنّ البداء منه تعالى بمعنى إظهار الشيء بعد إخفائه وهو ليس بمحال منه تعالى ، بل البداء المحال في حقّه تعالى هو بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، وليس النسخ برفع الحكم بعد ثبوته لموضوعه أو برفع دوام الحكم واستمراره كي يلزم البداء المحال والجهل وتغيّر الإرادة وجعل الحكم جزافا إذ يلزم كلّ هذه الأمور إذا كان النسخ بمعنى رفع أصل الحكم المجعول أو رفع دوامه واستمراره وليس الأمر كذلك كما عرفت آنفا. وعلى طبيعة الحال ، فليس النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ بمستحيل إذ هو بمعنى الدفع ثبوتا وواقعا لا الرفع.

وعليه ، لم يكن الأمر بالفعل ، كالأمر بذبح اسماعيل النبيّ عليه‌السلام من جهة كونه مشتملا على مصلحة إذ لا مصلحة أصلا في ذبحه ، بل كان إنشاء الأمر به عن حكمة ومصلحة كما لا يخفى.

أو كان اظهار دوام الحكم عن حكمة ومصلحة لا علم لنا بها ، كإظهار الباري عزّ اسمه للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دوام التوجّه حال الصلاة إلى بيت المقدس زاد الله تعالى شرفه ، ثم نسخه بقوله (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) ، هذا حال النسخ في التشريعيات.

٤٩٣

في البداء في التكوينيات

قد التزم الشيعة بالبداء في التكوينيات بغير ذاك المعنى الذي تقدّم في النسخ ، أي بمعنى إظهار الشيء بعد اخفائه لا بمعنى ظهور الشيء بعد خفائه ، وهو بهذا المعنى الثاني مستحيل في حقّه تعالى لاستلزامه الجهل والباري تعالى منزّه عنه. فجواز البداء في التكوينيات مما دلّت عليه الروايات المتواترات ، كما لا يخفى.

فمنها قول امامنا الصادق عليه‌السلام «ما عبد الله بشيء مثل البداء». ومنها قوله : «ما بعث الله نبيّا قطّ حتى يقرّ له بالبداء» ، أو «ما تنبأ نبي قط حتى يقرّ لله بخمس البداء والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة» ، أو «ما بعث الله نبيّا قط إلّا بتحريم الخمر وأن يقرّ لله بالبداء». وغيرها من الروايات فأصل جوازه مسلّم على طبق الروايات التي من المتواترات اللفظية.

ولكن مجمل البداء انه لا شبهة في ان العالم الممكن بشتى أنواعه وأشكاله تحت قدرة الله تعالى وتحت سلطانه المطلق وان وجود كل ممكن من الممكنات في العالم منوط بمشيته وأعمال قدرته فإذا شاء أوجده وإذا لم يشأ فلم يوجده. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ان الله تعالى عالم بالأشياء بشتى أنواعها وأشكالها منذ الأزل وان لها تعيينا علميا في علم الله الأزلي ، ويعبّر عن هذا التعيين العلمي بتقدير الله تعالى مرّة وبقضاء الله تعالى مرّة أخرى.

ومن ناحية ثالثة ان علمه تعالى بالأشياء منذ الأزل لا يوجب سلب قدرة الله تعالى بالأشياء لأن حقيقة العلم بشيء الكشف عنه على واقعه الموضوعي ، فالعلم الأزلي بالأشياء هو كشفها لديه تعالى على واقعها من الإناطة بمشية الله تعالى واختياره فلا يزيد انكشاف الشيء على واقع ذلك الشيء ، بل هو باق على واقعه وان طرأ عليه عنوان الكشف والبداء.

فالنتيجة : في ضوء هذه النواحي الثلاث إذا تعلّقت مشيته تعالى بإظهار

٤٩٤

ثبوت ما يمحوه لحكمة داعية إلى اظهاره فقد ألهم أو أوحى إلى نبيّه أو وليّه ان يخبر الناس به مع علم كلّ واحد من النبي والولي عليهم‌السلام بأن الله تعالى يمحوه ، وذلك مثل اخبار النبي يونس عليه‌السلام بعذاب قومه في وقت معين ثم لا يعذبهم فيه أو مثل اخبار المسيح بموت العروس ليلة الزفاف ثم لا تموت فيها إلى غيرهما من موارد البداء ، أو مع عدم علم كلّ واحد من النبي أو الولي عليهما‌السلام بالمحو من قبل الباري تعالى. لعدم احاطتهما بتمام ما جرى في علمه تبارك وتعالى ، إذ قال الله تعالى في كتابه الكريم : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) جلّ وعلا وهو شامل بعمومه للنبي والولي عليهما‌السلام وانما يخبر النبي أو الولي عليهما‌السلام بوقوع العذاب لأن كلّ واحد منهما حال الوحي أو الالهام لارتقاء نفسه الزكية واتصال نفسهما بعالم لوح المحو والاثبات اطلع على ثبوت العذاب أو الهلاك أو على ثبوت ما أخبر به واقعا ولكن لم يطلع على كون ما أخبر به معلقا على أمر غير واقع في الخارج مثلا أخبر النبي يونس بوقوع العذاب على قومه في الوقت الخاص وفي زمان معيّن ولكن لم يطلع على تعليقه بعدم التوسل والدعاء والابتهال والانابة والتوبة والاستغفار.

وكذا أخبر المسيح بموت العروس ليلة الزفاف ، ولكن لم يعلم ان هذا مشروط بعدم الصدقة. فوقوع ما أخبر به معلق على أمر غير واقع في الخارج ، أو مشروط بعدم الموانع أي بشرط عدم الدعاء والصدقة فالله تعالى قال في كتابه المبين : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(١).

أي يمحو حكم المنسوخ ويثبت حكم الناسخ. أو يمحو من كتاب الحفظة المباحات وما لا جزاء فيه ويثبت ما فيه الجزاء من الطاعات والمعاصي. أو يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا فيسقط عقابها ويثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا. أو يمحو من الرزق ويزيد فيه ومن الأجل ويمحو السعادة والشقاوة ويثبتهما.

__________________

(١) سورة الرعد : آية ٣٩.

٤٩٥

وأمّ الكتاب أصل الكتاب الذي أثبت فيه الحادثات والكائنات لا يغيّر منه شيء كما ورد عن أئمتنا عليهم أفضل صلاة المصلّين هذا الدعاء وهو :

اللهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء فامنحني من الأشقياء واثبتني في السعداء فانّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب ، فهذا الوجه يدلّ صراحة على المحو والاثبات كسائر الوجوه وعلى البداء في الأفعال والتكوينيات كما لا يخفى.

نعم من شملته العناية الإلهية واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ الذي هو من أعظم العوالم الربوبية وهو أمّ الكتاب انكشف عنده تمام الواقعيات على ما هي عليها ، كما ربما يتفق لخاتم الأنبياء والرسل وخاتم الأوصياء لا لجميع الأوصياء إذ كانوا عارفين بالواقعيات والكائنات كما كانت في الماضي وكما تكون في الحال والاستقبال إذ علمهم لدنّي لا يحتاج إلى تحقق صورة المعلوم في الخارج. بخلاف العلم الحصولي فانّه يحتاج إلى تحقق صورة المعلوم فيه ، كعلم زيد مثلا بالأشياء المتحقّقة في الخارج وهو لا يعلم الأشياء التي لم تتحقق بعد في الخارج. نعم مع علمهم بالواقعيات إلى يوم القيامة ربما يوحى إلى الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم من الأحكام تارة يكون الحكم ظاهرا في الاستمرار والدوام مع انّه في الواقع له أمد وغاية يعينها بخطاب آخر.

وأخرى يوحى اليه بحكم يكون ظاهرا في الجد مع انه لا يكون واقعا بجد بل يكون لمجرد الابتلاء ولمحض الاختبار والامتحان وكلّ ذلك لحكمة ومصلحة.

كما ان النبي عليه‌السلام ربّما يؤمر وحيا أو إلهاما بالإخبار بوقوع عذاب أو هلاك وموت وهما لا يقعان في الخارج لأجل حكمة ومصلحة في إظهار استمرار الحكم ودوامه أو في إظهار أصل انشاء الحكم وجعله ، فالأول إشارة إلى جواز البداء بعد حضور وقت الواقعة.

والثاني إشارة إلى جوازه قبل حضور وقتها كالنسخ. فالنتيجة بداؤه تعالى يكون بمعنى ان الله تعالى يظهر ما أمر نبيّه أو وليّه بعدم إظهاره أولا ويبدي ويظهر

٤٩٦

ثانيا ما خفى على الناس أوّلا.

مثلا أخبر النبي قومه بوقوع العذاب عليهم في الوقت الفلاني وهو يعلم بعدم وقوعه عليهم فيه ولكنه مأمور من قبل الله تعالى بعدم إظهار عدم الوقوع للناس لمصلحة داعية إليه ، وهي اشتغال القوم جميعا بالدعاء والبكاء والتضرّع إلى الله سبحانه كي يرفع منزلتهم عند الله تعالى. ثم يظهر الله تعالى ثانيا بلسان نبيّه أو بلسان وليّه عدم وقوعه على القوم في الوقت المعيّن ، وهو مخفي عليهم أوّلا ، وانّما نسب إلى الله تعالى البداء فيقال يبدو الله جلّ وعلا مع ان البداء في الحقيقة منه تعالى يعني الابداء أي إظهار الشيء ثانيا بعد اخفائه أوّلا لا ظهور الشيء ثانيا بعد خفائه أوّلا إذ هو محال في حقّه تبارك وتعالى. لأنّه مستلزم للجهل لكمال شبهة إبدائه تعالى ، بمعنى اظهار خلاف ما أخبر الناس به بالبداء من غيره تعالى.

وجه الشبه بين المشبه وهو إبداؤه تعالى والمشبه به وهو بداء غيره تعالى ظهور خلاف اظهار الأول.

بيان ذلك : ان زيدا مثلا يظهر شيئا باعتقاد كونه ذا مصلحة وبعد كشف عدم المصلحة فيه يظهر خلاف ذاك الشيء ، فالمصلحة مخفية عليه وتظهر له بعدا ، فكذا المصلحة التي أخفاها الله تعالى على عباده ثمّ أظهرها لهم بلسان نبيّه أو وليه. غاية الأمر ان الاخفاء منه تعالى يكون لمصلحة وحكمة ومن العباد خفاء الأمر للجهل المركب. وفي ضوء هذا ، ظهر ان حقيقة البداء عند الشيعة الامامية هي بمعنى الابداء والاظهار ولكن اطلاق لفظ البداء عليه تعالى مبني على التنزيل وبعلاقة المشابهة ، كما علم هذا آنفا.

وان فائدة الاعتقاد بالبداء هي الاعتراف بأن العالم تحت سلطان الله تبارك وتعالى وقدرته وتوجه العباد إلى الله تعالى وتضرّعهم إليه سبحانه وتعالى في قضاء حوائجهم ومهماتهم ، وهذا هو السرّ في اهتمام الأئمّة الأطهار عليهم الصلاة والسلام بشأن البداء في الروايات الكثيرة.

٤٩٧

قال المصنّف قدس‌سره وفيما ذكرنا كفاية فيما هو المهم في هذا المقام وهو جواز النسخ قبل حضور وقت العمل بالمنسوخ لأن الله تعالى يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب.

ولا داعي إلى ذكر تمام الآراء والأقوال التي ذكرت في باب النسخ كما لا يخفى على أولي الألباب ، إذ ذكرها في غير محلّها لأن محل البحث قواعد علم الاصول لا شرائط النسوخ والنواسخ.

بخلاف القول بانكار البداء فانّه يوجب يأسهم من قضاء الحاجة وعدم الفائدة في الدعاء والتضرّع والابتهال.

في بيان الثمرة بين التخصيص والنسخ

ثم لا يخفى ثبوت الثمرة بين التخصيص والنسخ فيما إذا دار كون الخاص المتأخر عن العام مخصصا للعام المتقدّم أو ناسخا له ، أي لعمومه ، فالثمرة بينهما انّه على التخصيص يبنى على خروج الخاص عن تحت حكم العام من الأول مثلا إذا قال المولى لعبده (اكرم العلماء) ولكن لم يكرم العبد فسّاقهم عصيانا ثمّ ورد من قبله (لا تكرم فسّاق العلماء) ، فإذا بنينا على التخصيص فلا شيء على المكلف إلّا التجري. اما إذا بنينا على كون الخاص ناسخا للعام فعلى فرض عدم اكرامه فسّاقهم فالمكلف يستحق العقاب على المعصية التي هي ترك إكرام الفسّاق من حين صدور العام إلى حين صدور الخاص. فالثمرة حاصلة بين زمان صدور العام المتقدّم على الخاص وبين زمان صدور الخاص المتأخر ، فعلى فرض المخصصية فافراد الخاص محكومون بحرمة الاكرام دائما.

واما على فرض الناسخية فأفراد الخاص محكومون بحكم العام قبل ورود الخاص الناسخ واما بعد وروده فهم محكومون بحرمة الاكرام فينقلب الوجوب إلى الحرمة. فيما إذا كان العام متقدّما والخاص متأخّرا. واما إذا كان الخاص متقدّما

٤٩٨

والعام متأخرا فالخاص على التخصيص غير محكوم بحكم العام أصلا ، وهذا واضح. وعلى نسخ العام للخاص كان الخاص محكوما بحكم العام لكن من حين صدور العام الناسخ فتنقلب حرمة إكرام أفراد الخاص إلى وجوب اكرامهم ، كما لا يخفى.

٤٩٩

فصل في المطلق والمقيّد

قوله : المقصد الخامس في المطلق والمقيّد والمجمل والمبين ...

قد عرّف المطلق بتعاريف منها : ان اللفظ المطلق ما دلّ على معنى شائع في جنسه مثل لفظ (رجل وامرأة) فانّهما لفظان مطلقان فيدلّ الأول على معنى الذكورية التي هي شائعة أي سارية في جنس الرجل أي في جميع أفراد الرجل ويدل الثاني على معنى الانوثية التي هي سارية في جميع مصاديقها.

وقد استشكل على هذا التعريف صاحب الفصول قدس‌سره بعدم الاطراد تارة ، وبعدم الانعكاس أخرى وأطال الكلام في النقض والاشكال والابرام والجواب. ولا بأس بالإشارة إلى عدم اطراد هذا التعريف وإلى عدم مانعيته للاغيار لانطباق هذا على نحو (رقبة مؤمنة) و (رجل عادل) مثلا إذ كلّ واحد منهما يدلّ على معنى شائع في جنسه لأنهما وصفان للحصة الشائعة في جنسهما وهي انطباق عنوان رقبة مؤمنة على جميع مصاديقها وعنوان رجل عادل على تمام مصاديقه مع انهما من المقيّدات بالاتفاق.

وإلى عدم انعكاس هذا وعدم جامعيته لافراد المعرّف لخروج نحو (رجل) عنه لأنّه وضع لطبيعة الرجل من حيث هي هي ويدلّ عليها والطبيعة من حيث هي هي ليست إلّا هي فلا يعقل الشيوع في الطبيعة من حيث هي هي إذ هي غير موجودة في الخارج كي يقال انّها شائعة في جنسها وافرادها مع انّه من المطلق بلا خلاف.

أجاب المصنّف قدس‌سره عنه بأنّا قد نبّهنا غير مرّة سابقا ان مثل هذا التعريف لفظي وليس بحقيقي يشترط فيه الطرد والعكس ولكن لا يشترط فيه الطرد والعكس وشرح الاسم. لجواز كونه أعمّ من المعرف كقولك في تعريف السعدانة بأنّها نبت فلا يكون حينئذ مانعا للاغيار ـ ولجواز كون التعريف اللفظي أخص منه كقولك في

٥٠٠