البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

التي لا تكون نوعا في معرض التخصيص ، كالعمومات الصادرة من الموالي العرفية.

ففي الأول يكون بناء العقلاء على حجية أصالة العموم بعد الفحص عنه واليأس منه.

واما في الثاني فيستقر بناؤهم على العمل بالعام بمجرد سماعه عن المولى العرفي ولا يعتنون باحتمال التخصيص والمخصص ، وذلك ، أي عدم جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن المخصص في الأول يكون لأجل القطع باستقرار سيرة العقلاء على عدم العمل بالعام قبل الفحص وان لم يكن القطع بذلك فيكون الشك في استقرار سيرتهم على العمل به قبله في الأول ، فالأصل عدم الاستقرار المذكور كيف يجوز العمل به قبله وقد أدعى الاجماع على عدم جواز العمل فضلا عن نفي الخلاف والتشاجر عن عدم الجواز والاجماع كاف في عدم جواز العمل إلا بعد الفحص كما لا يخفى.

واما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كما هو الحال في غالب العمومات الواقعة في ألسنة أهل المحاورات والمخاطبات فلا شبهة في ان السيرة العقلائية قائمة على العمل بالعام بلا فحص عن المخصص فاذا قال المولى العرفي اكرم علماء البلد فيكرم العبد جميعهم من العدول والفسّاق و ... ولا يعتني باحتمال التخصيص.

في مقدار الفحص عن المخصّص

قوله : وقد ظهر لك ...

فاذا كان العام في معرض التخصيص فمقدار الفحص اللازم يكون ما به يخرج العام عن كونه معرضا للتخصيص بناء على وجوب الفحص منه فمقدار الفحص اللازم يختلف باختلاف الوجوه التي قد استدل القائل بوجوب الفحص عنه بها من العلم الاجمالي بالتخصيص أو من عدم حصول الظن بما هو تكليف إلا بعد

٤٤١

الفحص أو غير ذلك كاختصاص حجية ظاهر الخطاب بالمشافه فكلها يوجب الفحص فيجب رعاية الوجوه فيه ، أي في المقدار للفحص وهو يختلف بحسبها كما لا يخفى ، لأن الموجب للفحص إذا كان العلم الاجمالي بالتخصيص فاللازم هو الفحص إلى ان يعلم بعدم التخصيص وينحل العلم الاجمالي إذ بسبب عدم العلم به يخرج العام عن كونه طرفا للعلم الاجمالي المذكور.

وإذا كان الموجب للفحص عدم حصول الظن بما هو تكليف قبل الفحص عنه فاللازم هو الفحص إلى أن يحصل الظن بعدم التخصيص ، ولو كان الموجب له عدم الدليل على حجية ظاهر الخطاب لغير المشافه فمقداره اللازم ان يفحص عنه إلى أن يقوم الاجماع على حجية ظاهره لغيره أيضا. هذا كله في المخصص المنفصل.

أما المخصص المتصل فالظاهر عدم لزوم الفحص عنه باحتمال انه كان وقت الخطاب ، ولكن لم يصل الينا ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز وقد اتفقت كلمات الاصوليين على عدم الاعتناء به لا بعد الفحص عنها ولا قبل الفحص مثلا إذا قال السيد رأيت اسدا فنعلم المعنى الحقيقي له وهو الحيوان المفترس ، والمعنى المجازي وهو الرجل الشجاع ، فاذا احتملنا ارادة المعنى المجازي منه من جهة القرينة التي كانت موجودة في الكلام ولكن لم تصل الينا فلا يعتني بهذا الاحتمال ويحرز ان المراد هو المعنى الحقيقي من جهة التمسك بأصالة الحقيقة ، فكذا ما نحن فيه إذا قال المولى اكرم العلماء واحتملنا ارادة خصوص العدول منهم لاحتمال وجود المخصص المتصل في الكلام وقت الخطاب ولم يصل الينا فلا يعتنى العقلاء بهذا الاحتمال ويحرزون ان المراد هو العموم من جهة تمسكهم بأصالة العموم وهي ترجع إلى أصالة الظهور متبع عندهم كما لا يخفى.

في فرق الفحص

قوله : ايقاظ لا يذهب عليك الفرق بين الفحص هاهنا وبينه في الاصول

٤٤٢

العملية ...

اما الكلام في نقطة الفرق بين الفحص هنا والفحص في موارد الاصول العملية فخلاصتها : ان الفحص في موارد الاصول اللفظية انما هو عن المانع والمزاحم لحجية الدليل مع ثبوت المقتضي لها ، وهو ظهوره في العموم ، حيث انه قد انعقد على فرض عدم المخصص في البين ولفرض عدم الاتيان بالقرينة المتصلة المانعة عن انعقاد ظهور العام في العموم ، وهي تزاحم حجّية العام في العموم لا ظهوره فيه فالمقتضي للعمل به موجود وهو الظهور والفحص انما هو لرفع احتمال وجود المانع عنه في الواقع.

وهذا بخلاف الفحص في الشبهات البدوية في موارد التمسك بالاصول العملية ، فانه لتتميم المقتضى اما بالاضافة إلى أصالة البراءة العقلية فواضح حيث ان العقل لا يستقل بقبح العقاب بدون بيان ما لم يقم العبد بما هو وظيفته من الفحص عن أحكام المولى المتوجه اليه لوضوح انه لا يجب على المولى ايصال الأحكام إلى المكلفين على نحو لا يخفى عليهم شيء منها ، بل وظيفته بيان الأحكام على النحور المتعارف بحيث إذا قاموا بالوظيفة ـ وهي الفحص ـ عن الأحكام فقد وصلوا اليها.

وعلى طبيعة الأمر لا يكون موضوعها محرزا قبل الفحص فان موضوعها عدم البيان فلا بد في جريانها من احرازه ومن المعلوم ان الموضوع قبل الفحص غير محرز لاحتمال وجود بيان في الواقع بحيث لو تفحصنا عنه لوجدناه ومع هذا الاحتمال كيف يكون موضوعها محرزا؟

فالنتيجة : ان عدم جريانها قبل الفحص عن البيان انما هو لعدم المقتضي لها ، والفحص انما هو لتتميمه واحراز موضوعها ، وهذا واضح لمن أمعن النظر. وكذا الحال في أصالة التخيير العقلي.

واما البراءة الشرعية والاستصحاب فأدلتهما ، وان كانت مطلقة غير مقيدة بالفحص ، إلا ان اطلاقها قد قيّد بحكم العقل والاجماع المحصل والمنقول بالفحص ،

٤٤٣

أي (رفع ما لا يعلمون) بعد الفحص و (لا تنقض اليقين بالشك) بعد الفحص عن الدليل الاجتهادي ، فاذا تفحصنا عنه بالمقدار اللازم فلم نجده على الحكم الشرعي ، حصل لنا الجهل به والشك فيه فنجري حينئذ البراءة الشرعية والاستصحاب.

فالعقل يستقل بوجوب الفحص وبعدم جواز العمل باطلاقها وإلا لزم كون بعث الرسل وانزال الكتب السماوية لغوا ، لأنه لو لم يجب الفحص بحكم العقل لما أمكن اثبات النبوة والرسالة ، لأن اثباتهما يتوقف على وجوب النظر إلى المعجزة وبدون النظر اليها لا طريق لنا إلى اثباتهما في زماننا هذا على الجملة فكما ان ترك النظر إلى المعجزة قبيح بحكم العقل لاستلزامه نقض الغرض الداعي إلى بعث الرسل وانزال الكتب هو الارشاد إلى السعادة ، فكذا ترك الفحص عن الأحكام الشرعية وعن كيفياتها واجزائها وشرائطها موجب لنقص الغرض من تشريعها وجعلها بعين الملاك المذكور.

فالنتيجة : أن موضوع أدلة البراءة الشرعية قد قيّد بما بعد الفحص فالفحص في مواردها انما هو متمم لموضوعها. ومن ذلك يظهر حال دليل الاستصحاب أيضا حرفا بحرف فلا حاجة إلى التوضيح.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى المناقشة في كون المستند في تقييد أدلة الاصول الشرعية هو الاجماع بقسميه ، بل المستند فيه الآيات والأخبار الدالة على وجوب التفقه في الدين ، كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

في الخطابات الشفوية

قوله : فصل هل الخطابات الشفهية مثل : يا أيها المؤمنون يختص بالحاضر مجلس الخطاب ...

ذكر المصنّف رضى الله عنه ان النزاع فيها بتصور على وجوه ، فلا بد قبل الخوض في

٤٤٤

تحقيق المقام من بيان ما يمكن أن يكون محلا للنقض والابرام من شمولها للغائبين أيضا عن مجلس الخطاب ، وهذا محل النقض والاشكال والابرام أيضا أم لا. أما بيان تصور النزاع فيها فعلى وجوه ثلاثة :

فالأول : ان يكون النزاع في أن التكليف المتكفل له لخطاب المشافهة هل يمكن تعلقه بالمعدومين أو الغائبين؟ أو يختص بالحاضرين في مجلس الخطاب؟

الثاني : أيمكن المخاطبة مع الغائبين والمعدومين أم لا؟ فيه نزاع بين الأعلام ، فالنزاع على هذين الوجهين عقلي لأن المرجع في الوجه الأولى إلى امكان تعلق التكليف بالمعدوم وامتناعه به ، والمرجع في الوجه الثاني إلى امكان مخاطبة المعدوم وامتناعه والامكان والامتناع من أحكام العقل ومن شئونه.

الثالث : أن يكون النزاع في وضع أدوات الخطاب ، أهي موضوعة للدلالة على عموم الألفاظ الواقعة عقيبها للغائبين والمعدومين أم موضوعة للدلالة على اختصاصها بالحاضرين في مجلس الخطاب فيه نزاع أيضا ، فالنزاع على الوجه الثالث يكون لغويا (١).

إذا عرفت هذا فلا ريب في عدم صحة تكليف معدوم عقلا ، إذ جعل التكليف بمعنى البعث الفعلي أو الزجر الفعلي لا يعقل ثبوته للمعدومين ، بل الغائبين ، لأنه بهذا المعنى المذكور يقتضي ثبوت موضوعه في الخارج ـ وهو البالغ العاقل القادر الحي ويقتضي التفاته إلى التكليف حتى يصير فعليا في حقه وإلا استحالت فعليته في حقه ، فالمعدوم ليس ببالغ ولا عاقل ولا قادر ولا حي ولا ملتفت إلى التكليف إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له اعني به الموضوع.

__________________

(١) لأن المرجع فيه إلى ان أدوات الخطاب مثل حروف النداء وهي (يا ، ايا هيا) والهمزة وضمائر المخاطب ، نحو : (أنت ، أنتما ، أنتم ، أنتن) هل وضعت للدلالة على العموم أو للدلالة على الخصوص ولا ريب ان تعيين معاني الالفاظ انما يكون بيد أهل اللغة.

٤٤٥

وأما الغائب عن مجلس الخطاب فيمكن فيه البلوغ وغيره ، ولكن هو غير ملتفت إلى التكليف حين الانشاء كي يكون فعليا في حقه فالبعث والزجر الفعليين يستلزمان الطلب النفسي الحقيقي ويمتنع الطلب الحقيقي من المعدوم.

نعم إذا كان جعل التكليف بمعنى إنشاء الطلب وابراز الامر الاعتباري بلا بعث ولا زجر على نحو القضية الحقيقية ، فثبوت الخطاب للمعدومين فضلا عن الغائبين بمكان عال من الامكان فلا استحالة فيه أصلا ، لوضوح انه لا بأس بجعل التكليف على نحو المذكور للموجودين والغائبين والمعدومين حيث ان الانشاء والاعتبار خفيفان المئونة (١). فكما انه يتعلق بالأمر الحالي فكذلك يتعلق بالأمر الاستقبالي ، كما هو الحال في الواجب المشروط بالشرط المتأخر مثل (إذا استطعت فيجب عليك الحج) أو (فحجّ) والمخاطب ليس بمستطيع حين الانشاء. فالمولى الحكيم تبارك وتعالى ينشئ على وفق الحكمة الموجودة في المطلوب والمصلحة من طلب الشيء ، كطلب الحج مثلا ، قانونا كليا بحيث يشمل المعدومين ، والغائبين على نحو القضية الحقيقية فالموضوع فيها قد لوحظ مفروض الوجود ولا مانع من فرض وجود الموضوع ومن جعل الحكم له ، سواء كان موجودا حقيقة أم لم يكن بموجود كذلك إذ لا مانع من فرض المعدوم موجودا ففائدة الخطاب الانشائي للموجود والمعدوم حين الخطاب انه لا حاجة إلى انشاء آخر بعد ما وجد المعدوم وبعد ما وجد الشرائط وفقد الموانع عن فعلية التكليف ، فاذن يصير التكليف بهذا الانشاء فعليا في حقه ، كما لا يخفى.

قوله : فتدبّر في القضية الحقيقية التي ترجع إلى القضية المشروطة

__________________

(١) إذ الانشاء وجعل القانون لا يحتاجان إلى وجود المكلف كما لا يحتاجان إلى الاجراء كما يشاهد هذا في جعل القانون الأساسي من قبل الدولة. وبعبارة اخرى يكفي في صحة الانشاء وجود غرض يقتضيه فلا يكون حينئذ لغوا.

٤٤٦

بالشرط المتأخّر فالثانية صحيحة بالاجماع فكذا الأولى ...

ونظير الطلب الانشائي على نحو القضية الحقيقية انشاء الوقف من غير الطلب على البطون المتعددة على نحو انشاء التمليك ، حيث ان الواقف يعتبر من حين الوقف ملكية ماله لجميع البطون بطنا بعد بطن بحيث ان كل بطن لا حق يتلقى الملك من الواقف لا من البطن السابق ومعنى ذلك أن الواقف من حين الوقف يعتبر ملكية ماله للبطن اللاحق فيكون الزمان المعتبر ـ وهو ملكية البطن اللاحق ـ متأخرا عن زمان الاعتبار.

وعليه : فيؤثر عقد الوقف في حق الموجود من الموقوف عليهم والبطون حين الوقف الملكية الفعلية ، ولكن لا يؤثر في حق المعدوم من البطون ، فعلا إلا استعداد الملكية لأن تصير العين الموقوفة ملكا للمعدوم بعد وجوده في الخارج ، إذ لا امتناع في كون المالك معدوما كما لا امتناع في كون المملوك معدوما والأول مثل ملك الحمل للميراث ، والثاني ملك الثمرة إذا بيع الشجر المثمر في فصل عدم الثمرة لأن المشتري يملكها ، إذ الملكية من الاضافات الاعتبارية التي يصح أن تقوم بالمعدوم كما تقوم بالموجود فانقدح ان التنظير في الوقوع لا في الامتناع ، فظهر عموم خطاب المشافهة للموجودين والغائبين والمعدومين ، إذ هو للأول حقيقي وللثانيين إنشائي. هذا كله إذا أنشئ الطلب مطلقا ، أي غير مقيد بوجود المكلف ، فنحتاج حينئذ إلى فرض المعدوم موجودا حين الخطاب ، واما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه للشرائط فامكان انشاء الطلب على النحو المذكور بمكان عال من الامكان ، كأن يقول المولى (يا أيها المؤمنون الموجودون الكاملون بالبلوغ والعقل اتّقوا) مثلا ، فحال الواجب الذي يستفاد من الخطاب المشافهة كحال سائر الواجبات المشروطة كما لا يخفى.

قوله : وكذلك لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم ، بل الغائب حقيقة وعدم امكانه ...

٤٤٧

لا ريب في عدم صحة خطاب المعدوم ، بل الغائب عن مجلس الخطاب والحاضر غير الملتفت ، كالنائم والمجنون والمغمى عليه والسكران ، بخطاب حقيقي وفي عدم امكانه في حق الاشخاص المذكورين ، إذ الخطاب الحقيقي هو توجيه الكلام نحو الغير لافهام المعنى الذي قصد منه ولذا اشتهر (ان الكلام انما يلقى للافادة والاستفادة) كما ان الفاظهم ليست بكلام لاشتراط كونه مقصودا بالافهام ، ومن المعلوم أن ذلك لا يتحقق إلا بالموجود ، بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت اليه ، ومن عدم صحة خطاب المعدوم بخطاب حقيقي قد انقدح ان ما وضع للخطاب ، مثل أدوات النداء وضمائر المخاطب لو كانت موضوعة للخطاب الحقيقي لا الخطاب الانشائي لا وجب استعمال ما وضع للخطاب في الخطاب الحقيقي تخصيص ما يقع في تلوه وعقيبه بالحاضرين في مجلس الخطاب ، مثلا إذا قال المولى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا) ، (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ... فهو مختص بالحاضرين. كما ان قضية ارادة العموم من ما وضع للخطاب لغير الحاضرين من المعدومين والغائبين استعمال ما وضع للخطاب في غير الخطاب الحقيقي من الخطاب الايقاعي الانشائي ، وهذا واضح.

وفي ضوء هذا ، فبناء على وضع أدوات النداء للخطاب الحقيقي وبناء على استعمال العام في الخاص مجازا يلزم أحد المجازين : اما في الأدوات إذا استعملت في الخطاب الانشائي وإما في العام إذا استعملت الادوات في الخطاب الحقيقي لاختصاص تاليها بالحاضرين حينئذ.

وأما بناء على مختار المصنّف قدس‌سره فلا يلزم المجاز أصلا ، إذ الظاهر ان أدوات النداء قد وضعت للخطاب الايقاعي الانشائي ، ولكن الدواعي مختلفة ، فلم يكن مثل أدوات النداء موضوعا للخطاب الحقيقي إذ الداعي قد يكون نداء حقيقيا نحو (يا زيد تعال إليّ) مثلا ، وقد يكون الداعي تأسفا وتحسرا وحزنا نحو (يا كوكبا ما كان أقصر عمره ، وكذا تكون كواكب الاسحار) فالمتكلم شبّه طفله الذي مات ب (كوكب) في الصفاء والنورانية ، والداعي هو اظهار التأسف والتحسر والحزن ، وقد يكون

٤٤٨

داعي الانشاء شوقا نحو (يا مهدي عليه‌السلام عجّل على ظهورك) وقد يكون استغاثة نحو (يا لزيد للمظلوم!).

فتحصل مما ذكر : ان الأدوات لو وضعت للخطاب الحقيقي لم تشمل الغائبين ، بل لا يمكن شمول الخطاب للحاضر في المجلس إذا كان غافلا عنه فضلا عن المعدومين ، وإذا وضعت للخطاب الانشائي فلا مانع من شموله للمعدومين والغائبين حيث ان مفادها حينئذ اظهار توجيه الكلام نحو مدخولها بداع من الدواعي ، ولكن بعد فرض المعدوم بمنزلة الموجود كما هو لازم القضية الحقيقية.

هذا ، والظاهر انها بحسب المتفاهم العرفي موضوعة للخطاب الانشائي ، إذ الغرض اظهار توجيه الكلام إلى مدخولها بداع من الدواعي ، كما يوقع المتكلم الخطاب حال كونه مخاطبا لمن يناديه حقيقة نحو (يا الله) عشر مرات حين الدعاء بمحضر المولى الحكيم جلّت عظمته ، فاذا وضعت الأدوات للخطاب الايقاعي الانشائي فلا يلزم حينئذ تخصيص تاليها نحو (المؤمنون) مثلا بالحاضرين لصحة استعمال مثل أدوات النداء بالنسبة إلى الموجود والمعدوم من دون لزوم المجاز ، لا في الأدوات ولا في مدخولها حين كون معنى الأدوات الخطاب الانشائي ، إذ تستعمل حينئذ في معناها الحقيقي ، كما لا يخفى.

نعم لا يبعد دعوى ظهور الخطابات الشفهية انصرافا ـ لا وضعا ـ في الخطاب الحقيقي ، لأن اكثر الوقت يكون الداعي خطابا مع المخاطب الحقيقي الموجود حين الخطاب ـ لا التنزيلي ـ إذا لم يكن مانع عنه بموجود ، ولم تكن قرينة على خلافه.

كما هو الحال في حروف الاستفهام ك (الهمزة وهل) الاستفهاميتين وحرف الترجي ك (لعلّ) وحرف التمني ك (ليت) وحروف التحضيض ك (هلا ولو لا ولو ما وإلّا وألّا) ، وحرف العرض ك (ألا) بالتخفيف (١) ، لأنها وضعت لانشاء الاستفهام

__________________

(١) والفرق بين التحضيض والعرض ان الأول طلب الفعل بازعاج وشدة نحو : (هلّا تأكل) مثلا ، والثاني طلب المتكلم الفعل عن المخاطب ببطء نحو (ألا تنزل بنا تصب خيرا).

٤٤٩

والترجي والتمني والتحضيض والعرض ، ولكن دواعي الانشاء مختلفة ، إذ داعي الاستفهام قد يكون طلب الفهم حقيقة ، وقد يكون تقريرا أو انكارا أو توبيخا مع ظهورها انصرافا ناشئا من كثرة الاستعمال في الحقيقي من الاستفهام والترجي والتمني والتحضيض والعرض ، إذا لم يكن هناك مانع عن حملها على الحقيقي منها. والمانع عنه وجود قرينة تدل على شيء منها ، أي التقرير والانكار والتوبيخ ، كادوات الاستفهام في كلام الباري فانها محمولة على التقرير أو التوبيخ أو الانكار قطعا على حسب الموارد ولا تحمل على الاستفهام الحقيقي لاستلزامه الجهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، كما سبق تحقيق هذا المطلب في بحث الأوامر في طي الأمر الأول.

كما يمكن دعوى وجود المانع عن الانصراف إلى الخطاب الحقيقي بالنسبة إلى أدوات النداء في غالب الأوقات في كلام الشارع المقدس ، والوجه في ذلك ان احكام الشرع الأنور قانونية ليست مبنية على ملاحظة خصوصية حضور مجلس الخطاب في موضوعاتها حتى ان بناء الفقهاء ـ رضي الله تعالى عنهم ـ على الغاء الخصوصية إذا كان قد صرّح بها في لسان الدليل ، ولهذا تراهم يتمسكون على الحكم العام بالدليل الدال على ثبوته في حق رجل بعينه نحو قصة الاعرابي حين قال في محضر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (هلكت واقعت أهلي في شهر رمضان المبارك) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فكفّر) فوجوب الكفارة وان اختص بالاعرابي بقرينة السؤال والجواب ، ولكن استدلوا بوجوبها على كل مكلف إذا واقع اهله في شهر رمضان المبارك من جهة الغاء الخصوصية ومن جهة ضرورة وضوح عدم اختصاص الحكم الشرعي في مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) ، ويا أيّها المؤمنون بمن حضر مجلس الخطاب بلا شبهة ولا ارتياب ، فكذا مثل (كفّر) لا يختص بمكلف دون مكلف للوجه الذي ذكر آنفا من كون أحكام الشرع الأقدس قانونية هذا مضافا إلى الضرورة من

٤٥٠

الدين في الاشتراك إلى يوم القيامة.

ويشهد بوضعها للخطاب الايقاعي الانشائي صحة النداء بالأدوات مع ارادة العموم من العام الواقع تلوها بلا عناية وبلا تنزيل الغائب منزلة الحاضر الملتفت وبلا تنزيل المعدوم منزلة الموجود الملتفت وبلا رعاية علاقة المجاز في نفس الأدوات اصلا ، وتوهم كون التنزيل ارتكازيا كما يدفعه عدم العلم بالتنزيل مع الالتفات إلى التنزيل ومع التفتيش عن حال التنزيل المذكور يعني لو كان التنزيل صالحا لافهام الغائبين والمعدومين وكان ارتكازيا للزم اتضاحه بعد التأمل والتفتيش مع انه ليس كذلك فيدل ذلك الأمر على عدم التنزيل أصلا ، فاذا ثبت عدم التنزيل فقد ثبت وضعها للخطاب الايقاعي الانشائي ، وان لم يحصل العلم بالتنزيل بسبب الالتفات والتفتيش فمن أين يعلم بثبوت التنزيل ارتكازيا؟ كما هو واضح.

قوله : وان أبيت إلا عن وضع الأدوات للخطاب الحقيقي ...

أي إن منعت ـ أيها الخصم ـ من وضع الأدوات للخطاب الإيقاعي الانشائي ، والتزمت بوضعها للخطاب الحقيقي فلا مناص حينئذ من التزام اختصاص الخطابات الإلهية بأدوات الخطاب ، نحو : (يا أيها الناس) ، (يا أيها المؤمنون) وامثالها ، وعن التزام اختصاص الخطابات الإلهية بنفس توجيه الكلام بدون أدوات الخطاب نحو : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً* وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) ومثل غير الخطابات الإلهية كخطابات الآباء والامهات والموالي والملوك الذين يريدون بها جميع أولادهم وعبيدهم ورعاياهم سواء كانوا حاضرين أم كانوا غائبين ، وسواء كانوا موجودين أم كانوا معدومين ، بالمشافهين الملتفتين (٢) فيما لم يكن هناك قرينة على التعميم ، فالتزام الاختصاص المذكور فاسد جدا ،

__________________

(١) آل عمران : آية ٩٧.

(٢) الجار والمجرور يتعلق بالاختصاص المذكور.

٤٥١

والالتزام بوضعها للخطاب الحقيقي فاسد أيضا فلا مناص حينئذ من وضعها للخطاب الإيقاعي الانشائي ، فكما ان خطابات الملوك والأمراء قانونية ليست مبنية على ملاحظة خصوصية حضور مجلس الخطاب فكذا أحكام الشرع الأنور قانونية حرفا بحرف.

وتوهم صحة التزام التعميم في خطاباته جلّ وعلا لغير الموجودين ، فضلا عن الغائبين لاحاطة علمه تبارك وتعالى بالموجود في الحال وبالموجود في الاستقبال لتساوي نسبة الممكنات اليه وحده لا شريك له ، فاسد جدا ، لان احاطة علمه جلّ جلاله لا توجب صلاحية المعدوم ، بل الغائب للخطاب الحقيقي الذي يشترط فيه حضور المخاطب ، بل التفاته وانكار هذا مكابرة ، بل لا يصح عقلا ان يجعل الصبي والمجنون مخاطبا بالخطاب الحقيقي مع وجودهما ومع اتصافهما بالانسانية. فالمعدوم أجدر بعدم صحة الخطاب منهما. فان قيل إذا لم تصح المخاطبة مع المعدوم والغائب فيلزم النقص في ناحية قدرته جلّت عظمته تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

قلنا لا يلزم النقص في ذات الباري جلّ جلاله أصلا ، لأن النقص والقصور في ذاتهما ، وهذا القصور لا يوجب نقصا في ذات الخالق المتعال كما ان استحالة اجتماع الضدين وارتفاع النقيضين لا توجب نقصا في قدرته تبارك وتعالى إذ الضدان من حيث هما ضدان غير قابلين للاجتماع ، والنقيضان من حيث هما نقيضان ليسا بقابلين للاجتماع وللارتفاع ، وكما ان خطابه اللفظي من حيث كونه تدريجيا ومتصرم الوجود كالزمان لأنه من الكم المتصل غير قار الذات ، فكذا الالفاظ حرفا بحرف ، كان قاصرا عن أن يكون موجها إلى جانب غير من كان بمسمع منه ضرورة (١).

__________________

(١) المسمع الموضع الذي يمنع منه يقال هو مني بمرأى ومسمع ، أي بحيث أراه واسمع كلامه كما في المنجد في حرف السين.

٤٥٢

فاختصاص الخطاب بالمشافهين ، لو قلنا بان الخطاب بمثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ)(١) ـ في الكتاب الكريم ـ حقيقة إلى غير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن بلسانه الفصيحة إلى الناس ضرورة استحالة الخطاب الحقيقي مع الغائب فضلا مع المعدوم في الخارج فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبلغ فقط ، واما إذا قلنا بأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه هو المخاطب والموجه اليه الكلام والخطاب حقيقة وحيا بتوسط ملك مقرّب أو بالالهام الذي هو القاء الخير من ناحية الفياض المطلق في قلبه الطيّب ، فلا محيص إلّا عن كون الأداة في مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للخطاب الإيقاعي الانشائي سواء كان استعمال خطابات الكتاب الكريم فيه على نحو الحقيقة أم كان على نحو العناية والمجاز ، فالأول مختار المصنّف قدس‌سره والثاني مختار غيره.

وحينئذ ، يشمل خطاب الكتاب المبين الحاضرين والمعدومين فضلا عن الغائبين ، والسرّ في كون الأدوات للخطاب الايقاعي الانشائي الشامل للحاضر الملتفت وغير الملتفت كالحاضر الذاهل ، وللمعدوم والغائب ان حال نزولها على هذا المبنى لم يكن من يتوجه اليه الخطاب الحقيقي بموجود كي يقع النزاع في اختصاصها بالحاضرين مجلس الخطاب أو عمومها للغائبين ، بل المعدومين فلا موضوع إذن لهذا النزاع أصلا.

هذا مضافا إلى انه إذا قلنا بان المخاطب هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالعنوان المذكور في الخطاب لما لم يرد منه المخاطب الحقيقي لعدم انطباق (المؤمنين) و (الذين آمنوا) و (الناس) عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا بد حينئذ ان يجعل الخطاب المدلول عليه بأداته هو الخطاب الايقاعي الانشائي كي يشمل الحاضرين والغائبين والمعدومين ، إذ الجميع غير موجه اليه الخطاب فيكون شمول بعض دون بعض بلا مخصص.

__________________

(١) النساء : الآية ١.

٤٥٣

في ثمرة البحث

قوله : فصل : ربما قيل انه يظهر لعموم الخطابات الشفهية للمعدومين ...

قال صاحب التقريرات رضي الله عنه يظهر لعموم الخطابات الشفهية ثمرتان :

الأولى : انه على القول بعموم الخطاب للغائبين ، بل المعدومين فظواهره تكون حجة عليهم بالخصوص كحجّية ظواهره على المشافهين. وعلى القول بعدمه لا تكون حجة عليهم كذلك. وفيه انها تبتني على مقدمتين :

الأولى : اختصاص حجية الظواهر بمن قصد افهامه.

الثانية : أن يكون المقصود بالافهام من خطابات القرآن الكريم هو خصوص الحاضرين في مجلس التخاطب. ولكن كلتا المقدمتين غير مطابقتين للواقع.

اما المقدمة الاولى : فلعدم اختصاص حجية الظواهر بخصوص المقصودين بالافهام كما حقق في محله ، بل تعمّ الجميع من المقصودين بالافهام وغيرهم ، وذلك لعدم الفرق في السيرة العقلائية القائمة على العمل بها بين من قصد افهامه من الكلام والخطاب ومن لم يقصد افهامه.

وأما المقدمة الثانية : فلان المقصود بالافهام من خطابات القرآن الكريم جميع الناس إلى أن تقوم الساعة من الحاضرين والغائبين والمعدومين والنكتة في ذلك ان القرآن الكريم لا يختص بزمان دون زمان وبطائفة دون طائفة ، بل هو يجري كما تجري الشمس والقمر يجري ، والليل والنهار ، ويجري على آخرنا كما يجري على أولنا ، كما في الأخبار.

وعليه لا يمكن القول بان المقصود بالافهام من خطاباته المباركة هو الحاضرين في مجلس التخاطب دون غيرهم ، إذ هو كتاب إلهي نزل لهداية البشر والجان ، فلا محيص من أن يكون المقصود بالافهام جميع البشر ، غاية الأمر ان من يكون حاضرا في مجلس الخطاب يكون مقصودا بالافهام من حين صدوره ، ومن لم

٤٥٤

يكن حاضرا أو كان معدوما فهو مقصود به حين ما تصل اليه الآيات والخطابات ، كما يومئ إلى هذا المطلب غير واحد من الأخبار المعتبرة ، مثل خبر الثقلين المروي في كتب الفريقين ؛ ومثل ما دل على عرض مطلق الخبر على الكتاب الكريم ؛ ومثل ما دل على الأخذ بالخبر الموافق للكتاب من الخبرين المتعارضين وغيرها. فالجميع ظاهر في الحجية بالنسبة إلى جميع البشر.

الثانية : انه على القول بالعموم يصح التمسك بعمومات الكتاب واطلاقات الخطابات القرآنية لثبوت الأحكام بالاضافة إلى الغائبين والمعدومين وان لم يكونوا متحدين في الصنف مع المشافهين ، كقوله تعالى مثلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) ...) (١) فلا مانع من التمسك بعمومه لاثبات وجوب السعي للغائبين والمعدومين ، واما على القول بالاختصاص فلا يصح التمسك بها لاثبات وجوب السعي لهما ، لفرض ان وجوب السعي في الآية الشريفة على هذا القول غير متوجه إليهما ، فاثباته للمعدومين يحتاج إلى تمامية قاعدة الاشتراك في التكليف ، أي انه بناء على العموم يكون اثبات الحكم الذي تضمنه الخطاب للمعدومين بنفس ذلك الخطاب ، لأن الخطاب إذا تضمن ثبوت الحكم للعنوان المنطبق على المعدومين مثل : (الذين آمنوا) في قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ومثل : الناس في (يا أيها الناس) فقد دل الخطاب بنفسه على ثبوت الحكم لهم.

وأما بناء على عدم الشمول لهم فالخطاب انما يتضمن اثبات الحكم للمشافهين فقط فاثباته لهم يتوقف على ثبوت قاعدة الاشتراك. والاجماع وان قام على ثبوت القاعدة ، أي قاعدة الاشتراك إلا ان المتيقن من معقد الاجماع هو اشتراك المعدومين مع الموجودين في جميع الخصوصيات التي كانوا عليها حال الحكم والخطاب.

__________________

(١) سورة الجمعة : آية ٩.

٤٥٥

ومنها وصف الحضور في المجلس إذا احتملنا ان لوصف الحضور دخلا في الحكم ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن التمسك بهذه القاعدة ، ولا يكفي الاشتراك المأخوذ موضوعا في الخطاب ، مثل (الناس) و (الذين آمنوا) ، ففي المقام لا يمكن التمسك بقاعدة الاشتراك وذلك لعدم احراز اشتراك المعدومين مع الموجودين في الصنف لاحتمال ان يكون لعنوان الحضور دخلا في الحكم كما سبق آنفا ، إذ القدر المتيقن من الاجماع الذي يكون دليلا لبيّا بغير لسان فيما اتحد الصنف كما لا يخفى.

ولا يخفى ان هذه القاعدة ، أي قاعدة الاشتراك في التكليف ، انما ثبتت الحكم للمعدومين إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف حتى يحكم بالاشتراك مع المشافهين في الأحكام الإلهية.

نعم ، إذا ثبت حكم لشخص خاص بعنوان كونه مسافرا فقد ثبت لجميع من يكون متحدا معه في هذا العنوان ببركة قاعدة الاشتراك.

ولكن لا يخفى عليك ان فقد المعدوم لبعض الخصوصيات التي كانت للموجود ، كحضوره في عصر المعصوم عليه‌السلام ، وان كان مانعا عن التمسك بقاعدة الاشتراك لاحتمال دخل الخصوصية في ثبوت الحكم إلّا انه يتمّ إذا لم يكن دليل على عدم دخل الخصوصية التي يفقدها المعدوم ، ولكن يكفي في الدلالة على عدم دخل تلك الخصوصية اطلاق عنوان الموضوع ، فان اطلاق (الناس) و (الذين آمنوا) و (المؤمنين) في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ويا أيها المؤمنون ، دليل على كون تمام الموضوع ، أي موضوع الحكم ، هو المؤمن والناس ، إذ لو كان موضوع الحكم المؤمن الواحد لخصوصية كذا لكان اللازم تقييده بذلك فعدم التقييد دليل على عدم دخل الخصوصية في الموضوع.

فان قيل الاطلاق انما يثبت بمقدمات الحكمة ومن جملتها ان لا توجد قرينة على التقييد وكون الموجودين على صفة خاصة مما يصلح أن يكون قرينة عليه فيصحّ الاطلاق مع ارادة التقييد ، ويكون وجدان الصفة قرينة عليه ، أي على التقييد

٤٥٦

بوصف الحضور.

قلنا بأنه لا يتم في الصفات التي يمكن أن يتطرق اليها الفقدان ، فان وجدان الصفات المذكورة ـ كحضورهم في زمان المعصوم عليه‌السلام ـ لا يصلح قرينة على التقييد بها ، فلو كان المتكلم في مقام بيان اعتبارها ، لوجب عليه التقييد بها فترك التقييد بها يدل على عدم اعتبارها فلا يصح الاطلاق مع ارادة المقيد والتقييد في الأوصاف التي يمكن ان يتطرق الفقدان اليها ، وان صح الاطلاق مع ارادة التقييد فيما لا يتطرق اليه الفقدان ، كوصف حدوثهم وانسانيتهم مثلا. بخلاف وصف الحضور وعنوان اتيان الصلاة خلفه عليه‌السلام وكونهم مجاهدين في عصره عليه‌السلام ، فانها مما يتطرق اليه الفقدان فلا تبقى. وعلى طبيعة الحال فالاطلاق محكم في الباب.

فانقدح من هذا سقوط الثمرة الثانية إذ يصح التمسك بالاطلاقات القرآنية ، وان قلنا بعدم شمولها للمعدومين فرضا للوجه الذي ذكر سابقا كما لا يخفى.

فان قيل : كيف يكون الاطلاق محكّما مع كثرة الاختلاف في العناوين بين الموجودين والمعدومين ، وهي مانعة عن احراز وحدتهما في الصنف.

قلنا : مراد الاصوليين من الاتحاد في الصنف الذي هو شرط في جريان قاعدة الاشتراك هو الاتحاد في الخصوصيات التي لها الدخل في الحكم الشرعي لا في كل خصوصية. وان لم تكن دخلية فيه ففقد المعدوم لبعض خصوصيات الموجود لا يقدح في الاشتراك ، مثلا إذا اتحد المعدوم مع الموجود في البلوغ والقدرة والعقل والناس والايمان والحياة فهذا يكفي في جريان قاعدة الاشتراك وان لم يتحد معه في عنوان الحضور واتيان الصلاة خلفه عليه‌السلام والجهاد في محضره المبارك واستماع قوله الشريف و ...

فلو اشترط الاتحاد في جميع العناوين والاوصاف لما ثبت بقاعدة الاشتراك للغائبين فضلا عن المعدومين حكم من الأحكام الشرعية لكثرة الاختلاف في العناوين والاوصاف بين الانام والمخلوق ، بل يكثر التفاوت في شخص واحد بمرور

٤٥٧

الدهور والازمان والايام إذ هو يرى واجدا لعنوان تارة وفاقدا له أخرى ، كمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ هو مدرك في زمان صحبة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغير مدرك له في زمان آخر.

فان قيل : لا حاجة في المقام إلى التمسك بالاطلاق الثابت للمشافهين حتى يرتفع به دخل ما شك في دخله في الحكم ، كوصف الحضور ويثبت بالاطلاق اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف فيلحقهم حكمهم ، بل يكفي في لحوق حكم الموجودين بالمعدومين قاعدة الاشتراك نفسها فحسب.

قلنا : دليل الاشتراك انما ينفع في عدم اختصاص الحكم بالمشافهين إذ لم يكونوا واجدين لخصوصية تحتمل دخلا في الحكم كوصف الحضور ، إذ نحتمل ان يكون لوصف الحضور دخل في الحكم فاذن ندفع هذا الاحتمال بوسيلة اطلاق الخطاب ، فلو لا الاطلاق الذي ندفع به عدم دخل تلك الخصوصية ونثبت به اتحاد المعدومين مع الموجودين في الصنف لما نفع دليل الاشتراك في سراية الحكم من الموجودين إلى المعدومين لاحتمال دخل وصف الحضور في الحكم ، فبوسيلة الاطلاق نثبت الاتحاد في الصنف كما ان بوسيلة دليل الاشتراك نثبت تعميم الحكم لغير المشافهين من الغائبين والمعدومين ، وان لم يكونوا مخاطبين بالخطابات الشفهية. فانقدح الاحتياج إلى التمسك بالاطلاقات القرآنية والخطابات المذكورة.

قوله : تأمل جيدا في سقوط الثمرة الثانية ...

إذ يصح التمسك بالاطلاقات القرآنية وان قلنا باختصاص الخطابات بالمشافهين لأن المعدومين والغائبين مقصودون بالافهام أيضا كما سبق وجهه مفصلا.

فتلخص مما ذكر انه لا يكاد تظهر الثمرة إلا على القول باختصاص حجّية الظواهر لمن قصد افهامه مع كون غير المشافهين غير مقصودين بالافهام كما هو مذهب المحقق القمي ومن تبعه قدس‌سرهما فحينئذ تتم الثمرة. ولكن قد حقق في مبحث حجية الظواهر عدم الاختصاص بمن قصد افهامه كما سيأتي ان شاء الله تعالى في

٤٥٨

غير مقام البحث كما اشير إلى منع كون المعدومين غير مقصودين بالافهام في طي ردّ الثمرة الأولى في خطاباته تبارك وتعالى ، فراجع هناك.

قوله : فصل في تعقيب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده ...

إذا عقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده فبطبيعة الحال يدور الأمر بين التصرف في العام بالالتزام بتخصيصه وبين التصرف في الضمير بالالتزام بالاستخدام فيه ، ومثلوا لذلك بقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ)(١) فان كلمة (المطلقات) تعم الرجعيات والبائنات والضمير في (بردهن) يرجع إلى خصوص الرجعيات حيث ان حق الرجوع للزوج انما يثبت فيها دون غيرها من المطلقات البائنات ، فاذا يقع الكلام في ان المرجع في هذا المقام أهو اصالة العموم أم هو اصالة عدم الاستخدام أم لا هذا ولا ذاك؟ وجوه ، بل أقول ثلاثة. اختار صاحب الكفاية قدس‌سره القول الأخير واستدل عليه بانه لا يمكن الرجوع في المقام لا إلى اصالة العموم ولا إلى اصالة عدم الاستخدام.

أما اصالة العموم فلأن تعقب العام بضمير يرجع إلى بعض افراده يصلح ان يمنع عن انعقاد ظهور العام في العموم حيث ان ذلك داخل في كبرى احتفاف الكلام بما يصلح للقرينة بنظر العرف ، ومعه لا ظهور له فيه حتى يتمسك به إلا على القول باعتبار اصالة الحقيقة تعبدا لا من باب الظهور ، وهذا الاعتبار غير ثابت جزما كما حقّق في محله.

وأما أصالة عدم الاستخدام فلان الاصول اللفظية انما تكون متبعة ببناء العقلاء فيما إذا شك في مراد المتكلم من اللفظ ، واما إذا كان المراد معلوما وكان

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٢٨.

٤٥٩

الشك في كيفية ارادته وانها على نحو الحقيقة أو المجاز فلا اصل هناك تعيّنها.

وعلى الجملة ، فالاصول اللفظية بشتى اشكالها انما تكون حجة في تعيين المراد من اللفظ فقط دون كيفية ارادته من عموم أو خصوص أو حقيقة أو مجاز ، لفرض عدم بناء من العقلاء على العمل بها لتعيينها وانما بناؤهم على العمل بها في تعيين المراد عند الشك فيه. وبما ان المراد من الضمير في المقام معلوم ، والشك انما هو في كيفية استعماله ، وانه على نحو الحقيقة أو المجاز فلا يمكن التمسك حينئذ باصالة عدم الاستخدام لاثبات كيفية استعماله لعدم بناء من العقلاء على العمل بها في هذا المورد ، والدليل الآخر غير موجود على الفرض.

فالنتيجة عدم جريان اصالة العموم في المطلقات لاكتنافها بما يصلح للقرينة على تخصيصها وهو الضمير في (بردّهن). وعدم جريان اصالة عدم الاستخدام في الضمير بملاك ان الشك في المقام ليس في المراد إذ هو معلوم وهو خصوص الرجعيات من المطلّقات ، بل الشك في كيفية استعمال الضمير : أهو على سبيل الاستخدام إذا كان المراد من المطلقات معناها الحقيقي وهو العموم ، أم على نحو الحقيقة إذا كان المراد منها خصوص الرجعيات ، فاذن لا مناص من القول بالتوقف في المسألة من هذه الجهة.

هذا ولكن لا يخفى ان محل الكلام في هذه المسألة ما إذا استقل العام عن الضمير في الحكم ، سواء كان العام والضمير في كلامين أم كانا في كلام واحد ، فالأول كالضمير في الآية الشريفة فان جملة (الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) غير جملة (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ). والثاني كما في قول المولى : (اكرم العلماء وواحدا من جيرانهم) ، مع قيام القرينة على كون المراد من الضمير خصوص العدول ، فان كلمة (العلماء) وكلمة (واحد من جيرانهم) معا تمام الموضوع لا وحدها وحدها ، فيكون العام والضمير معا في كلام واحد ، واستغنى العام عن الضمير في الحكم لكونه تاما في موضوعية الحكم ، بخلاف مثل (والمطلقات) و (ازواجهن أحق بردهن) لأن العام

٤٦٠