البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٢

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-4-2
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٥٦٨

بالجواز عقلا وبالامتناع عرفا ، ومن المعلوم ان العقل يحكم مستقلا بالجواز مع قطع النظر عن دلالة لفظ الأمر والنهي عليه لأنه يرى المجمع متعددا وان العرف يرى المجمع واحدا ، وبالجملة ان التفكيك بين حكم العقل والعرف دليل على أن لفظ الأمر والنهي يدل على الامتناع.

فاذا عيّن العرف مفهوم الأمر والنهي فيحكم بامتناع اجتماعهما فالعرف متبع في تعيين مفاهيم الفاظ العرب ومداليل كلمات أهل اللسان.

أجاب المصنف عن الوجه الأول : بان تعبيرهم في العنوان ، انما يكون لأجل استفادة الوجوب والحرمة غالبا من لفظ الأمر والنهي ، ولا يكون هذا لأجل الحصر والانحصار.

وعن الوجه الثاني : بان ذهاب البعض كالمقدس الاردبيلي قدس‌سره إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، ليس هذا بمعنى دلالة لفظ الأمر والنهي على الامتناع حتى يكون من اكبر الشواهد على كون مسألتنا لفظية ، بل معنى هذا التفصيل ان الواحد المعنون بعنوانين اثنان ، بالنظر الدقيق العقلي وواحد بالنظر المسامحي العرفي.

فلهذا : يحكم العقل بجواز الاجتماع والعرف بامتناعه ، فكون مسألتنا لفظية مردود عند المصنف ، هذا مضافا إلى ان نظر العرف لا يكون حجة في موارد تطبيق المفاهيم على مصاديقها ، بل هو حجة في تعيين المفاهيم ، والحال ان العرف طبّق مفهوم الأمر وهو الوجوب ومفهوم النهي وهو الحرمة في المجمع وهو الصلاة في الدار المغصوبة.

قوله : وإلّا فلا يكون معنى محصلا للامتناع ...

أي وان لم يكن الامتناع العرفي بهذا المعنى المذكور فلا يكون معنى محصل للامتناع العرفي بعد حكم العقل بالجواز ، إذ الامتناع من الأحكام العقلية ، فاذا اجاز العقل اجتماعهما في الواحد فينبغي ان يجيزه العرف ايضا.

قوله : غاية الأمر ...

١٠١

ويحتمل ان يكون الامتناع العرفي بمعنى دلالة لفظ الأمر والنهي على عدم وقوع الاجتماع بعد اختيار جواز الاجتماع عقلا ، ولا يكون الامتناع العرفي بمعنى عدم جواز الاجتماع بعد حكم العقل بالجواز كي يلزم الانفكاك بين حكم العقل وحكم العرف.

قوله الخامس : لا يخفى ان ملاك النزاع في جواز الاجتماع ...

ولا يخفى ان مطلق الوجوب يعاند مطلق الحرمة ويضاده. وفي ضوء هذا :

فيدخل في محل النزاع جميع انواع الايجاب والتحريم سواء كانا نفسيين ، أم كانا غيريين ، أم كانا عينيين ، ام كانا تعيينين ، ام كانا كفائيين ، أم كان الايجاب والتحريم تخييريين ، فلنا دعويان في هذا المقام :

الأولى : جريان النزاع في جميع انواعهما كما ذكر آنفا.

والثانية : جريانه في التخييريين منهما ايضا.

واستدلّ المصنف لاثبات الدعوى الاولى بوجهين :

الأول : وجود الملاك وعمومه الذي هو استحالة اجتماع الوجوب والحرمة في شيء واحد على فرض كون المجمع واحدا ، فكما لا يمكن اجتماع مفسدة الوجوب والحرمة النفسيين فيه لاستحالة كون الشيء الواحد ذا مصلحة وذا مفسدة ، فكذلك لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة الغيريين لاستحالة ان يكون شيء واحد مصداقا للمأمور به والمنهي عنه معا ، ولو كانا غيريين.

وكذا لا يمكن اجتماع الوجوب والحرمة الكفائيين لبداهة انه لا يمكن ان يكون في فعل الواحد كدفن المسلم ما يقتضي وجوبه وما يقتضي تحريمه ويؤثر كل واحد من المقتضيين (بالكسر) في المقتضيين (بالفتح).

الثاني : اطلاق لفظ الأمر والنهي في عنوان المسألة. ومن الواضح ان هذا الاطلاق يشمل جميع انواع الايجاب والتحريم ، كما لا يخفى ، ولكن زعم بعضهم اختصاص النزاع في الواجب والحرام النفسيين ، التعيينيين العينيين لوجهين :

١٠٢

الأول : هو الانصراف ، أي انصراف الذهن من لفظ الأمر والنهي إلى الواجب النفسي والحرام النفسي وإلى الواجب التعييني والحرام التعييني وإلى الواجب العيني والحرام العيني ، كما ينصرف الذهن من اطلاق لفظ الماء إلى الماء البارد الصافي.

والثاني : هو الاطلاق ، أي اطلاق لفظ الأمر والنهي ، كما انه إذا ذكرت صيغة الأمر والنهي في الكلام غير مقيّدة بقيد الواجب الغيري ولا قيد الواجب التخييري ولا قيد الواجب الكفائي ، استفيد من اطلاق صيغة الأمر الوجوب النفسي العيني التعييني ، وكذا يستفاد من اطلاق لفظ الأمر والنهي الوجوب المذكور والحرمة المذكورة.

فالوجوب الذي يستفاد من اطلاق لفظ الأمر غير مقيد بوجوب شيء آخر ، وبعدم ايجاد شيء آخر ، وبعدم اتيان شخص آخر ، فهذا الاطلاق يدل على كون الوجوب نفسيا عينيا تعيينيا ، لا غيريا ولا كفائيا ولا تخييريا.

فالحرمة التي تستفاد من اطلاق لفظ النهي غير مقيدة بحرمة شيء آخر ، وبعدم ترك شيء آخر ، وبعدم ترك شخص آخر ، فهذا الاطلاق يدل على كون الحرمة نفسية عينية تعيينية ، لا غيرية ولا كفائية ولا تخييرية.

وفيه : ان منشأ الانصراف إما غلبة الوجود وإما كثرة الاستعمال.

فالأولى : باطلة صغرى وكبرى ، إذ الوجوب بمعنى كونه نفسيا عينيا تعيينيا ، لا يكون غالبا ، من حيث الوجود في الشريعة المقدسة لكثرة خلافها وجودا فيها ايضا ، ولو سلّمنا كونه غالبا فغلبته من حيث الوجود لا توجب الانصراف عند اطلاق مادّة الأمر كما قرر هذا في محلّه.

والثانية : باطلة صغرى لكثرة استعمال لفظ الأمر شرعا وعرفا في الواجب الغيري والكفائي والتخييري ، وأما كبرى فهي توجب الانصراف ، إلّا انها لا تنفع في المقام لقيام القرينة العقلية في المقام التي هي عموم الملاك وهو عبارة عن تضاد مطلق الوجوب مع مطلق الحرمة ، كما مرّ سابقا. فدعوى الانصراف في مادة الأمر

١٠٣

ممنوعة ، هذا في الانصراف. بل نقول ان الانصراف المذكور في مادة الأمر ممنوع ولو سلّمنا صغرى وكبرى القياس في الاولى لكثرة استعمالها في غيره.

وبالجملة : لا نسلم الانصراف في مادة الأمر. واما صيغة الأمر نحو (افعل) وصيغة النهي نحو (لا تفعل) ، وان سلّمنا الانصراف فيهما ، كما مرّ في المبحث السادس من بحوث الأوامر ، ولكن لا تكون معنونة في مسألة الاجتماع ، كما هو ظاهر ، بل مادة الأمر والنهي معنونة فيها ، ولو فرض عنوانها فيها فلا نسلم الانصراف والظهور والانسباق في صيغتهما من جهة اطلاقها ، لأنه ينعقد ظهور الصيغة في الواجب النفسي العيني ببركة مقدمات الحكمة ، وهي لا تجري فيما نحن فيه لوجهين :

الأول : لوجود القرينة فيه وهي عبارة عن عموم الملاك في جميع انواع الواجب والحرام كما سبق هذا مفصلا.

والثاني : لعموم النقض والابرام الواقعين في كلام الاصوليين وهو يشمل جميع انواعهما ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى ، وكذا في مادة النهي وصيغته ، طابق النعل بالنعل أو حرفا بحرف.

امكان الخلاف في التخييريين

البحث في جريان النزاع في الواجب والحرام التخييرين

قوله : مثلا إذا أمر بالصلاة ...

قال : ان المولى إذا أمر بالصلاة أو الصوم تخييرا بينهما ونهى عن التصرف بالدار وعن دخولها او المجالسة مع الأغيار تخييرا بينهما بحيث لا يجوز الجمع بين الدخول في الدار والمجالسة مع الأغيار ، ويجب احدهما ، إما الصلاة وإما الصوم على نحو البدل بحيث لا يجب كلاهما ، ولا يجوز الاخلال بكليهما ، فالمكلف مخير

١٠٤

في اتيان احدهما ، كما انه مخير في ترك الدخول في الدار المعهودة أو ترك المجالسة مع الأغيار.

فبالنتيجة : إذا صلى في الدار المغصوبة مع مجالسة الأغيار كان حال الصلاة في هذه الدار مثل حال الصلاة التي أمر بها تعيينا إذا أتيت في الدار المغصوبة في كون هذه الصلاة جامعة لعنوان الواجب والحرام. مثلا إذا قال المولى (صلّ ولا تغصب) فلو أتى المكلف صلاة في الدار المغصوبة لكانت هذه الصلاة جامعة لعنوان الواجب الذي هو عنوان الصلاتية ، ولعنوان الحرام الذي هو عنوان الغصبية ، فكذا الصلاة في الدار التي نهى عن دخولها على حذو النعل بالنعل.

إذا علم ما ذكر فيجري النزاع في جواز اجتماع الأمر والنهي في الواحد ذي العنوانين وامتناعه فيه في هذا المقام أيضا ، وتجيء أدلّة المجوّزين والمانعين في هذا المورد ، ويجيء النقض والابرام هنا ، فتفطن ولا تغفل إذ لا وجه لاختصاص النزاع بالواجب النفسي العيني.

في اعتبار المندوحة وعدم اعتبارها

قوله : السادس انه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة ...

قد يتوهم انه لا بد من اعتبار قيد المندوحة في محل النزاع في هذه المسألة إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال ، فمحل اختلاف الاصوليين في جواز الاجتماع ، وفي امتناع الاجتماع يكون في المورد الذي يكون المكلف قادر في مقام الامتثال على اتيان الصلاة خارج الدار المغصوبة ، بأن دخلها بسوء الاختيار لا بالاضطرار ، واما إذا لم تكن المندوحة للمكلف وانحصر المكان في الدار المغصوبة بأن دخلها بالاضطرار فالأمر بالصلاة يستلزم التكليف بالمحال ، لأنه لا يقدر على اتيان الصلاة صحيحة في الدار المغصوبة بحيث يوجب قربا بالمولى ، وهذا نظير الأمر بالطيران في الهواء في كون كليهما تكليفا بالمحال وبغير المقدور وهو باطل عند العدلية

١٠٥

والمعتزلة ، وان قالت الاشاعرة به ، فان قيل ان كلامهم في عنوان المسألة مطلق غير مقيّد بالمندوحة ، قلنا ان اطلاقه انما يكون من جهة الاتكال والاعتماد على وضوح قيد المندوحة في مورد النزاع في مقام امتثال الأمر والنهي ، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال ، ولكن التحقيق ان هذا التوهم فاسد جدا.

توضيحه : ان عدم جواز اجتماع الأمر والنهي على نحوين :

الأول : يكون من جهة عجز المكلف عن امتثال الأمر والنهي معا مع كون موضوع الأمر واجدا لملاك الأمر بحيث يكون وجوده ارجح من عدمه ، ومع كون موضوع النهي واجدا لملاك النهي بحيث يكون عدمه ارجح من وجوده ، ولكن عجز المكلف يمنع الجمع بينهما ، أي بين الاتيان بموضوع الأمر والترك بموضوع النهي ، لأن الجمع بينهما تكليف بالمحال ، نظير الأمر بالضدين المتزاحمين ، كما لو أمر المولى بانقاذ زيد الغريق وبانقاذ عمرو الغريق ، فالملاك الذي هو نجاة المؤمن من الهلاك موجود فيهما ، فلهذا يكونان مأمورا بهما ، ولكن المكلّف لا يقدر على انقاذهما معا فعجزه مانع من الجمع بينهما.

والثاني : ان يكون عدم امكان اجتماعهما من جهة تضاد الأمر والنهي الذي يوجب امتناع الجمع بينهما ، ويكونان معا تكليفا محالا ، كما إذا تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد بعنوان واحد ، كما لو أمر المولى باكرام زيد بن ارقم من حيث كونه عالما ، ونهى عن اكرامه من حيث كونه عالما.

إذا علم ما ذكر فيكون البحث في هذه المسألة في جواز اجتماعهما وعدمه من الجهة الثانية ، لأن عنوان البحث يكون على هذا النحو وهو ان الأمر والنهي بشيء واحد ذي عنوانين جمع بينهما في شيء واحد بسوء اختيار ، فيكون هذا محالا في نفسه ، لأنه يكون مثل الأمر والنهي بشيء واحد ذي عنوان واحد ، فالكون الغصبي في الدار شيء واحد وان كان معنونا بعنوان (الصلاتي) وبعنوان (الغصبي). أو لا يكون تعلق الأمر والنهي فيه جمعا بينهما في شيء واحد ، فلا يكون هذا محالا

١٠٦

في نفسه كالأمر والنهي بشيئين ، ولكن المندوحة انما تعتبر في جواز اجتماعهما من الجهة الاولى ، إذ مع المندوحة يقدر المكلف على امتثال الأمر والنهي معا ، لأن المكلف معها يصلي في المكان المباح ولا يدخل في الدار المغصوبة ، ولكن الجهة الاولى ليست محل الكلام والبحث ، ولذا قال بعض الاصوليين بالامتناع حتى مع وجود المندوحة.

فالتحقيق في المقام عدم اعتبار المندوحة التي تكون بمعنى الفسحة والسعة في محل النزاع في هذه المسألة ، لأن البحث فيها يكون في مرحلة الجعل ، بمعنى ان تعدد الوجه موجب لتعدد متعلق الأمر والنهي ، وان تعدد العنوان موجب لتعدد المعنون كي ترتفع غائلة اجتماع الحكمين المتضادين في شيء واحد مع قطع النظر عن مقام الامتثال ، أو لا يوجب تعدد الوجه تعدد المتعلق ، وتعدد العنوان تعدد المعنون ، فيكون اجتماعهما في شيء واحد ذي عنوانين نظير اجتماعهما في شيء واحد ذي عنوان واحد ، كما انه في الصورة الاولى يكون نظير اجتماعهما في شيئين ذي عنوانين ، والحال انه لا يتفاوت في ذلك النزاع وجود المندوحة وعدم وجودها.

فبالنتيجة : وجودها لا دخل له في امكان الاجتماع في مرحلة الانشاء والجعل ، كما ان عدمها لا دخل له في امتناع الاجتماع فيها ، إذ البحث في مرحلة الجعل والانشاء. نعم ، يكون وجودها دخيل في مرحلة امتثال الأمر والنهي ، كما إذا تمكن المكلف من الصلاة في غير الدار المغصوبة ، فاعتبار وجود المندوحة في مقام الامتثال اجنبي عما هو محل النزاع في المسألة ، إذ محل النزاع ، كما عرفت ، في سراية النهي إلى ما تعلق به الأمر وعدم سرايته ، والحال انهما لا يتفرعان على وجود المندوحة أصلا ، فان قيل انه يلزم التكليف بالمحال وبما لا يطاق إذا لم تكن المندوحة موجودة في البين ، إذ المكلف لا يستطيع اتيان الصلاة صحيحة في الدار المغصوبة ، فاذن لا بد من وجودها.

قلنا : ان في المقام محذورين احدهما استحالة نفس التكليف في مقام الجعل

١٠٧

والانشاء ، وثانيهما عدم استطاعة المكلّف في مقام الامتثال إذا لم تكن المندوحة موجودة ، وإذا لم يتمكن المكلف من التفكيك بينهما والاتيان بالصلاة في غير الدار المغصوبة ، ولا يرتبط الثاني بالأول ، لأن وجوب الصلاة في الدار المغصوبة وحرمة الغصب محالان في مرحلة الجعل سواء وجدت المندوحة في مقام الامتثال أم لم توجد فيه ، وذلك لاتحادهما في المجمع.

وحاصل الكلام : انه لا وجه لاعتبار المندوحة في محل النزاع. نعم ، لا بد من اعتبارها في مرحلة الامتثال ، وهو خارج عن محل النزاع ، وانما البحث في مرحلة الجعل والانشاء.

وقد ظهر في ضوء هذا ان التكليف بالمحال وبما لا يطاق على فرض ان لا تكون المندوحة موجودة محذور آخر غير محذور استحالة نفس التكليف في مرحلة الجعل.

نعم ، إذا قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد بدعوى ان تعدد العنوان يوجب تعدد المعنون ، وهذا يكفي في عدم استحالة اجتماعهما ، فلا محالة ان نقول باعتبار المندوحة حينئذ ، إذ وجوب الصلاة يكون فعليا ، والوجوب الفعلي مشروط بالقدرة كما يشترط فيه البلوغ والعقل والحياة أيضا ، و (إلّا) ، أي وان لم تكن المندوحة في البين يلزم التكليف بالمحال ، وهو غير جائز عند العدلية وان قالت به الاشاعرة.

وبالجملة : لا وجه لاعتبار المندوحة إلّا لأجل اعتبار المندوحة بما هو محذور وممنوع في مقام البحث من لزوم المحال ، فلا ينفع وجودها في امكان الجعل لابتنائه على عدم السراية ، كما ان امتناع الاجتماع متفرّع على السراية ، ولا بد في هذا المقام من بيان أمرين :

أحدهما : بيان الفرق بين التكليف المحال والتكليف بالمحال.

التكليف المحال يعني أن نفس التكليف محال كالأمر والنهي بشيء واحد

١٠٨

ذي عنوان واحد. والوجه في ذلك ان الأمر يقتضي كون المأمور به ذا مصلحة ومحبوبا لدى المولى ، والنهي يقتضي كون المنهي عنه ذا مفسدة ومبغوضا لديه ، وما هذا إلا اجتماع الضدين في شيء واحد ، وهو محال عقلا ، فهذا التكليف يكون محالا.

اما التكليف بالمحال فلا يعني ان نفس التكليف ليس بمحال ، ولكن يكون متعلّقه محالا ، نحو أمر المولى بالطيران ، أو أمره باتيان مائة ركعة من الصلاة في مدة عشرين دقيقة مثلا.

من هنا تبيّن أنّ التكليف بالمحال وبغير المقدور يكون في مرحلة الامتثال إذا لم تكن المندوحة في البين كما سبق ، واما التكليف بالمحال فيكون في مرحلة الجعل ، ولهذا عبّر بهما في المقامين.

قوله : فافهم ...

وهو اشارة إلى أن المحالية الناشئة من التضاد بين التكليفين غير المحالية في المقام ، فهذه المحالية لا تشمل محالية ناشئة من المضادة بين المتعلّقين ، فيمكن الانفكاك بينهما ، لأن محالية نفس التكليف تكون عن ناحية وحدة المتعلق ، واما محالية نفس المكلف به فتأتي من عجز المكلف عن اتيان المكلف به في الخارج. ففي الضدّين المتزاحمين كانقاذ الغريقين يكون المكلف به محالا أما التكليف نفسه فليس بمحال ، فاغتنم الوجه المذكور.

وثانيهما : بيان الفرق بين (بالجملة) وبين (في الجملة).

ان مفاد (بالجملة) سالبة كلية ومفاد (في الجملة) موجبة جزئية ، ولهذا قال المصنف (وبالجملة) لأن المندوحة ليست بمعتبرة بطور سلب الكلي في مرحلة الجعل والانشاء أصلا ، وهو ظاهر.

١٠٩

في توهم ابتناء النزاع على القول بتعلق الأحكام بالطبائع لا الافراد

قوله السابع : انه ربّما يتوهم تارة ان النزاع في الجواز والامتناع ...

فتوهم المتوهم في هذا المقام توهمين :

الأول : ان النزاع في المسألة يتفرّع على القول بتعلّق الأوامر والنواهي بالطبائع.

الثاني : ان الجواز ، أي جواز اجتماع الأمر والنهي ، متفرع على القول بتعلقهما بالطبائع ، وان القول بالامتناع يتفرّع على القول بتعلّقهما بالأفراد.

أما بيان الأول : فهو ان امتناع اجتماعهما لا يكاد يخفى على احد على القول بتعلق الأحكام بالافراد ، إذ لا يمكن تعلق الحكمين المتضادين بواحد شخصي سواء كان ذا عنون واحد وذا وجه فارد ، أم كان ذا عنوانين وذا وجهين ، إذ تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، وتعدد الوجه لا يستلزم تعدد ذي الوجه.

واما إذا قلنا ان الأحكام تتعلق بالطبائع فيمكن اجتماعهما في الطبيعة الواحدة ، لأن الطبيعة ذات مصاديق متباينة وذات عناوين متعددة ، فالطبيعة باعتبار وجودها في ضمن فرد تكون مأمورا بها ، وبلحاظ وجودها في ضمن فرد آخر تكون منهيا عنها ، كالكون الكلي إذ هو مأمور به بلحاظ وجوده في ضمن الكون الصلاتي ، ومنهي عنه باعتبار وجوده في ضمن الكون الغصبي ، ولكن المكلّف جمعهما بسوء اختياره في الكون المعيّن الذي هو الكون في الدار المغصوبة حال الصلاة.

وأما بيان الثاني : فهو ان القول بجواز الاجتماع يبتني على القول بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع ، إذ على هذا القول يكون متعلق الأمر والنهي متعددا ذاتا وحقيقة ، لأن متعلق الأمر طبيعة الصلاة ، ومتعلّق النهي طبيعة الغصب ، ولكن المكلف أوجدهما بسوء اختياره في ضمن الفرد الواحد ، كما ذكر آنفا.

١١٠

وان القول بالامتناع يتفرّع على القول بتعلّقهما بالافراد ، إذ على هذا المبنى يكون متعلق الأمر والنهي شيئا واحدا على فرض الاجتماع وفردا معينا ، والحال ان تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون ، فاذا كان الأمر كذلك فاجتماعهما محال لمضادة الوجوب والحرمة بلحاظ ملاكهما.

وبالجملة : إذا قلنا بتعلق الأوامر والنواهي بالافراد فلا بد من القول بامتناع الاجتماع كما ذكر وجهه آنفا.

واما إذا قلنا بتعلقهما بالطبائع فيمكن أن نقول بالجواز ان قلنا بتعدد المجمع وبعدم سراية الحكم من احدهما ، أي احد المتلازمين ، إلى الملازم الآخر ، ويمكن أن نقول بالامتناع إذا قلنا بوحدة المجمع وبسراية الحكم من احد المتلازمين إلى الملازم الآخر. مثلا إذا قلنا ان الكون الصلاتي في الدار المغصوبة يستلزم الكون الغصبي فيها فيسري الحكم من الثاني إلى الأول ، كما انهما يكونان متحدين في مورد التصادق فلا اثنينية بينهما.

واما إذا قلنا : ان الأمر تعلّق بشيء والنهي تعلّق بشيء آخر ، لأن الأمر تعلّق بطبيعة الصلاة والنهي تعلّق بطبيعة الغصب.

غاية الأمر : ان النهي ملازم لوجود المأمور به في الخارج ، فلا يلزم محذور اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد.

فعلى الأول لا بد من أن يقال بالامتناع ، وعلى الثاني لا بأس بالقول بالجواز ، لأن نقول بعدم سراية النهى إلى ما تعلق الأمر به ، والحال ان متعلق الأمر والنهي متعدد.

جواب التوهّمين

قوله : وانت خبير بفساد كلا التوهمين ...

أجاب المصنف قدس‌سره : عن التوهمين بأن محل البحث في الواحد ذي جهتين ، فلو كان تعدد الوجه كافيا في رفع التضاد ، ونافعا في الاجتماع ، بحيث لا يضرّ مع

١١١

تعدد الوجه اتحاد متعلقهما بحسب الوجود الخارجي ، وعلى فرض ايجاد المكلف متعلقهما في ضمن الفرد الواحد ، كايجاده الصلاة في الدار المغصوبة فتتحقق الطبيعتان طبيعة الصلاة وطبيعة الغصب في ضمن هذا الفرد من الصلاة ، كصلاة زيد ، مثلا في المكان المغصوب ؛ لكان تعدد الجهة نافعا في رفع التضاد بين الوجوب والحرمة ، أي نافعا في رفع اجتماع الضدين في محل واحد وفي موضوع فارد ، سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالطبائع أم قلنا بتعلقها بالافراد ، فلا فرق بينهما من هذه الناحية.

أما بيان تعلقها بالطبائع فان الأمر والنهي تعلّقا بالطبيعتين من حيث وجودهما في ضمن فرديهما ، ومن اجل تحقّقهما في ضمنهما في الخارج ، إذ الطبيعة من حيث هي ليست إلا هي ، لا تكون مطلوبة ولا غير مطلوبة ، والحال انه لا موطن لها إلا العقل.

فوجود الطبيعة : دخيل في المطلوب. فهي من حيث الوجود مطلوبة ومتعلّقة للحكم ، كما انه على القول بتعلق الأمر والنهي بالافراد يكون وجودها مطلوبا ، فوجودها دخيل في المطلوب أيضا. كما ان خصوصيتها ومشخصاتها داخلتان فيه على هذا القول ، وهما خارجتان عنه على القول الأول ، لأن الطبيعة تتحقّق في الخارج في ضمن فرد من افرادها بلا لحاظ كون الفرد ثنائية أم كونه رباعية ، جهرية أم اخفاتية ، ادائية أم قضائية.

وأما القول بتعلقها بالافراد فهذه الامور داخلة فيه لأنها من لوازم الافراد من وجودها الخارجي ، والحال ان تحقّق الملزوم في الخارج يستلزم تحقّق اللازم ، فالمولى لاحظ هذه الامور أوّلا ثم أمر بتحقّق الافراد في الخارج ، بخلاف القول بالطبائع ، فان المولى لاحظ وجود الطبيعة في ضمن أي فرد من افرادها ، ثم أمر بها مع قطع النظر عن المشخصات الفردية ، فاذا كان المطلب كذلك فالموجود الخارجي الموجّه بوجهين يكون فردا لكل من الطبيعتين ، مثلا كصلاة زيد في الدار المغصوبة ، وهي موجهة بالوجه الصلاتي وبالوجه الغصبي ومعنونة بعنوانهما. فبلحاظ انها

١١٢

معنونة بعنوان الصلاتي وموجهة بوجهها تكون فردا لطبيعي الصلاة ومأمورا بها.

وباعتبار انها معنونة بعنوان الغصبي وموجهة بوجهه تكون فردا لطبيعي الغصب ومنهيا عنه. فالأمر تعلّق بالطبيعة ، أي طبيعة الصلاة والنهي تعلّق بطبيعة الغصب.

غاية الأمر : ان المكلف جمعهما في ضمن الفرد الواحد بسوء اختياره.

وفي ضوء هذا : فان كان تعدد الجهة والعنوان نافعا في دفع اجتماع الضدين في شيء واحد كان نافعا فيه سواء قلنا بتعلق الأوامر والنواهي بالطبائع أم قلنا بتعلّقهما بالافراد. وان كان لا ينفع فيه فهو غير مجد مطلقا ، أي سواء قلنا بتعلّق الأحكام بالطبائع أم قلنا بتعلّقها بالافراد. إذ كما ان الفردين يكونان واحدا وجودا في المجمع ، ولكن مصداقية المجمع لكل من الطبيعتين محفوظة لا تنثلم ، فكذلك تكون الطبيعتان واحدتين خارجا ومتحدتين وجودا ، وان تغايرتا ماهية.

خلاصة الكلام : ان وحدة الصلاة والغصب ، في الصلاة في الدار المغصوبة ، من حيث الوجود لا يقدح في تعدّدهما واقعا ، ولهذا لا يحمل احدهما على الآخر ، وفي كونهما طبيعتين ، وكونهما ، أي كون الصلاة والغصب ، طبيعتين مختلفتين ، محفوظ سواء اتّحدا وجودا وخارجا أم لم يتّحدا من حيث الوجود الخارجي ، ويدلّ على هذا التعدد مطلقا انتزاع عنوان الصلاتية وعنوان الغصبية. هذا مضافا إلى عدم صحة حمل احدهما على الآخر ، فان لاحظنا وجودهما في ضمن الصلاة في الدار المغصوبة فهما متحدان وجودا وخارجا ولكن لا ينثلم به التعدّد الماهوي.

وكذلك خصوصيات الصلاة ومشخصاتها اتّحدت مع الغصب في الخارج مثل كونها ثنائية او رباعية ، او جهرية او اخفاتية ، او ادائية او قضائية ، لا يقدح هذا الاتحاد من حيث الوجود الخارجي في كون الصلاة الخارجية والغصب الخارجي ، كصلاة زيد مثلا وغصبه ، فردين اثنين من الطبيعتين ، لكونهما مصداقين لهما واقعا ، فاذا كان المناط في الأمر والنهي وجود الطبيعة في الخارج في ضمن فرد ، كما ان

١١٣

المناط وجود فرد فيه وإلا لم يمتثل الأمر ، فلا فرق حينئذ بين القول بتعلق الأحكام بالطبائع أو بالافراد من حيث جريان النزاع ، لأنه ان قلنا بالسراية ، أي سراية النهي إلى متعلّق الأمر ، فالصواب قول المانعين ، وان قلنا بعدمها فالأظهر هو قول المجوّزين.

وعلى هذا : فلا مجال للتوهمين المذكورين. فلا تغفل عن مختار المصنّف قدس‌سره وهو القول بالمنع ، فيكون مانعا عن الاجتماع ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

في اعتبار وجود مناط الأمر والنهي في المجمع

قوله الثامن : انه لا يكاد يكون من باب الاجتماع إلّا إذا كان ...

ولا بدّ هنا من بيان أمرين :

الأول : ان مسألة الاجتماع هل تكون من صغريات باب التزاحم او من صغريات باب التعارض؟

والثاني : بيان الفرق بين باب التزاحم والتعارض.

قال المصنف قدس‌سره : انها من باب التزاحم في المجمع ، لاعتبار وجود المناطين فيه كالمتزاحمين ، ففي الصلاة في الدار المغصوبة ، مصلحة الأمر ومفسده النهي موجودتان ، وهي بلحاظ المصلحة ، أي مصلحة الصلاتي ، مأمور بها ، وباعتبار المفسدة ، أي مفسدة الغصبي ، منهيّ عنها ، فلا بد ان يكون لكل واحد من متعلّق الايجاب والتحريم مناط حكم كل واحد منهما ، سواء كان كل واحد منهما منفكّا عن الآخر أم لم يكن ، كما في مورد التصادق والاجتماع ، كي يحكم على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي وجهين بكون المجمع فعلا محكوما بحكمين (الوجوب والحرمة) إذ لا فرق بين الصلاة في الدار المغصوبة وبين الصلاة في المسجد مثلا ، وبين التصرف في مال الغير بغير إذنه حال الصلاة وحال الجلوس مثلا ، وكي يحكم على القول بالامتناع بكون المجمع محكوما فعلا باقوى المناطين.

١١٤

فاذا كان مناط الصلاة اقوى في نظر الشارع المقدس من مناط الغصب سقطت حرمة الغصب عن الفعلية ، وتبقى في مرتبة الاقتضاء والانشائية ولم تصل إلى مرتبة الفعلية والاجراء لأن المكلّف لا يقدر على امتثال الأمر والنهي معا كما هو القانون في المتزاحمين في كل موضع. وإذا كان مناط الغصب اقوى في نظره من مناط الصلاة بحيث يكون مناطه متين ومناطها واحدا مثلا ، فيسقط وجوب الصلاة عن الفعلية ويبقى في مرتبة الانشاء ، فيحكم بحرمة الصلاة وبطلانها ، كما ان في الأول يحكم بوجوبها وبصحتها بشرط ان يكون مقدار الزيادة من مصلحة الصلاتية ومن مفسدة الغصبية بحدّ الالزام ، وإلا فلا.

توضيح : ان الاحتمالات على القول بالامتناع خمسة ، لأن مصلحة الصلاة :

اما تصل الى حدّ الالزام وبمقدار الزامي فيجب تداركها ، واما لا تصل الى حدّ الالزام فيستحبّ حينئذ تداركها مع كونها اقوى من مفسدة الغصب.

ولأن مفسدة الغصب اما تصل الى حدّ الالزام وبمقدار الزامي بحيث يجب اجتنابها فتحرم الصلاة في المكان المغصوب ، واما لا تصل الى حدّ الالزام مع كونها اقوى من مصلحة الصلاة ، فتكره الصلاة في المكان المذكور. أو يكونان متساويين بحيث لا ترجيح لمصلحة الصلاة على مفسدة الغصب ، ولا ترجيح لمفسدته على مصلحتها ، فتكون الصلاة مباحة فيه. فهذه خمسة أقسام كما يأتي تفصيله ان شاء الله تعالى في مبحث (التعادل والتراجيح).

والثاني : بيان الفرق بين التزاحم والتعارض : ان المناط موجود في كلا المتزاحمين ، غاية الأمر انه اما يكون اقوى في احدهما واضعف في الآخر ، واما يكون متساويا فيهما ، ولكن عجز المكلف عن اتيانهما معا يوجب التزاحم بينهما ، فالعقل يحرّكه ويبعثه إلى امتثال أمر المناط الاقوى منهما ، كانقاذ المؤمن العادل بالاضافة إلى انقاذ المؤمن الفاسق. كما ان العقل يحرّكه الى امتثال أمر احدهما على نحو التخيير العقلي إذا كان المناط فيهما متساويا كانقاذ احد المؤمنين العادلين ، أم

١١٥

الفاسقين ، ففي التزاحم يرجع إلى المناط الأقوى ، وان كان دليله اضعف سندا أو دلالة ، ولا يرجع إلى المناط الاضعف ، وان كان دليله اقوى سندا أو دلالة ، بخلاف التعارض والمتعارضين للعلم الاجمالي بصدق احدهما وكذب الآخر ، فالمناط ليس بموجود في المتعارضين ، ولهذا يرجع إلى مرجحات باب التعارض لتشخيص الكاذب من الصادق ، ولهذا يقال على القول بالامتناع والسراية بوقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع ، والتكاذب بينهما فيه في مرتبة الجعل بحيث لا يمكن أن يكون كل منهما مجعولا على نحو يشمل مورد الاجتماع ، فان ثبوت كل منهما في مرحلة الجعل يستلزم كذب الآخر في تلك المرحلة وعدم ثبوته فيها وهذا معنى التعارض بينهما ، كما انه على القول بالجواز وعدم السراية وقع التزاحم بين المقتضيين في مورد الاجتماع والمجمع ، وسيأتي ان شاء الله تعالى تفصيل مرجحات باب التعارض.

قال المصنّف قدس‌سره : انه إذا لم يكن للمتعلّقين مناط في مورد الاجتماع ، بل يكون في مورد افتراق المتعلّقين ، فلا يكون مورد الاجتماع من باب التزاحم ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلّا بحكم واحد من الحكمين ، أما الوجوب الذي يتعلق بالصلاة ان كان ملاكه موجودا ، واما الحرمة التي تتعلّق بالغصب ان كان ملاكها موجودا ، مثلا إذا قال المولى : (اكرم العلماء ولا تكرم الشعراء) وهما يتعارضان في زيد العالم الشاعر ففيه :

اما تكون مصلحة وجوب الاكرام موجودة. وأما تكون مفسدة حرمة الاكرام موجودة.

ففي مورد التعارض يرجع إلى المرجحات السندية لأحد الدليلين الدالين على الحكمين ، وإلى المرجحات الدلالية. فاذا علم ان مناط احد الحكمين موجود دون الآخر فيحكم بوجوده ، وان لم يكن المناط لكل واحد من الحكمين في مورد الاجتماع فيحكم بكونه مباحا ، سواء قلنا بجواز الاجتماع أم قلنا بالامتناع. فالنزاع

١١٦

في هذه المسألة متمركز فيما إذا كان المناط موجودا لكلا الحكمين (الوجوب والحرمة) في مورد الاجتماع على القول بالجواز ، لأن القائل بجواز الاجتماع يقول بوجود المناط في المجمع لكلا الحكمين. والقائل بالامتناع يقول بوجود المناط في المجمع لأحد الحكمين. ولهذا يقع التزاحم في مورد الاجتماع على القول بالجواز ويقع التعارض في المجمع على القول بالامتناع.

واما إذا كان المناط لأحدهما موجودا في المجمع فيحكم بوجوده قطعا من غير فرق بين الجواز والامتناع في المسألة في وجود حكم ذي مناط في المجمع.

وأما إذا لم يكن المناط لا للوجوب ولا للحرمة فلا يحكم ، لا به ولا بها ، لأن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، كما عليه العدلية والمعتزلة خلافا للأشاعرة. بل يحكم بالاباحة في مورد الاجتماع كاتيان الصلاة في الصحراء مثلا ، بلا فرق بين الجواز والامتناع في عدم وجوب هذا المورد وفي عدم حرمته.

قوله : هذا المطلب المذكور في مقام الثبوت والواقع ...

والمقام لا يخلو ثبوتا من احدى الاحتمالات الثلاث ، واما بحسب مقام الدلالة والاثبات فالروايتان الدالّتان على الحكمين : الوجوب مثل : (اكرم العلماء) ، والحرمة مثل : (لا تكرم الشعراء) متعارضتان ، إذا أحرز ان المناط في احدهما فقط ، فلا بدّ حينئذ من عمل المعارضة بينهما من ترجيح أحدهما على الآخر بواسطة مرجحات أحد المتعارضين على المعارض الآخر ، مثل كون احدهما اقوى سندا ، أو اقوى دلالة ، ومثل كون احدهما موافقا للعامة والآخر مخالفا لها. ومثل كون احدهما موافقا للكتاب العزيز والآخر مخالفا له. ومثل كون احدهما مشهورا والآخر شاذا ، كما في مقبولة عمر بن حنظلة عليه الرحمة.

وان تساويا من جميع الجهات المذكورة آنفا فيحكم حينئذ بالتخيير الشرعي بينهما في المجمع من حيث الفعل والترك. يعني : اما يكرم العالم الشاعر حتى يمتثل الأمر ، واما ان لا يكرم العالم الشاعر كي يمتثل النهي.

١١٧

تكميل : ان التخيير يكون على اربعة اقسام :

الأول : التخيير الشرعي الظاهري ، مثل التخيير في تعارض الخبرين مع فقد المرجح أو مع وجوده ولكن لا يلزم العمل به ، كما هو مختار المصنّف قدس‌سره.

والثاني : التخيير الشرعي الواقعي ، كالتخيير في خصال الكفارة.

والثالث : التخيير العقلي الظاهري ، كالتخيير في احد الاصول العملية ، مثل دفن الميّت المنافق ، فاما أن يجري المكلّف أصالة البراءة من وجوب دفنه إذ هو لا يعلم ان دفنه واجب ، أم لا ، فالشك يكون في التكليف وهو مجرى البراءة ، واما ان يجري استصحاب عدم وجوب دفنه لأنه قبل موته لا يجب دفنه وبعد موته نشكّ في وجوبه وعدم وجوبه ، فالأصل بقاء عدم الوجوب ، واما ان يجري اصالة الاشتغال لدوران الأمر بين الوجوب وعدم الوجوب ، واما أن يجري اصالة التخيير لدوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، أي وجوب دفن المنافق وحرمة دفنه.

الرابع : التخيير العقلي الواقعي ، كالتخيير بين الغريقين إذا تساوى المناط فيهما كانقاذ المؤمنين على التزاحم.

وفي ضوء هذا : ظهر ان التخيير في المتعارضين شرعي ، وهو عقلي في المتزاحمين المتساويين ، وان لم يحرز المناط في احد الحكمين ولم يعلم صدق احدهما وكذب الآخر فلا تعارض حينئذ في البين ، ويحتمل أن يكون المناط في كليهما معا احتمالا راجحا على احتمال عدم المناط في كليهما ، لأن وجود المناط في كليهما يكون من اجل مقتضي حجية الروايتين معا ، والحال ان كلا منهما حاك عن وجود المناط المقتضي للحكم. فالعقل يحرّك المكلف أن يعامل معاملة التزاحم بين المقتضيين على القول بالامتناع لاحتمال صدقهما معا ، ويعمل باقوى المناطين وان كان دليله اضعف سندا او دلالة ، فلا مجال حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات اصلا كما لا يخفى ، بل لا بدّ ، بحكم العقل ، من أن يعمل بمرجحات المقتضيات المتزاحمات ، مثل كون احدهما مقطوع الأهمية في نظر الشارع المقدّس واقوى

١١٨

مناطا بحكم العقل كانقاذ النبي بالاضافة إلى انقاذ المؤمن ، أو مثل كون احدهما مظنون الأهمية في نظره ومظنونا من حيث اقوائية المناط ، أو مثل كون احدهما محتمل الأهمية ولو كان الاحتمال ضعيفا ، أو مثل كون احدهما مضيّقا والآخر موسّعا ، كما في الصلاة والازالة ، وستأتي الاشارة إلى تفصيلها ان شاء الله تعالى.

قوله : نعم ، لو كان كل من الدليلين متكفلا للحكم الفعلي لوقع بينهما التعارض ، لأنه على القول بالامتناع تمتنع فعلية الحكمى علي طبق المناطين فاذا دلّ كل منهما على الحكم الفعلي فقد علم اجمالا بكذب احدهما فيحصل التعارض ، لأن العلم الاجمالي يوجب دلالة كل من الدليلين على ثبوت الحكم الفعلي بالمطابقة ويوجب دلالة كل منهما على انتفاء الحكم الذي هو مضمون دليل الآخر بالالتزام ...

فبالنتيجة : يحصل التنافي بين المدلول المطابقي لكل من الدليلين وبين المدلول الالتزامي للدليل الآخر ، فلا بد أولا من الرجوع إلى قانون الجمع بينهما ، لأنه أولى من طرح احدهما والرجوع إلى الاصول العملية على حسب اختلاف الموارد.

بيان طريق الجمع : على هذا النحو ، بأن يحمل احدهما بعينه على الحكم الاقتضائي الانشائي ، والآخر على الحكم الفعلي ، والوجه في الجمع بينهما على الوجه المذكور ان المقتضي للحكم فيه ، أي احدهما بعينه ، اضعف كانقاذ المؤمن ، وفي الآخر اقوى كانقاذ النبي ثبوتا وواقعا ، فيكون الترجيح بينهما ثبوتا ، وفي مقام الثبوت موجبا للترجيح بينهما اثباتا وفي مقام الاثبات ولهذا يجمع بينهما على نحو الجمع العرفي الذي ذكر آنفا ، وهذا معنى ملاحظة مرجحات باب المزاحمة المذكور في كلامه قدس‌سره.

وإلا يمكن الجمع بينهما عرفا ، بان يأبى لسان الدليلين عن الحمل على الاقتضائي ، أي حمل احدهما بعينه عليه ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة مرجحات باب المعارضة التي ذكرت سابقا من الترجيح أو التخيير.

١١٩

وبالجملة : لو امكن الجمع بينهما في نظر العرف بحمل احدهما بعينه على الاقتضائي لأجل اضعفية مناطه ومقتضيه فلا مجال للرجوع إلى احكام التعارض ، إذ هي مختصة بغير موارد الجمع العرفي كما سيأتي ان شاء الله تعالى في باب التعارض.

قوله فتفطّن : وهو اشارة إلى أن الجمع العرفي المذكور يتوقف على كون احدهما اظهر من الآخر ، إذ الملاك عندهم هو الأظهرية والظهور ، والحال ان مجرد كون احدهما اقوى مناطا من الآخر لا ينفع في كون الاقوى مناطا أظهر من الآخر واقوى ظهورا ، بل يحتمل العكس.

في كيفية دليل الحكمين اثباتا

قوله : التاسع : انه قد عرفت ان المعتبر في هذا الباب ...

والمقصود من الأمر التاسع بيان انه بأيّ شيء يحرز المناطان في المجمع ، كما ان المقصود من الأمر الثامن هو بيان انه يعتبر في باب الاجتماع ان يكون مناط كل من الأمر والنهي موجودا في المجمع حتى يكون المجمع على القول بالجواز محكوما بحكمين الوجوب الحرمة ، وعلى القول بالامتناع يكون مندرجا في التزاحم بين المقتضيين كما علم سابقا ، فيحرز المناطان في المجع بوجوه ثلاثة :

الأول هو الاجماع ، والثاني الدليل الخاص ، مما يوجب العلم بثبوت المناط فيهما ، والثالث هو اطلاق الدليلين.

وأما الأول والثاني فليسا بموجودين قطعا ، وإلّا لما وقع الخلاف في البين. وعلى فرض وجودهما فلا اشكال ولا نزاع في دخول المجمع في مسألة الاجتماع. فالمعيار في هذه المسألة ان يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها مشتملا على مناط الحكم حتى في مورد الاجتماع.

قوله : مطلقا ...

١٢٠