البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

علي العارفي الپشي

البداية في توضيح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

علي العارفي الپشي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: نشر نيايش
المطبعة: چاپ دانش
الطبعة: ١
ISBN: 964-90047-8-5
ISBN الدورة:
964-90047-5-0

الصفحات: ٦٢٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على

أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله

المعصومين واللعنة على أعدائهم أجمعين

الأمارات المعتبرة شرعا ، أو عقلا

قوله : المقصد السادس في الأمارات المعتبرة شرعا ، أو عقلا ...

الأمارات جمع سالم الأمارة بفتح الهمزة بمعنى العلامة لا بكسرها اذ تكون حينئذ بمعنى الرئاسة وهي ليست بمرادة في المقام ؛ لأنّ الاستصحاب الذي يكون أحد الأمارات على قول علامة بقاء الشيء على ما كان ، إذ هو عبارة عن البقاء ما كان على ما كان ، وخبر العدل علامة كون الواقع على طبق مضمونه ، وكذا خبر الثقة حرفا بحرف ، واليد علامة الملكية.

ولا بأس ببيان الفرق بين الأمارات والاصول العلمية وبين الطرق والأمارات.

أمّا الفرق بين الأمارات والاصول فلأنّ الأمارات تكون لها جهة كشف وحكاية عن الواقع ، كخبر الثقة مثلا ، وأمّا الاصول العملية فليست لها جهة كشف وحكاية عن الواقع أصلا بل كانت وظيفة للجاهل في ظرف الشكّ والتحيّر كقاعدة الطهارة وكقاعدة الحليّة وكأصالة البراءة ونحوها.

فالنتيجة أنّ جميع الأمارات والاصول العملية يكون وظائف للجاهل بالواقع

٥

إلّا أنّ الجهل بالواقع لم يؤخذ في لسان دليل الأمارات. وهو قد أخذ في لسان دليل الاصول العملية نحو قول الصادق عليه‌السلام : كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر. ونحو :

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام فتدعه. ونحو : الناس في سعة ما لا يعلمون. ونحو لا تنقض اليقين بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر.

فمفاد الأوّل : كلّ شيء نظيف في صورة الجهل بالقذارة إلى أن تعلم بقذارته.

ومفاد الثاني : كلّ شيء حلال في صورة الجهل بالحرمة إلى أن تعرف حرمته.

ومفاد الثالث : الناس في وسع بالفعل والترك في صورة عدم علمهم بالحرمة والإباحة.

ومفاد الرابع : ليس الشك ببقاء الحكم ، أو ببقاء الموضوع في زمان اللاحق.

وذلك كعدالة زيد وفسقه وحياته مثلا ناقضا ليقين السابق ببقاء الحكم ، أو ليقين السابق ببقاء الموضوع.

فانقدح من هذا البيان الأخير فرق آخر بينهما وهو : أنّه أخذ في لسان دليل الاصول العملية الشك في بقاء الحكم وفي بقاء الموضوع إذا كان الاستصحاب من الاصول العملية. أمّا بخلاف الأمارات فلأنّه لم يؤخذ الجهل بالواقع في لسان دليلها ولا الشك فيه. إذ لم يقل الشارع المقدّس للمكلّف إذا كنت جاهلا بالواقع ، أو شاكّا فيه فاعمل بخبر العدل ، أو الثقة ، أو اليد ، أو البيّنة ، بخلاف الاصول العملية فإنّ المولى قال إذا كنت جاهلا بالواقع فأنت في وسع ، فأنت بريء الذّمة من الفعل ، أو الترك ، وإذا كنت جاهلا بالبقاء والزوال فاستصحب أي ابق ما كان على ما كان.

وأمّا الفرق بين الأمارات والطرق فالطرق عبارة عن الحجج المثبتة للأحكام الكليّة ، وتلك كالأخبار المعتبرة والإجماع المحصّل. والأمارات عبارة عن الحجج المثبتة للموضوعات الخارجيّة (وتلك) كاليد والبيّنة واليمين مثلا ؛ لأنّ الأوّل مثبت

٦

لملكية ذي اليد على شيء ، والثاني مثبت لموضوع من الموضوعات نحو عدالة زيد أو فسقه مثلا ، والثالث مثبت لحق خاص نحو حق الخيار مثلا.

قوله : المعتبرة شرعا ، أو عقلا ...

فالأمارات المعتبرة شرعا كالبينة وخبر الثقة والإجماع المنقول والمحصّل وظواهر الألفاظ وفتوى المفتي مثلا. والأمارة المعتبرة عقلا كالظن حال الانسداد بناء على الحكومة لا الكشف إذ بناء عليه يستكشف كون الظن في حال الانسداد طريقا منصوبا من قبل الشارع المقدّس للوصول إلى التكاليف المعلومة بالاجمال فيصير الظن بناء عليه من الامارات المعتبرة شرعا لا عقلا. وأمّا إذا قلنا بأنّ مقتضى مقدمات الانسداد هو حكومة العقل بحجيّة الظن فيكون الظنّ معتبرا عقلا وهو من الأمارة التي اعتبرت من جهة حكم العقل.

ولكن قبل الخوض في بيان الأمارات المعتبرة لا بأس بصرف الكلام والبحث إلى بيان بعض أحكام القطع ولوازمه من كون حجيته ذاتية كزوجية الاربعة مثلا ، أو مجعولة بجعل الجاعل كسائر المجعولات كجعل الوجوب للصلاة والجهاد و ... مثلا ، ومن كون مخالفة القطع موجبا للعقاب سواء كان مصيبا للواقع أم كان مخطئا عنه أم كان موجبا له بشرط أن يكون مصيبا للواقع ولا يكون بجهل مركب ، ومن كون العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في تنجز التكليف وفي وجوب الامتثال أم لا وغيرها من الأحكام ، كما سيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى.

ولكون القطع أكمل الطرق إلى الواقع من سائر الأمارات المعتبرة شرعا ، أو عقلا يناسب ذكر بعض أحكامه في هذا المقام وذكر نفسه في هذا المقصد الذي كان في بيان الأمارات ، وان كان مباحث القطع خارجة عن مسائل علم الاصول وكان أشبه بمسائل علم الكلام لشدة مناسبة بعض أحكام القطع مع المقام.

أمّا وجه خروجها عنها فيقال ان المسألة الاصولية عبارة عن الكبرى التي

٧

يستنبط منها حكم شرعي فرعي كلّي مع ضم الصغرى إليها المأخوذة من إحدى الأدلة الأربعة. مثلا مقدمة الواجب المطلق واجبة تكون إحدى مسألة من مسائل علم الاصول لوقوعها كبرى القياس الذي أنتج حكما فرعيا كليّا. وعليه يقال الوضوء مقدمة الواجب المطلق ، وكلّ مقدمة الواجب المطلق واجب. نتيجة فالوضوء واجب. وكذا سائر مسائله حرفا بحرف.

ولكن القطع لا يقع كبرى القياس الذي أنتج حكما فرعيا كليّا ، فلا يصح أن يقال هذا المائع مقطوع الخمرية ، وكلّ مقطوع الخمرية حرام. نتيجة فهذا المائع حرام إذ لا يصح جعل القطع جزء الموضوع لأنّ الحرمة مترتبة على ذات الخمر من حيث هو خمر لا على معلوم الخمرية. ولهذا يقال الخمر حرام ولا يقال معلوم الخمرية حرام ، فليس القطع بالموضوع حدا وسطا للقطع بالحكم الفرعي الكلّي.

فانقدح أنّ القطع بأقسامه سواء كان متعلقا بالموضوع أم كان متعلقا بالحكم لا يقع في طريق الاستنباط للحكم الفرعي الكلّي.

وأمّا وجه كون مباحث القطع أشبه بمسائل علم الكلام باعتبار أنّ مرجع البحث عن حجية القطع إلى صحة عقاب المولى على مخالفته ، فالعقاب فعل من أفعاله جلّ وعلا ، وهو يناسب ويشابه بمسائل إلهيّات علم الكلام ؛ ، إذ يبحث فيها عن أفعال الله تعالى وما يصحّ عنه وما لا يصحّ عنه. وكلّ ما كان له فائدة فيصح صدوره عنه جلّ وعلا ، وكلّ ما ليس له فائدة لا يصحّ صدوره عنه عزّ اسمه.

وأمّا وجه شدة مناسبة بعض أحكامه مع المقام ، فيقال : ان المناسب هو البحث في هذا المقصد عن أحكام الأمارات ولوازمها. فالمناسب هو البحث عن أحكام القطع ولوازمه ، لأنّه أكمل الطرق وأقواها إلى الواقع ، فهذه الأكملية موجبة لشدة المناسبة مع البحث عن أحكام الأمارات من المنجزية عند الإصابة والمعذرية عند الخطاء ، والطريقية إلى الواقع لأنها موجودة فيه بطريق أولى وأكمل.

٨

أحكام المكلف

قوله : فاعلم أنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي ...

فاعلم أنّ البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف ـ وذكر الموصول مع صلته بعد البالغ للاحتراز عن المجنون لأنّه مرفوع القلم حتّى يفيق ، كما في الرواية ـ فالبالغ المذكور عبارة عن المكلّف الشأني.

فإن قيل : لم عدل المصنّف قدس‌سره عن التعبير بالمكلف إلى التعبير بالبالغ الكذائي؟

قلنا : لأنّه لا يصح جعل المكلف مقسما للأقسام الثلاثة ، إذ قيد الالتفات لإخراج غير الملتفت ، كالغافل ، والحال أنّه ليس بداخل فيه حتّى نحتاج إلى إخراجه لأن الغافل غير مكلّف بالفعل. نعم يصدق عليه البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف. وعليه يكون قيد الالتفات لغوا ، ولكن القيد يكون لإخراجه عن البالغ لأنّ حصول القطع والظن والشك المذكور بالحكم الفعلي إنّما يكون للبالغ الملتفت لا لغير الملتفت كالغافل.

ولكن هذا تامّ إذا كان المراد من المكلف هو المكلف الفعلي الذي تنجز عليه التكليف بسبب العلم به ، وأمّا إذا كان المراد منه هو المكلّف الشأني فليس هذا بتامّ لأنّ الغافل عن الحكم الفعلي يكون داخلا في المكلّف الشأني فيصحّ حينئذ جعل المكلّف مقسما وإخراج الغافل منه بقيد الالتفات.

قوله : إلى حكم فعلي ...

واعلم أنّ للأحكام مراتب أربعة :

الاولى : مرتبة الاقتضاء أي اقتضاء المصالح لجعلها ، والمفاسد الواقعية لتقنينها.

والثانية : مرتبة الإنشاء.

٩

والثالثة : مرتبة الفعلية ، والرابعة : مرتبة التنجز الحاصل بالعلم بالتكليف.

فإذا تمهدت هذه فلا ريب في ان أحكام القطع من المنجزية عند الإصابة والمعذرية عند الخطاء وصحة العقوبة على مخالفته مطلقا ، أي سواء أصاب القطع الواقع أم لم يصبه ، أو عند إصابته الواقع وغيره من الأحكام مختصة بما إذا تعلق القطع بالحكم الفعلي لا بالانشائي منه ، ولأجل هذا خصص الحكم بالفعلي الذي تنجّز على المكلف.

قوله : واقعي ، أو ظاهري ...

اعلم أنّ الحكم الواقعي هو الحكم الذي يشترك بين العالم به والجاهل ، قد تصيبه الطرق والأمارات وقد تطابقه الاصول العملية ، وقد لا تصيبه الطرق والأمارات ولا تطابقه الاصول العملية.

هذا والحكم الظاهري هو الحكم المجعول على طبق مؤديات الطرق والأمارات ، أو المجعول على طبق الاصول العملية سواء وافق الحكم الظاهري الحكم الواقعي وطابقه أم لم يطابقه وخالفه. فهذا فرق بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري المعبر عنه بالحكم الواقعي الثانوي أيضا.

فإذن لا يختص أحكام القطع من وجوب المتابعة وحرمة المخالفة والمنجزية والمعذرية وصحّة العقاب على مخالفته وصحة المثوبة عقلا على موافقته وغيرها من الأحكام بالحكم الواقعي الاولى إذا تعلق به ، بل تجري فيه وفي الحكم الظاهري إذا تعلق به ، فمؤدى الطرق والأمارات والاصول العملية إذا كان حكما شرعيا مقطوعا به فهو كالحكم الشرعي الذي تعلق به القطع الوجداني بلا فرق بينهما.

قوله : متعلق به ، أو بمقلديه ...

أمّا الأوّل فكالأحكام التي يشترك فيها جميع آحاد المكلف ، وهذا واضح.

وأما الثاني : فكالأحكام المختصة ببعض أفراد المكلف وتلك كأحكام

١٠

الدماء الثلاثة من الحيض والاستحاضة والنفاس وغير ذلك مما هو خارج عن ابتلاء المجتهد المقلّد.

قوله : فأمّا أن يحصل له القطع ، أو لا ...

فإذا التفت البالغ المذكور إلى الحكم الفعلي فأمّا أن يحصل له القطع بالحكم الفعلي الكلّي الجامع بين الواقعي والظاهري ، أو لا بأن يحصل له الظن بالحكم الفعلي الواقعي ، أو الحكم الظاهري أو يحصل له الشك بهما ، أو يحصل له الظن باحدهما والشك في الآخر فحصل أربع احتمالات من قوله ، أو لا. الاثنان منها متوافقان والآخران متخالفان. وأمّا القطع بعدمهما معا فلا يعقل بعد كون المقسم هو البالغ المكلف.

نعم القطع بعدم الحكم الظاهري ممكن وذلك كوجوب معرفة الباري عزّ اسمه مثلا ، إذ نقطع بأن وجوب معرفته حكم واقعي لا الحكم الظاهري.

وعلى الأوّل يجب عليه اتباع القطع والعمل على طبقه ما دام القطع موجودا.

وعلى الثاني فلا بد من انتهاء البالغ الذي وضع عليه قلم التكليف إلى ما استقل به العقل من اتباع الظن لو حصل له بالحكم الفعلي.

والحال أنّه قد تمّت مقدمات الانسداد على تقدير الحكومة ، بأن قلنا أنّ مقتضى مقدمات الانسداد هو استقلال العقل بحجية الظنّ في حال الانسداد كاستقلاله بحجية العلم في حال الانفتاح.

أمّا لو قلنا : بأنّ مقتضاها بعد تماميتها هو الكشف فيحصل له القطع بالحكم الظاهري حينئذ.

وعلى ضوء هذا فحصول القطع بالحكم الواقعي من جهة الضرورة ، أو من جهة الإجماع المحصل ، أو التواتر ، أو حكم العقل ، أو عدم حصوله به من جهة أحدها واضحان.

١١

الأوّل : كوجوب معرفة الباري جلّ جلاله ، وكوجوب إطاعته جلّ وعلا ، وكوجوب الصلاة والصيام مثلا ، لأنّ وجوب الأولين ثبت بالضرورة من حكم العقل ، ووجوب الثانيين بالضرورة والإجماع والتواتر.

الثاني : إذا قلنا بالانسداد في عصر الغيبة ، أي انسداد باب العلم بالأحكام الإلهية وانسداد باب العلمي بحجيّة الظواهر وأخبار الآحاد والاجماع والشهرة مثلا ، فلا يحصل القطع بالحكم الظاهري للمكلف حينئذ. وأمّا بيان حصول القطع بالحكم الظاهري ، فكما إذا قامت أمارة شرعية ، أو قام أصل شرعي عند المكلّف على الحكم فيقطع بسببهما بالحكم الظاهري الشرعي المجعول على طبقها ، أو المجعول على طبقه.

وأمّا عدم حصول القطع بالحكم الظاهري : فكما إذا لم تتمّ عند المجتهد حجية أمارة شرعية ولا أصل عملي شرعي ، أو تمت حجيّتهما عنده ولكن لم تقم في المسألة تلك الأمارة ولم يجر ذاك الأصل العملي فيها ، فحينئذ لا بد له من الانتهاء إلى ما استقل به العقل وهو الظن والعمل على طبقه بالتكاليف الشرعية ، نحو الظن حال الانسداد على تقدير الحكومة.

وإن لم يحصل له الظن بالحكم الفعلي لأجل عدم تمامية مقدمات الانسداد عنده فلا بدّ له من أن يرجع إلى الاصول العقلية من البراءة عند الشك في التكليف بأسرها سيّما الثانية منها. ومدركها حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان كما أن مدرك البراءة الشرعيّة رفع ما لا يعلمون ، والناس في سعة ما لا يعلمون.

ومن الاشتغال العقلي عند الشك في المكلف به مع العلم باصل التكليف ومدركه وجوب دفع الضرر المحتمل كما أن اشتغال الشرعي مدركه حديث أخوك دينك فاحتط لدينك ونحوه.

ومن التخير العقلي في مورد دوران الأمر بين المحذورين وذلك كدوران أمر

١٢

صلاة الجمعة في عصر الغيبة بين الوجوب والحرمة ، لا التخيير الشرعي الذي مدركه قول المعصوم عليه‌السلام في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة رحمه‌الله إذن فتخيّر كما يأتي تفصيل هذا إن شاء الله تعالى في مبحث التعادل والتراجيح.

فتلخص مما ذكر أنّه إذا حصل القطع بالحكم الفعلي فهو متبع بلا ريب كما أنّه إذا حصل الظن به بعد تعذر حصول القطع به فهو متبع أيضا بشرط تمامية مقدمات الانسداد على أن تكون بنتيجتها حكومة العقل بحجية الظن وإذا تعذرا معا فقد وجب على المكلف الرجوع إلى الاصول العقلية من البراءة العقلية والاشتغال العقلي والتخيير العقلي ، ولا يرجع حينئذ إلى الاصول الشرعية لأنّها داخلة في الشقّ الأول إذ بها يحصل القطع بالحكم الشرعي الظاهري كما سبق.

وجه العدول عمّا في الرسالة

قوله : وإنّما عمّمنا متعلق القطع لعدم اختصاص أحكامه ...

ولا يخفى عليك أنّ في كلام المصنّف قدس‌سره تعميما وتخصيصا. أمّا الأوّل فبالنسبة إلى الحكم الواقعي والظاهري ، وأمّا الثاني فلاختصاصه الحكم بالفعلي.

فلا بد في هذا المقام من بيان وجه التعميم والتخصيص. أمّا بيان وجه التعميم فإنّ القطع بالحكم الظاهري في موارد الأمارات والاصول يكون كالقطع الوجداني بالحكم الواقعي في جميع الآثار والأحكام من المنجزية عند الإصابة والمعذرية عند الخطاء ووجوب المتابعة بحكم العقل وحرمة المخالفة.

وعليه فيدخل تمام موارد الأمارات والاصول العملية تحت القطع فيصير القطع سواء تعلق بالحكم الواقعي أم تعلق بالحكم الظاهري قسما واحدا وذا حكم واحد ، فليس القطع بالحكم الواقعي مقابلا للطرق والأمارات والاصول ، إذ يحصل بسببها القطع بالحكم الظاهري الذي يندرج في مواردها في الحكم المقطوع به.

١٣

وأمّا وجه التخصيص فيقال أن أحكام القطع مختصّة بالحكم الفعلي فيترتب عليه آثاره ولوازمه المذكورة سابقا ولا تترتب على الحكم الإنشائي ، إذا لا يكون البعث ولا الزجر بموجودين في هذه المرحلة من الأحكام كي يترتب عليها لوازم القطع من المنجزية عند الإصابة والمعذرية عند الخطاء وحكم العقل بوجوب المتابعة.

وبعبارة اخرى وهي أنّ البعث والزجر ملزومان وترتب آثار القطع على القطع لازم القطع والقطع لازم البعث والزجر فترتب آثاره لازم البعث والزجر ، لأن لازم اللازم لازم فإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم المساوي. وذلك كانتفاء النّهار عند انتفاء الطلوع. وكذا في المقام إذا انتفى البعث والزجر انتفت آثاره.

فانقدح أنّ وجه عدول المصنف قدس‌سره عن تثليث الاقسام إلى جعل المكلف قسمين ، القاطع بالحكم ، أو الظان به ، أمران :

الأوّل : عموم أحكام القطع للواقعي والظاهري.

الثاني : اختصاص أحكامه بالفعلي من الأحكام لا بالإنشائي منها فضلا عن الاقتضائي منها كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى.

فالبالغ الذي وضع عليه القلم إمّا يكون قاطعا بالحكم الفعلي الواقعي من طريق حكم العقل مثلا ، وذلك نحو وجوب إطاعة المولى وحرمة معصيته ؛ وإمّا يكون قاطعا بالحكم الفعلي الظاهري من جهة قيام الإمارات والاصول عليه ؛ وإمّا يكون ظانّا به أي بالحكم سواء كان واقعيا أم كان ظاهريّا من طريق دليل الانسداد على تقدير الحكومة لا الكشف.

قال المصنّف رضى الله عنه : لأجل هذا التعميم والتخصيص عدلنا عمّا في رسالة الشيخ الأنصاري قدس‌سره من تثليث الأقسام أي أقسام المكلف إلى ثنائيّتها.

قوله : وإن أبيت إلّا عن ذلك فالاولى أن يقال أن المكلف ...

أي وإن منعت عن التقسيم الثنائي بل لا بد من تثليث الأقسام ، فالاولى أن

١٤

يقال أنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع بالحكم من جهة الضرورة ، أو من جهة حكم العقل ، أو من طريق آخر ، وإمّا أن لا يحصل له ؛ وعلى الثاني إمّا أن يقوم عند المكلّف طريق معتبر على الحكم فيحصل له الظن به ، أو لا يقوم عنده طريق معتبر عليه فيكون شاكّا فيه. فلا بدّ للمكلف حينئذ أن يرجع إلى الاصول العملية ويعمل على طبقها كما أنّه يعمل على طبق قطعه وعلى طبق طريق معتبر. فإذا قلنا بالتثليث فالاولى أن يقال بهذا النحو من التثليث لا بنحو تثليث الشيخ قدس‌سره.

أمّا بيان وجه ، أولوية تثليث المصنّف قدس‌سره عن تثليث الشيخ الأنصاري قدس‌سره فيقال : أنّه بناء على تثليث الشيخ الأنصاري قدس‌سره يلزم تداخل موارد الأمارات والاصول ، لأنّه حيث يلحق الظن غير المعتبر بالشك ، ويلحق الشك الحاصل من الأمارة المعتبرة غير المفيدة للظن بالظن فيتداخل حكم الظن والشك ، إذ يرجع المكلّف في مقام العمل إذا حصل له الظن غير المعتبر بالحكم الشرعي إلى الاصول العملية مثلا إذا حصل له الظن به من طريق الشهرة الفتوائية مع عدم ثبوت حجيتها عنده ، فيرجع حينئذ إلى الأصل العملي في هذا المورد. فيلحق الظن حكم الشك من رجوع الظانّ إلى حكم الشاك من الرجوع إلى الأصل العملي. وكذا إذا حصل له الشكّ بالحكم الوضعي من طريق اليد مثلا ، فالمكلف المجتهد يرجع إلى هذا اليد الذي هو أمارة الملكية لقيام الدليل على حجيّة هذه الأمارة ولا يرجع إلى الأصل العملي فيلحق الشك حكم الظن من رجوع الشاك إلى حكم الظان من الرجوع إلى الأمارة.

فلو جعلنا المناط في الأمارات ظنا ، وفي الاصول شكا ، للزم تداخلهما في الأحكام كما ذكر آنفا. أمّا إذا جعلنا مناط الرجوع إلى الأمارات دليلا معتبرا على حكم شرعي ومعيار الرجوع إلى الاصول العملية عدم قيام دليل معتبر عليه ، فلا يلزم تداخلهما فيها أصلا. ولكن الشيخ قدس‌سره اختار في المناط الطريق الأوّل ، وعليه

١٥

يلزم التداخل.

وأمّا المصنّف قدس‌سره فقد جعل المعيار طريقا ثانيا ، ولأجل هذا لا يلزم التداخل أصلا ، بل يلزم كمال الانفكاك بين الأمارات والاصول بحسب المورد والمجرى.

وعلى ضوء هذا فانقدح أن تثليث المصنّف قدس‌سره أولى من تثليث الشيخ الأنصاري قدس‌سره.

أمّا بناء على تثليث المصنّف قدس‌سره فإن حصل له القطع بالحكم الشرعي فهو واجب الاتباع عقلا ، وإن حصل له الظن به من الدليل المعتبر فهو واجب الاتباع عقلا وشرعا أيضا ، وإن لم يحصلا له به فيرجع إلى القواعد المقررة عقلا ، أو نقلا لغير القاطع ولغير من يقوم عنده طريق معتبر على الحكم الشرعي من الاصول العملية الشرعية والعقلية ، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ، من بحث البراءة والاشتغال والاستصحاب ، حسب اقتضاء أدلة القواعد والاصول.

وكيف كان التقسيم ـ ثنائيا كان أم كان ثلاثيا ـ فبيان أحكام القطع ولوازمه وأقسامه يستدعي رسم أمور سبعة.

وجوب العمل على طبق القطع

قوله : الأمر الأوّل : لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا ...

إذ لا إشكال في كون القطع طريقا إلى الواقع الذي تعلق به كاشفا عنه في نظر القاطع بحيث يعلم أنّه يرى الواقع كما لا ينبغي الريب في أنّ عقله حينئذ يحكم بحسن عقابه على تقدير مخالفة قطعه إذا كان القاطع قد قطع بوجوب شيء ، أو حرمته كما يحكم عقله بقبح عقابه على تقدير موافقته إذا كان قد قطع بحرمة شيء فتركه ، أو بوجوب شيء ففعله وإن كان مخالفا للواقع.

ولا يخفى أنّ هذا الأثر مترتب على عنوان طريقية القطع إلى الواقع.

١٦

ومن القبح المذكور ينتزع عنوان التنجز والعذر ، فيقال : القطع منجز ، أو عذر ؛ ولا ريب في أنّ هناك أثر آخر ، وهو الانزجار والانبعاث عن الفعل وإلى الفعل. ويعبّر من هذا الأثر بالعمل على وفق القطع وبوجوب متابعته. ولا ريب في أنّ هذا الأثر مترتب على عنوان التنجز والعذر. وعليه فانقدح أنّ للقطع ثلاثة آثار :

الأوّل : وجوب موافقته وحرمة مخالفته.

الثاني : كونه منجزا للواقع عند الإصابة وعذرا عند الخطاء ، بشرط أن لا يكون خطائه تقصيريا مثلا إذا قطع بالحكم من طريق القياس مثلا بل كان قصوريا. كما إذا قطع به من السبب المتعارف كالاخبار مثلا.

الثالث : الانزجار عن الفعل إذا قطع القاطع بحرمة شيء كما إذا قطع بحرمة عصير العنب مثلا ، والانبعاث إلى الفعل كما إذا قطع بوجوب شيء ، كما إذا قطع بوجوب الإقامة في الصلاة المكتوبة مثلا. ولكن هي مختلفة ذاتا وماهية ؛ لأن الأوّل ذاتي وهو لا يعلل ، والثاني عقلي ، والثالث فطري جبلي لا يتوقف على القول بالتحسين والتقبيح العقليين ، إذ هو بمناط دفع الضرر المقطوع به ، وهو مسلّم بين القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وغيرهم كالأشاعرة ، ولهذا ترى العقلاء والمجانين بل الحيوانات إذا أدركوا الضرر فلا يوقعوا أنفسهم فيه بل يفرّون منه كما تفر الحيوانات عن السباع. فالمكلّف إذا قطع بالحكم الشرعي ، أو أدرك عقله حسن العقاب على مخالفة القطع انقاد بحسب طبعه وجبلته إلى القطع وتابعة وجرى على مقتضاه فوجوب العمل على وفق القطع من الفطريات.

وفي ضوء هذا : فلا حاجة هذا المطلب إلى مزيد بيان وإقامة برهان لأنّ هذه الآثار يكون بعضها ذاتي ، وبعضها عقلي ، وبعضها فطري جبليّ ، كما ذكر هذا آنفا. فصار القطع مثل القضايا التي تكون قياساتها معها ، نحو الأربعة زوج.

١٧

فإقامة البرهان على إثبات لوازم القطع غير معقول لأنّه ينتهي إلى القطع بثبوت لوازمه وإلّا لم يكن برهانا فإذا انتهى البرهان إلى القطع فننقل وجوب الموافقة وحرمة المخالفة إلى هذا القطع إلى أن يتسلسل لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد فلو احتاج إثبات لوازم القطع إلى إقامة البرهان للزم التسلسل ، واللازم منتف ، فالملزوم مثله.

وامّا بيان الملازمة فواضح لا يحتاج إلى البيان ؛ لأنّه عيان ، وكل عيان لا يحتاج إلى البيان ، فهذا لا يحتاج إلى البيان.

قوله : ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل ...

بعد ما عرفت ان للقطع آثارا مترتّبة عليه تعرف انّه يمتنع أن يكون واحد منها تحت جعل جاعل لا تكوينا ولا تشريعا :

أمّا الأوّل فلامتناع تعلّق الجعل تكوينا بكون القطع طريقا إلى الواقع وكاشفا عن متعلّقه لما عرفت من أنّه من لوازمه الذاتيّة التي تكون نفس الذات علّة لها بحيث لا يتوقّف وجودها على أكثر من الذات فاستنادها إلى جعل جاعل خلف الفرض فلا يتصوّر الجعل في الذات والذاتيات أي ما هو جزء للماهية من جنسها وفصلها فلا معنى لجعل الإنسان إنسانا أي حيوانا ناطقا ولا لجعله حيوانا ، أو ناطقا بأن يقول الجاعل جعلت الإنسان حيوانا ناطقا ، أو يقول جعلت الإنسان حيوانا ، أو ناطقا ، وكذا لا يصحّ أن يقول جعل القطع طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه لأنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري لا يحتاج إلى الجعل وكذا ثبوت جزء الشيء للشيء ضروري أيضا فلا يعقل الجعل فيه أصلا بجميع أنحائه لا بسيطا ، وهو الجعل المتعلّق بمفعول واحد ، وهو يكون بمعنى الايجاد ، نحو : جعلت إنسانا ، أي أوجدته ، ولا مركبا وهو الجعل المتعلّق بمفعولين نحو جعلت زيدا أميرا ، أي أميرا صيّرته ، فجعل البسيط

١٨

مفاد كان التامّة ، وجعل المركب مفاد كان الناقصة.

نعم يمكن جعل اللوازم عرضا وتبعا بتبع جعل الشيء بسيطا ، إذ إيجاد الشيء يلازم جعل لازمه وإيجاده.

مثلا إذا وجدت النار في الخارج فالحرارة موجودة فيه بتبعها ولكن ليس الإحراق مجعولا لها بالجعل التركيبي من قبيل جعل الامارة ، أي الرئاسة ، لزيد مثلا. ومن قبيل جعل السواد والبياض للقرطاس فحجّية القطع كزوجية الأربعة وفردية الثلاثة وليست من قبيل السواد والبياض والاحمرار للقرطاس مثلا ، كما لا يمكن جعل البسيط ولا جعل التركيب بين الأربعة والزوجية فكذا لا يمكن الجعل لا بسيطا ولا تركيبا بين القطع وحجّيته لوجهين :

الأوّل : يستلزم جعله حجّة وطريقا إلى الواقع تحصيلا للحاصل ، إذ هو طريق إليه بذاته.

الثاني : لو كانت حجّيته بجعل الشرع لنحتاج إلى دليل شرعي قطعي يدلّ على طريقيّة هذا القطع ثم نحتاج إلى قطع آخر يدلّ على طريقيّة ذاك القطع وهكذا يتسلسل أي استحضار ما لا نهاية له.

وحضور ما لا نهاية له محال ، فالتسلسل محال أيضا لأنّ مستلزم المحال محال أيضا فتحصل ممّا ذكر انّه لن تنال القطع يد الجعل إثباتا لا بسيطا كأن يقول الجاعل جعلت القطع أي ، أوجدته ولا مركّبا كأن يقول جعلت القطع طريقا إلى الواقع وكذا لن تناله يد الجعل نفيا كأن يقول الجاعل ما جعلت القطع طريقا إلى الواقع لأنّ طريقيّة القطع إلى الواقع ذاتية ، كزوجية الأربعة ، وذاتي الشيء لا يرتفع مع انّه لو حكم بعدم طريقيّته للزم التناقض المحال في موارد القطع.

مثلا : إذا قطع القاطع بوجوب الشيء ، وذلك كالدعاء عند رؤية هلال شهر

١٩

الصيام عند بعض الأعلام (رض) ، ولكن نهى المولى عن العمل بقطعه فإذا كان قطعه مصيبا لزم اجتماع الضدّين حقيقة فإنّه حسب قطعه المصيب واجب وعلى حسب نهي الشارع المقدّس عن العمل بقطعه حرام ، وهذا اجتماع الضدّين حقيقة.

وإذا كان قطعه مخطئا لزم اجتماع الضدّين اعتقادا فإن هذا الشيء على حسب قطعه واعتقاده واجب. وعلى حسب نهي الشارع المقدّس عن العمل بقطعه حرام.

ومن الواضح : ان اجتماع الضدّين سواء كان حقيقة وواقعا أم كان اعتقاديا محال عقلا فكما يستحيل وقوع المحال خارجا فكذا يستحيل الاعتقاد بوقوع المحال خارجا ، بل يلزم اجتماع الضدّين الاعتقادي على هذا التقدير مطلقا ، أي سواء كان القطع مصيبا أم كان مخطئا.

غاية الأمر : إذا كان القطع مصيبا لزم اجتماع الضدّين الحقيقي والاعتقادي : وإذا كان مخطئا لزم اجتماع الضدين الاعتقادي فقط.

فظهر ممّا سبق : أنّ حجّية القطع من لوازمه العقلية وصريح الوجدان بهذا المطلب شاهد وحاكم.

ولا يخفى ان القطع إذا أصاب الواقع فيسمّى باليقين وإذا خالفه فيسمّى جهلا مركّبا فالقطع أعمّ منهما ، وهما أخصّان كما لا يخفى.

مراتب الحكم

قوله : ثم لا يذهب عليك ان التكليف ما لم يبلغ ...

القطع منجز للتكليف في صورة الاصابة إذا كان التكليف الذي تعلّق به القطع فعليّا لا إنشائيّا فضلا عن الاقتضائي ، ولهذا قال المصنّف قدس‌سره ثم لا يخفى عليك ان

٢٠